انتخابات الكنيست او قناني فارغة للبيع
نبيل عودة
الحوار المتمدن
-
العدد: 7308 - 2022 / 7 / 13 - 12:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
*اوهام ان بضعة قروش من حكومة عنصرية ستحل مشاكل 75 سنة من التمييز والحرمان من الميزانيات التي نستحقها كمواطنين هي قمة السقوط السياسي*
نبيل عودة
الشعارات بدأت تتردد في المقابلات الاذاعية، والبعض بدأ ينشر صوره على لوحات الإعلانات في الشوارع، مؤكدا على إنجازاته. أحاول ان افهم التركيبة الفكرية التي ينطلق منها بعض المرشحين، فلا اجل الا فقر فكري وغباء سياسي وانقطاع عن الواقع الاجتماعي والتاريخي لأبناء شعبنا. حقا التصريحات تبشر بجو انتخابات حامية، ليس ضد السلطة العنصرية، بل ضد المنافسين من القائمة المنافسة او القوائم المتزايدة قريبا. لكنها كلمات لا تقول شيئا هاما، بل تثير الترحم على فقدان الحس الوطني والوعي السياسي.
السهام لدى البعض موجهة ضد منافسيهم من أبناء شعبهم وليس ضد مخططي السياسة والمتحكمين بلقمة خبز شعبهم. كلمات ونصوص تفتقد حتى الوزن الشعري والأهم تفتقد للمعنى الذي يلفت انتباه الجمهور العربي. ادخلتني هذه الشعارات بنوستالجيا (حنين) الى ايام شبابي المبكر. ذكرتني برجل مسن كان يتجول في احياء الناصرة والبلدات المجاورة، حاملا كيس من الخيش على ظهره، تطقطق داخلة اصوات تصادم القناني الزجاجية، خاصة عندما ينزل الكيس عن ظهره ليحشو به قناني أخرى اشتراها للتو، وما ان يبدأ بالسير حتى يرتفع صوته بكل القوة التي بقيت في اوتاره الصوتية مناديا:" قناني فارغة للبيع".
كنت مع صديق لي من ابناء الجيران، نجمع ما نستطع الوصول اليه من القناني الفارغة، ننتظر صاحبنا لنبيعه ما جمعنا ونركض لشراء ما لذ وطاب من المثلجات والحلويات.
نداء "قناني فارغة للبيع" يثير لدي حتى اليوم مشاعر ما، حنين لا ينسى لأيام جميلة، التصريحات والمقابلات والصور للمرشحين التي ستملأ وسائل الاعلام ولوحات الإعلانات قريبا، تذكرني بذلك المسن، الذي كان يحرث الشوارع في الناصرة والبلدات العربية المحيطة من أجل بعض القروش ليعيل عائلته. اليوم صارت قناني فارغة للبيع بالألوان والصور. يتوهم البعض انها تشتري بعض "القناني غير الفارغة"، لست خبيرا في القناني الفارغة او غيرها وأقول اننا مجتمع حر، سوق حرة، لا قيود على البيع والشراء اذا اتفق طرفان على الثمن. لكننا بعيدين عن تخطيط فكري وسياسي يطرح رؤية للمجتمع العربي في ظل قانون القومية والتمييز العنصري بكل الحصص من الميزانيات التي تمنح للوسط العربية ولا تعطي للمجتمع العربي الا نسب قليلة اقل من نسبتهم السكانية في الدولة، وعلى سبيل المثال ميزانية التعليم، الطلاب العرب اكثر من 20% من مجمل الطلاب في إسرائيل، حصة التعليم العربي من ميزانية الدولة للتعليم لا تتجاوز ال 8%، ويأتي "الشاطر حسن" ليقنعنا انه حل المشكلة ببضعة قروش حصل عليها بشطارته من حكومة إسرائيل. وزغردي يا انشراح!!
هذا الحديث ذو الشجون ينقلني لحديث من نوع مختلف، احاول ان اقارن به بين ما كنا عليه وبين ما أصبحنا به. كنا شعبا انجز اهم حضارات عرفتها الشعوب في تاريخها الحضاري، اعطى للعالم كله طلائعيين في مجالات العلوم، التقنيات، الفكر الاجتماعي، الفكر التاريخي، الفكر الاقتصادي، الموسيقى، الفلسفة، الأدب وسائر ابواب العلوم.
نموذجا واحدا فقط اود ان اضعه بمواجهة ما نشهده اليوم في بلداتنا العربية من صراع الكل بالكل. هي حكاية عبقري حالم اسمه عباس بن فرناس الذي حلم بالطيران، أخذ لنفسه جناحين وذنبا، اعتلى مكانا شاهقا، وقفت الجموع تراقب تجربته المثيرة، بجرأة قفز طائرا ... لكن الى حتفه ... اما الأمر الأهم هو ان فرناس بقي رائد فكرة الطيران في التراث العربي وفي الفكر الانساني كله.
ترى هل من بين المرشحين من يملك موهبة وعبقرية عباس بن فرناس، لعله يطير مباشرة الى كرسي في الكنيست، خاصة وان تكنولوجيا الطيران اليوم متطورة وتضمن الطيران الآمن بدون ذيل، بواسطة مروحيات قوية مثلا؟ اذن سارعوا حتى لا تفوتكم الفرصة!!
عباس بن فرناس حاول ان يسبق عصره ويقتحم السموات بجناحي طائر. اليوم يستعملون الاعلانات والصور للطيران نحو كرسي كنيست او سلطة محلية قريبا. لكن ما الضمانة ان هذه الأجنحة والذيول "التكنولوجية الحديثة" قادرة على رفع اوزان المتنافسين والتحليق بهم الى المكان المنشود؟ خاصة لثقيلي الوزن؟
أعزائي القراء، وأستثني المرشحين لأنهم مقتنعون بما يقومون ويؤمنون به ولن يصدقوا كلامي ان الثور لا يحلب... فليكن المولى في عونهم دائما، قبل الانتخابات وخاصة بعدها.
ان الشعارات مثل النوايا الطيبة لا تقود الى شيء... واقسم ان نوايا اكثرية المرشحين طيبة، هي طيبة لأهل طائفتهم، او طيبة لعائلاتهم، او طيبة لأحزابهم، او طيبة للمجموعة التي تدعمهم. لكنها شعارات رغم طيبتها، لا تقود الى شيء، هذا قلناه ونكرره لعل التكرار يلفت الإنتباه. لا اعني انه لا قيمة للكلام المصاغ بمهنية لغوية، لغتنا العربية هي لغة البيان، لغة الفصاحة والبلاغة، لغة الديباجة اللغوية، ترى هل سنطور البنى التحتية في مدننا وقرانا بالفصاحة اللغوية والبيان الساحر وبأوهام القروش التي حصل عليها البعض من حكومة ضمن تشكيلها بدعمهم وبدون أي انجاز لمجتمعهم؟ هل ستساهم بلاغتنا في تطوير التعليم وانجاز مراتب علمية تضع مدارسنا في رأس القائمة؟ هل بما نملك من مفردات ومرادفات لغوية يمكن حل اشكاليات التمييز العنصري الذي نواجهه كأقلية قومية غير معترف بها الا كقبائل وطوائف؟
هذه الأسئلة موجهة لجميع المرشحين المتنافسين على كراسي الكنيست وفيما بعد معارك السلطات المحلية، وسيتحفوننا ببلاغة الاعلان ورطانته اللغوية، ويدسون السم بالدسم، اوهام ان بضعة قروش من حكومة عنصرية ستحل مشاكل 75 سنة من التمييز والحرمان من الميزانيات التي نستحقها كمواطنين هي قمة السقوط السياسي. لعلهم يفصحون عن مشاريعهم السرية، انصحهم ان يسجلوا مشاريعهم ولغة المشاريع، في معهد الاختراعات الاسرائيلي حتى لا يسطو أحد من المتنافسين على بلاغتهم وفصاحتهم اولا وعلى مشاريعهم ثانيا.
الحقيقة للأسف مرة. ان كلام البلاغة والفصاحة هو كتابة على الرمال، سرعان ما تذروها الرياح، ويصبح السقوط المؤلم بسبب عجز الجناحين والذيل من التحليق بالمتنافس!!
حتى لا اتهم بالسرقة الأدبية لم استعمل مغزى رواية "دون كيخوت" للأديب الاسباني ميغيل دي سرفانتس لوصف المتنافسين، تعد "دون كيخوت" واحدة من بين أفضل الأعمال الروائية المكتوبة قبل أي وقت مضى حيث يعالج وهم الفروسية بطريقة ملحمية ساخرة وهي مواهب يتمتع بها بدون شك المتنافسون، ويبدو لي ان السياسة في مفاهيم بعضهم هي تهريج، او صراع مع طواحين الهواء؟ وهذه مسرحيات شاهدناها، ويبدو انها ستتكرر حتى يعود الوعي اذا بقي منه شيء حي لم يمت بعد.
ولمن لا يعلم تدور أحداث رواية "دون كيخوت" حول شخصية "ألونسو كيخانو"، رجل نبيل في الخمسين من العمر مولعًا بقراءة كتب الفروسية والشهامة بشكل كبير. كان بدوره يصدق كل كلمة من هذه الكتب على الرغم من انها خيالية، يشد الرحال كفارس حاملًا درعًا قديما ومرتديًا خوذة بالية مع حصانه الضعيف ، يبحث عن مغامرة تنتظره، واقنع "دون كيخوت" جاره البسيط "سانشو بانثا" بمرافقته ليكون حاملًا للدرع ومساعدًا له مقابل تعيينه حاكمًا على جزيرة وبدوره يصدقه "سانشو" لسذاجته، بالطبع يحتد الصراع (او القتال) بين "دون كيخوت" وطواحين الهواء. اما جاره البسيط فعاد بخفي حنين بلا اي مكسب من صراع فارسه المغوار مع طواحين الهواء.. وما اكثر ظاهرة "سانشو" في بلادنا.
اتساءل الا تستحق معاركنا الانتخابية "ميغيل دي سرفانتس" عربي معاصر ليكتب قصة ال "دون كيخوتات" في المنافسة للوصول الى الكنيست بصفتها "طواحين الهواء المعاصرة"؟!
طبعا انا اتحدث بشكل واسع وشامل حتى لا اتهم بالتمييز الطائفي او الديني او السياسي، لأني متألم من واقعنا الذي توقعت ان يكون في طريق سياسية حضارية صاعدة وليس في طريق متهاوية.