صِدْق حَيَوِيّ*
سعود قبيلات
الحوار المتمدن
-
العدد: 6473 - 2020 / 1 / 26 - 20:16
المحور:
الادب والفن
صحوتُ على صوت آرنست همنغواي، وهو يتحدَّث عن الحرب الأهليَّة الإسبانيَّة؛ قال شيئاً عن المتطوِّعين في الفيلق الأمميّ الذين قاتلوا إلى جانب الجمهوريّين الإسبان. وعلِقَتْ بذهني، مِنْ حديثه، صورةُ مقاتل جمهوريّ يقطع طريقاً طويلاً على درَّاجة ليوصل رسالة مهمَّة عن الوضع العسكريّ في منطقةٍ ما. وكانت ثمَّة تحضيرات دؤوبة في تلك المنطقة لتفجير جسرٍ استراتيجيّ بهدف قطع الطريق على قوَّات الفاشيّين. وكان بين المتطوِّعين الأمميين رجلٌ أميركيٌّ خبير بالمتفجِّرات. لذا، فإنَّه قد تمَّ انتدابه، أو ربَّما أنَّه تطوَّع هو مِنْ تلقاء نفسه (نسيت ما قاله همنغواي، بهذا الشأن، بالضبط) لتفجير الجسر. يذهب الأميركيّ إلى هناك، ويضع المتفجِّرات تحت الجسر، ويربط الأسلاك والتوصيلات بعضها ببعض، ثمَّ يجلس في مكانٍ مطلٍّ على الموقع بانتظار وصول الفاشيّين لكي يفجِّر الجسر بهم عند مرورهم مِنْ فوقه. ولكن في اللحظة الحاسمة نفسها، تلمع قذيفة مدفع من الجهة المقابلة، يراها الرجل مِنْ مكمنه بوضوح، ثمَّ لا تلبث أنْ تنفجر بالقرب منه فتصيبه إحدى شظاياها إصابةً بليغة. وبينما هو ينزف بغزاره لا ينسى أنْ يضغط على المفجِّر، فينفجر الجسر بمن كانوا يمرّون عليه. وفي هذه الأثناء يجهِّز الرجل بندقيَّته وعتاده ونفسه لخوض معركته الأخيرة التي قرَّر أنْ يخوضها ما أنْ يقترب الأعداء منه.
من الصعب عليَّ أنْ أنسى هذا المشهد المؤثِّر، والأهمّ مِنْ ذلك، طريقة همنغواي في رواية القصَّة؛ فقد كان يتحدَّث بصوت عميق وهادئ، واصفاً المكان بدقَّة وحياديَّة، وواصفاً الأشخاص من الخارج على الأغلب مركِّزاً على تفاصيل حركاتهم وسكانتهم، لكنَّه، بهذه الطريقة التي بدتْ لي غريبة وفاتنة، كان يكشف، بمهارة مدهشة، وبأسلوب غير مباشر، أدقّ التفاعلات، وأعمقها، الدائرة في أغوار نفوس الأشخاص الذين يروي قصَّتهم. ومع أنَّه كان يتحدَّث كما لو أنَّه لم يكن مهتمّاً البتَّة بمن كان يتحدَّث عنهم، أو ما كان يتحدَّث عنه، إلا أنَّه استطاع أنْ يشحنني، مِنْ دون أنْ أفطن، بأقوى العواطف وأعمق الأحاسيس تجاه أولئك الأشخاص، كما استطاع أنْ ينقل إليَّ بقوَّة الأجواء النفسيَّة المرتبطة بالأماكن التي كان يكتفي بوصفها من الخارج. وكانت لغته، بالإجمال، مقتصدة، وتبدو، في الظاهر، باردة، محايدة، ورتيبة، لكنَّها كانت في الحقيقة تمور بالعواطف العميقة المستترة خلف قشرةٍ رقيقة من المظاهر.
غير أنَّ هذا كلّه لم يعجب نجيب محفوظ؛ فما إن انتهى همنغواي مِنْ سرد قصَّته، حتَّى هزَّ رأسه مستهيناً، ونظر إليَّ وقال: هذا الرجل ليس براوٍ أبداً.
فاجأني رأيه وصدمني جدّاً؛ ذلك لأنَّه ما مِنْ راوٍ أعجبني في أسلوبه لرواية القصص وأثَّر في نفسي بعمق كما فعل همنغواي.
وربَّما أنَّ أكثر مَنْ حبَّب إليَّ أسلوب همنغواي هو جدّي؛ كان جدِّي قد روى لي في الليلة السابقة الكثير من القصص بالأسلوب نفسه تقريباً؛ فقد كان يصف الطقس والوقت والأماكن والأشخاص بلغة عاديَّة، تبدو سطحيّة.. لكنَّها تمدّ حولها الكثير من الظلال النفسيَّة والإيحاءات الفكريَّة مِنْ دون أنْ تقع في وَهْدَة الابتذال العاطفيّ والمباشَرَة، ومِنْ دون أنْ تثقل مفاصل الحكاية بحمولةٍ شعريَّةٍ فائضة توهنها وتطمس معالمها. كانت لغته صافية تماماً، بل مقطَّرة وموزونة بميزان الذهب.. بلا زوائد، وبلا استطرادات مرهقة للمتلقّي، أو معترضات كثيرة تشتِّتُ ذهنه.
ومِنْ ضمن ما رواه لي جدّي، قصَّة عن طريدٍ يلاحقه أشخاصٌ كثيرون في ليلٍ دامس، فيلجأ إلى كهفٍ مهجورٍ صادفه في طريقه، آملاً أنْ يكون جوف الكهف المرعب، ذاك، أكثر رحمةً به مِنْ مطارديه.
تحسَّس طريقه في العتمة إلى أن بلغ أبعد زاويةٍ في الكهف فاستقرَّ هناك، مركِّزاً نظره على المدخل الموحش، وهو يتوقَّع أنْ يرى مطارديه هناك في أيَّة لحظة. لكنَّ أصواتهم راحت تبتعد شيئاً فشيئاً، لحسن حظِّه. ومع ذلك فقد ظلَّ كامناً في مكانه خشية أنْ يغيِّروا رأيهم في أيَّة لحظة ويعودوا للاقتراب مِنْ مكان اختفائه.
وراح الوقتُ يمرُّ ثقيل الوطء عليه، لكنّه ما لبث أن استعاد طمأنينته شيئاً فشيئاً. وفي النهاية فكَّر في أنْ يخرج ليواصل طريقه ويبتعد بقدر ما يستطيع عن منطقة مطارديه. فنهض وكان على وشك الشروع بخطوته الأولى، لولا أنَّه في تلك اللحظة بالذات أحسَّ بحركةٍ غريبة عند مدخل الكهف. عاوده الشعور بالرعب، وبدا له أنَّه مقبلٌ على الأسوأ لا محالة، فتهالك على نفسه وعاد للتكوّر في مكمنه السابق. وما هي إلا لحظاتٍ قليلة حتَّى رأى شخصاً غامضاً يدخل الكهف متمهِّلاً وهو يتحسَّس الجدران بيديه. فكتم أنفاسه، وراح يعدّ نفسه لمعركة حياة أو موت؛ غير أنَّ الشخص الغامض لم يقترب مِنْ مكمنه، بل اختار زاويةً أخرى بعيدة ليجلس فيها متلفِّعاً بأستار العتمة الكثيفة. وفجأة تناهى له مِنْ تلك الزاوية نفسها صوت امرأة بائسة تبكي وتنوح بحرقة.
وعندئذٍ احتار في فهم طبيعة الشعور الذي طغى عليه؛ أهو شعور بالفرح لأنَّه نجا؟ أم شعور بالحزن لنحيب تلك المرأة المسكينة الذي كان يكاد يمزِّق أحشاءه؟ ولم يعرف ماذا يجب أنْ يفعل؟ هل ينهض مِنْ مكانه الخفيّ ليواسيها؟ أم يبقى متوارياً عنها ومتفرِّجاً عليها؟ ولكن، إذا ما خرج إليها فماذا ستكون ردَّة فعلها؟ ما الذي سيضمن له أنَّها لن ترتعب وتصرخ طالبةً النجدة؟ لذلك، قرَّر أنْ يبقى متوارياً في مكانه، ملتزماً الصمت والهدوء.
ظلَّتْ المرأة تبكي وتنتحب لوقتٍ بدا له طويلاً جدّاً، وفي النهاية نهضتْ مِنْ مكانها وخرجتْ. أمَّا هو فقد ظلَّ طوال حياته التالية يودّ لو يعرف قصَّة تلك المرأة؛ ما الذي ألجأها، مثله، إلى ذلك الكهف الموحش، وأبكاها كلَّ ذلك البكاء المرّ. وأكثر مِنْ ذلك، فقد ظلَّ يودّ لو يعرف هل كان موقفه صائباً عندما لزم مخبئه واكتفى بمراقبتها مِنْ بعيد؟ أم أنَّ الصواب كان يقتضي منه أنْ ينهض ويقترب منها ويتودَّد إليها ويواسيها؟
بالطبع لم تكن رواية جدّي لحكايته تلك (وسواها) على هذا النحو الهزيل الذي رويتها أنا به؛ ولكم تمنّيتُ لو أنَّه كان يعرف القراءة والكتابة، ودوَّنَ حكاياته بما كان يتمتَّع به مِنْ أسلوبٍ قصصيٍّ قويٍّ وجميل.
وكان ثمَّة رجل يجلس إلى جوار جدِّي، أصابته عدوى القصّ فأراد أنْ يبادل محدِّثه حكايةً بحكاية، فقال بأنَّه كان، ذات ليلة، يسير وحده في طريقٍ بعيد، وفجأة أخذتْ الحجارة تُقتَلع من الأرض وتُرمى باتِّجاهه، مِنْ تلقاء نفسها، فأصابه ذلك بالرعب، وأخذ يركض مبتعداً بأقصى ما تستطيع قدماه، وعندئذٍ فوجئ بيدين قويَّتين تحطَّان على عينيه فتحجبان الرؤية عنه، فراح يتعثّر ويترنَّح بينما هو يحاول مِنْ دون فائدة إزاحتهما عن عينيه. غير أنَّ هذا لم يكن بالشيء المهمّ إذا ما قورن بما اكتشفه بعد ذلك: كانت اليدان اللتان غطَّتا عينيه بلا جسد ترتبطان به، وكانتا تتصرَّفان مِنْ تلقاء نفسهما. فزاد مِنْ سرعة قدميه، وراح يركض على غير هدى، ولم يعرف في النهاية كيف وصل إلى بيته، إلا أنَّه بقي في الفراش لثلاثة أشهر متتاليات بعد ذلك.
قال جدِّي معقِّباً على حكاية جليسه: قلَّما سار أحدٌ في الليل مثلما سرتُ، لكنَّني لم أصادف ولو مرَّة واحدة مثل تلك الأشياء التي تحدَّثتَ عنها ويتحدَّث عنها كثيرون سواك.. ومع أنَّني مثلك مكثتُ، ذات مرَّة في الفراش لثلاثة أشهر متتاليات، إلا أنَّ ذلك كان بسبب لدغة أفعى وليس بسبب أمرٍ مِنْ تلك الأمور العجيبة التي تحدَّثتَ عنها.. ولقد مكثتُ، لمرَّةٍ ثانية، ثلاثة أشهر أخرى في الفراش بسبب طلقةٍ نفذتْ مِنْ جانبي الأيسر إلى جانبي الأيمن بينما كنتُ جالساً على شجرة في الوادي المجاور للقرية، ولم أعرف، لغاية هذه اللحظة، من كان الشخص الذي رماني ببندقيَّته مِنْ بعيد، ولا سبب إقدامه على ذلك.. أو ما إذا كان يقصدني أنا أم أنَّه رماني بالخطأ وكان يقصد سواي!
وما لبث جدِّي أنْ كشف لنا عن الأثر الواضح الذي تركته في جانبيه تلك الرصاصة الغامضة القديمة.
وراح الرجل الجالس إلى جانب جدِّي يؤكِّد أنَّه صادف بالفعل، مراراً، مثل تلك الظواهر الغريبة التي تحدَّث عنها، قبل قليل؛ وليؤكِّد كلامه قال: كنتُ أسير، ذات ليلة، وحيداً، في وادٍ خالٍ تماماً. وفجأة انحدَرَتْ إليَّ مِنْ أعلى الجبل دحارج صوف مغزول ملوَّنة، فرحتُ أحاول الإمساك بها، واحدةً واحدة، لكنَّني كلَّما اقتربتُ مِنْ إحداها، ابتعدتْ عنِّي ولم أتمكَّن من اللحاق بها.. وقضيتُ ليلتي تلك وأنا أحاول الإمساك بأيٍّ منها مِنْ دون أنْ أنجح.
وعندئذٍ، دخل علينا غابرييل غارسيا ماركيز، وراح يتحدَّث مارسيدس الجميلة التي كانت تنشر ملابسها على حبيل غسيلٍ في الخارج، فطار الغسيل وطارت معه. وتدخَّل فرانز كافكا، فروى كيف أنَّه ذات مرَّة تحوّل إلى خنفساء مقلوبة على ظهرها.
لقد سمعتُ تلك القصص في الليلة الماضية واستمتعتُ بها على ما بينها من اختلافٍ وتنوّع؛ أمَّا اليوم فقد صحوت، كما قلتُ في بداية حديثي، على صوت همنغواي. ولكن ما لبث آرنستو تشي غيفارا أنْ راح يتحدَّث عن مركب الغرانما الذي تسلَّل به مع فيديل كاسترو ورفاقه من المكسيك إلى كوبا، وما إن وصلوا شواطئها حتَّى فوجئوا بقوّات باتيستا، الدكتاتور الموالي للأميركيّين، تحاصرهم مِنْ مختلف الجهات وتمطرهم بوابلٍ مِنْ نيران مدافعها ورشَّاشاتها؛ فلم ينج مِنْ تلك المذبحة سوى عدد قليل من الثوّار، مِنْ بين أكثر مِنْ ثمانين ثائراً كانوا على ظهر الغرانما. ولم يتبقَّ مع الناجين سوى القليل القليل من التموين. وقد رسخ في ذهني مشهد تقاسم الماء بين الرفاق العطشى بالقطرة، كما وصفه غيفارا.
بعدئذٍ، حضرتْ ميشيليا راي وروت لي حكاية أسر الأميركيّين لتشي في غابات بوليفيا، على إثر معركةٍ حامية وغير متكافئة أصيب فيها تشي بجراحٍ بليغة وأحضروه إلى مدرسة صغيرة في قريةٍ نائية. وضعوه هناك، ودار بينهم وبينه حديث طويل، ظلَّ تشي خلاله محافظاً على رباطة جأشه وهدوئه وأسلوبه التهكميّ اللاذع في مخاطبة أعدائه. وفي النهاية أمر شاويشٌ أميركيّ العسكرَ البوليفيّين الموجودين هناك بقتل الثائر الأسير ورفاقه، فقتلوهم في الحال. لكنَّني لم أدرِ لماذا قالت مشيليا راي بأنَّه كان يدخِّن الغليون أثناء ذلك. يخيَّل لي أنَّه كان يدخِّن السيجار الكوبيّ الذي أهداه له فيديل.
بعدئذٍ أطلَّ مكسيم غوركي بشاربيه الكثّين الطويلين وغيَّر مجرى الحديث تماماً؛ إذ راح يصف لنا حياة عامل روسيّ فقير تحوَّل بعد تجارب مريرة إلى مناضل صلب ضدّ السلطة القيصريَّة. وعلقتْ بذهني مِنْ حديثه صورة فتاة جميلة اسمها ناتاشا أحبَّتْ ذلك الفتى وشاركته النضال؛ وكذلك مشهد الثلج الذي يملأ مجمل مساحة القصَّة.
ومرَّ بنا ريجيس دوبريه، وقال معقِّباً على كلام غوركي، بأنَّ مشهد الثلج وهو يحيط بالثوّار الروس بينما هم يخوضون معاركهم الظافرة ضدّ القيصريَّة، كان في خلفيَّة ذهنه عندما غادر باريس إلى غابات أميركا اللاتينيَّة ليلتحق بالثوّار بقيادة تشي غيفارا. ولكن في أميركا اللاتينيَّة لم يكن ثمَّة ثلج. وكان الجوّ حارّاً ورطباً. وبدلاً من الظَفَر لم يفطن دوبريه إلا وقد أصبح رهين سجون عسكر بوليفيا الموالي للأميركيّين، وهناك حاول أنْ يكون صادقاً مع نفسه فانكبَّ على كتابة «يوميَّات بورجوازيّ صغير». ولكنَّه، في ما بعد، عندما أصبح خارج السجن، اكتشف نوعاً جديداً من الصدق، وصفه بأنَّه صدقٌ حيويّ؛ ومثال ذلك أنْ تحبّ امرأةً وتعدها بأنَّك لن تحبَّ سواها، ثمَّ بعد حين تكفّ عن حبِّها وتحبَّ سواها، وتعد هذه الأخيرة بأنَّك لن تحبّ سواها.. وتكون، مع ذلك، صادقاً في الحالتين.
هذا ما كان مِنْ شأن دوبريه وصحبه..
أمَّا أنا....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*قصّة مِنْ كتابي "الطيران على عصا مكنسة"، الصادر عام 2009.