مُقارَبات نَقْدِيّة بين نبيل عودة وجميل الدويهي
نبيل عودة
الحوار المتمدن
-
العدد: 7220 - 2022 / 4 / 16 - 20:12
المحور:
الادب والفن
مشروع الأديب د. جميل الدويهي
"أفكار اغترابيّة" للأدب الراقي
سيدني 2022
الكلمة الأولى بقلم نبيل عودة:
الدويهي صاحب أهمّ مشروع إبداعي وفكريّ في ثقافتنا
فتحت عيني صباح هذا اليوم، ونحن عشية عيد ميلاد ابن مدينتنا الناصرة يسوع المسيح، لأجد هدية ذكرتني بهدايا بابا نويل يوم كنا صغارا، ننام بليلة الميلاد ونحن نحلم بالهدية التي سيجلبها لنا شيخ العيد بابا نويل، ونستيقظ أبكر من المعتاد لنكتشف الهدية، ولكننا بحيرة كيف فاتنا أن نرى بابا نويل حين دخل بيتنا ووضع لنا هديتنا بجانب السرير؟
مضت تلك الأيام وصرنا نحن أيضا بابا نويل لأولادنا وأحفادنا… ربما هذه أجمل هدية من بابا نويل عشية ميلاد المسيح، ابن الناصرة وابن الانسانية جمعاء، بابا نويل باسم جميل ميلاد الدويهي.
فتحت عيني لأجد نسخة للمراجعة قبل الطباعة من كتاب "مقاربات نقدية بين نبيل عودة وجميل الدويهي".
عزيزي الأديب المهجري الموسوعي جميل الدويهي، انت، وأقولها بلا تردد، صاحب أهم مشروع ثقافي إبداعي وفكري في ثقافتنا العربية المعاصرة. ما يلفت الانتباه أكثر أنك جيل جديد من أدباء المهجر، ومن المؤلم أن المهجر يواصل البقاء كمعْلم ثقافي هو الأبرز، في ظل ما يسود عالمنا العربي وثقافتنا العربية من حصار فكري وقيود رقابية لا تتردد بقمع أصحاب الفكر الابداعي.
الرقابة والقيود على حرية الإبداع شلت الإبداع الأدبي، وقيدت انطلاق حضارة عربية معاصرة تنافس الحضارات في عالم لا ينتظر القاصرين عن اللحاق بالركب التنويري. لذا ليس بالصدفة أن أبرز المفكرين العرب والادباء العرب وجدوا حريتهم في المهجر. والمهجر بات يشكل نزيفاً مؤلماً للعقول العربية في شتى مجالات الثقافة والعلوم.
راجعت صفحات الكتاب المقترح، وشعرت ان الدنيا بخير، لم اكرم بوطني، والأمر لا يقع بعيدا عن واقع كل المبدعين العرب بأوطانهم. ربما لدينا حرية أكثر اتساعاً، لكن الواقع الثقافي محزن للغاية، طبعت حتى اليوم كتباً عديدة، بين الرواية والمسرح والقصة القصيرة والفلسفة والنقد الادبي، لكني وزعتها كلها مجاناً، وألمي انها وضعت على رفوف المكتبات للزينة فقط. وها هو التكريم يجيء من المهجر، من أديبنا د. جميل الدويهي، وحتى اليوم معظم وأهم ما كُتب نقدا عن اعمالي، كان باقلام ادباء يعيشون وينشطون في المهجر!
شكرا مرة اخرى للأديب د. جميل الدويهي على هذه الهدية عشية ميلاد المسيح والسنة الجديدة، لعلها تكون سنة مباركة لنا جميعا ولأبناء اوطاننا في العالم العربي!
الناصرة، 10 كانون الأول 2021
عرض نقديّ لجميل الدويهي: نظرة في قصّة نبيل عودة 2+2=5
(نُشرت في 3 تمّوز 2019 على موقع "أفكار اغترابيّة" للأدب الراقي)
1- القصّة بقلم نبيل عودة
يبدو أن المنطق الرياضي الذي يقول إن 2 + 2 = 4 لم يعد صحيحاً فلسفياً.
أستاذ الفلسفة الدكتور سمير، يقول إن هذا تركيب مصطنع، ويحتاج فلسفياً إلى براهين، والأغلب انه خطأ متداول.
أستاذ الرياضيات البروفسور صالح، يصرّ أن 2 + 2 بجمعهما المنطقي، نتيجتهما أربعة، وهو سؤال رياضي بسيط وأولي ومن بديهيات الحساب الرياضي.الدكتور سمير أعمل فكره، فأجاب معترضاً:
- ماذا تقصد بالرقم 4، هل هو مجرد الجمع بين عددين أصغر منه، أم له تفسير فلسفي آخر؟ وكيف توصلنا الى أربعة؟ أليست هذه رؤية مسبقة منغلقة لا تريد ان تعترف بما يعارضها؟ إن حقيقة كل ادعاء تُفحص بحسب نتائجها. وهل يخفى اننا نختار الحقيقة بحسب ما تُحدثه من تغيير؟ فهل من حقيقة ذات تأثير تُلزم التغيير في المسألة البسيطة التي تدعيها من النتيجة 4 من جمع 2 + 2؟ مثلاً نحن نقول ان قانون الجاذبية لنيوتن صحيح، ليس لأنه مطابق لما يحصل حقاً، وإنما لأنه ثبت أنه قابل للاستعمال لتوقع تصرف عنصرين مع بعضهما في حالات متعددة ومختلفة. مثلاً، انا على ثقة أن التفاح يسقط الى الأسفل حتى من شجرة تفاح في مكة وعلى رأس أي سعودي جالس تحتها، بغضّ النظر اذا كان أميراً أو فقيراً، عالماً مفتياً أو جاهلاً، وليس في لندن فقط، حيث سقطت التفاحة على رأس نيوتن.
بروفسور صالح ضحك من هذا التفسير المعقد:
- أنتم الفلاسفة جعلتم عالمنا أكثر صعوبة على الناس. تشغلون عقولكم بأوهام، وتصعّبون على الناس فهم حياتهم، وتسهيل معاملاتهم. تخيل لو ذهب الى البنك مئة ألف شخص يصرون أن 2 + 2 = 5… سيتعطل العمل وتتوقف المصالح. هل تفهم أن فلسفتك ستجعل عالمنا مبهماً وغيبياً؛ لا شيء مؤكداً فيه؟ لنفرض انك اشتريت بدولارين من البقال، وبدولارين من دكان الخضرة، فما مجموع ما صرفته في الدكانين؟
- خمسة، أجاب دكتور سمير بلا تردد، وأضاف: أنت تتجاهل اشارة الزائد، ألا قيمة للإشارة؟ لماذا نستعملها إذن؟
- لنفترض أنها ناقص، لا زائد.
- الجواب في هذه الحالة صفر، لأن الناقص ينفي ولا يضيف.
- ما هذه؟ فلسفة جديدة؟
- أبداً، نحن نتعلم في الفلسفة ان نصلح عالمنا، وأن نفسّره، وان نشكل رؤيتنا الخاصة حوله. لماذا رؤيتكم صحيحة، ورؤية استرالي أصلي يعيش في الغابات الاسترالية غير صحيحة؟
- ما دخل الأسترالي في الحساب؟
- سؤال جيد. قمنا قبل سنة بزيارة لأستراليا. وصلنا الى احدى الغابات التي تسكنها قبيلة من السكان الأصليين. بعيدون عن الحضارة... بعيدون عن كل ما يمتّ بصلة للمجتمع المدني. ومع ذلك حياتهم منظمة وواجباتهم محددة. كل يعرف ما عليه وأين هي حدوده، لا أحد يتجاوز حدوده. مجتمع آمن... بلا مشاكل الحضارة ومتطلباتها... لا يعرفون المدارس... ولا الحواسيب. أجريت اختباراً حسابياً لأحدهم. كان سؤالي هو نفس سؤال الخلاف بيننا. كم هو مجموع 2 + 2. لم يجبْ. طلب الإذن. ذهب وعاد بحبلين. عقد في الحبل الأول عقدتين وأشار باصبعيه إلى الرقم 2، ثم عقد عقدتين في الحبل الثاني، وأشار مرة أخرى بأصبعية إلى الرقم 2، وأخيراً عقد عقدة تجمع بين الحبلين، وعدّ العقد فكانت خمس عقد،
فأجاب أن 2 + 2 = 5.
فكيف يمكن أن أقنعه أنها تساوي أربعة؟ والآن بإمكانك يا زميلي العزيز بروفسور صالح، أن تقول إن الجواب هو نتيجة عملية لتطور المجتمع، أو العقل البشري، وان الجمع لا يتعلق بقوانين الرياضيات، بل بقوانين الحياة التي يعيشها الإنسان.
2- تعليق جميل الدويهي: بين قصة نبيل عودة وعظة "الأعداد" في كتابي "في معبد الروح"
أصرح علناً بأنّني معجب بكتابات نبيل عودة. وقد يغار مني الشعراء على ذلك، فقد طالما دأبنا على تمجيد الشعر، وبتنا نسمي شاعراً كل صاحب قلم. ولأنني لست شاعراً فقط، وأستميت للدفاع عن حقي في أنني لست شاعراً، يغتاظ مني الكثيرون، وينزعجون لأنني أطالبهم بحقي وأصر على أنني لست شاعراً فقط. وتبعاً لهويتي الابداعية أنا معجب بالنثر، وبالقصة على وجه التحديد، ويطربني الإصغاء إليها، فكيف إذا كانت للنبيل عودة؟
ولا أخفي أن هذه القصة القصيرة هي من أجمل ما قرأت لعودة، ولست أدري كيف يتوافق هذا الأديب والمفكر القدوة في الرأي معي، من جهة العدد. وقد أختلف مع عودة في السياسة وعلم الاجتماع، ولديّ رؤى لا تتماهى مع رؤاه، لكنني في أغلب الأحيان أوافقه واصرح بان هناك وجوه شبه كثيرة بيننا.
وسألفت هنا إلى ناحية العدد، فلست متزمتاً حسابياً، ولا أطيق الحساب، وكنت من الطلاب الفاشلين في الضرب والقسمة، وبيني وبين الحساب عداوة كما بين عبس وذبيان، ولعل ذلك هو السبب الذي جعلني أكتب عظة الأعداد في كتابي "في معبد الروح" حيث بينت أن الأعداد مصطلحات جاء بها العلم، وليست حقيقة، وأعطيت أمثلة عن رجل هو ابن وأخ وخال وعمّ وجد... وهو رجل واحد وليس خمسة رجال، لكي أصل إلى أن الثالوث في المسيحية لا يمكن فهمه كرقم "ثلاثة"، فهو فوق التجريد ولا يشبه الجمع الحسابي المتعارف عليه بين الناس، وكانت كلمتي الأهم في تلك العظة: "قد يكون الواحد واحداً وغير واحد في وقت واحد".
وهذه المعادلة اللاحسابية، أشعرتني بأنني أخوض في عالم لا يريد الناس أن يخوضوا فيه، وظننت أنّني أقول شيئاً لا تعترف الغالبية من البشر بصوابه، حتى قرأت قصة نبيل عودة، ومفادها أن الأبورجيني الأسترالي، عندما سئل عن حصيلة الجمع: 2+2، أجاب بأن الحصيلة هي 5 وليست 4.
الفرق بين الأبورجيني وأستاذ الحساب، كما الفرق بين رجل جائع وآخر متخم، وكلاهما في صحراء... فلو خيرت الجائع في الصحراء بين الذهب والرغيف، لأخذ الرغيف، ولو خيرت المتخم بينهما لأخذ الذهب وترك الرغيف.
إذن نحن نتعامل مع الواقع بحسب رؤيتنا الشخصية له، وليس علينا أن نتبع خطى الآخرين عندما يقررون عنا أن حصيلة 2+2 هي أربعة. فماذا فعل الأبورجيني؟ أخذ حبلاً وعقده عقدتين، ثم أخذ حبلاً آخر وعقده عقدتين... ولكي يجمع بين الحبلين ربطهما (علامة الجمع +) فتولدت عقدة خامسة، وهكذا تكون النتيجة 5، أي كما قلت في كتابي "في معبد الروح": "وقد تظنون أن الفصول أربعة، وهي فصل واحد يرتدي ثياباً مختلفة، وهكذا هو الله لا يحده عقل ولا تحدده أرقام، فلا تنظروا إليه بأفكاركم فقط، بل بأرواحكم أيضاً... وإذا سمعتم من يقولون إنه غير واحد، فاسألوهم عن ذلك وانتظروا منهم أن يجيبوا، فلعله واحد وغير واحد في وقت واحد، ولا تستعجلوا في الحكم... وإياكم أن تتهموا أحداً بالضلال، فإن ذلك يحدث الانشقاق والفرقة بين الناس، وما أبغض الفرقة إذا كانت ابنة الأفكار المجردة والأرواح المعطلة والقلوب المتحجرة!"
يقول النبيل: إن الجواب هو نتيجة عملية لتطور المجتمع، أو العقل البشري، وان الجمع لا يتعلق بقوانين الرياضيات، بل بقوانين الحياة التي يعيشها الإنسان. وأنا أوافقه على ذلك، وأضيف أن الجواب قد يكون نتيجة حالة نفسية، أو حاجة أو واقع يعيشه الإنسان. ولست أطالب بأن يخطئ التاجر في الحساب مع الزبون، أو تتخلى الدول عن حساباتها، لكن في أمور كثيرة تختص بالخلق والعالم اللامرئي لا يمكن الركون فقط إلى العلم، فالروح لها دور مهم أيضاً، ولا بأس أيها النبيل الجميل أن يصل الفلاسفة إلى الحكم، فهم أجدر الناس في قول الحقيقة التي ينكرها الكثيرون، أو لا تخطر في بالهم. ولكن لا أنصح الفلاسفة بنشر أعمالهم على فايسبوك، لأنّ عدد المعجبين بهم سيكون قليلاً جداً.
قراءة د. جميل الدويهي لقصّة "كنت معها" لنبيل عودة
نشرت على موقع "أفكار اغترابيّة" وموقع "الوسط اليوم"
في 15 أيلول 12018
1- القصّة
أن يعيدك تلاقي نظرات غير متوقعة، الى ما كانت تظن انه محي من سيرتك وتاريخك، تلاشى من ذاكرتك واضمحل أثره في وجدانك، وان يحيي ذلك اللقاء الصامت، ما صار منسياً ثم الاندفاع بالنظرات للبحث في القسمات والتعابير بلهفة وعبر لقاء فجائي بين زوجين من العيون، فيعود المنسي ببريق متوهج ينجلي تماما بأبهى صوره، يكثف جوهره، يتجذر وكأنك تواصل ما كان بلا انقطاع، ويسيطر بلا مقدمات... بدفقه السحري على ذهنك، ومن شدة مفاجأتك وارتعاشك تكاد تطفر دمعة، ليست دمعة فرح بعد لقاء. فلم يكن بينكما لقاء، وليست دمعة حزن على فراق، فما كنتما في لحظات فراق، كان لقاء لم تشارك فيه سوى نظراتكما وانفاسكما، ومع ذلك تمنيت ان لا تؤول اللحظات الى انتهاء، ان لا تفنى الدقائق، ان يتوقف كل ما في العالم عن الحركة، ان يتجمد الزمن.
تتشابه كل النساء في العالم في حياتك، الا هي، تشابهت كل
الاختراقات وبقي اختراقها سراً مكتوماً. تشابهت كل القبل وبقي لقبلتها طعم النبيذ المعتق، تجلس ضامة شفتيها، بهدوء رخيم، ولا يتحرك فيها الا عيناها المتنقلتان بين عينيك وبين صحن الطعام. نفس النظرات ونفس الاناقة ونفس الجاذبية. هل عرفتك؟ نظراتها تقول: نعم، وقسمات وجهها لا تقول شيئاً. ربما تقول؟
أيقنت ان الذكريات لا تعترف بالزمن، ولا تستسلم للانتهاء، فوجئت بارتعاش اطرافك ووجيب قلبك، وغبت مجبراً عما حولك. كنت موجوداً بجسدك وغائباً بذهنك، وها انت ترحل الى حلم بعيد تكتشف نفسك من جديد تفزعك كثافة حلمك.
أهو حلم يعتريني، ام واقع غريب كالأحلام؟ كالسحر؟ هزتني المفاجأة ونقلتني من حال الى حال. كنت كمسافر اضنته الطريق واخذته بعيداً. أرهقته المسافات، تاه طويلاً في المساحات، خطفه الحزن وتنازعته شتى الامنيات والرغبات، كرب وفوضى رغم الحقيقة الواضحة، متيبس في صحراء، تائه... وفجأة ينطلق الرذاذ الرطب الى وجهي... التقطت انفاسي طالباً المزيد، وما كانت من وسيلة للمزيد الا نظراتي، فيزداد حلقي تيبساً وتزداد شفتاي جفافاً، ازداد لهفة وازداد لوعة.
من لي بقاهر الزمن، يمحي من ذاكرتي فراقها، ربما يعيدني اليها، يعيدها إليّ لأغير ما جرى، لنغير نبض أيامنا ونعطي لما بقي من عمرنا وعشقنا رونقه المقدر، نعيد أجمل ما في العمر ونواصله... نجدد الوصال ونجدد العشق.
كنت اظن ان الزمان كفيل بطي ما كان. ينهي الرغبات ويبدد الأحلام. فاذا الزمان يخر صريعاً امام رحيق امرأة جعلت مني غير ما انا.
زرعت في أحاسيسي رعشات قبلاتها، وملأت الهواء حولي بخمرها، بعبقها، برحيقها، بطعم النبيذ الفاخر المعطر بفعل الزمن، يبعث بمجرد التفكير فيه تخديراً لذيذاً يجري في الشرايين، يتدفق مع دمي
لكل أطرافي ولا يتوقف…
لا أدري ما يراودني. أبحث عن استراحة أرتب فيها نفسي واوراقي ويقيني لأعود أتابع حلمي البعيد.
أهو حلم حقاً؟ ربما رغبات ضائعة؟ وربما أوهام؟ أو حقيقة لم تتم؟ عدم تمامها يعذبك. وهل تقدر الأحلام ان تحفظ رحيق امرأة ونشوة ابتعد بها الزمن؟! هل الزمن وهم؟ تخيلات؟ ام حقيقة موضوعية؟
انتهى كل شيء قبل عقدين ونصف العقد. من السهل قياس حياتنا بالزمن ومن المستحيل قياس ذكرياتنا بالزمن. الزمن معادلة قهرية لا تستقيم مع الحب. ربما ما يعتريني يؤهلني لكتابة نظرية عشقية في مفاهيم الزمن والصبابة؟ لكن رحيق المرأة لا يؤمن بالزمن، لا يؤمن بالمقاييس الثابتة... كم اتمنى الاقتراب من ملتقى الرقبة بالكتف لأستنشق خمرة أنوثتها بعمق وحرّيّة. هل أنا في عالم ملموس؟! ام في زمن خرافي؟ هل يحد الزمن سحر امرأة ؟! هل يقضي على الاحساس بالنشوة التي كانت؟! وأقول لنفسي ان الصبابة لا تؤمن بالزمن.
العاشق لا يؤمن بالزمن، لكن لا شيء يوقفه، الزمن لا يتوقف. ربما انا بحاجة الى شيء من الادراك؟! هل في الجنون إدراك؟! وهل في هذا اللقاء إدراك؟
أحياناً تبدو الكتابة عن المحسوسات غير المادية مستحيلة عبثية، وان عالمنا المادي لا يعترف الا بالموضوعات المرئية والملموسة، وان خروجنا عن هذه القاعدة يرسلنا بعيداً نحو الغيبيات. لوهلة لم اثق انها هي. ترددت غير أنّى تأكدت من نفسي. هذه تفاصيلي التي أعرفها... تمتد يدي المعروفة لي تماماً نحو كأس النبيذ. أبيض يميل الى الاصفرار.
طعمه معروف لي ولساني يعتصر بتلذذ آخر ما تبقى من الرشفات، لا أشعر بقدمي، لكني متأكد من ملكيتهما، هذه يدي اليسرى تسند ذقني وأنا مسحور من المفاجأة وعيناي ترفضان الابتعاد والتعقل. لا ارادة لي في زجرهما، لكن ذهني يتلقى وقائع اللقاء المرئية مما يثبت انهما عيناي حقاً. تحسست رأسي متقيناً ان موقعه لم يتغير. ربما انا بحالة هلوسة من فعل الخمر؟ ولكن الخمر لم تغدر بي في السابق ولم تتغير العلاقات المتوازنة بيننا. ها انا بالكاد تذوقتها وما حان الوقت لتفصح عن نفسها ملوحة زاجرة، فأي خطوب تلم بي؟! أي طقس يعتريني؟ أهو طقس سكر ام طقس الحب؟ أم السكر والحب بتعاون لا يعرف الخلاف ؟! هل لي بشفيع يخفف حيرتي؟! يفرج كربي؟! يرشدني؟! تكررت النظرات وتشعبت الذكريات، أحياناً تبدو الذكريات كلمحات لا يمكن الوصل بينها... كتناقضات من المحال ان تشكل وحدة واحدة، غير ان يقيني التام ان الحب لم يهجر جوانحي... والا ماذا تسمّى الاحاسيس التي تدغدغني؟!
غرقت في نفسي لاستجلاء أنصع ما يكون من ترابط للذكريات التي تعصف بي أوراقها الكثيرة… فألهث وراءها لأجمعها في نسق صحيح وارتبها بذهني، ضفيرة وراء ضفيرة. هل كنت أتمنى لقاء بلا ميعاد؟!
هل كان اللقاء ضمن توقعاتي؟! خمسة وعشرون عاماً تندفع في لحظة لا تقاس بمقاييس الزمن المتعارف عليها. تتوالد من الابعاد مشاعر ما كنت اظن انها ستعود لي. هل سأكتفي بها ؟! وهل تستعاد أيامنا من التاريخ؟! أم نبقى رهائن للذكريات؟! ما تبقى لي منها اطلال من الأحاسيس لا تغادرني. اخاف ان تغادرني. ربما توهمت أنى نسيتها. ربما تناسيتها عجزاً من الوصول اليها؟ تناسيتها لتخفي هزيمتك؟ فجأة تكتشف ان ربع قرن يفصل بينكما وأمتار قليلة تبعدها عنك، قريبة وبعيدة المنال... ربع قرن لم ألمحها ولم تلمحني. ها هي تجمعنا لحظة مجنونة كغرباء. لا يستطيع ان يقترب أحدنا من الآخر ليتأكد بالملموس من صدق المحسوس... ليتني اعانقها ولو للحظة، أكون قد حققت مرادي في الحياة، قلت لنفسي: الحب لا يعرف الاستقرار. لا أذكر أنى لمحتها منذ تباعدنا، انا متأكد من ذلك. أنا واثق انها لم ترني منذ ودعتني بقبلة رطبتها دموعها وهل تُنسي تلك القبلة؟!
هل يتغلب الزمن على حرارتها وملوحتها ؟ هل يُنسى وجيف القلب؟!
لم يكن فراقنا تنافراً. انما كان قراراً وحيد الجانب. قالت انه إدراك للمسؤولية. رأيت به ادراكاً مشوهاً لحقيقة مشوهة، كان الأحرى بي التحدي. كنت مستعداً للتحدي ولكنها أصرت على الابتعاد. فالتزمت برغبتها. قلت لنفسي ان الانسان يحمل في داخله ضده.
كان التعارف بيننا سريعاً وغريباً وبلا مقدمات وبلا اجتهاد، بادرتني:
-أنت تشدني.
كانت تتوهج بجمال فطري، اضافت اليه أناقتها البارزة وحسن الاستعمال للأصباغ سحراً أخاذا.
لم افهم ما تعني بـ "تشدني". ولكن بروز صفي اسنانها المرتبين بدقة ومن وراء انفراج ابتسامتها جعلني أفهم وأتغابى. اربكتني بجرأتها. لم اتوقع هجوماً بلا مقدمات. اعترف انها نجحت بإرباكي كما لم يربكني أحـد من قبل. ارباك انقلب الى سعادة، ثـم فـراق ثـم
شقاء.
عرفتها في زيارة بيتيه لاحد اصدقائي. كانت تجلس في الصالون وتتبادل الحديث مع مجموعة من الصبايا، في امور لا أذكرها وربما لا أفهم منها شيئاً لو تذكرتها. بعضهن ارتبك لدخولنا فصمتن، اما هي فواصلت حديثها بنفس الحيوية، بعد ان توقفت للحظة لرد التحية مرفقة بابتسامتها... فراقبتها دون ارادة بطرف عيني. كان فيها شيء مميز لا تكتشفه بسهولة ولكنه يشدك. وجدت نفسي أغوص بما لا عهد لي به، لم أستطيع مبادلة صديقي حديثه ولم يفهم ما يعتريني، ربما فهم وصمت، اخترقت أحاديث الصبايا بلحظة مؤاتيه وبمهارة، قد تكون اثارت شكوك صديقي لتحولي المفاجئ من الملل بتبادل الحديث معه، الى الحماسة بالحديث اليها... وللأخريات. بدأ الاستلطاف من حيث لا أدري. حدث التعارف من حيث لم أتوقع. النظر اليها راحة، الرغبة بالتواصل لا تعرف حدوداً. حين قامت لتذهب اعطتني يدها... أسلمت يدي بحماس ليدها ضغطت بلطف وصعقتني بـ "انت تشدني"… بصراحة وبلا مقدمات وبلا توضيح اضافي،وقالت:
- سأتصل بك لنواصل حديثنا.
قرصني صديقي بخصري فجفلت، انتبهت فابتسمت ولم تضف، انما استدارت لتخرج وراء صديقاتها وعدت لمللي من مواصلة الحديث غارقا بتوقعات وتحليلات سحرية.
بعدها التقينا كثيراً. ربما قليلاً. يتعلق بمفهومنا النسبي للكثير والقليل ولكنها كانت لقاءات كافية لتوحد ما بيننا. كانت الفعل وكنت رد الفعل المشابه والمساوي له بالقوة. تفاهمنا ان الاعجاب متبادل وبنفس القدر وان الاستلطاف تم واكتمل… فنعم ما حصل. قلت لنفسي ان كربي انفرج وأشرقت شمسي وهذه بداية حقيقية للحياة. سألت نفسي هل تبيع اصلك الصعلوكي ومبادئك الملتهبة مقابل عشرتها؟! قلت لنفسي: ان الصبابة هي الخمر والمبادئ هي الأمر... وهما مثل الليل والنهار، لا يحل الواحد مكان الأخر، انما يلتقيان في رقصة دائرية لا فكاك منها.
اندفعنا بعشقنا، غافلين عما تخبئه لنا الأيام وكانت وقائع حياتنا تتجلى بين لقاء ولقاء. كان لقبلاتها طعم خاص لم أعهده في مغامراتي الأولى، حتى توتري وهيجاني مختلفان، اكتشفت نفسي من جديد. اكتشفت الحب من جديد. انتشيت، سحرني ما انا به وتمنيت دوام الشروق، تمنيت دوام الاستقرار وقلت لنفسي:
- ما انا به لم يراودني حتى في احلامي . وقلت: هذا منتهى احلامي ولن أطمع بامرأة غيرها.
كنت اريدها برغبة لا تعرف الحدود... قالت:
- اعرف ما تريد ،وانا اريده كما تريده انت ولكني لست بغجرية.
- الغجرية حارة حتى في الشتاء وحين ترقص تصبح مرغوبة أكثر.
- لا اعرف ما شدني اليك. ربما هذه حماقة حياتي الأولى.
- أضيفي اليها حماقة اخرى، لينزل على قلوبنا الاطمئنان والسلام وانا حاضر لأي ثمن تطلبينه.
قالت بشيء من الحدة والألم:
- هل أنا بغي لتفاوضني على ثمن لحبي؟!
قلت مخففاً من زلتي:
-لا تفسري كلامي بغير معناه. انا اسير هواك...أصرخ مستغيثا ًللمزيد، فاحتملي نزوات لساني... لن اتجاوز ما ترفضينه. ولكن الرغبة مجنونة…
ضمت راسي لمنحدر صدرها تحت الرقبة فتمنيت الا يؤول الزمن الى انتهاء، تفحصت بنظراتي معالم وجهها وامتداد الرقبة بين الذقن والكتفين محاولا المقارنة بالأصل الذي اعرفه. اجابتني بنظرة تقول اشياء ولا تقول شيئاً، أتستعيد هي ايضاً ذكريات ايامنا الملتهبة؟ تحتفظ بطعم قبلاتي؟ بانسلال اصابعي بين خصلات شعرها؟ بتفحصي مناطق صدرها المحظورة؟ كم تمنيت ان اكتشف بالرؤية ما ينتهي به انحدار الصدر، وصدتني بقوانين عشقها الصارمة المتزمتة. كنت احاول ان استجلي بالعناق عن طريق ضغط صدرها الى صدري، ما لم استجله بالرؤية المثبتة والقبض عليهما بالجرم المشهود. صبرت حبيبتي على جنوني فتماديت... ولكنها وقفت بالمرصاد.
قالت لي ان مبادئي الثورية هي تغطية ناجحة لعبثي. قلت: وهل تنفي المبادئ الثورية الحب؟! قالت: ولكنك عابث. كان حكمها غير قابل للاستئناف.
حددت المسموحات واكدت الممنوعات. قلت بأني سأتقدم لطلب يدها.. فصدتني. قلت:
- أنت تدفعينني للجنون، يستعصي علي فهمك… هل هناك قيمة لحبنا الا بالزواج؟
- أفضل من ان تدفعني للندم... انت مغرور. انت طفل، انت مستهتر بلا تفكير؟
- ترفضين ما اؤمن به من افكار؟ الم تجمع افكارنا بيننا؟!
- ماذا تسوى بلا افكارك؟! ولكن ليت توازنك كأفكارك، ليت تفكيرك كأفكاري.
- أكرر اقتراحي... أريدك زوجة لي، الزواج يعيد الي توازني، يوصلنا
للسعادة.
- انا خائفة ! احبك وخائفة. اقول لنفسي إنّى لن أستطيع ان اكون لغيرك، وأقول لنفسي إن الحب سلطان كاذب، واقول لنفسي إن مصائرنا ليست بالضرورة ان تكون محكومة لرغبات نفوسنا. ربما ما بيننا هو طيشنا. هو لا وعينا. احبك واخاف. يهيأ لي أنى ارتكب حماقة. أتألم وأقع في حيرة. لا اعرف كيف اندفعت ولا اعرف كيف اتوقف، اتمهل لأستعيد تفكيري. يجب الا نكذب على بعض. نحن مختلفان، اجتماعياً مختلفان. المسألة ليست بقدرتي على قبولك، ليس هذا ما يقلقني، ولكنك لن تقبل ذهنيتي الاجتماعية، لن تقبل اجواءنا، لن تقبل صياغاتنا، ولن تقبل خصوصياتنا.
وأجهشتْ بالبكاء، اخذتها بين ذراعي بقوة، لامست وجنتيها بشفتي. استلطفت ملوحة دموعها وحرارتها.
- سأتغير ،سأتعلم ان احترم اسلوبكم ... المهم انت. يؤلمني عذابك!
- ليس هذا ما ابحث عنه. انا لم أخلق لما نحن به، اكاد أنكر نفسي... أرفضها.
بدأت افهم ما يعتري فكرها. بدأت المس خطئي في الاندفاع العابث المجنون... واعترتني كآبة وتوجس. كان واضحاً أنى رسبت في الامتحان. فهمت ان ما شدنا الى بعض ليست رغباتنا. ربما اوهمتها بفلسفتي اموراً تبخرت. تلاشت مع العناق والقبلات، فلم يتبق الا الموضوع الصعلوكي، حتى في الحب قد اكون اندفعت باستهتار لإشباع رغبة مجنونة، فلم اميز بين الحب وبين المتعة العابرة. وها هي تستعيد توازنها. تبكي وتستعيد ادراكها. تحبني ولا تستطيع قبولي. استجديها فتبتعد أكثر. لأول مرة أتوجس ان تتركني امرأة، ان أبقي بدونها. كنت اركض من علاقة الى علاقة ومن رغبة الى رغبة، حتى وصلت اليها، حتى وصلت اليّ، فاتحدنا. كانت صريحة ومقنعة وساحرة في صراحتها. اقامت حدوداً جغرافية لا يجوز تجاوزها. وافقتها معتقداً ان قدرتي وفني كفيلان باختراق المستحيل. كنت مندفعاً مغروراً، وها أنا ادفع ثمن اندفاعي وغروري، رغم أنى لم أحب امرأة كما احببتها، واعترف لا زلت أحبها. وهل يكفي الحب؟! نظراتها تلتقي نظراتي ولا تقول شيئاً. ربما تقول ما لا أستطيع ادراكه. وبنظراتي اتفحص مشدوهاً المساحات التي اعرفها، واحاول ان اطابق بين الصور الباقية في ذهني والصورة المتجلية أمامي.
وعلى حين غرة، وانا غارق في توجسي من انتهاء ما بيننا، باحثاً عما يزيل كربي ويثبت قربي اليها، التفتت الي، وقالت بحزم طارئ:
- انا احبك… اعترف... ولكن سعادتي وسعادتك بالافتراق. عرفت هذا منذ اليوم الاول، ولم اصدق حدسي... لا تقل شيئا... لا تزد حزني... اريد ان اذكرك كما انت…
قبلتني قبلة طويلة حرارتها فوق العادة. نظرت بعيني، ثم طبعت قبلة فوق جبيني، وتركتني وانطلقت دون ان تنبس بحرف آخر. ولفني الصمت.
انتظرتها في المواعيد المتفق عليها، فلم تحضر، انتظرت بلا أمل ولم احاول الاتصال بها. وجررت نفسي بعيداً عن طريقها. اتجرع وحدتي وألمي. اضطرب توازني وثقتي بنفسي. عشت عذاب الفراق. زاهداً بما يحيطني، متحسراً على ما فقدت وحزيناً لانقضاء أجمل ما في حياتي. هل من وسيلة تستعيد فيها الذات ما تحب ؟! ما بدا حقيقة مجسمة تناثر بلحظة؟!
مضى ربع قرن، خمسة وعشرون عاما بالتمام والكمال. لم يفارقني حبها. لم يفارقني عبقها.
اريجها عطرها حرارتها، ملوحة قبلتها الاخيرة ... ولكنه انزوى في حنايا الذاكرة. حبي لها اكتمل ولكن رغبتي لم تكتمل، وما كان لها ان تبلغ وتكتمل حتى لو وصلت لما اريد .... كنت اريدها ليس للحظة، اريدها لكل العمر، ولما بعد العمر لو تيسر؟ علمت بزواجها وهجرتها مع زوجها الأمريكي الجنسية والقريب ... ربما هو السبب؟!
ها هي نظراتنا تلتقي، تقول اشياء ولا تقول شيئاً. تصمت ولا تصمت. كنت جالساً مع مجموعة اصدقاء في مطعم غير بعيد عن شواطئ البحر في عكا ورائحة السمك المقلي الزكية تخدرني. فهو ملاذي بعد فقدانها، السمك والنبيذ الابيض المائل للاصفرار. ربما فقداني لها بطريقة لا تختلف عن تملص السمكة من يد صيادها، جعلني انتقم من الاسماك، او أحبها أكثر. رفعت كأسي المليئة بالنبيذ الأبيض، مستنشقاً عطره الاخاذ، حين التقت عيني بعينيها. كانت أكثر من صدفة. صدمة شعرت بعدها بارتعاش اطرافي وكأني أعود الى الماضي. وملأت الخمرة انفي بعبق انوثتها. ربع قرن وعبقها لا يفارقني. شربت دون وعي. اكلت دون وعي، وكنت مع اصدقائي وبعيداً عنهم، كنت معها وكانت معي. وكان بيننا ربع قرن وأمتار قليلة!
2- قراءة د. جميل الدويهي
يسحرني عالم القصّة القصيرة، كما الرواية، فهو عالم مدهش ولا يقل خطورة عن عالم الشعر، وفي اعتقادي أنّ الفنّ القصصي هو المحكّ الذي يعرف به الأديب، ويتوّج أعماله. وقد حاول شعراء كثيرون كتابة القصّة فلم يفلحوا. وهناك شعراء كبار، مثل نزار قباني وسميح القاسم ومحمود درويش، لم يكتبوا القصّة، فانحصرت أمجادهم في عالم الشعر، وهو نصف الأدب وليس هو الأدب كله.
سافرت مع قصّة الأديب نبيل عودة "كنت معها" على طريقة الفلاشباك، أي استحضار الماضي، فأخذني في رحلة جميلة، مع مغامرته التي تعود إلى زمن غابر، ربما 25 عاماً، لكنها مغامرة تلح وتطرق على أبواب ذاكرته.
وأرسل إليّ نبيل عودة هذه القصة بعد أن قرأ واحدة من قصائدي: "من أجل عينيك الحياة أبيعها"، وكان لي شرف أن يكتب نقداً انطباعياً عن القصيدة، ويزف إليّ قصّته، التي ذكرتني كما ذكّرته، وأعادت إليّ قبساً من حنين إلى الماضي.
تقوم القصّة على بنائية الأفعال الماضية، ذكريات مع امرأة حبيبة، جمعته فيها لحظات شغف، فلا نكاد نقع على أفعال مضارعة، لأن الماضي يمخر عباب الزمن ليحضر أمامه، متلبساً جملاً قصيرة، مختصرة، توجز الحدث. وليس أفضل من الجمل القصيرة للتعبير عن أناقة الجسد القصصي، خصوصاً إذا كان الحديث عن المرأة، فالكاتب في استذكارها، قصير الأنفاس، يلتقط اللحظة بأصابعه ويخاف أن تفلت منه.
إنها المرأة التي أحبها وسكر بها، حتى تفوح من النص رائحة النبيذ المعتق، فكم مرة انتشرت من جسدها رائحة النبيذ، والخمرة الطيبة التي تسكر، لكنها تتلاشى: "وملأت الهواء حولي بخمرها، بعبقها، برحيقها، بطعم النبيذ الفاخر المعطر بفعل الزمن، يبعث بمجرد التفكير فيه تخديراً لذيذاً يجري في الشرايين، يتدفق مع دمي لكل أطرافي ولا يتوقف"… ومثلها:"تشابهت كل القبل وبقي لقبلتها طعم النبيذ المعتق"… والقدر يقف بالمرصاد للحبيبين، ليتحول العشق الذي تفتح كوردة برية، إلى عذاب وألم داهمين، وقلما يحدث أن يكون الحب للخلود. وأجمل ما في الحب بعد أن يتلاشى أن يترك شيئاً من بقاياه، من لقاءاته الحميمة، ومن أماكنه وأزمنته على مقعد حزين!
هنا الحب لا يختفي، بل يظل يختلج ماضياً في الحاضر، وأياماً تتواصل...
لقد خاب أمل الشاب المراهق، بعدما ضاعت رغبات الشباب، وتفرقت كما تتفرق الغيوم البيضاء فوق أسوار المدينة، فالواقعية التي أرى أن نبيل عودة شغوف بها، تفرض نفسها على النص، ليشيع جو التشاؤم والخيبة عليه. فالفوارق الاجتماعية تتمثل في مجتمع نبيل والمرأة التي أحبها، ليصبح الفارق حجر عثرة، وهكذا يفترق الحبيبان، لا لشيء مهم، بل لأن المرأة خضعت للظروف الاجتماعية الضاغطة. ولماذا العتب على نبيل، من غير أن نفهم خلفيته السياسية، ونعرف كم هو ملتزم بالمنهج الواقعي في الحياة والثقافة؟
إنه التعارض في التفكير بين شخصيتين، كأني بهما جبران المندفع في عاطفته، والذي يعتبر أن الحب ممكن في الخيال، بينما تعارضه مي زيادة الواقعية، العقلانية حتى الجمود في تفكيره الجامح، ويصبح البُعد في المسافة هو الخصم والحكم بينهما.
ومن جملة التناقض بين الشخصيتين، مواقف نبيل الثورية، بينما المرأة محافظة في مجتمع تقليدي، تنظر إلى "الثوري" نظرة الشك ,والريبة، وتعتقد أن حياتها معه ستكون انعكاساً لواقعه المضطرب.
قالت لي ان مبادئي الثورية هي تغطية ناجحة لعبثي.
قلت: وهل تنفي المبادئ الثورية الحب؟!
قالت: ولكنك عابث.
كان حكمها غير قابل للاستئناف…"
المسافة بين نبيل ومحبوبته ليست بين الشرق والغرب، بل هي أمتار قليلة، كما يوضح في قصته، لكنها أمتار قاتلة، فيها الشك، والغيوم الرمادية والعاصفة التي لا تبقي ولا تذر من معبد الحب، لتبقى منه كومة رماد وذكرى تنفخ فيها رياح العشية فتؤلم وتتألم.
وكم هو رائع هذا الأديب، يحملنا في رحلة على جناح الوقت، كما في الأفلام التي تخترق الزمن، فنعيش معه، ونرافقه من غير ملل، بل تسحرنا الفكرة الموجزة، والتعبير الدقيق عن الواقع، وقد تكون الإطالة في القصة نوعاً من الخضوع لهذا التأني في السرد... وفي السياق يظهر التحليل النفسي العميق للشخصيّتين، ولا أحد سواهما في القصة، ما عدا كومبارس لا يكاد يظهر. فلله درك أيها النبيل كيف جذبتنا إلى نص يقوم على بطلين فلا نعاني الضجر ولا نفلت السياق من قبضتنا!
إن التحليل النفسي يُظهر النبيل نموذجاً لكل فتى في ريعان الشباب يقع في غرام امرأة جميلة، فتجتاح عقله وكينونته، ويهيم بها، وصولاً إلى أن يطلب يدها. وتحليل نفسية المرأة يظهرها عقلانية أكثر منه، تراعي الضغوط المفروضة عليها من المحيط، وتفضل أن تضحي بمغامرتها على مذبح الواقع. وتلك خسارة ما بعدها خسارة، فلولا هذا التناقض في الشخصيتين، لكانت الحياة سارت على ما يرام، ولكن ما أقساها حياة! وعندما يلتقي نبيل بالمرأة نفسها بعد زمان طويل، يتذكر وينفعل، وينتقم من السمك المقلي، فيأكل بشراهة: "كنت جالساً مع مجموعة اصدقاء في مطعم غير بعيد عن شواطئ البحر في عكا ورائحة السمك المقلي الزكية تخدرني. فهو ملاذي بعد فقدانها، السمك والنبيذ الابيض المائل للاصفرار. ربما فقداني لها بطريقة لا تختلف عن تملص السمكة من يد صيادها، جعلني انتقم من الاسماك... او أحبها أكثر".
إنه الانتقام والثأر في العقل الباطني لنبيل، في غياب القدرة على الثأر من الطرف الآخر. تماماً كما أن تقطيع الخبز أثناء تناول الطعام يدل على الرغبة في الانتقام من الوالد. إذن الخبز هو الأب في العوارض النفسية والعصابية... والسمكة التي يهشمها نبيل ويأكل منها الكثير هي المرأة ذاتها، ولتناولها بشراهة دلالتان: الثأر من الزمان، والشهوة لأكل المعشوقة، ولكن من أين لك أن تعلق في صنارتك أيها المحب الخائب والحزين؟!شكراً لك أيها الصديق الأديب، لأنك وفرت لي فرصة الاستمتاع بقصتك، وليقل ما يقوله النقاد، ألم يخالف بيار كورناي مذهبه ويثبت أن الأدب حرّيّة؟ ألم يخرج الواقعيون من أقفاص الرومنطيقية المكررة؟ وأنت تثبت أن الأدب حرية ولا شيء أغلى منها... تلك هي المرأة التي نحبها ونعشقها، ونشرب من نبيذ شفتيها، ولا نثأر منها.
نبيل عودة: مع الأديب المهجريّ د. جميل الدويهي في روايته "طائر الهامة"، مؤرّخة في 27 شباط 2020
"طائر الهامة" قصة أخرى او رواية قصيرة أخرى (نوفيلا) من ابداعات الأديب المهجري المقيم في استراليا د. جميل الدويهي.
طائر الهامة تسميه العرب بـ "البومه"، وهو طائر سيئ الصيت ورؤيته تبعث على التشاؤم لدى الكثير من الناس… كيف لا يسمي روايته بـ "طائر الهامة" (بومة النحس) وهي تتحدث عن المآسي التي حلت بلبنان في الصراع الدموي المدمر الذي سقط ضحيته مئات وآلاف اللبنانيين من كل المجموعات التي تشكل المجتمع اللبناني؟
الرواية هي ميلودراما عنيفة جدا ومحزنة جدا، يعيدنا فيها الكاتب الى أيام سوداء من تاريخ لبنان، أيام لا تنسى وتبقى ذكراها المؤلمة في الذاكرة الجماعية كحد لا يجوز تكراره مرة أخرى مهما تعددت الأسباب.
بأسلوبه الراقي ولغته التعبيرية القصصية الجذابة يرحل بنا الكاتب
بين سطور روايته واحداثها الدرامية المؤلمة، التي تشعل ذكريات تثير الحزن والالم لمن عاصر تلك الفترة السوداء من التاريخ اللبناني.
اولاً، بودي الإشارة الى الأمر الأكثر أهمية في الأدب القصصي او الروائي، وهو قدرة الكاتب على اثارة دهشة القارئ، وجذبه للأحداث التي يرويها، وهنا نحن امام قلم متمكن من مهنة السرد القصصي، وقادر على جذب القارئ من الأسطر الاولى، وهذا هو الجوهر في الكتابة القصصية او الروائية. فورا يجد القارئ نفسه جزءا من الأحداث، يتألم مع ابطال الرواية ويغضب من الذين ارتكبوا الحماقات المختلفة وحولوا حياة الملايين الى اتون من نار وبحار من دماء.
فكرة القصة بسيطة جدا. فخلفية الرواية هي احداث العنف التي عصفت بأهل لبنان وجعلتهم فرقا متصارعة. طبعا السرد يلعب هنا بالتفاصيل وأسلوب تقديمها للقارئ ليبقى القارئ يلهث وراء الأحداث لمعرفة النتيجة النهائية، وهنا نشهد القلم المبدع وأسلوب عرض الأحداث دون ان ينقطع القارئ عن ارتباطه ببطلي قصته، وبالأخص الطبيب رياض وحبيبته التي تزوجها سعاد.
طبعا لا انوي الدخول بالتفاصيل فهي تمتد على مساحة النص بصفحاته الـ 112 لكني سأتناول الفكرة المركزية التي بنيت الرواية
على أساسها.
يبدأ د. جميل الدويهي روايته مع تفجر العداء بين اهل البلد الواحد، وأصبحت الرصاصة أسلوبا للتعامل بدل الحوار، فيقوم والد سعاد حسب القصة بقتل والد الطبيب رياض، فهل هذا يمنع الحب بين أبناء الجيل الجديد؟
طبعا النهاية تكشف ان القاتل شخص آخر... مما يسقط الاعتراض على الزواج.
تمتعت بالمستوى الراقي لتفكير بطل القصة د. رياض ، وحبيبته / زوجته فيما بعد سعاد، كيف يحاولان التخلص من ارث الماضي وبناء حياة جديدة، او الأصح القول بناء لبنان الجديد، لبنان المحبة ونبذ العنف.
ملاحظتي السلبية هنا، هي ان الكاتب د. جميل الدويهي حـلّ عقدة
الإشكالية بزواج رياض وسعاد،بأنه بيّن في نـــــهايـــة النص ان القاتل
شخص آخر غير والد سعــــــاد، مــمـــــــــا يجعل العلاقة الزوجية مقبولة
أيضا من ام رياض التي اعترضت على زواج ابنها من ابنة قاتل زوجها… لكنهما تزوجا رافضين موقفها.
اعتقد ان الجيل الجديد بعد الحرب المدمرة، عليه ان يشق طريقة بعقل منفتح ويدفن آلام الماضي ويبني لبنان الجديد المتآلف الرافض للصراع والقتل على الهوية.
ربما أراد الكاتب تسهيل موضوع عودة العلاقات الطبيعية بين والدة رياض وعائلة سعاد المتهم والدها بقتل والد رياض والذي انكشفت براءته في نهاية الرواية بعد زواج رياض وسعاد. لأن الهدف ليس نجاح قصة حب ولدت بين شابين من عائلتين بينهما دم، انما طرح موضوع لبنان الجديد المتعافي والمنطلق لبناء وطنه مخلفا وراءه كل الآلام والترسبات التي ظلت في القلوب. طبعا هذا رأي شخصي... الرواية مليئة بالأحداث التي تشد القارئ وتثير لديه تساؤلات، تبقى طي الكتمان حتى تنكشف في نهاية النص.
طبعا هي لعبة قصصية، واللعبة في هذا النص الميلودرامي ربما فرضت على الكاتب هذه النهاية ... انا شخصيا أرى ان الواقع اقوى دائما من الدافع الشخصي. كان يمكن إيجاد نصف حل... لكنه قرار المؤلف. وفي روايته "طائر الهامة"، نجح بجذب اهتمام القارئ واثارة دهشته في أسلوب السرد وتطوير فكرة الحدث، واللغة القصصية الجميلة وهي من مضامين القصة الناجحة.
طبعا ليس سرا ان الكاتب في روايته وطريقة حل إشكالية الحب بين رياض وسعاد، يحلم بسيادة المحبة بين كل اللبنانيين. وهو حلم كل انسان يتجذر بوطنه حتى لو كان على بعد آلاف الكيلومترات عن ارضه.
نبيل عودة: هل أصبحت أستراليا عاصمة الثقافة العربية بفضل أدباء المهجر المعاصرين؟ - مؤرّخة في 16 تشرين الأول 2021
هل بات المهجر هو الساحة الابداعية للكثيرين من الأدباء العرب؟
أحدث أدب المهجر ثورة في الفكر الثقافي العربي، وفي اللغة العربية وفي الإدراك الثقافي الجديد، وأحدث تطويراً للغة العربية، من السجع الممل القاتل للفكر وللرقي الحضاري، إلى لغة حديثة تخاطب العقل، وتنور الروح بجماليات الأفكار والنصوص. وغني عن القول إن الأدب المهجري ساهم بإنقاذ اللغة العربية من التتريك الذي ساد عالمنا العربي بعد حكم متخلف وقمعي لم يقم بأي نشاط تعليمي يستحق الإشارة، ولا بأي جهد لتطوير المجتمعات العربية التي خضعت لسلاطين متخلفين حولوا المجتمعات العربية إلى صحراء قاحلة ثقافيا ولغويا وفكرا. وما زلنا حتى اليوم نقرأ إبداعات أدباء المهجر، خاصة أبناء لبنان، الذين حولوا المهجر الى عاصمة الثقافة العربية.
بدون تردد أقول: يأسرنا أسلوبهم وتسحرنا أفكارهم، ونندمج
بنصوصهم، وتأسرنا لغتهم التي فرضت نفسها مكان لغة نصف تركية نصف عربية مشوهة. وأكاد أقول لولاهم لفقدنا لغتنا وضعنا بالتتريك اللغوي.
ويبدو أن واقع العالم العربي، الثقافي بظل أنظمة رقابة فكرية وقمعية، تمنع وتصادر الكتب التي لا تتفق مع فكرها الحضيضي أوجد كل الظروف لنشوء أدب مهجري جديد.
المهجر لم يغادرنا بل يواصل الحياة والابداع
يتطور اليوم ادب مهجري حديث لا يقل بحداثته وانفتاحه على التنور والحداثة الفكرية والابداعية عن أي ادب أجنبي آخر. حتى لغته العربية تزداد طلاوة واتقانا وجاذبية (ولا اعني القواعد والنحو والتقييد اللغوي الذي يسجن اللغة وراء قضبان التزمت). ابحثوا مثلا (كنموذج) عن أعمال الأديب المهجري المبدع د. جميل الدويهي (له موقع ايضا باسم "افكار اغترابية") وهو، مع زملاء له في بلاد المهجر استراليا، يشكلون في هذا المضمار النموذج الأمثل لفكر الحداثة الإبداعية والفكرية واللغوية. في وقته أيضا انجز أدباء المهجر انقلابا فكريا ولغويا أخرج لغتنا من سجن الغباء اللغوي والانغلاق، وساهم بتحريرها من الضحالة القاتلة والتكرار الممل والقيود المتزمتة. طبعا لا أنكر وجود أدباء ومفكرين حداثيين أبدعوا في مضمار الأدب والفكر، لكن الساحة الأدبية مقيدة بتطور المجتمع، إن تطوير الأدباء لمشروعهم الثقافي هو عملية تقع خارج مجتمعهم بواقعه وقيوده. لذا ليس بالصدفة ان المهجر أضحى ملجأ للكثيرين من المفكرين والعلماء والباحثين والأدباء، ولا اكشف سرا بالقول إن خسائر العلم العربي من هجرة العقول الثقافية والعلمية والتقنية تقدر بمليارات الدولارات سنويا!
في الأشهر الأخيرة بدأ الأديب المهجري الموسوعي د. جميل الدويهي بإصدار مجلة ثقافية رائعة، تضم أقلام باقة من الأدباء العرب. صدر عددها الثالث قبل أيام، وأقول بكل ثقة إن عالمنا العربي يفتقد لمثل هذا النشاط الثقافي الرائع والمجدّد للفكر الثقافي العربي.
بالمناسبة أقدم مراجعة كتبتها عن قصيدة للشاعر الأديب د. جميل
الدويهي الذي حول المهجر في استراليا الى عاصمة وقامة شامخة للثقافة العربية.
قراءة في قصيدة جميل الدويهي: إن رجعتُ إلى لبنان / نبيل عودة، مؤرخة 21 نيسان 2021
1- نص قصيدة الشاعر د. جميل الدويهي: إن رجعتُ إلى لبنان
أمشي على البحر علّي ألتقي وطناً / فيه السماءُ عصافيرٌ وألوانُ
يردّني بعدما أمعنتُ في سفَري/ وصار بيني وبين العطر جُدرانُ
أقيمُ في خيمةٍ لا الشمسُ تدخلُها…/ ولا يجيبُ إذا ناديتُ، إنسانُ
عندي رداءٌ من الأوجاع ألبَسُه… / مرّتْ عليه أعاصيرٌ، وأزمانُ
ويسأل الناسُ عن إسمي، وعن بلَدي/ وليس لي في بلاد اللهِ عنوانُ
نِصْفي هناك ولي نصْفٌ أعيشُ به/ فكيف أمْشي وكلُّ الدرب أحزانُ؟
وكيف يعْرفُني بيتي وأعْرفُه؟/ وكيف يرقصُ بين الورد نَيسان؟
ومَن أنا؟ شاعرٌ طال الرحيل به/ وفي مواعيدِه جوعٌ… وحِرمانُ
يشتاقُ للخبز أقماراً مدوّرةً/ هل من رغيفٍ؟ وهل في الحيّ جيران؟
وهل أعود إلى الوادي؟ فلي شجرٌ/ هناكَ يضحكُ… تفّاح ورمّانُ
والنَّهر طفلٌ على كفّي أهدهدُه/ والقمحُ فوق التلالِ الخضرِ سلطانُ
كان الصباح شبابيكاً مشرّعةً/ وتملأُ الدارَ من فيروزَ ألحانُ
كان الربيع جميلاً في حديقتنا/ والآن ما فيه أزهار… وأغصانُ…
وكان لي جارةٌ سمراءُ تغمزُ لي/ ولم يكنْ بينَنا بحرٌ وشطآنُ…
وكنتُ أشربُ من فِنجان قهوتِها/ فكلّما استقبلتْني، قلتُ: عطشانُ
تلك التصاويرُ ما زالت بذاكرتي/ والكلُّ من بعْدِها طينٌ، وأوثانُ
طيّارتي وَرقٌ، في الريح أتبعُها/ إلى هضابٍ عليها الحورُ والبانُ
فإنْ رَجَعتُ إلى لبنانَ، لي سببٌ/ فالحبّ عندي لبعض الناس إدمانُ
هناك طفل صغيرٌ لا يزال معي/ ولو يغيبُ…فإنّ العمرَ نِسيانُ…
هناك لي وطنٌ… لولا أغادره / أصيرُ أعمى، وحولي الناسُ عميانُ.
2- قراءة نبيل عودة
قليلة هي القصائد التي أسرتني معانيها واعدت قراءتها مرات عديدة واكتشف مع كل قراءة عمق المعاني وقوة العاطفة التي تحركها او تنطلق من صاحب قلم اعياه البعد عن ملاعب صباه وعشقه للأرض التي رأى النور فيها وقضى سنوات عمره الفتية يجول بأطرافها ويحفظ كل دعسة قدم خطاها في ربوعها، وها هو بجيل تجاوز الشباب، يطل من شبابيك المهجر متجولا بذكريات لا تمحي، مستعيدا جمال ملاعب الطفولة التي اختلطت مع نبضات قلبه، فانطلق بقصيدة هي برأيي من اجل قصائد الحنين للوطن، ومن اجمل قصائد الذكريات لملاعب الطفولة، لبحر الوطن وشواطئه وجباله ونسائمه وعصافيره وسمراواته.
في القصيدة نشعر بعمق الحزن وعمق الشوق وعمق الحب الذي يفتقده الشاعر في غربته، كأنه يقول: انا لم أختَر الغربة بل هي التي اختارنتي. وها هو في بلاد ليس له فيها عنوان. ولا يستجيب لندائه، نقرأ كلمات انسان يتألم بصمت، ويحن بصمت بقوله: ان رجعت الى لبنان؟ تأملوا الجملة، لا يقول عائد الى لبنان، فهو في عالم غير وطنه: "أقيمُ في خيمةٍ لا الشمسُ تدخلُها…/ ولا يجيبُ إذا ناديتُ، إنسانُ". ويواصل بحزن تنبض به كلمات قصيدته او الاصح اعترافاته: " نِصْفي هناك، ولي نصْفٌ أعيشُ به / فكيف أمْشي، وكلُّ الدرب أحزانُ؟"
بنفس الوقت لا ينسى ايام الشباب:" وكان لي جارةٌ سمراءُ تغمزُ لي / ولم يكنْ بينَنا بحرٌ وشطآنُ…"
ويختتم قصيدته بلوعة الحزن والشوق:
"هناك لي وطنٌ… لولا أغادرُه / أصيرُ أعمى، وحولي الناسُ عميانُ".
اجل انه في الغربة ولكن قلبه ومشاعره وعقله ونبض قلبه وعينيه ترفض ان تغادر الوطن!
اجل ايها الشاعر، سترجع الى لبنان، وسيرجع لبنان إلى روحك وعينيك ونبضات قلبك، وذكرياتك، وحبك لكل ذرة رمل وتراب ونبتة قمح ووردة في ربوعه، وبسمة من سمراء تغمز لك وتشرب فنجانا من قهوتها!
يوميات نصراوي عن الثقافة والتثاقف
وبعدها تعقيب من د. جميل الدويهي (شباط 2019)
زارني في بيتي في الناصرة صديق عزيز وشاعر مبدع اثبت نفسه على الساحة الأدبية، قال لي بمجرد ان اراح جسمة على المقعد في الصالون انه في سبيله لإصدار ديوانه الشعري الجديد.
قلت له بلا تردد، ان ذلك بشارة خير لعلها تساعد القارئ على التمييز من جديد بين الغث والثمين مما ينشر من شعر في بلاد صار الشعر فيها عقاباً للقارئ، او كما قال أحدهم: "كثر الشعر وقل الشعراء"!
قال : لكني خائف من النقد.
استهجنت خوفه... فسارع يقول: لا أقصد الخوف من النقد الادبي، إنما احتقر النقد الذي يسود صحافتنا ويسود بياض صفحاتها.
قلت : اذن اكتب مقدمة للديوان اذكر فيها ان نقد الديوان ممنوع إلا لمن يحصل على إذن مسبق من الشاعر،وكل من يتجاوز ذلك سيجازى قضائيا بتهمة التشهير وتجاوز الحدود.
ضحك حتى كاد يختنق...
عندما استعاد انفاسه اضفت: كنا في مشكلة ادبية واحدة فأصبحنا في مشكلتين.
سأل : ماذا تعني؟
أوضحت: كنا نتحدث عن فوضى الشعر في بلادنا، المستوى المتدني لما ينشر، فبرز من يحول الفوضى والشعر المتدني الى شعر عبقري وإبداعات لا مثيل لها منذ فجر الحضارة، حتى تبدو الياذة هوميروس بجانب الشعر غير الناضج الذي شحذ اقلام نقادنا "الأوادم" وسحرهم، عملاً ضحلاً ساقطاً.
وواصلت القول وهو مصاب من جديد بالإغشاء ضحكا : حتى محمود درويش لم يحظ بمثل هذا المديح المنفلت وهو في قمة عطائه قبل ان يغادرنا... لا أذكر ان شعراءنا المعروفين، بدءا من توفيق زياد وسميح القاسم وحنا ابو حنا وحنا ابراهيم وجمال قعوار وفوزي عبدالله وسالم جبران وغيرهم، حظوا بمثل هذا التقييم كعباقرة الشعر، كما يحدث اليوم في ما يسمى نقدا.
التقط انفاسه وسأل: الحل؟
قلت بلا تردد: أن نشترك بالتهريج!
- كيف؟
- من تجربتي الخاصة، اعرف أن المصارحة لا تنفع وتحولك الى عدو لئيم وحقود... لذلك الحل بإضافة المدائح بلا حساب ، جعل الناقد قمة العبقرية... والمنقود أبرع المبدعون وألمعهم.
- أي التخريب...؟! سأل. فأجبت:
- الكلمة الصادقة لا تفهم ... المبالغة بلا منطق وبلا عقل هي أفضل تنبيه للمجزرة الأدبية التي ترتكب دون عقاب.
عبر عن خوفه من أن ذلك يقود إلى مزيد من الغرور، لدى من لا يفقهون معنى الأدب والإبداع الأدبي، ممن يحملون صفة الشعراء عنوة، أو يركبون حمار النقد بالشقلوب... هذه المدائح الساخرة تزيده غرورا.
قلت: ربما... لكن القارئ سيفهم، هذا هو المهم. وأضفت: أحد أصدقائي المقربين والقريب من آرائي الثقافية أيضا، يمارس على موقع من مواقع الانترنت المديح المبالغ فيه... الموقع ينشر والمهزلة مستمرة... بعض ردود الفعل التي وصلته تشير الى ان "السبت فات بقفا اليهودي" (تعبير نستعمله بمعنى ان المسألة صارت من الماضي). بدأ البعض يستهجن المديح... ويبدو ان المدح بلا شواطئ أفضل من الكلمة الصادقة في عصرنا الشعري المريض...
- لكن من يستوعب ان المبالغة في المدح هي ذم ؟ وأضاف:
- المهم كيف سأحل مشكلتي بأن لا يتعرض لديواني من أحسنت وصفهم ...؟
قلت: كن جريئا واطلب مباشرة ممن لا تراه أهلاً لمراجعة ديوانك أن يبعد شره عنك... وإلا صنع منك شاعرا كبيرا، هذا أنت تستحقه بجدارة... ولكنك كبير مع خنافسه الشعرية، بأسلوب ممجوج خلو من الفكر الثقافي والنقدي واللغوي.
قال بحزن : أنا في مشكلة.
سألته: هل تريدني أن أقوم بالمهمة بدلا منك؟... أنا لا أتردد...
تأخر في الاجابة، فسارعت أقول: هل اعتبر صمتك صمت العروس؟
فأجاب بحيرة واضحة: لا أستطيع أن أكون فظا.
غضبت: هل تعتبرني فظا؟
- اعتذر… اطلاقا لا، أعتبرك أجرأ من حمل القلم ... أتمنى أن يكثر أمثالك.
قلت: لا تمدحني أكثر من اللزوم حتى لا يصبح مدحك ذما...
انهينا الحديث، وصديقي الشاعر المبدع الأصيل، حائر كيف يطلب من بعض مهرجي النقد أن لا يكتبوا عن ديوانه الجديد.
تعقيب من د. جميل الدويهي عن النقد العربي عامة
أخي العزيز والأستاذ الكبير،
سمعتُ صوتك من مدينة المسيح، وقد ألهمك الله الصدق وسرت في مواكب المغامرين. نعم المغامرون جدّاً، ففي عصرنا لا يُقبل النقد الصحيح. أنا متخصّص في النقد ودرستُه ودرّستُه في الجامعات، وكتبت ماجستير عن صلاح لبكي ود. ميشال سليمان، وكتبت دكتوراه عن الأدب المسرحي عند محمد الشرفي. وكتبت عشرات المقالات الأكاديمية في لبنان، وشاركت في مؤتمرات، وأحاضر ساعات عن الأدب والفكر الإنساني وباللغة الفصحى الصحيحة ارتجالاً من غير كتاب ولا ورقة... ولا أجرؤ على النقد لأنّ الرماح سترتفع من كل حدب وصوب للإحاطة بي وتهديدي. كل ذلك من أجل أدب هابط وسطحي وضعوه في مصاف الملوك، حتى بات الشتم والكلام السوقي في مستوى الكلام الراقي والأنيق.
لست أطلب من النقاد أن ينصفوا الشاعر والأديب الحقيقي، ولكنني أطلب منهم فقط أن يقارنوا بين "الأدب" الذي يستميتون من أجله مع أدب هيجو، وراسين، وغوته، وموليير، وإدغار ألن بو، ومحمود درويش، وسعيد عقل، وجبران، والريحاني، وطه حسين... وليس صعباً الاطلاع على تلك الأعمال، وهي موجودة في كل مكان، ولا عذر لمن لا يريد أن يقرأها. فعلى الناقد قبل أن يندفع إلى الكتابة أن يتعرف على حقيقة الأدب وقداسته. فالشاتمون ليسوا أدباء، ومن يحقّرون الإنسان ويشوّهون عظمته ليسوا برسُل، ومن يكتبون لغة سطحية ليسوا فلاسفة...
للأسف هبط كل شيء عندنا، وصاروا يزعمون أنّ لكل شاعر طريقة، يعني
"رباعيات الخيام" شعر و"بتجوّز ما بتجوّز لأ بتجوّز، غير مـــــــــــا هيّي
تتجوّز ما بتجوّز..." شعر أيضاً... وصار يقف من ليس عنده كتاب أو لا يجرؤ على نشر كتاب في صفّ واحد مع من لديه 30 كتاباً في جميع أنواع الأدب الراقي، وصار الذي خرج من المدرسة في صف البكالوريا يحمل رتبة جامعية أكبر من كبيرة، والذي درّس في جامعة يحمل رتبة أصغر... نجّنا يا ربّ... ومَن يستفيد من هذه العدالة الإلهية غير الضعفاء والمبتذلين والسطحيين؟ لقد صار ثمن القصيدة بثمن ربطة البقدونس... وليتي ولدت في غير هذا العصر لكي لا أرى ما أراه الآن.
أخي الكبير، ليست مصادفة، بل هو تناغم روحي أن تكتب أنت، وأنشر أنا في الوقت نفسه قصيدتي التي كتبتها في لبنان عام 2012/ بعنوان: ليس للعشّاق في قبيلتي مكان… تحياتي.
جميل الدويهي يكتب عن نقد نبيل عودة الساخر، ويعلّق مرّة أخرى على النصّ السابق (كتبت في 1 شباط 2019)
لا يكفّ الأديب والناقد العربي المخضرم الأستاذ نبيل عودة عن إضحاكي، فمن قصص الديوك التي تتعاطى السياسة والفلسفة، إلى قفشات كوميدية هي في الحقيقة شرّ البلية، وقد صاغها النبيل المبدع في قوالب قصصية أو حوارية جاهزة للتصدير، ومكتوب عليها:عليكم بالضحك أيها الحزانى والمتألمون.
ومن آخر قفشات النبيل حوار بينه وبين شاعر أصيل تحت عنوان "لا أريد ان يتعرضوا لديواني بالنقد". وإذا علمنا السبب بطل العجب، فالشاعر يريد أن يصدر ديواناً، ولا يريد أن يتناوله نقاد العصر وجهابذته بالنقد. وكلنا يعلم حالة النقد في الزمن الحاضر، وفي آخر اتصال هاتفي بيني وبين النبيل، حين كان في مدينة بيرث الأسترالية، أبدى عجبه من أن النقاد لا يتناولون أعمالي، على الرغم من الحالة الأدبية التي أوجدتها في أستراليا والتي يعترف بها الأبعدون قبل الأقربين. وأنا والحال هذه مستغرب جداً، حتى بت أعتقد أن النقاد لا تهمهم الأعمال الجيدة، بل ينصرفون إلى نقد الصداقات والصحبة، وأكثر من ذلك، تحظى بعض السيدات من الأدباء بكم هائل من المديح والتدليل، قياساً بأعمال ذكورية هي روائع، حتى بتنا نطالب بأقل قدر من المساواة مع النساء في المجال الأدبي.
وعلمت أن النبيل نفسه تعرض لحملة عشواء بعد أن انتقد أعمالاً هزيلة وأظهر ما فيها من ركاكة،وأعطى أمثلة دامغة، وتساءل عن مواطن الشعر فيها، فكان صدقه وفهمه، وتحليله الصحيح وبالاً عليه، وربّما لأجل ذلك لم يعد يتعاطى النقد إلاّ قليلاً.
ولأن شاعرنا، موضوع الحوار مع النبيل، يحتقر النقد الذي يسوّد بياض الصفحات، يقترح عليه نبيل أن يكتب مقدمة للديوان يذكر فيها أن نقد الديوان ممنوع إلا لمن يحصل على إذن مسبق من الشاعر، وكل من يتجاوز ذلك، سيجازى قضائيا بتهمة التشهير وتجاوز الحدود.
والطامة الكبرى كما يبدو من الحوار هي أنّ هناك من النقاد أو أشباه النقاد من يحوّل الفوضى والشعر المتدني الى شعر عبقري وابداعات لا مثيل لها منذ فجر الحضارة، حتى تبدو الياذة هوميروس بجانب الشعر غير الناضج الذي شحذ اقلام نقادنا الاوادم وسحرهم، عملا ضحلا ساقطا،فحتىى محمود درويش لم يحظ بمثل هذا المديح المنفلت وهو في قمة عطائه.
وما يقوله الحوار أكثر من صحيح، ففي أستراليا نفسها تشحذ أقلام "النقاد" مديحاً لأعمال ضعيفة، وتسكت عن أعمال جليلة، فبات الشاعر أشبه بالحاكم العربي الذي يمدحه المحظيون في انتصاره وانكساره، ولا يفوتون فرصة لوصفه بأوصاف مجيدة أين منها الأوصاف التي أغدقت على الحاكم بأمر الله؟
وعبثاً تحاول أن تقنع الناس بأن الأدب ليس شعراً فقط، ولا هو شعر الزجل، فيحدجونك بنظرات الشفقة. كما من العبث أن تطالب بأن يكون للذهب والياقوت سعر أغلى من النخالة، وأن تقول إنّ الفواكه المتنوعة التي تضحك في صناديقها أجمل من فاكهة ممصوصة لا تنفع لشيء. وكم يؤلم المبدع هذا الكم الهائل من الفظاظة والتعدي على الأدب من كل فج وعميق، فأصبح الجاهل الذي لا يعرف الكتابة كاتباً وناقداً، لأن هناك من يكتبون له، ويوقعون باسمه، في فضيحة مجلجلة! وينتهي الحديث بين نبيل والشاعر المجهول، الذي يبقى حائراً، كيف يطلب من مهرجي النقد أن لا يكتبوا عن ديوانه الجديد؟... وهذا الحوار الملتزم يعبر عن واقعية صارمة، وحالة ثقافية نعيشها، ونبيل عودة هو واحد من رواد الثقافة والمهتمين بالقضايا الثقافية، وهو يقارب الموضوع بطريقة مغايرة للمألوف، فمن الشائع أن الأدباء والشعراء يتلمسون الطريق إلى نقاد ليتحدثوا عنهم ويشيدوا بأعمالهم، لكن هذا الشاعر، يشترط أن لا يكتب عنه النقاد لكي ينشر كتاباً، وفي هذا أعجب العجب، وهو عجب مضحك، من جعبة نبيل عودة التي لا تخلو من كل جديد وطريف... وإبداعي...
جميل الدويهي: "نهاية الزمن العاقر" لنبيل عودة تجديد روح الثورة والقيامة
1- قصّة "نهاية الزمن العاقر" لنبيل عودة
الانتفاضة التي تشتغل هذه الأيام في الأقصى والشيخ جراح وتمتد الى كل المناطق التي يسكنها أبناء الشعب الفلسطيني اعادت الى ذاكرتي اول قصة كتبتها بعد انفجار الانتفاضة الفلسطينية الأولى-انتفاضة الحجارة 1978!
دوامة
مضى عقدان من الزمن وبطنها قاحل. تناثرت الاقاويل وكثر التساؤل. صارت في الحلق غصة، في جمال الحياة كدر، في صفاء الجو غيوم، في هدوء البال توتر، في نظرات الناس حدة.
وهيب زوجها يعود من عمله ولا يبخل على زوجته، يراوده الأمل. كل عسر يليه يسر، لطفك يا ملطف، الثمر يمتنع، النور لا يبان، العود اجرد.
يبتهل بحرارة لمن في يده الحل والربط. يتعامل مع ضغط الأيام، يهرب من ضغط الألسن. ما بقي صاحب ضريح الا ووصلته حصته. عدل في الزكاة وزاد. لف على الوسطاء والمشعوذين، حتى كاد يطق من التجوال.
قالوا انها مصابة بالعين. سلسلوا الحكاية من وقت تعارفهم فوجدوا ألف سبب، ما نفعت الحجب في هزم اي سبب. أخذها عند أحسن الشيخات بعد عجز الأطباء الواضح، ما بقي طقس بلا تجريب.
بشروه بالخير وبقي العسر ماسكاً.
احتارت نفسه، اجتنب الناس ابتعادا عن تساؤلاتهم. عيونهم فيها غمز. تساؤلاتهم تفجر غضبه.
يسرك يا رب. هل يطلّق من داخ في حبها؟! يتخلى عمن مات صبابة في القرب منها ؟! أيبتعد عن التي يسرح وجدانه كلما قربها لنفسه ؟! عشرون سنة من الاندماج الحسي والذوبان العاطفي تنتهي بكلمة غبية ؟! آه من غدر الأيّام وخيانة القلوب. آه من شطحات العقل.
عشرون سنة من اندماج الذاتين في ذات واحدة. يرفض التشاؤم، يقاوم سوداويته، ينتظر البشارة بصبر، يلتزم بأمله، يناجي احلامه، يواسي نفسه بالصبر وينتظر الخبر الممتنع... يترصد الحلم الذي لا يجيء.
قالوا: " الصبر ثم الصبر"، فاحتار، حتى متى الصبر؟! " الصبر سلاح المؤمن المتيقن!" اما الايمان فالحمد لله، لكن اليقين معدوم... والاحساس بالخسارة مرير.
تتوالى الأيام، تتناثر الآمال، يتوالى الحديث، تتلى الحكايات، يتجدد الأمل، يتبدد الأمل، يتعلق بحبال الامنيات، ينال منه اليأس، يوغل في الأمل، يتحلى بالصبر، ينهزم اليأس... هذه طبيعة النفس البشرية، مترددة، متقلبة ولكنها على العموم تتفاءل
بالخير، تطفح بالأمل وهي في ذروة العسر والامتناع.
كان محتارا في نصيبه، يحاول ان يفهم الحكمة في قدره، يقوى يقينه ان يكون فرج بعد شدة، فرح بعد صبر، طفل بعد انتظار، لا بأس بطفلة...
عــقــدان كاملان لا يــعــرف كيف عبرهما. عشرون طويلة بأيــامـها. حتى
الصبر صار علقما. ثبت في طريق الأمل ولا يزال. كانت تشعر برغبة زوجها، يسود عالمها من عجزها البين في تطييب خاطره. كان حبيب نفسها يحزنها صمته. وكثيرا ما رجته ان يطلقها، او ان يأخذ عليها زوجة اخرى تحقق له ما تصبو اليه نفسه. تعطيه من بذره ثمرة.
رفض كلامها وزجرها. ابدى لها من العشق ما حيرها في امرها وزاد من شعورها بالنقص والتقصير. لم يوفر جهدا في اظهار حبه، كان يطمئنها بحنانه الطافح، ترتاح لعواطفه الجياشة، يمنحها من عناده بصمت وصبر، مددا يشد ازرها ويجدد الأمل في نفسها.
عناد
قالوا انها مرعوبة، مدد من الرعب. فاحتار في الصلة بين ارتعابها وعقرها، هل يبقى الرعب قائما عشرين حولاً؟ قالو:ا لا يحل رعبها الا امر بيد الخالق. فاحتار في تأويل شكل الامر...
متى يحين وقته؟ متى يحل لطفه؟ هل سينتظر فوق العشرين سنة؟ الزمن يهرب من بين يديه، والمرأة حين يتقدم بها العمر تصبح كالأرض الصحراوية، زرعها لا يؤتي ثمرا. والسماد كالزبد يذهب جفاء.
فكره مشغول بها كل نهاره، تعذبه المعضلة، يضنيه الأمل، لا يرى حياته بدونها، يرتاح لحبها ووجودها بقربه، ينفر من دنياه إذا ابتعدت بالخيال عنه، يرتعب من احلامه إذا خلت من طلعتها، تتسامى ذاته بقربها، يتجدد عزمه بعناقها. كانت تحمل له من المشاعر على الاقل مثلما يحمل. تبتهل لربها ان يبعد بغتات الأقدار، ان يطيب خاطر رجلها بعد صبره الطويل، تنوء بثقل عجزها، ما هي خطيئتها؟ تتعامل مع الواقع بنفور، تهرب مــن الناس،
تُسرُّ لكل طفل تراه وتبكي حظها بحرقة.
ظهور البلية
تزوجا قبل دخول الاحتلال بليلة واحدة، فحلت دخلتهما مع دخلته، حاذت نكستهما نكسة عربهما. قضيا اسبوعا قاسيا، تشردا في الخلاء. هربا من القتال الذي حاذى قريتهما. البيانات المذاعة اوصلتهما لوطنهما السليب، حقيقة ما جرى أذهلهما، شملتهما الصدمة، اغرقهما العار، اهاجت الذكريات رعبهما، هو ايضا ارتعب، البلد كلها ارتعبت، مدد من الخوف والرعب، طوفان من العار، تناثرت احلامهما، انقلبت موازين الواقع وحدوده وتاه الادراك.
اعتراهما اليأس، واجها واقعهما اشبه بالضائعين، توجسا من ظواهر الاشياء وحذرا بواطنها ...
مرت الايام، بدا الناس يعتادون على الواقع الغريب ... استحوذت عليهما مشكلتهما، ولت العشرون سنة، يصعب عليه تصديق ذلك. عشرون عاما؟! كيف مرت بغفلة من الزمن؟! فقط بالأمس جرت المعركة هنا بمحاذاة القرية، قبل ذلك بأسابيع كان يلاحقها بشوارع القرية وحاراتها ويبث لها لواعج عشقه وغرامه. لا يزال يشعر برعشة الحب الاولى، بتوتر العناق الاول.
عشرون عاما لم يفكر بما يحيطه عداها، لم يقف على شواهد الأحداث، يتأمل ما عاناه من وحشة، يتذكر صبره الطويل الممتد حتى الساعة، يكره تلك الأيام، حتى لو لم تكن السبب في معاناته. برأسه هدف لا يمل من السعي نحوه، لا يفرط بحبه، يواسي ألمها الواضح، يحنو عليها، ينسيها قساوة القدر، عبء المعاناة وجهد الصبر.
دخائل
- انت حبي، انت عالمي .. بدونك أذوى.
كان لا يمل من بث لواعجه، لم يخدعها بحقيقة مشاعره، حبه لها اصيل، ظلالها مطبوعة في نفسه، رحيقها يسري في دمه سلسبيلاً وامنيته بطفل من صلبه تتلاشى حين يحتضنها. هي تضطرب وكأنها المرة الاولى، تصمت مصغية الى دبيب انفاسه، حيرتها تعذبها، عجزها عن تحقيق امنيته يشعرها بالخذلان، يتفجر الدمع من مقلتيها ولا تنسى نفسها الا حين يلج جسده بجسدها، فتصل لقمة نشوتها، ترجوه ان يأخذ عليها من تستطيع تحقيق امنيته فيردها خائبة:
- تطلبين البعد وانت في قمة القرب؟
- أشعر بالخيبة والقصور.
- ما عليك، الموضوع يخصني فلا تلجيه.
- ويخصني.
احتضنها بقوة، ضغط عظامها بين ذراعيه، ضغطت بأسنانها على شفتيها متحملة لذة الاحتضان وهمس بأذنها:
- حبي لك هو الجذور، انا احبك لنفسك، لذاتك، أحببتك لأنك انت، لا تخلطي بين مشكلة الحبل وحبنا، حبنا قدس الاقداس فهمت؟
شهقت والتفتت اليه بدموع ملء وجهها:
- اكره نفسي لعجزي، اريد ان اعطيك شرف الابوة، الرجولة تكتمل بالأبوة.
أصمتها بقبلة وهمس بأذنها:
- انت دنياي ولا يهمني بعدك شيء... لا الرجولة ولا الابوة.
فتحت فمها لتقول شيئا فزجرها:
- اصمتي ولا تعكري ليلتي.
سطوع الأمل
يرنو اليها خلال تجوالهما بين العيادات، يرى تنامي قنوطها واكتمال تصميمها. يحاول ان يرى حياته بدونها فيعصره الالم. تتسرب الشفقة الى نفسه، يود لو يحتويها بذراعيه، خوفا من فقدانها ولو بالتأمل.
صرف كل ما طالته يده من ثروة، كان الكلام يبعث الأمل، يجدد الحوافز والواقع الملموس يبدد ما يتجدد من امل.
ما دام هناك بصيص من نور في كلام الأطباء فالتعلق واجب. حلاوة الكلام تطرب، شرحوا لهما امورا لم يدركا كنهها، لم يفقها مضمونها انما بهرهما اطارها. تلاشى التشاؤم وبدأت دغدغة الأمل من جديد. للحق نقول ان وهيب ما زال حائرا بين حلاوة الكلام وصعوبة التصديق، اعتاد على الفشل. عشرون عاما من المحاولات، عشرون عاما من الأمل المتجدد والفشل المتكرر. لكنهم اليوم يتحدثون عن مشكلة معروفة علميا وطريق مجربة وأمل كبير، النفس طافحة بالرغبات والحياة بلا أمل مستحيلة. لم يخبرهما أحد ان العجيبة ستحدث. تلك كانت ايام المسيح وقد ولت، قالوا نجرب نحن متأكدون من النجاح. عاد الأمل ينبض بقوة، تجدد الشباب.
الانسان موضوع محير، عشرون عاما من التعثر وراء الآمال تلاشت بعد سماع كلمة حلوة مبشرة، رب يسر ولا تعسر، أعطنا من لدنك قوة، لا تزغ قلوبنا، هبنا من رحمتك وصبرك، رب تمم بخير.
ترى ما يدفع الانسان للأخذ بالتفاؤل والدلائل تعطي النقيض؟
الأمل الجديد شحنه طاقة، مده بالصبر، حرك احلاما قديمة، هاجت نفسه بلواعج الحب وماجت بالحنان.
أيجوز ان يكون لقيام الساعة ليلة دخلتهما، سبب لما هما فيه؟
كان يرتقب اجوبة الفحص الاخير مشدود الأعصاب، محاولا التمسك بهدوئه النفسي، متيقظا الا يشعر زوجته بصدمته فيما لو ظهرت النتائج سلبية. كانت هي الأخرى تنتظر النتيجة وكأنها قرار المصير، الاعدام او الحياة. اعصابها متوترة مشدودة، تحبس دموعها عنوة ... تتمنى ان يتجمد الوقت بحيث لا تحل ساعة الصفر، تعاني من ثقل الدقائق ويتضخم الوقت في مشاعرها، تهرب نظراتها من نظرات زوجها، تعرف ما يعتمل بنفسه ولا يخدعها المظهر.
منذ دخل الاحتلال في ليلة دخلتهما وهي تعيش هواجسها ومخاوفها، تصارع مصيبتها، ترزح تحت ارزاء عجزها، تلوك الألسن سيرة جفافها، لا تعرف ما الصلة بين عقرها وبين الاحتلال، لا شك طالع نحس. سرقتها هواجسها من الزمن ومدت بها بعيدا ولم تنتبه على نفسها الا وزوجها يضمها كالمجنون صارخا:
- المعجزة!
أول الغيث قطرة
حامل... لهذه الكلمة أكثر من معنى ولها أكثر من نتيجة، تشمل أكثر من افق، تتسع لعالم كامل متكامل من المشاعر والرغبات والاحلام والانبعاث والتجدد، هذه الكلمة قلبت كل نظام حياتها، أعطت لعالمها رونقا جديدا، ربما لأول مرة تضحك على راحتها وليس مجاملة. لأول مرة تسابق جاراتها لإلقاء تحية الصباح ودعوتهن لفنجان قهوة الصبح. بدأت تلمس انها تعيش في عالم مليء بالقيم والعلاقات، اين تاهت كل هذه السنين؟ كيف لم تشعر بما يدور حولها؟ هل حقا ما زال الاحتلال قائما؟ لا تعرف لماذا ارتبط الاحتلال بما مر عليها. أبسبب المعاناة الخاصة التي جاءتها بعد الاحتلال؟ كم يؤلمها سقوط الضحايا من الطلاب والطالبات! قد يكون الدم النازف دم ابنها، قد يكون دمها نفسها، ترتبك سعادتها، تخاف على جنينها، يقلقها مستقبله. متى يتغير هذا العالم؟ متى يتجدد؟
كانت الحركة تزداد في احشائها. الفحوصات الطبية تؤكد ان الجنين يتطور بشكل ممتاز. بهرها ضوء ساطع. هزتها السعادة وزغردت فرحا ومن وجنتيها سطع الق الرضاء. أعطنا من يسرك خيرا، بشرنا بالغيث وخذ عنا الغرباء ومدنا بلطفك، مدد من خيرك، ادحر الآثمين القاتلين، قوّ سواعد شبابنا، قوّ يقينهم، مدّ لهم العون في وقت الشدة والأزر في وقت الضيق، نوّر دربهم، صوّب خطاهم، واشملهم بعطفك في هذا الزمن الخائن.
القيامة
منذ اسبوع ولجت شهرها. اصبحت السعادة قرينة الغد. تعجلتها. احتارت كيف تكون مشاعرها يوم استقبال طفلها. واضطربت لما تسمعه من احداث وحشية. هزها القتل المتعمد.
زوجها الزمها البيت خوفا من حادث طارئ بعد انتظار مرير... حديث الجارات يثير الرعشة والحماس، هل كانت تزجر طفلها لو انضم مع اترابه في تحدي العساكر؟ تناقض صريح وهواجس محيرة. أمس انفجرت الاحداث قرب حارتهم، كانت تتعجل الأيام خوفا من مكروه يفقدها صبر عشرين سنة. هل تستطيع ان تواصل
الحياة إذا حدث ما يفقدها كنزها؟
زوجها منذ اسبوعين لا يخرج للعمل، أحاديث كثيرة يتبادلها الرجال، الحركة حولها تتدفق والحرارة تتفجر، الحماس يتلاقى مع الانفعال وهي كالمحتفى بهم، مكرمة مدللة مستريحة. احيانا يراودها تمرد لما يطولها من دلال ومن راحة، لكنها تخاف حقا على حملها الثمين. الأحاديث المنقولة تؤججها حماسة. ترى متى تحل اللحظة؟ متى يزغرد قلبها فرحا؟ تتحرك اشجانها مع ورود اسماء الشهداء. لو رزقت من وقته بطفل لكان من نفس عمر الشهداء. يغمرها حس عارم انهم أبناؤها. تفيض برغبة في المساهمة بالأحداث، الحركة تنبئ بقرب اللحظة. زوجها بات يدور في فلك البيت، ممغنط في انتظار اللحظة، تتسرب منه ايماءات واشارات واستفسارات صامتة، تطمئنه بنظرة رقيقة دالة، لا يهدأ باله، كيف يهدأ بال من خاض اللجة على جبهتين؟ الزوجة والاحتلال؟ الاحتلال سيصير زمنا مندثرا، الاطفال جعلوه سخرية القدر. هل سيرزق ذكرا، وهل سيمتد الوقت مع الزمن السيئ، بحيث يكبر طفله والدنيا على ما هي عليه؟
تخيلت طفلها يقذف حجرا. فأطربتها الفكرة. فولجت فيها حتى نهايتها. رأت نفسها تجمع الحجارة لأطفال الحارة، تواجه البطش، تتحدى الرصاص، تتلقى ضربات العصي، تتكسر العصي ولا تركع وحركة الجنين تنقلها للعالم الملموس. شيء يكاد يمزق احشاءها... فتصرخ مرعوبة من الألم.
يا ملطف
كانت زوجة وهيب حديث الحارة والجارات كالعادة يتناقلن آخر الاخبار مع رشفات قهوة الصباح، لكن اخبار هذا الصباح خلت من حكايات الانتفاضة، او ربما هي انتفاضة من نوع جديد، او الوجــــــــه
الآخر.
- رب تمم ولادتها بخير.
- جاءها المخاض في عز منع التجول فهربوها من الحقول.
- رب لا تضيع رجاء سنين.
- يقولون ان العساكر انتبهوا!
- رب لا تضيع رجاء ولا تخيب املا.
- ولكنهم نجحوا بالتسلل.
- هاجم الشباب الدورية بالحجارة ... فالهوها.
- رب تمم بخير.
- لا تحرمها من فلذة كبدها بعد صبر عشرين عاماً.
- ستلد ابنا ذكرا ان شاء الله.
- سأوزع الحلوى اذا رزقت بابن.
- سأوزعها حتى لو رزقت ببنت.
- بعد عشرين سنة تلد بنتا؟
همرت بها الجارات فنكست عينيها غير متنازلة عن رأيها، انما لحظة حتى تعبر همرة الاحتجاج.
- المهم ان تلد...
- ان ينتهي العقر.
- لطفك يا ملطف.
- لولادتها سيكون وقع خاص.
- ولادتها خير لنا جميعا.
- خير لنا وعلينا.
- رب تمم بخير.
- رب لا تضيع تعب أحد.
تجلي العصر
تهيب وهيب من طول الانتظار واكتأب، غلفته افكاره بشباكها حتى لم يعد يشعر بمن حوله، ضغطته موجة من التخيلات، اصابه شطط وتاه وراء المبتدأ وافتقد الخبر. غاص في دوامة الاكتئاب.
الضجيج في الرواق الممتد شديد، عشرات السائلين الباحثين عن مصائر ابنائهم. أيكون قد تبلد؟ أيكون قد فقد حسه الانساني؟
اعتراه رفض... وانتفض واقفا مزيحا عنه همومه. تأمل اكتظاظ الرواق بالناس والحركة. خطى، خطوات مترددة ذهابا وايابا، تأمل الباب المقفل واعترته طمأنينة. دفق من التفاؤل ملأ صدره، انتشر الفرح في كيانه وطرب لهذه الولادة المتجلية في هذا الزمن المتفجر. هل كان يتمنى لزوجته ولادة في زمن آخر؟ كيف لا تتوغل السعادة في كيانه والخصب يجيء مع الانفجار؟ مدد مبارك، ثمر بعد انقطاع أمل، خير بعد جدب، ثورة بعد صبر. يتذكر ما مر عليه بمجمله وليس بتفاصيله، يبني لنفسه عالمه بأفقه الواسع الممتد وليس بحدوده، بمعناه وليس بنصه. توسم الخير في هذا الضجيج، رأى تجلي العصر، رأى كينونته وطرب لشارات النصر يرفعها النازفون دماً والمتألمون الما، اهتز كيانه من الاعماق وأصابه الارتعاش. مدد من الحماس سرى في دمه. نظر نحو الباب منتظرا من جهينة الخبر. سمع صراخها يعلو، اتكون الولادة بلا ألم؟ اتكون السعادة بلا ثمن؟ دفق من الدفء احاطه وهو يرنو لأهل الحارة القادمين رجالا ونساء، افواجا افواجا ... من آخر الرواق. اراد ان يبتسم، حبس دموع الفرح، شدت سمعه بضع صرخات اخرى تعلو من خلف الباب المغلق وأهل الحارة يقتربون بضجيج، معهم عشرات الجرحى ممن يعرفهم وممن لا يعرفهم. مدد من الراحة، مدد من السعادة، تغرقه أجمل الأحاسيس، تتفجر من عينيه دموع الفرح، يقف امام الجمع المتدفق يبكي دون ان يشعر بالحياء، يتمنى لو يحمل عن الجرحى بعض آلامهم، ان ينزف دمه بدل دمهم، ان تكسر عظامه بدل عظامهم، ينظر نحو الباب مستعجلا السعادة، لكن جهينة لا تبان، ينظر نحو العصر المتجلي بناسه واحداثه، بدأت الصرخات تخفت، يحيط به جمع غفير، تحيط به أجمل المشاعر، يعانقونه بيقين العارفين وعيناه تتنقلان بينهم، تبتسمان لهم ثم تتعلقان بالباب، حيث الخبر والامل.
الناصرة - 1978
2- قراءة د. جميل الدويهي:
يقوم الأديب بدور قياديّ في مجتمعه، ويبشّر بوعي جديد. فكيف إذا كان نبيل عودة الذي يصوّب على المضامين الإنسانيّة والسياسيّة والفكريّة والأدب؟ وإذا جمعنا مصطلحات السياسة والفكر والأدب، نجدها متلازمة ومتكاملة، تصبّ في غاية النهضة البشريّة من سباتها، والدفع بها قدماً إلى الأمام. وليس أحد مثل الأديب المتنوّر ثقافة وفلسفة، يسعى إلى هذه المهمّة التي تبدو سهلة، ولكنّها صعبة وشاقّة، ويشبه من يؤدّيها مَن ينحت الجبل بإبرة، وكلّه رجاء بأن يزيح الجبل عن صدور أهله، ولو طال الزمان.
نبيل عودة في كتاباته القصصيّة، يحرّضك على النقد، يشدّك من ثيابك وأنت نائم، أو متظاهر بالنوم، لكي تتبعه في طريق الأدب الملتزم والمسؤول. وعندما أقرأ للنبيل، أجد نفسي أمام قامة فكريّة، مؤمنة بعملها ومؤدّاها، خارج الدائرة الأدبيّة التي ضمّت حتّى الآن ملايين الشعراء (قليلاً من الناثرين باعتبار النثر نقصاً خلقيّاً أمام رهبة الشعر). وكلّهم، أي شعراؤنا، يحوزون على تعليقات مثل روعااااتك"، و"حلووووو"… ويخبرونك عن مشاريع ومفاجآت… ولا يصدّقون إلاّ حقيقة واحدة، هي أنّهم مبدعون. ولست أدري من أين نبت كلّ هؤلاء في عالم الأدب، وكيف يجرؤ إنسان على تقويم نصّ، ولا علم له بالأدب، فيرفع وينصبّ ويجرّ كما يحلو له… بينما المطلوب أن نعيد صياغة حركة ثقافيّة مفهومة، لها روّادها وعارفوها والمبشّرون بها، وصولاً إلى حالة مستقرّة، غير فوضيّة، فيُعطى ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
في "نهاية الزمن العاقر"، نقع على ما نبحث عنه في كومة من القشّ، جوهرة الأدب… قصّة قصيرة (طويلة نسبيّاً) كُتبت عام 1978، في إطار رمزيّ، يؤشّر إلى قضيّة شعب. فلو قرأ هذه القصّة امرؤ يعيش في الغابات، ولم تصل إليه أخبار ما يجري في الأرض المحتلّة، لظنّ أنّ القصّة عاديّة، مجرّدة من الرمز، ولصدّق أحداثها كما هي، من غير مقاربة أو مقارنة بوضع قائم. وأعتقد أنّ هذا النوع من الأدب هو من مذهب الرمزيّة - الواقعيّة، أي مرحلة معدّلة من الرمز الغامض، للإشارة إلى واقع. وفي تحليلي الخاصّ، لا أجد هذا النوع خارجاً عن الواقعيّة، فهو كالعملة المعدنيّة له وجهان، والوجه الأكثر إلحاحاً هو الوجه الواقعيّ، بل هو الهدف الأساسيّ للأديب، أمّا الرمز فهو لعبة جميلة، ووسيلة للعبور إلى الجانب الإنسانيّ من القطعة الفنّيّة. ولأنّ نبيل عودة هو ابن الشعب، يجد نفسه في صلب قضيّته ومعاناته وصبره، قبل الولادة والانتصـــــــار الحتميّ الذي تـــــــــــؤشّر إليه القصّة. فالنصّ الأدبيّ
والحقيقة هما في تواز (Parallelism)، وتلازم (Correlation)،
وهذا لا يخفى على عين ناقد بصير.
القصّة باختصار هي عن امرأة عاقر انتظرت عقدين من الزمن لكي تنجب، وزوجها متسلّح مثلها بالأمل. وأسباب العقم كثيرة في نظر العامّة: صيبة العين، عامل صحّي، الرعب… لكنّ الرجاء يتحقّق، والعيون المنتظرة ساعة الولادة يكتنفها الفرح بعد انتظار طويل. وتتداخل في القصّة مشاهد رديفة، من العقل الباطن، أو من المشاهد اليوميّة المألوفة التي دأب نبيل وغيره من الفلسطينيّين على رؤيتها: "تزوجا قبل دخول الاحتلال بليلة واحدة، فحلّت دخلتهما مع دخلته، حاذت نكستهما نكسة عربهما. قضيا أسبوعاً قاسياً، تشرّدا في الخلاء هرباً من القتال الذي حاذى قريتهما. البيانات المذاعة أوصلتهما لوطنهما السليب، حقيقة ما جرى أذهلهما، شملتهما الصدمة، أغرقهما العار، أهاجت الذكريات رعبهما، هو أيضا ارتعب، البلد كلّها ارتعبت، مدد من الخوف والرعب، طوفان من العار..."
أعتقد أنّ هذا المقطع بالذات هو عنصر أساسيّ في البنية والسياق، ويحمل ثلاث وظائف:
1- الوظيفة الزمانيّة: (التوقيت: قبل الاحتلال بليلة واحدة، أي قبل عام 1948).
2- الوظيفة المكانيّة: يختصرها الأديب بكلمة واحدة: قريتهما، لكنّنا نعرف أين تقع هذه القرية، ولا تفاجأنا الأحداث الأليمة التي وقعت بجوارها بعد النكسة (التشرّد، الهروب من القتال، البيانات
المذاعة، الوطن السليب… إلخ).
3- الوظيفة الدلاليّة: فهذا المقطع هو عصب القصّة، بل هو موجز عن واقعها، ولو ترك النبيل النصّ من غير توضيح، لما فهم المتلقّي أنّه يؤشّر إلى النكسة أكثر ممّا يؤشّر إلى ما تعانيه امرأة عاقر (مؤقّتاً) وزوجها. وهذا التوازي بين النكسة والعقم، هو التوازي بين الرمزيّه والواقعيّة الذي سبق أن أشرنا إليه. ولو أدخلنا النصّ إلى مختبر، وجرّدناه من الإشارات الواقعيّة لأصبح أكثر غموضاً، ولكان على المتلقّي نفسه أن يحلّل، ليصل إلى الأبعاد. وفي رأيي أنّ نبيل، كأديب واقعيّ، يميل إلى التوضيح، ويبتعد عن الرمزيّة الغارقة في الغموض والتعمية، لكي لا يضلّل المتلقي، وليبقيه في إطار الحقيقة. ولذلك تطفو على سطح النصّ إشارات دلاليّة كثيرة، مثل: "منذ دخل الاحتلال في ليلة دخلتهما، وهي تعيش هواجسها ومخاوفها، تصارع مصيبتها، ترزح تحت أرزاء عجزها، تلوك الألسن سيرة جفافها، لا تعرف ما الصلة بين عقرها وبين الاحتلال"، و" لا تعرف لماذا ارتبط الاحتلال بما مرّ عليها. أبسبب المعاناة الخاصّة التي جاءتها بعد الاحتلال؟ كم يؤلمها سقوط الضحايا من الطلاّب والطالبات"، و"تخيّلت طفلها يقذف حجرًا. فأطربتها الفكرة. فولجت فيها حتى نهايتها. رأت نفسها تجمع الحجارة لأطفال الحارة، تواجه البطش، تتحدّى الرصاص، تتلّقى ضربات العصيّ، تتكسّر العصيّ ولا تركع"...
من الواضح أنّ الأديب نبيل عودة، أديب ملتزم، انضوائيّ، مؤيّد لقضيّة شعبه حتّى العظم، وهو من عرب فلسطين، يعيش في الناصرة، مدينة المسيح والمقاومة، وإرادة شعب ترفض أن تنكسر تحت البنادق. وعلى الرغم من أنّ القصّة كتبت في عام 1978، أي منذ 43 عاماً، فلا تزال حيّة ونابضة، كلما انفتح جرح، وأطلقت رصاصة، وارتفعت الرايات والحناجر، وواجه الفلسطينيّ الأعزل بالحجر والمقلاع آلات القمع. فكأنّها كتبت الآن وستكتب غداً، فالمسيرة متواصلة، والطفل الذي تنتظره المرأة يولد من جديد في قلوب الأطفال من الجيل الآتي (الأطفال جعلوه سخرية القدر)، والولادة هي ولادة الحرّيّة، والصبر هو مفتاح الفرج والأمل، وكلّ هذه الألفاظ والمصطلحات تبرز وتتراكم هنا وهناك، ولا تغيب من القصّة، فتركيز النبيل منصبّ عليها وعلى الإنجاب الذي يعتبره "القيامة وتجلّي العصر". ويرتفع بالمَشاهد ليصل إلى القمّة في المقطع الأخير، حيث في المستشفى، وبينما المرأة في طور الولادة، يُنقل الجرحى الفلسطينيّون، "عشرات الجرحى"، ويرفعون علامات النصر… غير أنّ هذا المشهد الدمويّ ينطوي على فرح وسعادة (أجمل الأحاسيس، مدد من السعادة، دموع الفرح… فالنبيل يرى في الدماء مطراً على شجرةالحرّيّة، وباباً للانتصار، فللحرّيّة الحمراء باب بكلّ يد مضرّجة يُدقّ، كما يقول الشاعر الكبير أحمد شوقي… لذلك ينظر بطل القصّة، كلّما رأى الدماء، إلى الباب (عيناه تنتقلان بينهم، تبتسمان لهم، ثم تتعلّقان بالباب، حيث الخبر والأمل).
وهنا نصل إلى جوهر القصّة، وختامها العميق… ويبشّر النبيل بزمن هو الأجمل، فبعد المخاض ولادة، وبعد النضال انتصار، مهما طال الزمان.
الأديب والناقد نبيل عودة - فلسطين يكتب عن قصّة "الإبحار إلى حافّة الزمن" لجميل الدويهي (نشرت في 19 - 2 - 2020)
الإبحار الى حافة الزمن، هي قصة او الأصح رواية قصيرة (نوفيلا) للأديب المهجري المقيم في استراليا د. جميل الدويهي.
قرات له العديد من اعماله الشعرية والنثرية وبعضها باللهجة العامية اللبنانية الآسرة، وفاجأني بانه يكتب الشعر بأساليب مختلفة ومتنوعة من العامي الى الفصيح، وبكافة مدارس الشعر واساليبه، وارى انه بحق يشكل مدرسة شعرية لا يستهان بها بطاقاته الإبداعية وفكره الفلسفي المتنور. حتى نثره فيه روح الشعر. ها هو يطل علينا برواية "الإبحار الى حافة الزمن" التي كشفت امامي روائياً متمكناً من فنه، وهذه اول رواية أقرأها له.
افتتاحية الرواية تأخذ القارئ بدون مقدمات الى اهم ما في العمل الروائي من فن السرد، بإثارة الدهشة لدى القارئ، بدون مقدمات مملة، وبلغة قصصية جذابة بتركيبتها، وهو بذلك يثبت انه خبير ومتمكن من هذا الفن، ويعرف كيف يطوع جماليات اللغة ليأسر القارئ أيضا بلغة السرد، ثم يأسره بأحداث الرواية. وهي احداث متسارعة لا تعطي للقارئ فرصة للتثاؤب، وتدفعه لإتمام قراءة النص الروائي بلا توقف.
د. جميل الدويهي لا يعطي للقارئ فرصة لينقطع عن التواصل مع شخصيات روايته واحداثها التي تتواصل بنسق سريــع تـــاركــــا الــــــقـراء
يلهثون وراء تطور الأحداث.
كما ذكرت يدخلنا لتفاصيل مثيرة حول جريمة قتل وتحقيقات بوليسية مع متشرد اسمه ريتشارد ليقول لنا في مكان متقدم أكثر انه بالأصل من عائلة لبنانية هاجرت الى استراليا، احبته صاحبة بار، ولكنها ارتكبت جريمة قتل ضد شخص حاول اغتصابها فسجنت.
كان هذا تمهيدا لنتعرف على بطل الرواية ريتشارد، عشيق صاحبة البار، وصديقه المتشرد أيضا ستيف.
عمليا يقودنا الكاتب هنا الى احداث روائية جديدة، بعد تعرف ريتشارد على سائح امريكي اسمه روبرت طلب منه مرافقته مقابل أجرة.
ان خلفية البداية هي لتصوير شخصية البطل الرئيسي ريتشارد لنبدأ في الدخول الى عالم قصصي جديد. روبرت يبحث عن ثروة ذهبية اخفاها السكان الأصليون لأستراليا وعرض على ريتشارد مرافقته مقابل أجرة. وهنا يبدأ النص بالانفتاح على عالم أوسع من عالم المتشرد، رواية جديدة او الأصح احداث جديدة بعد ان تعرفنا على الشخصيات التي تشكل محورها، ويثور السؤال الذي اشغلني: هل كان السرد القصصي الأول ضرورياً لكي ندخل في احداث النص القصصي الجديد؟ لأنه تقريبا لا علاقة بالأحداث الا لتصوير شخصية بطل الرواية ريتشارد وشخصية السائح الأمريكي روبرت. طبعا ينضم أيضا صديق ريتشارد ستيف، عملياً رواية جديدة رغم انها لم تنفصل كليا عن بدايتها.
هنا اريد ان اذكر امرا هامـــا، ان اللعبة السردية القصصية لم تضعف
بل ازدادت قوة وتألقاً، قربت القارئ لشخصية ريتشارد، ويكاد القارئ يشعر انه يتواصل مع الأحداث الأولى، قضية قتل صاحبة البار لشخص حاول اغتصابها وعلاقتها الخاصة بريتشارد.
الى جانب ريتشارد ينضم أيضاً صديقه ستيف، وهكذا يبدأ مشوار كشف احداث تاريخية عن المنطقة التي يتوجهون اليها، وهنا نحن امام سرد لم يترك أيضا شرح تطور الأحداث التاريخية لتلك المنطقة من قارة استراليا، الجولة السياحية والتاريخية تعطي خلفية للحدث الأهم الذي سيتبين لاحقاً، موضوع الكنز الذهبي الذي يبحث عنه السائح الأمريكي، رغم ان المضمون القصصي ظل مسيطرا على مجمل احداث الرواية بل وبأسلوب مشوق جدا من حيث السرد ولغة السرد القصصية. وانا اصر ان للفن القصصي لغته الخاصة المميزة والتي تختلف عن أي صياغة لغوية أخرى، وقد اطلقت عليها بمقالاتي تسمية "اللغة الدرامية". وهنا نجد اللغة الدرامية متألقة في السرد القصصي لرواية د. الدويهي.
نجح الكاتب د. جميل الدويهي ان يواصل اثارة دهشة القراء للسرد التاريخي عما مر بالمنطقة حيث تدور احداث القصة، والجرائم التي ارتكبت ضد السكان الأصليين (الأبورجينيين) والعرض السياحي للمواقع التي تدور فيها الأحداث الروائية، وارتباطها بأحداث القصة. خاصة حين يكشف الأمريكي انه يحمل خريطة لكنز ذهبي، دفنه أبورجيني في احدى الغابات. فيما بعد يبحران مع قارب فتاة اسمها ماريان للوصول الى الغابة حيث دفن الذهب. بدون التفاصيل الممتعة لعملية البحث التي لم تسفر عن نتيجة، لكن الأمريكي يصر على أنه سيصل للكنز، وحين كان مع ستيف لوحده يحدث ان هوى الأمريكي الى حفرة، فأصيب إصابة قاتلة برأسه وفارق الحياة. ريتشارد يشك بأن صديقة ستيف هو من دفع الأمريكي للحفرة، اذ يتبين انه اخذ حقيبته وخارطة الكنز والمسدس الذي كان يحمله الأمريكي مخفياً بحقيبته.
العلاقة بين ماريان وريتشارد تتحول الى قصة حب، لكن ستيف تحول الى شخص عنيف ويريد ماريان بالقوة لنفسه، في الوقت الذي بدأت قصة حب تربط بين ماريان وريتشارد. هنا تبدأ عملية الصراع بين ريتشارد وماريان من جهة وستيف من الجهة الأخرى، ماريان وريتشارد يهربان من ستيف الى أعماق الغابة وهما لا يعرفان كيف يخرجان منها، لكن ستيف يهتدي لمكانهما ويطلق النار على ريتشارد الذي حاول منعه من اخذ ماريان فيصاب بجرح خفيف، بعد ان ساق ستيف ماريان معه بالقوة، يتبين ان رصاصة ستيف لم تقتل ريتشارد، بل سببت له جرحاً سطحياً، ينطلق ريتشارد للبحث عن ماريان وستيف، فيجدهما بحالة صراع عنيف وينجح بقتل ستيف وإنقاذ حبيبته ماريان.
طبعا ريتشارد وماريان وجدا كنزهما بعلاقة الحب بينهما ولم يواصلا البحث عن الكنز.
هذه هي اهم احداث الرواية. كما قلت هو نص آسر بتفاصيله ولغته
التصويرية المتطورة وقدرة الكاتب على اثارة الدهشة المتواصلة لدى القارئ بأحداث الرواية وبجمالية اللغة ودراميتها.
كنت أتوقع ان اقرأ رواية أقرب للشرق العربي، للبنان خاصة، ولكني تفاجأت من زخم النص واختراقه ساحة جغرافية تحتاج الى معرفة جغرافية دقيقة، خاصة في قـــارة هائلة المساحة مثل استراليا
وغابات استراليا ومناطقها الرائعة.
بالتلخيص يمكن القول إن د. جميل الدويهي قدم لنا نصا مليئا بالأحداث التي لا تتوقف، من افتتاحية النص وحتى الكلمات الأخيرة، الى جانب تعريف بأحداث التاريخ والجغرافيا وبلغة عربية جميلة في مبناها، وآسرة في جمالها السردي، والأهم ان القارئ يغرق بالأحداث القصصية ويندمج مع شخصيات الرواية. هنا نجد سر الكتابة القصصية بعدم ابعاد القارئ عن احداث النص، بل ابقائه كل الوقت أسيراً لتطور الأحداث.
يبدو لي ان العنوان "الإبحار الى حافة الزمن" هو حالة فلسفية أكثر مما هو حقيقة. البحث عن الذهب ينتهي بعلاقة حب وهو جوهر الحياة في ابحار الانسان الى حافة زمنه على هذه الأرض. لذا حب ريتشارد وماريان هو الذهب الذي سيبحران به إلى آخر الزمن.
الأديب والناقد نبيل عودة - فلسطين يكتب عن د. جميل الدويهي في رائعته: "من أجل عينيك الحياة أبيعها”- نص آسر يخفق بصدورنا مع دقات قلوبنا (كتبت في 8 - 8 - 2018)
1- قصيدة الدويهي: من أجل عينيكِ الحياة أبيعها
كم لي عَذاباً فيك يا خَلخالُ...
ذهَبٌ، ونحنُ رداؤُنا الأسْمالُ...
جذلانةً تمْشي كعزف ربابةٍ
وبنظرةٍ من عينها تغتالُ؟
قالت: أنا بنتُ الأميرِ، فأنتَ مَن؟
فأجبتُها: متشّرّد، رحّالُ...
عندي من الأحزانِ مَوجٌ هادرٌ،
وينوءُ تحت مصائبي العتّالُ
منذُ الولادة ِ ما لديّ هُويّةٌ،
فأنا مصيرٌ غامِضٌ، وسؤالُ
لكنّني في الحُبّ عندي ثروةٌ،
ولديّ من شِعْر الهوى أحْمالُ...
أعطِيكِ في قلبي الصغيرِ مدينةً
ولكِ المَدى، وكَواكبٌ، وجبالُ...
ماذا أحبُّ؟ أحبُّ أن تتدلّلي،
ويشاغبَ الخصْرُ الذي يخْتالُ...
وأحبُّ في الشفتين أن تتَمرّدا...
إنّ التمرّدَ في الشفاه جَمالُ...
وأريدُ أن تتنازلي... وتُقبّلي
حتّى يَصيرَ بأضْلُعي زلزالُ
أن تـَضحكي... أن تشْربي كأساً معي،
فالوقتُ يسبِقُنا، ونحنُ ظلالُ...
ما همّني لولا النجومُ تساقطتْ
من بُرجِها، وتـَحطّمتْ أغلالُ...
من أجل عينيكِ الحياة أبيعُها،
فأنا بدونِك صُدفةٌ، وزَوالُ...
في دفتر المَجهولِ أكتب قصّتي،
والريحُ تضربني كما التمثالُ...
قالوا عن الحبّ الجميلِ: خـَطيئةٌ،
فحياةُ كلِّ العاشقينَ ضَلالُ...
أنا لا أفكِّر أنّ قلبي آلةٌ
مكسورةٌ، ومشاعِري أطلالُ...
فإذا رحلتِ أعيشُ بين هَزائمي،
فعلى جَبينِي طعنةٌ، ورِمالُ…
وإذا يغيب الحبّ يوماً واحداً
تبكي السماء، ويعْرجُ الموّالُ.
2- قراءة الأستاذ نبيل عودة
"من أجل عينيكِ الحياة أبيعها"، فورا أدخلني الشاعر المهجري د. جميل الدويهي الى نوسطالجيا ايام الشباب، طبعا لن نبيع الحياة، لكنه تعبير عن الشوق لحسناء سحرته، ربما شاباً، وظل سحرها ينمو بين اضلاعه حتى تفجرت مثل هذه القصيدة الإنسانية في مضامينها، بصورها الشعرية الآسرة والمثيرة لكل واحد منا عايش أجمل سنوات الشباب، حرا مثل نحلة تحط على الأزهار… ما أكثر الأزهار ويا حيرة لم تنته، ونفساً لم ترتو من ظمأ الحب! بل ظلت خفقاته خالدة في أرواحنا... رغم اننا عبرنا جيل الشباب، الى جيل ملعون يجعلنا ملك الرصانة، وروحنا منها براء.
الحنين حين يتدفق شعرا او نثرا يكشف اوراقنا العتيقة، ويغرقنا بنوسطالجيا (حنين) الى متعها التي لا تفارق مشاعرنا، رغم الجيل الذي فرض علينا رصانة واتزاناً... لكن الحنين يتفجر بين فينة وأخرى، بشكل قصة، او قصيدة... والله لولا الذاكرة لما استحقت الحياة ان نبقى بها لحظة واحدة.
قرأت هذه القصيدة مرات كثيرة، وكلما قرأتها أثارت في نفسي العديد من الذكريات والصور التي لا تغيب عن الذاكرة:
جذلانة، تمْشي كعزف ربابةٍ
وبنظرةٍ من عينها تغتالُ؟
تذكرني بجرير الذي اشتكى:
إنّ العُيُونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ قتلننا ثمَّ لمْ يحيينَ قتلانا...
قرأت القصيدة واعدت القراءة وانا في حيرة كبرى، أي نماذج أسجل من هذا العشق الدافق؟
منذُ الولادة ِ ما لديّ هُويّةٌ،
فأنا مصيرٌ غامِضٌ، وسؤالُ
لكنّني في الحُبّ عندي ثروةٌ
ولديّ من شِعْر الهوى أحْمالُ…
ماذا ارتكبنا من أخطاء بحقك يا جميل حتى تعيدنا لأيام بدأنا ندفنها، ونحاول ان نعيش زمننا بما وصلناه من جيل ما بعد الكهولة؟
هل تريد مني تصريحاً يفضح مشاعري؟ كتبت قصة اثارت ضدي موجة نقد وتهماً بالمراهقة، اسم القصة "كنت معها". وهي لقاء مع حب شبابي الأول، الذي ما زال يخفق في صدري بمجرد تذكر ملوحة دموع معشوقتي:
ماذا أحبُّ؟ أحبُّ أن تتدلّلي،
ويشاغبَ الخصْرُ الذي يخْتالُ...
وأحبُّ في الشفتين أن تتَمرّدا...
إنّ التمرّدَ في الشفاه جَمالُ.
وأريدُ أن تتنازلي... وتُقبّلي
حتّى يَصيرَ بأضْلُعي زلزالُ...
مجرد اعادتنا لنوسطالجيا الشباب وصبايا الورد هو زلزال، كثيرا ما عاتبت ربي: لماذا لم يطل أيام شبابي لمائة سنة كاملة حتى ارتوي... ثم ليمتني شابا ابن مئة، وسأكون شاكرا فضله حتى وانا اصرخ من نار جهنم؟ وأحيانا أغضب من انه خلقني قبل 70 عاما، ولم يكن الجمال متفجرا كما هو في هذه الأيام... سألوا الرئيس اللبناني الأسبق كميل شمعون عن رأيه بموديل فستان الميني، الذي يكشف مناطق مغرية من فوق الركبة، فرد: "قصروا لما قصرنا".
الصور الشعرية بهذه القصيدة من الكثافة والرقة وجمال الصياغة، مــــــــــــا يجعلها أقـــــــــــرب الى لوحة بريشة رسام... أهــــــم أمــــــر سحرني هو
البساطة في التعبير، لكنها بساطة تحتاج الى قلم مجرب، وتجربة إبداعية وذاكرة تحمل من الورد ما تعجز عنه قاطرة ...
لا أعزائي، أنا لا اكتب نقدا، بل انطباعات قارئ، تركت في نفسه هذه الكلمات باقة ورد وحنين دافق وحب للإنسان والطبيعة والابداع الأدبي الراقي:
من أجل عينيكِ الحياة أبيعُها،
فأنا بدونِك صُدفة. وزَوالُ…
ويرد على من يدعون الأخلاق وهي منهم براء:
قالوا عن الحبّ الجميلِ: خـَطيئةٌ،
فحياةُ كلِّ العاشقينَ ضَلالُ…
لكنه يعطي الجواب الشافي:
وإذا يغيبُ الحبُّ يوماً واحداً،
تبكي السماءُ، ويَعرُجُ المَوّالُ.
أيها الشاعر المبدع جميل الدويهي، لماذا تعذبنا ونحن في جيل بتنا نرى ونحلم ان يعود الشباب يومياً؟
لا باس... سنعيش ما تبقى لنا من عمر ونحن نحلم ان ينتصر الحب والجمال وتفنى الجريمة والدمار… ربما ليس لنا انما لأولادنا وأحفادنا، وهو أكبر حب يغرد في قلوب أبناء جيلي.
ملاحظة: اعادتني قصيدتك لنوسطالجيا شبابي الباك . عن حب ما زال يخفق بصدري...
نبيل عودة يكتب عن نصّ "المبدعون والثرثارون" للأديب د. جميل الدويهي من كتابه الفكري" هكذا حدثتني الروح"
(نُشر في 28 - 5 - 2020)
1- نصّ "المبدعون والثرثارون" - للأديب المهجري الموسوعي د. جميل الدويهي
من الناس مَن يفرحون لكم لأنّكم تنجحون، فهؤلاء يؤمنون بأن العالم يتّسع لكم ولهم، وهكذا العصافير تغرّد جميعاً ولا ينقص شيء من السماء.
وهناك مَن لا يهتمّون لما تفعلونه إذا لم يكن لهم نصيب منه، فأولئك هم النفعيّون الذين إذا أصابتهم فائدة اغتبطوا، وإذا لم تصِبهم فائدة أشاحوا بوجوههم، ومضوا في سبيلهم... فهل رأيتم الحجارة تنطق بفضائلكم، وترتقص من أجلكم؟ أمّا الذين يكرهون نجاحكم، فهؤلاء هم الحقودون الفارغون، الذي يتخايلون في مهبّ الريح، وتغيظهم الأفكار العظيمة. وإنّهم لو استطاعوا لهشّموا وجوهكم، وقطعوا ألسنتكم، وأحرقوا كتبكم لكي تفرغ الدنيا ممّا هو جميل. فكيف يطيق مَن في قلبه بشاعة أن يرى الجمال الذي فيكم؟ وهل تنتظرون من الثرثار الذي لا يخرج من فمه إلاّ الكلام الرخيص أن يحبّ الذي كلامه من ذهب؟
قال الغراب: إيّاكم أن تنصتوا إلى هذا العندليب الذي يملأ الصباح شؤماً، ويرتعب الناس من غنائه القبيح.
وقالت الشوكة: مـــــــــــــا أبشع هـــــــــــذه الوردة! فلقد خنقني عطرهـــــا، ولا
أستطيع أن أتنفّس. إنّها قاتلة الأشواك.
لقد كتب عليكم أن تعايشوا مَن يرفضونَكم، وتقْبلوا بمَن لا يقبلونَكم، وأن تصْمتوا عندما يكثر الكلام الذي بغير طائل، فهذه سنّة الحياة، ولولا ذلك لكانت الأرض التي نعيش عليها جنّة، أين منها الجنّة التي في السماء؟
ما رأيت فاشلاً إلاّ ويزعم أنّه بطل، وأنّ الأبطال الحقيقيّين هم أشباه الرجال.
وما عرفت ثرثاراً إلاّ ويتمنّى أن يقتل الفلاسفة جميعاً…
وما التقيت بعاجز عن الإبداع، إلاّ وادّعــى أنّه الأوّل في المبدعين، وأنّ الناس جميعاً وراءه.
2- قراءة الناقد نبيل عودة:
ضمن مشروع الأديب د. جميل الدويهي صاحب موقع "أفكار اغترابيّة" للأدب المهجريّ الراقي - سيدني/ استراليا، قام عدد من الأدباء العرب بتناول مواضيع نشرت في كتاب فكري له بعنوان"هكذا حدثتني الروح". وقد وقع اختياري على نص له من الكتاب بعنوان "المبدعون والثرثارون"، رأيت به تعبيرا عن واقع تكاثر الثرثرة التي بدأت تنتشر بتوسع مقلق في ثقافتنا العربية بكل انحاء العالم العربي، مما يقتضي تضافر جهود أدبية جبارة لإعادة المسار الإنساني الإبداعي والجمالي لثقافتنا العربية.
منذ تعرّفت على الأديب المهجريّ الموسوعيّ د. جميل الدويهي، وأنا أعيش بأجواء متفائلة أنّ الثقافة العربيّة بكلّ مجالاتها وتيّاراتها تجدّد ذاتها، وتنطلق إلى أفاق واسعة متحرّرة من العوائق الفكريّة القاتلة التي عصفت بثقافتنا، خاصّة ما ارتُكب تحت مظلّة الفكر الأصوليّ المتطرّف، وما ارتكبه ذلك النهج والفكر بحقّ المثقّفين والأبرياء، وبحقّ المجتمعات العربيّة بشكل عامّ، من جرائم يندى لها الجبين الانسانيّ.
لفت نظري عنوان نص إنسانيّ لأديبنا الدويهي في كتابه الفكري (هكذا حدثتني الروح) بعنوان "المبدعون والثرثارون"... المبدعون بصفتهم الوجه الناصع للثقافة العربيّة، والثرثارون يشكّلون تيّاراً لا يستهان به، وتعاني منه ثقافتنا العربيّة. لم أتردّد بتناول هذا النصّ وطرح رؤيتي، التي كلّما طرحتها وجدت نفسي بمواجهة من يسمّيهم أديبنا الجميل جميل الدويهي بـ "الثرثارون"... ولو كانوا مجرّد ثرثارين، لهان الأمر على الثقافة والمثقّفين، لكنّهم ضد انطلاقة الإنسان واكتشاف عوالم تثري حياته وحياة مجتمعه. عزمت أمري على الخوض عميقاً بهذه الظاهرة المرضيّة المضادّة للثقافة، والمدمّرة لكلّ حسّ إنسانيّ يعشق الجمال في الحياة والطبيعة والأدب، وفي الإنسان نفسه قبل كلّ شيء.
كعادتي... منذ خضت ساحة الإبداع الثقافيّ، لم أتوقّف عن الفرز بين الورد والزؤان. والزؤان هو الصفة السائدة بين من يسمّيهم الدويهي بـ "الثرثارون"! من عادتي أن أفلسف مواقفي، وأرى أنّ هذا النص أيضاً يحمل مسحة من الرؤية الفلسفيّة لأديبنا الدويهي الذي قرأت له بمتعة بعض النصوص الفلسفيّة. أصلاً إنسان بلا فلسفة يفتقد للوعي بكل امتداده، وخاصّة الامتداد الثقافيّ، الذي يشكّل قاعدة حياتيّة تشمل جميع مرافق الحياة. لأنّ الثقافة ليست الإبداع الأدبيّ فقط، بل النشاط الخلاّق من اجل الرقيّ والتطوّر أيضاً. طبعاً نحن لا نكره ولم نتعلّم الكراهية، وننشط لإنقاذ الثرثارين من ضياعهم الإنسانيّ. وكما يقول الفيلسوف الألمانيّ نيتشه: "أحبّ أعداءك لأنّهم يُخرجون منك الشيء الأكثر طيبة". وهذا ما نفعله بنشاطنا الثقافيّ، ولولا ذلك لكنّا مجرّد ثرثارين أيضاً.
الفلسفة طرحت مفهومين لـ "مبدعون وثرثارون". المفهوم الأوّل "الثقافة"، والمفهوم الثاني "الثقافة المضادّة". والثقافة تشمل كلّ مجالات الإبداع من أدب وفنون ومسرح ورسم، وكلّ نشاط يهدف إلى الرقيّ الإنسانيّ والمجتمعيّ. الثقافة المضادّة هي ثقافة الثرثرة، ولكن علينا هنا التمييز بأنّ الثقافة المضادّة يمكن أن تكون أيضا ثقافة ثوريّة ضدّ سيطرة ثقافات دخيلة أو ثقافات غير إنسانيّة... وهذا شهدناه بتطوّر ما عرف بشعر المقاومة في فلسطين 48، الذي بجوهره كان رفضاً لممارسات نهجت على فرض سياسة التجهيل والعزل ومصادرة الهويّة الوطنيّة، ونفي الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينيّ. ونشهد تطوّر الثقافة المضادّة بكلّ المستعمرات السابقة كردّ على ثقافة المستعمر، والتي حاولت تحقير الإنسان وشلّ نضاله من أجل التحرّر.
طبعاً في مجال الثرثرة نجد الفاشلين والواهمين، وهم حالة مرضيّة لمجموعة تريد الصعود، ولا تملك أيّ أداة ثقافيّة أو فكريّة. يتملّكهم غرور قاتل، كلّ ما يفعلونه يتلخّص بترك نباتات ضارّة في المسيرة الإبداعيّة للمجتمعات عامّة. واجهت بتجربتي الثقافيّة العديد من الثرثارين، وقد غلّف بعضهم ثرثرتهم تحت صيغ دينيّة، ولم أبقَ صامتاً، لأنّ الدين ليس عدوّاً للرقيّ الحضاريّ للإنسان.
طبعاً لا يمكن تجاهل التناقض الذي يقود بعض ضعاف النفوس للثرثرة، والفلسفة تعلّمنا أنّه ليس ثمّة شيء غير متناقض داخليّاً، التناقض هو قانون التطوّر كما كشف ذلك الفيلسوف الألمانيّ هيغل في نظريّاته الديالكتيكيّة، خاصّة قانون وحدة وصراع الأضداد. لكنّه تناقض يدفع للتطوّر والإبداع وليس للشلل كما يفعل المثرثرون الفاشلون. المثرثرون يرتكبون بوعي أو بغباء مذبحة بحقّ الثقافة الإنسانيّة، التي تنشد الجمال والسعادة للإنسان. يجب تعميق عزلهم بعدم إعطائهم منابر، والانفضاض من النشر في المواقع ووسائل الإعلام التي لا تحافظ على مستوى ثقافيّ يحترم العقل الإنسانيّ…
أشعر أنّنا لم نتعمّق كفاية من موضوع نقد العقل العربيّ. والنقد هو منهج لعقلنة العقل وعقلنة الإبداع. حتّى في الفلسفة الإغريقيّة نجد أنّ أرسطو ميّز بين الصفات ذات القيمة والصفات الطارئة بقوله: "إنّ الصفات ذات القيمة هي تلك التي لا يوجد الشيء فيها كما هو"، وهو بحالتنا الإبداع الحقيقيّ، وأضاف "أنّ الصفات الطارئة هي التي تظهر الشيء كما هو وليس ما هو جوهره".
مبدعون وثرثارون تذكّرني بحكاية تعبيريّة ساخرة، سأنهي بها مداخلتي: عندما وصل سمير لجيل الكهولة قرّر أن يغيّر طريقة حياته. بدأ بريجيم شديد للغاية، ومارس رياضة الركض. وبذلك خفّض وزنه بـ 15 كيلو غرام، فبدا أكثر شباباً. قرّر أيضاً أن يغيّر قصّة شعرة لقصّة شبابيّة، دخل صالون حلاقة، قصّ شعره قصّة شبابيّة وصبغه باللون الأسود الغامق. وقف مذهولاً وسعيدا أمام المرآة من هيئته الشبابيّة…
خرج للشارع والضحكة تمتدّ من أذنه اليمنى لأذنه اليسرى. فجأة صدمته سيارة، فقذفته بقوة لمسافة عشرة أمتار، في الرمق الأخير صرخ: لماذا يا إلهي؟ فجاءه جواب من السماء: آسف يا سمير لم أعرفك بشكلك الجديد!
هذه حالتنا مع الثرثارين، يغيرّون أشكالهم فقط، لكنّ جوهرهم لا يتغيّر. ومصيرهم ربّما ليس النهاية بحادثة سيّارة، بل استمرار انعزالهم ولو ملأوا الإعلام بثرثرتهم الغبيّة. وسيبقى الإبداع والمبدعون علامة فارقة في التنوير والتقدّم وتعميق الوعي الإنسانيّ بنشاطهم الثقافيّ والإبداعيّ،
ولنا دليل ونموذج كبير وهامّ بمسيرة وإبداع أديبنا المهجري والموسوعيّ د. جميل الدويهي.
جميل الدويهي يكتب: الناقد نبيل عودة مارون عبود آخر... وشِعر الكلسات (نشرت في 18 تشرين الثاني 2020)
يروي الناقد نبيل عودة قصّة واقعية حدثت معه، أرويها كما هي، قبل أن أعلق عليها. يخبر نبيل عودة:
دعاني صديق للتعرف على شاعر مبدع (حسب قوله) استمعت اليه ولم أجد شعراً... بل ثرثرة فارغة من أي مضمون ثقافي. او حتى من صياغة لغوية بسيطة.
حافظت على صمتي.
خلال حديثه الفارغ، عن نفسية الشاعر حين يثور شيطان شعره، فاجأني "شاعره المبدع" بالخروج عن الشعر وشيطانه بقوله انه منذ سنوات لا يلبس الا الكلسات البيضاء، وشد بنطاله للأعلى ليظهر لون كلساته البيضاء مثل الثلج، وما زلت اجهل العلاقة بين شيطان الشعر والكلسات البيضاء.
اسرعت بإنهاء اللقاء، قبل ان ابق الحصوة، رافضا حتى شرب القهوة.
سألني صديقي ونحن نبتعد:
- ما رأيك بشِعرِه ؟ لماذا لم تقل شيئا؟
قلت له:
- إن لون كلساته البيضاء اكثر تألقا من شعره.
اجابني:
- لم افهم ما تعني؟
قلت:
- اشكر الله انه لم يكشف عن لون كلسونه أيضاً.
قال لي:
- لماذا انت دائما سلبي؟
اجبته:
- هل تريدني ان أمدح لون كلساته؟ لعلها بحر شعريّ جميل؟ ام يجب ان ننتظر ايضا ليكشف عن لون كلسونه؟
- وما علاقة ذلك بشعره؟
- أظن أن كلسونه وكلساته هما أهم مميزاته الشعرية!
ملاحظة: قد يقرأ زميلي هذه القصة المسجلة بدون الفذلكة القصصية لنبيل عودة. ارجو ان يوصلها له، لعله يغير لون كلساته، أما شِعره فعليه رحمة الله!
قراءة د. جميل الدويهي لنصّ الأديب نبيل عودة
لا أشك لحظة في أن الناقد الحقيقي يعاني، فمن الصعب أن تقنع غير المبدع بأنه غير مبدع، فقد رسخ في عقله الباطني أنه المتنبيّ، أو نزار قباني أو محمود درويش. وبلغ البعض ادعاء النثر، وهو الجناح الثاني للأدب. علماً أن النثر يختلف عن الكتابة، فمخائيل نعيمة ناثر، وطه حسين ناثر، ونجيب محفوظ ناثر، ومحمد حسنين هيكل كاتب، وغسان تويني كاتب. لماذا؟ لأن النثر هو عمل أدبي تصويري جمالي، والكتابة هي عمل تقريري، توصيلي غير جمالي.
كتبت في حياتي حوالي 1000 افتتاحية سياسية ومقالات في مواضيع مختلفة، لا أنشرها، ولا أحتفظ بها، لأنها كتابة وليست أدباً. فإذا نشرتها احتاجت إلى مجلدات. ولو تناولها ناقد على أنها نثر، لاختلفت معه ورفضت أن يفعل ذلك، لكي لا يشوّه الحقيقة.
هذه وظيفتنا في الحياة، أن نعلن ما هو حقيقة تحت سقف القانون والمعرفة الحقّة. وليس علينا أن نعصر الظلام لنخرج منه كمّية ضئيلة من النور ونقول: هذا هو النور.
وما حدث مع شاعر الكلسات، يحدث معنا كل يوم، وما أكثر الذين لم يحفظ لهم أحد من الناس بيتاً واحداً، ولم يكتبوا قصّة أو رواية أو فكراً... يرفعونهم إلى مصاف عال، ويحشدون أنصاراً ليشيدوا بهم ويمدحوهم!
كان برتلماوس يمتلك حيوانين للفلاحة. وكنت طفلاً أراقبه من بعيد وهو يصيح لـ"غندور" و"عيّوق" ويلكزهما ليجتهدا في العمل. غندور البقرة وعيّوق الثور. وبينما كان برتلماوس يحرث الحقل، كان ينشد أبياتاً زجلية من نوع القرادي. وأحياناً كان بعض الرجال يذهبون إليه في الحقل، لتمضية الوقت معه في الفكاهة والمزاح الشعري. وأذكر أن برتلماوس هجا واحداً منهم له منخار طويل:
يا دِلّك يا تعتيرك... قَدّ الفشخَه تفكيرك
جايي من هونيك لهون تا تشوفيني مناخيرك.
وهكذا أصبح برتلماوس شاعراً... وله أنصار وأتباع، وقد يطبع كتباً ويترجمون له... ولو كان نبيل عودة في تلك الأيام قريباً من برتلماوس، لكان ضحك... ليس من برتلماوس، بل ممَن تجمهروا حوله، واحتاروا في أيّ اجتهاد يرفعونه به فوق الكبار. ألسنا في عصر الملك "برتلماوس" الأكبر، حيث تتفوّق الضفادع على البلابل المغرّدة؟
اعتزلت النقد، وأنا أستاذ محاضر فيه، وكتبت نقداً عن صلاح لبكي، وسعيد عقل، وأمين الريحاني، وغوته، وميشال سليمان، ومحمد الشرفي، ونزار قباني... توقّفت عن النقد لأنني رأيت مقدار الهزل الذي يحيط بالأدب. وأسال نفسي أحياناً: لماذا أنوّع وأكتب القصّة والرواية والفكر، وأنواع الشعر كلها، إذا كان ذلك لا يضيف شيئاً ولا يحدث فرقاً؟
فِلاحة برتلماوس أيضاً أغلى من شعره... ولكن ماذا تفعل بالحظّ، والسياسة، والتدليس، والدبلوماسية، والعلاقات؟ وما حيلتنا إذا كان بعض الناس يحمّلون ضمائرهم، ويحاربون المبدعين من حسَد، ويعتبرون أن شعر برتلماوس أغلى من ثلم الفِلاحة؟
نبيل عودة: تعقيب وانطباع شخصيّ على قصيدة د. جميل الدويهي "أوّل لغه تعلمتها"
1- قصيدة الدويهي: أول لغه تعلّمتها (النوع السابع المدور العامي)
ناي القصب عا قياس خصرِك، والنغم جرحين، واحد عا طريقي، وواحد بيهْدر كأنّو بحر، وبْقلّو: إنتْ جرحي، وأنا ما بعرفك. وخلقت منّي وبعدني ما بعرفك... عم إلمحك تحت التياب وفوق عمري اللي انكتب... من وقت ما هجّيت إسمي... لقيت إسمي حْروف مليانه غضب... ومشيت بين الناس وبعيده الطريق... وما حَدا بيدلّني. وسنين راحو متل حبر الليل، والباقي أنا. وكيف انعرف إنّي أنا، وعندي هويّه مخزّقه... بالريح متل الزنبقه؟ كيف انعرف إنّو الحكي هوّي حكي... وأوّل لغة تعلّمتها , وأوّل قصيده كتبتها كانت بكي... ومن وقتها كانت لكي؟
ما بْخاف من بكرا، وإذا بكرا وإذا بعدو... وإذا... المفتاح ضاع وما التقيت بغير حالي. وهالشتي ما بظنّ شفتو قبل... شفتو بعد ما تمرّدت عا سنين الغريبه. هون بعدو شالها خيطان صوف تنتّفو. وصرلي زمان كتير عم شاغب أنا، وبحبّ غيّر، خرْبط الإشيا... وحياتي متل لعبه، بسّ ما ما بخلّي حدا بالسيف يغْلبني، وهدير الخيل ياخدني معو... لكنْ أنا وإنتي إذا مرّه التقينا... بحبّ إعطيكي حنيني، وخيل مملكتي، وبرج أعلى من بْراج السما. قولي "حبيبي" بصير غنّي، بصير غيري ناس... أحزاني اللي كانو متل ما بكبر أنا عم يكبرو، بحكي معن تا يتركوني عالهدا... وعنوان بيتي لا بقا يتذكّرو.
ما في حَدا من الناس حبِّك متل قلبي، وقصّتي رح تنكتَب... مش بالحبر، بحروف من أغلى دهب. من بعد شي ميّة سنه بينقال عنّي: كنتْ حارس للطريق، مطرح ما كنتي تمرقي، وتا تقْلعي التوب العتيق، عم إدْرز الفستان من أتقل حرير، وهالعراوي الحمر من جرحي الغميق. بتودّعيني هيك. لا كلمه... وأنا عم إضحك بقلب الشتي... ما عرفت هيك بتنتهي قصّة حياتي، وهيك حلم زغير عالأرض انكسر، كنتي فرح عمري، وبعد ما راح صار الليل هوّي مرايتي... وما عاد يسهر تحت شبّاكي القمر.
2- تعليق نبيل عودة:
بصراحة، لم اتوقع ان تكون اللهجة العامية بمثل هذا السحر الذي يتجاوز أي قصيدة غزلية... طبعا ليس من السهل الوصول الى هذا التألق الا بمن يملك هذه الثروة اللغوية، والقدرة على جعلها سيمفونية تعزف بالكلمات. الصورة الشعرية هنا تمس شغاف القلب، وتعيد الانسان الى طبيعته التي بشر بها المسيح الانسان، وانا كعلماني اجد نفسي اغوص بهذا المسك والعنبر اللغوي الجميل، تذكرني بادباء المهجر وليس بالصدفة كما يبدو انهم كانوا مسيحيين، وليس بالصدفة ان المسيحيين العرب كانوا في طليعة من طرح الفكر القومي العربي، وانشأ المطابع ونشر الثقافة ، وطور الفن الروائي (جورجي زيدان كما اصر هو أبو الرواية الحديثة بقصصه عن الإسلام، مع احترامي لنجيب محفوظ وعشقي لأعماله)، وكان العرب المسيحيون من طلائع تطوير الاعلام والصحافة والفن المسرح... وسياسياً هم أول من حذر من المشروع الصهيوني، فانقذوا لغتنا من التتريك والتنبلة الفكرية والتكرار الممل والصياغات التي تثير الامتعاض، واعطونا لغة جميلة دراماتيكية، ويبدو انك استاذي تواصل هذا الطريق الابداعي الإنساني والثقافي الراقي. للأسف، عالمنا العربي غائب عن هذا الابداع، وارى واجبي في الأيام القادمة ان اعطي لهذا الابداع نشراً أوسع، لعله يعيدنا الى اجمل ما في لغتنا وتاريخ رقينا الثقافي، قبل ان نفقدها في ترهات التعصب والانزواء ورفض الآخر دينياً وثقافياً.
لي موقع لم انشطه بعد، سأهتم به بعد عودتي لناصرة الجليل بلد بشارة المسيح.
قد لا تصدقني اني قرأت النص مرات عديدة... وكان شعوري اني احلق في فضاء لبنان فوق أشجار الأرز. حمى الله لبنان وحمى مثقفيه ووطنه من كل ظالم... واحلم بيوم يحل السلام في وطن السلام لنتجول في ارجاء لبنان وطن جبران ونعيمة... وجميل الدويهي!
الناقد والأديب نبيل عودة يكتب في "الحوار المتمدن":
جميل الدويهي يكاد يكون شاعر المقاومة الفلسطيني الخامس
(ملاحظة: اختصار شعرنا الفلسطيني المقاوم بأربعة شعراء غير مقبول علي، لكني استعمل التعبير السائد ولا أقبله لأن شعرنا شهد شعراء أبدعوا بشعرهم الوطني، لكن جرى تجاهلهم لأسباب لا اريد الخوض فيها هنا - نبيل عودة)
قرأت وأعدت قراءة قصيدة د. جميل الدويهي "شعب عليه تُمثّل الأدوار" عبر أسبوعين متتاليين، وانا حائر بدافع نفسي ان امسك قلمي وأخط ما يعترى فكري من انعكاسات لهذا النص، بغض النظر عن كونه شعرا او تعبيراً عن الم وقلق على وطن يستباح وشعب يمرمغ بالتراب… وطن تمزقه الصراعات التي نقلت اليه من عالم عربي فقد مبادئ العروبة وسماحة الأديان وفقد مفاهيم احترام حقوق الآخر، وسلطة عاجزة عن فرض النظام، وكأنها تعيش في المريخ او ابعد نحو مجرات لم نكتشفها بعد. ويصرخ الشاعر بغضب والألم يأكل صدره: "لا تسألوني عن مكان عبادتي /إنّ المعابد كلّها أحجارُ"… حتى الرب غائب عن شعب يهان وتتقاذفه النزاعات التي لا تخدم لا الوطن ولا الشعب.
هـــذه القصيدة صرخة منتزعة مــــــن قلب الألـــم الذي يعصف بالشاعر
وبأهل وطنه. هذا النص يذكرني بالشاعر سالم جبران في قصيدة قصيرة للغاية لكنها تعبر بكل قوة وامتداد عن الواقع الفلسطيني والذي لا نريد للبنان ان يكون التالي بالدور بعد فلسطين، جاء في قصيدة سالم: "كما تحبّ الأم / طفلَها المشوّه / أحبُّها / حبيبتي بلادي!" هذا كما ارى وما أنا مقتنع به تماما هو محرك قصيدة جميل الدويهي "شعبٌ عليه تُمثَّل الأدوارُ" وليت ألمه يتوقف هنا، فهو مرتبط بوطنه رغم الغربة في المهجر، وما اقسى الغربة حين يقف الانسان متألماً وباكياً لما يجري في وطنه من مهانة للمواطن وتدمير لما كان يمثله لبنان في التنوير العربي! فيهتف:
" تلك الجبال الخضر كيف تركتُها؟ وتركت كلّ حقيقتي تنهارُ؟
وهجرتُ بيتي، فالسؤال يلفّه… وعلى الموائد عتمةٌ وغبارُ..."
رغم النغمة الخطابية في القصيدة الا انها تشكل صرخة إنسانية لوقف انهيار لبنان، لوقف اذلال شعب لبنان.
لا بد من ملاحظة ان الخطابية في هذه القصيدة كانت خطابية ضرورية فرضتها الأحداث، التي لا تعطي للشاعر الا ان يطلق صرخته المأساوية غيرة على وطنه وشعبه اللبناني.
يذكرني هذا اللون الشعري بشعرنا الفلسطيني، الذي تفتحت عيون شعرائه على واقع شعبهم بعد النكبة، فكان شعرهم صرخة إنسانية أكثر مما هو صياغة فنية، وهذه الصرخة الإنسانية ابرزت عمق الجريمة في المأساة الفلسطينية التي تجاوزت كل الشعر العربي في فترة معينة، وهنا اشهد ان قصيدة جميل الدويهي هي صرخة شاعر لبناني أسوة بصرخة شعرنا الفلسطيني في عقوده الأولى، ولا بد ان اذكر قصيدة اعادها الى ذاكرتي جميل الدويهي وانا اقرا قصيدته، وهي قصيدة لسالم جبران أيضا عن نكبة الشعب الفلسطيني 1948 يقول فيها:
كان ليل النّكبة الأسود لا إشعاع فيه
غير إشعاع القنابل ليست تقاتل!
ولماذا يا بلادي!
قالت الأعين، في رعب
ولم تفهم تفاصيل القضيّة...
كم اشعر بقرابة شعرية وفكرية بين هذا النص الشعري ونص قصيدة جميل الدويهي!
نص قصيدة جميل الدويهي: شعبٌ عليه تُمثَّل الأدوارُ
في غربتي تتقطّع الأوتــــــارُ وعلى لساني تذبل الأشعارُ
والأرض حولي لا تدورُ كأنّها يبست ومات العطر والأشجار
لا تسألوني عن مكان عبادتي إنّ المعابد كلّها أحجارُ
والناسُ آلاتٌ تدورُ هنيهة وهنيهةً تأتي عليها النارُ
قلبي زجاجٌ في الطريق محطَّمٌ وإلى ضميري يدخلُ المسمارُ
تلك الجبال الخضر كيف تركتُها؟ وتركت كلّ حقيقتي تنهارُ؟
وهجرتُ بيتي، فالسؤال يلفّه… وعلى الموائد عتمةٌ وغبارُ…
تمْضي الحياةُ، ونحنُ في سفرٍ، فكم نشقى! وكم تتواصلُ الأسفارُ!
نمشي كما يمشي الخريفُ، وحولنا صوتُ الرياحِ، ودمعُنا أنهارُ...
نلقي التحيّة، والسكوتُ يجيبُنا ونصيح في الأحلامِ: أينَ الدارُ؟
هذا النزيفُ الآدميُّ إلى متى؟ وإلى متى تلهو بنا الأقدارُ؟
جعلوا البلاد حرائقاً، فأكفُّهم مخضوبةٌ، وشعورُهم فَخَّارُ
نهبوا الحقول بقمحها وشعيرها فحصادهم من زرعنا أغمارُ
وتجاذبوا الكرسيّ، ما انتظروا إلى أن ينتهي من صنعه النجّارُ...
يتحاربونَ، ولا أريد حرابَهم ويثرثرونَ، وما أنا ثرثارُ
فلكلِّ شعبٍ دولةٌ في دولتي ونقول: نحنُ جميعُنا أحرارُ...
أنظرْ إليهم رافعين فؤوسَهم وشعارُهم: فوق الدمارِ دمارُ
والشعبُ يبحث عن رغيف يابسٍ والكهرباء من الشموعِ تغارُ
والماء محظورٌ علينا شرْبُه وإلى البحار تُحوَّلُ الأمطارُ
أين الدواءُ لمَن يموتُ، وقبل أن يُعطى له يتدخّل السمسار؟
فجيوبنا مثقوبة، وشفاهنا مقطوبة، ووجوهنا إعصار...
كلُّ الشعوبِ كريمةٌ، لكنَّنا شعبٌ عليهِ تُمثَّلُ الأدوارُ
ويبيعنا مَن يملكون حياتنا… ويسير فوق دمائنا التجّارُ.
ملحق: شهادات
1- نبيل عودة: الدويهي يذكرنا بحركة الأدباء المهجريين
(4- 12- 2019)
تتطور في المهجر ثقافة عربية مثيرة للغاية بثرائها وجمالها. المستهجن ان عالمنا العربي شبه منقطع عن هذا الابداع الجميل. طبعا ما اختاره لا يعبر الا عن نقطة من بحر هذا الابداع الراقي. من رواده الدكتور الأديب الموسوعي جميل الدويهي (استراليا) صاحب الموقع الثقافي الراقي "أفكار اغترابية". من العار ان يبقى هذا الابداع شبه مجهول، وربما مقاطعأً
ما اختاره للإشارة لهذا الابداع الراقي، هو ملامح بسيطة جدا من ابداع هذا الأديب المهجري... الذي يعيد لذاكرتنا حركة الأدباء المهجريين وما احدثته في اللغة والثقافة العربية من نهضة نقلتنا من لغة ضائعة في نهج التتريك، الى لغة حية، جميلة، معبرة، متطورة وراقية، والأهم انها استطاعت ان تضعنا في طليعة الثقافة العالمية ابداعا ولغة وفكرا. طبعا هناك أسماء كثيرة تستحق ان تبرز وتنشر مساهماتها في فضاء الثقافة العربية!
2-الناقد والأديب نبيل عودة عن الدويهي ومشروعه: هذه اكثر حرب عادلة في التاريخ... انجازكم هو اعظم خدمة للثقافة العربية ولكل المثقفين العرب!
3- من الأديب نبيل عودة إلى جميل الدويهي (16 تموز2019)
لم اقرا كثيرا لشاعرنا المتألق جميل الدويهي،اذ ان معرفتي بابداعه
قصيرة جدا. لكن مما قرأته اقول بدون تردد اننا امام شاعر متألق في الصياغة اللغوية والصور الشعرية، وجعل اللغة اشبه بالغذاء اليومي الذي يملأ الانسان بمشاعر جمالية وانسانية راقية جداً. لغته تتدفق مثل الشلال الى عمق مشاعر القراء... تملأهم بجمالية الفكرة واناقة اللغة، وبلاغة الصور... ما يغضبني ان هذا الفن الأدبي الجمالي غائب من عالم الثقافة العربية... كانت مناسبة هامة في مسيرتي الثقافية ان أبدأ بالتعرف على هذا العالم الدويهي الجمالي المنير للطرقات الثقافية، ويبدو انه يثبت مرة اخرى ان الثقافة العربية ارضها خصبة بالمهجر . ادباء المهجر احيوا لغتنا العربية من تركيتها المملة والمتخلفة، وها هو ادب المهجر الجديد يرفع مستوى الجمال في الفكر والثقافة والتنوير.
4- من الاديب والناقد نبيل عودة الى جميل الدويهي
(5 -9 -2020)
إني أقرأ حلماً يعيد الإنسان إلى طفولته... ما يشد القارئ جمالية اللغةالتي تحتاج إلى يد فنان يحسن النقش بالقلم وبالازميل إذا لزم الأمر… ليكشف لنا ليس جمالية الفكرة فقط إنما ما تختزنه لغتنا العربية من ثروة قل من يقتحمها بهذه القدرة على كشف جوهرها وجاذبيتها إذا أحسن استعمالها. اين كنت بعيدا عن عالمي كل هذا الوقت وأنا أبحث عن فنان يحسن خلق لوحات بارعة من لغة عانت من تخلف الدعاة والمتزمتين والدجالين؟
5- شهادة أخرى من الأديب والناقد النبيل الأستاذ نبيل عودة – فلسطين (22 أيار 2019)
أتابع النصوص التي تنشر وأشعـــــــــــــر أن عاصمتنا الثقافية هي سيدني
وأمراء الأدب المهجري وبمقدمتهم الأديب الموسوعي جميل الدويهي. هذا الفيض من المحبة والتمسك بالفكر الثقافي الراقي هو نشاط لا سابق لي به خلال سنوات حياتي الـ 74 ونشاطي الثقافي الذي بدأ منذ كنت طالباً في الصف الثامن ابتدائي... مع نشري لأوّل قصّة قصيرة من إنتاجي.
6- أرسل الأديب نبيل عودة إلى صديقه الأستاذ فوزي السعدي قصيدة الدويهي " تمرّد يا شعب"، قائلاً: "فوزي اقرأ هذه القصيدة الرائعة لجميل الدويهي. تذكرني بقصائد الانتفاضة الفلسطينيىة":
الشاعر د. جميل الدويهي: تمرّد يا شعب
يا خايفين
الليل ما بياكل بشر...
ولأيمتى منضلّ نحنا خايفين؟
صارت مشاعرنا حجر
صرنا حجر...
صرنا صوَر
وبيسألو الحيطان عنّا:
ليش ما منحكي
إذا كنّا الحقيقه عارفين؟
صار الخبْز متل القمر
من الصعب إنّو يوصلو العالم إلو...
وممنوع حتّى يسألو:
ليش البيوت تقفَّلو؟
وليش الزمن ما عاد مهضوم وحلو؟
وليش الولاد مشرّدين؟
وليش اختفي من بيوتنا كيس الطحين؟
وليش المحطّه فاضيه من البنزين؟
والورد حدّ بوابنا صاير حزين؟
من بعد ما لبنان كان النور
صار العتم
صار الظلم
صرْنا فَرق عملِه بالبنوك...
وكلّنا عم نلعن ملوك العَلينا حاكمين.
تمرّد يا شعب
وقُوم من قلب الحريق...
وسكِّر مدينه كلّها...
وخبطة قدمنا ترجّ
ويرجّ الطريق...
معقول هيك نضلّ...
ناكل عشب
والحكّام عم يتغنْدرو
متل الكأنّو صوتنا مش سامعين؟
ومعقول طفل زغير ما يشرب حليب
وإمّ عم بتنوح عا طول السنين؟
تمرّد يا شعب...
وشو بِقي تا تخسرو
من بعد ما صار الوطن
طابور ناس معذّبين؟...
وكتار ماتو من القهر
لو كان بعدُن عايشين؟
ما في حدا يخربط حقيقه
غير نحنا...
وغير هالشعب الكبير...
معقول هالطرقات بعدا فاضيه
وعم تشحدو حبّة دوا
وعم تصرخو:
وين الضمير؟
وبيوتنا من غير ضوّ وكهربا...
وحتّى الهوا
عم يقطعو عنّا الهوا...
تمرّد يا شعب وقوم
تا نغيِّر سوا...
ما عاد بدنا نضلّ نمشي متل عسكر
خلف ناس معجرفبن
باعو الوطن
وتمرجلو علينا...
لأنّو ضعاف نحنا...
وفرّقونا بين دِين
وبين دِين...
وتا يقوم من قبرو الوطن...
لازم نعلّي الصوت
عللي عيّشونا بذلّ
ونهزّ الكراسي اللي عليها قاعدين.
يا شعب لبنان الحزين...
حلّك تهدّ الليل
وتخزّق تياب الموت
حلّك تفتح بواب العليك مسكّرين...
نحنا الفرح إلنا...
القمر إلنا...
وسما
ونجوم فوق جبالنا
تريّات نور معلّقين...
نحنا النصر إلنا
عا أيّا كتاب بحلفلك يمين؟...
عا الشمس..
عالإنجيل...
عالقرآن...
بحلفلك يمِين
عا كلّ دمعة طفل
بحلفلك يمِين...
7- كتب الأديب والناقد الرفيع الأستاذ نبيل عودة على صفحته:
بدون إذن من صاحب النص الأديب المهجري الموسوعي د. جميل الدويهي، صاحب ومحرر موقع "افكار اغترابية" اخذت هذا النص لأنشره في صفحتي لأنه سحرني بلغته وصوره وبلاغته وبساطته. انه نموذج لأدب نفتقده في ثفافتنا بهذا العمق وهذا الجمال في التعبير والصياغة وكاننا نشاهد باليه بحيرة البجبع براقصاتها وموسيقاها وديكورها:
جميل الدويهي: حابب شي مرّه
... وبتسأليني: ليش هيك مقلّق، وما بنام ليله، ليلتين؟ بْتسألي… متل الكأنّك ساكنه بأيّا جزيره خلف سبع بحور… مش إنتي عا طول بتعْرفي من نظرة عيوني إذا استحليتْ… وتمنّيت؟… ما بدّك يا روحي ترجمان، ولا حدا يشرح لِكي. متْلي متْل شاعر أمير… بحبّ إغْرق بالكحل… إتشيطن، وفلفش زرار الورد تا شمّ العبير... وكيف بعد بتسألي؟ متل الكأنّك للحقيقه بتجهلي... وكلما نسَل شي خيْط من شال الحرير... بْتزْعلي.
... وبتسْأليني… متل طفله زغيّره بالمدرسِه، وبتفكّريني من حَجَر، مش من بشَر… ولْمين هالشَّعر الطويل، وهالرمُوش العاليين؟ وكيف هيك شفاف كلما بيقْشعوني مارِق بيتْقطّبو؟ وشو همّ لولا هالحمَام الطايرين، بينْزلو من الجوّ حتّى ياكْلو قمْح القصيده... ولا بقا يتغَرّبو؟
... وبتسأليني: ليش بغْضب متل ديك الجنّ؟ هيْدا البحر من صابيع إيديّي، أنا اللي بِأْمْرو، تا يصير هَيك كبير، أكبر من حْدود المحبَره… وبْخاف لا تغـْرق مدِينه كلّها، وما يعود فينا مَوج عالي نرجّعُو نتْفه لْورا… وما زال إنتي محيّره... حابِب شي مرّه إسألِك يا زغيّره: لو كان عَيب الحُبّ… قولك ليش فيّي حِبّ عطْر الزنبقه، والصـبـح… والــــــوادي الغميق؟ وليش بيقولو: خَطيّــــــه... كلّما بعْشق
مَرا؟
بتتْغنّجي وبتضحَكي
وبْقول: رح غنّي لِكي عالليلكي
تاري الوقت أقصر من الزاف القصير
وبعد ما تتلبّكي…
بتودّعيني…
وهيك من أوّل سنِه
عم قول: مش حلوه الدني…
وكلّ شي طِلِعْلي من هدايا الحُبّ
دزّينة حَكي.
8- الأديب نبيل عودة - فلسطين مكرّماً في مهرجان الأدب المهجريّ الراقي الخامس
يعتبر الأديب نبيل عودة من أهمّ النقّاد الواقعيّين، وينتمي إلى مذهب مارون عبّود في الغربلة والتدقيق والحكم الجريء. كما هو كاتب قصّة قصيرة من الطراز الرفيع، وفي طليعة أدباء الأقصوصة في العالم العربيّ اليوم، وله علامات مضيئة في قصيدة النثر.
وعاني الأديب عودة الأمرّين في تعامله مع النقد، وهذا طبيعيّ بالنسبة للناقد الموضوعيّ، وكم من النقّاد اعتزلوا لأنّهم يرفضون الإملاءات المسبقة، والأحكام المعدّة لهم ليبصموا عليها!
والنبيل، كما يحلو لي أن اسمّيه، مهتمّ بأدبنا المهجريّ، وقد كتب
عن أعمالنا في أستراليا عدّة مرّات. وله مقولة شهيرة يكرّرها باستمرار: "لقد نقلتم عاصمة الثقافة العربيّة إلى سيدني". وإضافة إلى ذلك، يدمج النبيل الفلسفة بالأدب، ويكتب قصصاً من نوع الفلسفة المبسّطة، ليشرح من خلال السرد روحيّة فلسفيّة معيّنة، قد تكون مغلقة وصعبة الفهم. وله مقالات كثيرة لا تُعدّ ولا تُحصى في علوم الاجتماع، والسياسة، والدين، والحضارة والفكر بشكل عامّ.
يشرّفنا أن يكون الأديب والناقد نبيل عودة مكرّماً بجائزة "أفكار اغترابيّة للأدب الراقي" في مهرجان الأدب الراقي 5، في سيدني، مساء 30 حزيران 2021 (المهرجان تأجّل بسبب الوباء). وهي جائزة تكبر بمحبّة الحاصلين عليها وتقديرهم.
9- نشر الأديب والناقد نبيل عودة مقالة للأديب الدويهي بعنوان "هل كلمة الله ملك لأحد؟ المنشأ والأصول في عصور قبل الاسلام" وكتب: "مقال رائع للأديب المهجري الموسوعي د. جميل الدويهي"
وصل الجدال حول ملكيَّة كلمة الله (عزّ وجلّ) إلى حدود لا تُصدِّق، بل هي أقرب إلى الخيال والكوميديا، حيث دخلت الكلمة إلى قوس المحاكم، وتبارى في الدفاع عنها المحامون وجهابذة القانون، بل سقط قتلى وجرحى، ودُمِّرت ممتلكات بسببها، فهل كلمة الله موضوع قانونيّ؟ وهل يمكن لفئة من الناس أن تدَّعي أنَّ استخدام لفظ الجلالة منوط بها دون سواها؟
إنَّ مصادرة كلمة الله ولو بالطرق القانونيَّة، إنَّما تخالف أبسط قواعد المنطق والتاريخ، أمَّا الأحكام الصادرة بخصوصها فمن شأنها أن تعرِّض الحقيقة للخطر، وتعيدنا إلى عصور الظلام والاستبداد وحصريّة الحقوق العامّة، كأن يقال مثلاً إنّ اسم العلم "موسى" ملك لطائفة معينة، فليس للطوائف الأخرى الحقّ في استخدامه، أو يقال إنَّ الإنجيل المقدّس ملك حصريّ للطوائف المسيحيّة، ولا يحقّ لغيرهم اقتناؤه أو قراءته، أو أن يقال إنَّ الوصايا العشر إنَّما هي فقط من مقتنيات إسرائيل ولا يمكن لغير الإسرائيليِّين التقيّد بها.
لقد كانت كلمة الله معروفة في الديانات القديمة، ولكنَّها كانت تُلفظ بشكل آخر، تبعاً للغة المتداولة في العصور الغابرة، فكلمة "إيل" عند الفينيقيِّين كانت تعني الإله الأكبر، وكذلك عند جيرانهم العبرانيّين. وكانت لفظة "إيل" في المدن الفينيقيّة كصور وصيدا وأوغاريت تشير إلى عظيم الآلهة في مجتمع متعدّد الآلهة، فالفرق بيننا وبين الفينيقيّين أنّ إيل هو إله متسلّط وقادر بين مجموعة من الآلهة، بينما الله عندنا فواحد أحد لا شريك له في الألوهة.
المعنى إذن تغيَّر لكنّ اللفظة لم تتغيّر، وقد جاء في قاموس "لسان العرب" أنّ إيل اسم الله تعالى بالعبرانيّة أو السريانيّة، كما جاء في "القاموس المحيط" أنّ إيل بالكسر اسم الله تعالى.
ومن الأسماء المرتبطة بكلمة "إيل" جبرائيل (في القرآن الكريم جبريل)، ومعناها رجل الله أو قوَّة الله وجبروته، وميخائيل (في القرآن الكريم ميكائيل) ومعناها من مثل الله؟ وإسرائيل ومعناها عبد الله، ويُقصد بها يعقوب بن اسحق بن ابراهيم عليهم السلام، وإيلات، واللات (صنم عند عرب الجاهليّة). وكانت المعابد في فينيقيا تُدعى "بيت إيل" أي منزل الإله. وجاء في قصيدة فينيقيّة عُثر عليها في أوغاريت:
إذّاك نزل الإله اللطيف الرحيم إيل/ عــــــــــن سدّة عرشه/ وجلس على
الأرض...
فكما يبدو من النصّ المقتضب أنّ الإله إيل كان إلهاً لطيفاً، ورحيماً، وله عرش. وهذه الصفات الثلاث (اللطف، والرحمة، والجلوس على العرش) هي من الصفات التي ما نزال نعرفها إلى يومنا هذا.
ومن الصفات الأخرى التي كان الفينيقيّون يؤمنون بأنّ الإله إيل يتميّز بها: أبو البشر، إله الدهر، ربّ الزمن، إله الآلهة أو كبير الآلهة أو خالق الآلهة، خالق الأرض، الحكيم، العاقل، المحبّ... إلخ.
ولا ريب في أنّ لفظة "إيل" هي ذاتها لفظة "إنليل" في الديانة السومريّة القديمة، ومعنى "إنليل" السماوي الذي يسكن في أعالي الكون. وكان الفينيقيّون والسومريّون يتشاركون في العديد من السمات التي يختصّ بها كبير الآلهة سواء أكان إيل أو إنليل.
ولكي لا يُقال إنَّنا نعتمد فقط على اثنتين من أقدم الديانات المعروفة لكي نبرهن أنَّ أصل كلمة الله هو "إيل"، لا بدّ لنا من أن نعتمد على الديانة اليهوديَّة التي وردت فيها ألفاظ كثيرة تشير إلى إيل تحديداً ومن غير تردّد، فـ"إيل إيلواه" في اللغة العبريّة تُرجمت إلى العربيّة: الله القدير والقويّ، و"إيلوهيم" تُرجمت: الله الخالق القدير، و"إيل شدّاي" تُرجمت الله القدير، و"يهوه إيلوهيم" تُرجمت: الربّ الإله، و"إيل إيليون" تُرجمت: الله العالي، و"إيل روي" تُرجمت: إله الرؤية، و"إيل عولام" تُرجمت: الله الأزليّ، و"إيل جبهور" تُرجمت: الله القدير.
وإذا ذهبنا إلى الجزيرة العربيّة وعصر ما قبل الإسلام (يُسمّى اصطلاحاً بالعصر الجاهليّ)، نجد أنَّ لفظة "الله" كانت منتشرة بكثرة في أسماء الأعلام، وفي الشعر، وفي أحاديث العامّة بطبيعة الحال. وليس جديداً أن يُقال إنّ اللفظة ذاتها المحرّفة من "إيل" كانت معروفة في أوساط المسيحيِّين، واليهود، والصابئة والحنفيّة والوثنيّين على حدّ سواء. ولم يكن الإسلام معروفاً في تلك المرحلة. وقد عثرنا في أسماء الشعراء الذين عاشوا قبل الإسلام على نِسب وردت فيها كلمة "الله"، فأميّة بن أبي الصلت، وهو شاعر معروف ينتسب إلى جدّه عبد الله بن أبي ربيعة، والنابغة الجعدي هو قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة، وأعشى باهلة هو عامر بن الحارث بن رياح بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن سلامة... ومن الشعراء الآخرين الذين وردت كلمة الله في أسمائهم: الأصمّ الكلبي، جذيمة الأبرش، ذو الكفّ الأشلّ، زهير بن جناب بن عبدالله بن كنانة، ويزيد بن عبد الله بن سفيان، وحاتم الطائيّ المشهور بكرمه وشعره هو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج، وأخو حاتم الطائيّ من الرضاعة هو عبد الله الثقفي، وزوجة حاتم هي ماوية بنت عبد الله.
جميع الأسماء التي ذكرنا تدلّ على أنّ لفظة "الله" كانت معروفة بل شائعة في عصر ما قبل الإسلام. وليس غريباً أن يكون اسم والد النبي محمد (صلعم) عبد الله بن عبد المطلب.
كما وردت لفظة الله في كثير من الشعر الذي قيل قبل الإسلام، فها هو زهير بن أبي سلمى يقول في معلّقته الشهيرة:
ولا تكتمنّ الله ما في نفوسكم ليخفى، ومهما يكتم الله يعلمِ
يؤخَّر فيوضَع في كتاب، فيّدّخر ليوم الحساب، أو يعجّل فينقمِ...
ويصف زهير رجلاً كريماً يُدعى هرم بن سنان فيقول:
فلو لم يكن في كفِّه غير نفسه لجادَ بها، فليتّقِ الله سائله...
إنَّ شاعــــــــر الحوليّات يستخــــــــــدم كلمة "الله" بدلالتها المعروفة فـــــــــي
عصره، كما يشير إلى حقائق دينيّة مفادها أنّ الإنسان لا يستطيع أن يخفي شيئاً عن الله، لأنّ الله يعلم الخفايا، والله يسجِّل في كتاب ما يفعله الإنسان، فيحاسبه في يوم الحساب، أو ينتقم منه في الحال. وهذه المفاهيم الدينيّة التي يذكرها زهير ما زالت معرفة لدى الناس إلى يومنا هذا.
والملك الضلّيل امرؤ القيس يذكر كلمة الله في شعره فيقول:
أرى إبَلي والحمد لله أصبحت ثقالاً إذا ما استقبلتْها صعودُها
ويقول النابغة الذبياني:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
ويقول حاتم الطائيّ:
لحى الله صعلوكاً مُناه وهمُّه من العيش أن يلقى لبوساً ومَطعما.
ويقول أيضاً:
أأفضح جارتي وأخون جاري؟ معاذ الله أفعل ما حييتُ.
من الواضح إذن أنّ كلمة الله كانت كثيرة التداول في أزمنة سبقت الإسلام، وقد تكون تسرّبت إلى المجتمع آنذاك من الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة، أو أنَّها كانت متوارَثة من عصور سبقت الديانتين، وبقي الناس يستخدمونها إلى جانب عبادتهم للأصنام. ونحن نعرف أنَّ الشاعر زهير بن أبي سلمى كان وثنيّاً (البعض يعتقد أنَّه حنفيّ من أتباع ابراهيم عليه السلام)*، وقصّة إسلام ابنه كعب مشهورة في التاريخ، فقد فضَّل كعب أن يظلّ طويلاً على دين أبيه (الوثنيّة)، قبل أن يعلن إسلامه. فكيف يكون زهير قد جمع إلى جانب وثنيّته اعتقاده بأنَّ الله يعلم كلّ شيء وأنّ لديه كتاباً يسجّل فيه ما يفعله الناس لكي يحاسبهم آجلاً أم عاجلاً؟
بعد هذا العرض التاريخيّ لاستخدام كلمة الله، بــــــــــدءاً بالديــــــــانــــــــات
القديمة، وانتهاء بعصر ما قبل الإسلام، يبدو لنا أنَّ لفظة "الله" هي لفظة عالميَّة Universal، غير محدّدة في إطار تاريخيّ أو جغرافيّ، وليست مسجّلة حصريّاً كمُلك لأيّ طائفة أو اتّجاه. وقد تتغيّر اللفظة: God أو Dieu، لكنّ الأساس هو أن يظلّ استخدامها حقّاً مشروعاً لجميع الناس، وإلاّ فنحن على حافّة عصر استبداديّ قد تُصادَر فيه الشمس أو يُحجَب الهواء.
______________________
*نرى أنّ زهيراً بن أبي سلمى لم يكن حنفيّاً، بل كان وثنيّاً، اعتماداً على أبيات بعث بها ابنه بجير (وكان قد أسلم) إلى ابنه الآخر كعب الذي رفض أن يُسلم، فقال:
من مُبْلغٌ كعباً فهل لك في التي تلوم عليها باطلاً وهي أحزمُ
إلى الله لا العزى ولا اللات وحده فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
لدى يومِ لا ينجو وليس بمُفلتٍ من الناس إلاَّ طاهرُ القلب مُسلم
فدين زهيرٍ وهو لا شيء دينُه ودينُ أبي سلمى عليَّ محرَّم.
يتّضح من الأبيات أنّ دين زهير بن أبي سلمى كان لا شيء في نظر ابنه المسلم، ويَذكر اللات والعزّى وهما صنمان معروفان قبل الإسلام، وذكرهما في المناسبة يتناقض مع إحتمال أن يكون زهير حنفيّاً. لكنَّنا لا ننكر إطلاقاً أن يكون زهير قد عرف الحنفيّة في حياته الطويلة.
10- من النبيل إلى جميل(19 أيار 2019)
أديبنا الكبير د. جميل الدويهي، أرى بك مرحلة ثقافية هامة في الأدب المهجري على وجه التحديد، وفي الثقافة العربية عامة... وقد لاحظت ان ابرز المثقفين العرب يجري اغماط ابداعهم في الواقع العربي الداعشي والوهابي السائد، نفس الأمر مع صديق آخر لي هو الدكتور افنان القاسم، محاضر واديب موسوعي يجري ايضا تجاهله. وهو مقيم في فرنسا...
11- كتبَ جميل الدويهي (13 حزيرن 2019):
كتب لي الناقد والأديب نبيل عودة رسالة يقول فيها إنه يعتبرني حالة ثقافية كبيرة في العالم العربي، ويعجب لأنني لم آخذ حقي في النقد والدراسة. ويعطيني، في الرسالة نفسها، مثلاً عن أديب كبير مقيم في باريس لم يأخذ حقه أيضاً.
في الشق الأول من الرسالة، لا أقف كثيراً عند كوني أو عدم كوني حالة ثقافية، لأنني لا أنظر إلى مشروعي نظرة آنية، فأنا أعمل لمئة سنة قادمة، فإذا نجحت كان به، وإذا لم أنجح أكون حاولت مُلكاً كما فعل الملك الضليل. أما في الشق الثاني، فإن الأديب الكبير لم يفاجئني في كلامه، وهو الناقد الموضوعي، وصاحب الحس الرؤيوي والفلسفي، والضليع في علم الاجتماع. فانا أنظر وأرى... ولم أعد أتعجب. وأخشى لو نطقت بالحقيقة أن ينتفض عليّ المصلحون ليقولوا: ما كنا ننتظر مــــــــــن هــــــــذا الرجـــــــل أن يعلمنا بما نعلمه ونتجاهله في آن واحد.
إنني أقــــرأ لشعراء وأدباء كبار، وأفــــــــرح بأعمالهم، ولكنني ألقي اللوم
على مجتمع يــــــــــؤمـــــــن بالمساواة في كل شيء. والمساواة عدوة لدود
للنقد الصحيح. وكم من المرات كتب أحدهم جملة استحوذت على إعجاب الكثيرين، بينما أعمال ذات قيمة لا قيمة لها في الميزان العام؟!
لقد خربت المساوة الأدب، وألغت الفرق بين أديب مبدع يظهِر أعماله كل يوم وبين "أديب" يقل عطاؤه. وإنني أعجب من إطلاق صفة أديب على كاتب لم يكتب في حياته رواية، أو قصة قصيرة، أو عملاً فكرياً مهماً.
كل يوم أقع على شعر زجل، وفي القري اللبنانية مئات الزجالين الذين يولدون والزجل في أفواههم. وفي اعتقادي أن شاعر الزجل الذي لا يغلف شعره بنزعة إنسانية أو فلسفية أو رؤيوية، سيبقى شاعراً عادياً في صفوف الشعراء. وهذا الكلام لا يعني أنني لا أحب الزجل، فأنا أكتبه من ضمن أنواع أخرى، لكنني أرى الناس في غالبيتهم مأخوذين بقصيدة زجلية، أما إذا طرحت عليهم نصاً فكرياً أو شعرياً عميقاً يتعلق بالفلسفة أو الديانة أو الإنسان، أشاحوا بنظرهم عنه ورذلوه.
أما الطامة الكبرى في مجتمعنا الأدبي، فهي النكاية، ولماذا لا نتحدث عنها؟ إنها "التابو" الأكثر فداحة وضرراً على أي مسيرة حضارية وفي أي مجال من مجالات الخلق. والنكاية هدفها إخضاع المبدع وتركيعه، أو جعله يدفع ثمن عدم انصياعه لفكرة أو اتجاه. والنكاية نراها كل يوم، ويواجهها أدباء كبار يصرحون لي بذلك.
ثم هناك مصيبة أخـــــــرى، هــــــي التحزّب، حيث تنضم مجموعة مـــــن
الناس في عصبة لا فكاك منها، وهذا أكثر ما نراه في قصيدة النثر، فشعراء النثر هم نقّادها ودارسوها، ومن النادر جداً أن يلتفتوا إلى نوع آخر، حتى باتت أسماء كثيرة كسعيد عقل ومحمود درويش ونزار قباني لا تعني شيئاً في نظر هؤلاء النقاد. وقد سمعت من بعض شعراء النثر أن المتنبي ليس شاعراً. والأفظع من كل ذلك اعتبار قصيدة النثر هي كل الأدب، وليس في الماضي ولا في المستقبل أي أدب سواها.
وقد يكون من شعراء القصيدة العمودية من ينحون هذا النحو. ولكن مهلاً... الأدب لا يقوم على الشعر، فهناك القصة والرواية والفكر وأنواع أخرى من الشعر لا يمكن محوها بشحطة قلم.
لقد انسحبت المفاهيم المغلوطة على الثقافة بشكل عام، وفي هذا المعنى سمعت أناساً يقولون إن الأكاديمي لا يمكنه أن يكون شاعراً. وسمعت آخرين يقولون إن المتعلم ليس مثقفاً،.. وإن الشهادة لا تعني أن صاحبها صاحب علم أو إبداع… وهذه الآراء لا تصريف لهما في كتاب العقل، إذ يمكن أن يكون الأكاديمي شاعراً، ولو أعطاني إنسان برهاناً يناقض رأيي لاعتذرت ورضخت لرأيه. ويمكن أن يكون المتعلم مثقفاً، فهما ليسا ضدّين لا يجتمعان، ولو أعطاني إنسان برهاناً على أنهما ضدان ولا يلتقيان لاعتذرت أيضاً وانكفأت. وصاحب الشهادة قد يكون مبدعاً قبل أن يحصل على شهادته، فأين المنطق في تعميم هذه القاعدة الملتوية؟
نحن نسوق مثل هذه الأقاويل الخرافية لأننا نعيش في مجتمع كثر فيه الظلم والمعاناة، فنشأت لدينا عقدة أو رغبة في الانتقام ممن نرى أنهم أهم منا أو أكثر علماً ودراية. وليس من سبب غير هذا يدفع بأناس لأن يقصروا حياتهم على تصغير الآخرين وتقزيم آثارهم.
ومصيبة الحسد هــــــــــي أم المصائب، فإذا كتبتَ كتبوا، وإذا نجحتَ
أقاموا الدنيا وأقعدوها ليبثوا عن سبب لنفي هذا النجاح، وإذا حلقت صنعوا أجنحة من خشب وقماش ليطيروا، والحسد يفرّخ شهادات، ويصنع أعمالاً إبداعية وُلدت من فراغ، ولو كان أصحابها يُقرون علناً بانهم لا يعرفون الكتابة… إن هذه الممارسات جميعها تسيء إلى الحركة الأدبية، وإذا كان أصحابها يعتقدون أن الذهب أرخص من الحديد، فهذا الاعتقاد سيؤدي حتماً إلى خجلهم أمام الحقيقة، عندما يتصدى للحركة الأدبية والفكرية نقاد موضوعيون يقارنون ويميزون بين الأبيض والأسود.
إن حرق المراحل سيحرق أصحابه، وأبناء الحكاية الذين ولدوا من فراغ سيسألهم التاريخ: من أين جئتم؟ وكيف ولدتم بسحر ساحر؟ ولن يبقى على صفحات التاريخ إلا المبدعون فعلاً الذين ولدوا والإبداع في عيونهم.
11- رأي من نبيل عودة (كانون الأوّل 2021)
أفكار اغترابية اسمه مشروع جميل الدويهي... لكني أراه مشروع دولة اسمها جميل الدويهي.
12- رأي من نبيل عودة (كانون الأوّل 2021)
أتابع الحياة الثقافية واعترف بأني متشائم، لكني منذ تعرفت على "أفكار اغترابية"، بت أرى ان ثقافتنا لها راعيها. حين كانت اللغة العربية تتفكك وتشوه بلغة الاحتلال التركي نشأ الأدب المهجري عل يد جبران ونعيمة ورفاقهما. واليوم عندما تصاب ثقافتنا العربية بجلطة دموية تشل عقلها، برزت "أفكار اغترابية" بقبطانها جميل الدويهي ليجعل سيدني عاصمة الثقافة العربية… يبدو ان ما ينتح في سيدني من أدب عربي متنوع يفشل العالم العربي برمته في أن
يكون منافساً له.
فهرس
الكلمة الأولى لنبيل عودة ص 4
عرض نقدي لقصّة "2+2=5" لنبيل عودة، بقلم جميل الدويهي ص 6
قراءة د. جميل الدويهي لقصّة "كنت معها" لنبيل عودة ص 11
نبيل عودة يكتب عن قصّة "طائر الهامة" لجميل الدويهي ص26
نبيل عودة: هل أصبحت أستراليا عاصمة الثقافة العربيّة بفضل أدباء المهجر المعاصرين؟ ص 29
نبيل عودة: عن الثقافة والتثاقف… وتعقيب جميل الدويهي ص 34
جميل الدويهي يكتب عن قصّة "نهاية الزمن العاقر" لنبيل عودة ص 41
نبيل عودة يكتب عن رواية "الإبحار إلى حافّة الزمن" لجميل الدويهي ص 57
نبيل عودة يكتب عن قصيدة "من أجل عينيكِ الحياة أبيعها" لجميل الدويهي ص 62
نبيل عودة يكتب عن نصّ "المبدعون والثرثارون" لجميل الدويهي ص 67
جميل الدويهي: نبيل عودة مارون عبّود آخر… وشعر الكلسات ص 73
نبيل عودة: تعقيب على قصيدة الدويهي "أوّل لغة تعلّمتها" ص 77
نبيل عودة يكتب عن قصيدة الدويهي "شعب عليه تُمثّل الأدوار" ص 80
ملحق - شهادات ص 84