الوضع السوري الراهن: أفاق ومهمات
غياث نعيسة
الحوار المتمدن
-
العدد: 6004 - 2018 / 9 / 25 - 00:52
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
يتوه غالبية السوريين اليوم في تقييم ما يجري في البلاد وما يجري لهم. بين ملايين منهم تحاول العيش والتأقلم مع بلدان هجرتها في اوربا وغيرها مئات الاف في مخيمات اللجوء في البلدان المحيطة بسوريا. نصف سكان سوريا يعيشون هذه الحالة. حالة من التوه والشتات والقهر، لم يشهد العالم مثيلا له منذ الحرب العالمية الثانية لشعب بأكمله.
يضاف الي ذلك ان الحراك الشعبي العظيم – الثورة الشعبيةـ الذي شهدته البلاد في عامي 2011 و2012 خفت وبدأ بالتلاشي، بالأخص، منذ عام 2013.هنالك نحو مليون قتيل ومخطوف ومعتقل وأكثر من الضعف من الجرحى والمعاقين. فقد تم سحق هيئات الثورة من التنسيقيات الي المجالس المحلية. ومع تسلح الناس اجهز على المقاومة الشعبية التي عرفت باسم الجيش الحر، لصالح كل من النظام والقوي المسلحة الجهادية التكفيرية ولتدخلات والاحتلالات لجيوش اجنبيه عديدة.
لم تعد خريطة تقاسم النفوذ في سوريا كما كانت عليه قبل عامين، أصبحت الصورة أكثر وضوحا، لا يعني ذلك ابدا انها صارت أكثر إيجابية عما كانت عليه قبل عامين. فقد زادت مناطق سيطرة النظام وخصوصا مع استعادته السيطرة على حلب ومن بعدها الغوطة واخيرا على درعا.. بحيث أصبح الوضع الراهن لمناطق السيطرة تتقاسمها قوات النظام وحلفائه وهي الأكبر، إضافة الي مناطق يحتلها او يسيطر عليها الجيش التركي في شمال غرب سوريا، ومناطق شمال شرق سوريا التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وجيب صغير في التنف جنوب سوريا تحول الي قاعدة عسكرية للقوات الامريكية، دون ان ننسي جيوب متناثرة وهامشية لتنظيم داعش الفاشي.
هذا التحول في تقاسم مناطق النفوذ، هو تعبير مباشر يعكس صورة حال التدخل العسكري لقوي دولية وإقليمية في سوريا، ومؤشر على وضع ميزان القوي فيما بينها، وفي تنظم علاقات تنافسها وتفاهماتها في أن واحد من خلال اتفاقات متعددة ومتغيرة أبرزها الاستانة التي تجمع روسيا وتركيا وإيران باعتبارها "دول ضامنة" ... ما يسمح لها، الي حد ما، ترتيب تنافسها فيما بينها وتنظيم تدخلاتها ومصالحها في بلادنا، ويبدو التدخل الروسي، والي حد اقل، الإيراني ان له يد الأكبر والاقوي في السيطرة، في حين تقوم الولايات المتحدة، بتدخل اقل كلفة يثبت حضورها كلاعب هام في تقرير مصير البلاد إضافة لروسيا وايران وتركيا. خرج السوريون من المشهد العام الذي يتقرر فيه مصيرهم ومصير بلادهم.
ما يعني باختصار، ان الثورة السورية العظيمة قد هزمت في بحر من دماء الجماهير السورية وخراب ودمار فظيعين لبلدات واحياء ومدن، هذه الحقيقة المؤلمة يرفض البعض الإقرار ويراهن على انها ما تزال في " قلوب" السوريين وفي بعض النشاط المدني لعدد منهم، القابعين في بلاد "الشتات". والحال، فان الثورة بصفتها اندفاع الجماهير الواسعة الي ساحة الفعل في القضايا التي تتعلق بمصيرها لم تعد قائمة الان وهزمت نتيجة عوامل – ذاتية وموضوعية- عدة من بينها وحشية النظام وتكالب أطراف عدة للثورة المضادة وفي مقدمتها الدول الإقليمية والدولية، تلك الحليفة للنظام وأيضا تلك التي ادعت عدائها له و"صداقتها" للشعب السوري، والا فاين هو الحراك الشعبي وكيف تتجلي ديمومته؟
هنالك اذن انتصار عنيف للثورة المضادة المتعددة الاطراف وسحق للثورة الشعبية بما يحمله ذلك من ردة رجعية كبيرة. قول ذلك لا يعني الاستسلام لهذا الواقع المرير. بل يعني فهمه لوضع سياسات ملائمة تسمح بمتابعة النضال من اجل تحقيق اهداف الثورة الشعبية في التحرر من الاستبداد والمساواة والعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني من كل الاحتلالات والوصاية على شعبنا وبلادنا.
ورغم الهزيمة الدموية للثورة، لكن تأثيراتها عظيمة جدا. فمن جهة، ثمة ملايين السوريين ان لم يكن كلهم أصبحوا معنيين بقضايا كبري لم تكن تعنيهم كلهم سابقا، الي أين؟ وما الحل؟ وكيف؟ وما تزال تتردد في العقول كلمات الحرية والكرامة والمساواة. ومن جهة اخري، حصلت في البلاد تحولات اقتصادية واجتماعية هائلة، هنالك مناطق عمالية وشعبية في أطراف المدن الكبرى (دمشق وحمص وحلب..) قام النظام، عمدا، بسحقها وتدميرها وتهجير اهاليها لتتحول الي مناطق لاستثمارات عقارية للبرجوازية المرتبطة عضويا بالنظام الحاكم. وهذا في نفس الوقت يؤدي الي تمركز تواجد الجماهير الشعبية في مناطق عدة في البلاد، بخلاف ما كانت عليه الحال سابقا، حيث كانت سياسات النظام، منذ عقود، تقوم على تفتيت وشرذمة تواجد المناطق العمالية والشعبية على امتداد سوريا ومنع تمركزها كمصانع ومشاغل وأيضا كمناطق سكنية. ومن بين تأثيرات الثورة انها عرت النظام تماما، فهو تصرف كعصابات قاتلة بحق السوريين وبعنف مرعب. تعري النظام الي ما هو عليه حقيقة: عسكر واجهزة امن وميليشيات هدفها الوحيد تأبيد حكم طغمة ضيقة من النخب الفاسدة على حساب حياة ومستقبل الشعب السوري. ورغم ادعاءات النظام بالانتصار النهائي، لكن ما هو اكيد انه أصبح أكثر هشاشة وضعفا عما كان عليه، واليوم هو نفسه أصبح اسير حلفائه الذين وفروا له القدرة العسكرية علي سحق الثورة، ونقصد إيران والاهم روسيا، لم يعد النظام يملك تماما استقلاليته التي كان يدعيها. فهذه الدول ستخضعه لما ستراه يحفظ مصالحها في سوريا والمنطقة، والعالم. فقد أصبح وجوده وبقائه ومصيره، الي حد كبير، ورقة في ايدي هذه الدول الإقليمية والدولية. التي، ويجب علينا التذكير، لا يهمها ولا يعنيها بشيء مصالح الشعب السوري وطموحاته بالحرية والكرامة. وفي الوقت نفسه، فإننا نلاحظ ظاهرة عودة النظام، بأجهزته القمعية المتعددة، الي عاداته العنفية السابقة على الثورة، في قمع وقهر الناس في مناطق استطاع النظام تحييدها او الظفر بتأييد له فيها عبر تخويفها بفزاعة الإسلاميين -قاطعي الرؤوس-! خلال السنوات السبع الماضية، ما يفاقم من كره الناس فيها له. حيث انه بالكاد حينما تهدأ المعارك يعود النظام الي سابق عهده بقمع وتجويع واضطهاد (حاضنته الشعبية) نفسها. لكن ما ان تهدأ المعارك حتي يندفع الناس في هذه المناطق الي التعبير باشكال شتي عن تزايد حنقها على النظام، ونقمتها عليه لزجه لابنائها في مطحنة دفعها اليها بهدف تأبيد حكمه ، واحتجاجا علي قمعه لها واستمرار افقاره لها، واستشراس وفجور ميليشياته واتباعه بحق عموم الناس. هناك شحنة كبيرة من الكره والنقمة على النظام في مناطق كان يعتبرها نظام الطغمة مصدرا للحم المدافع دفاعا عنه، سترتد عليه عاجلا ام اجلا.
في المقابل، لم تكن، ما يعرف بالمعارضة "الديمقراطية" واليسارية السورية، باحسن حالا. وشكلت عائقا وعبئا علي كاهل الجماهير الثائرة، فهذه المعارضة تمزقت الي قسم انضماما انضم الي النظام او الي هيئات تابعة لقوي دولية او إقليمية مثل هيئة التفاوض والائتلاف وهرولت الي المشاركة في اللجنة الدستورية التي تطبخها روسيا. ولان مصير البلاد أصبح ممسوكا بين فكي القوي الامبريالية والإقليمية المتنافسة فيما بينها، فان أي من هذه الهيئات "المعارضة" لا تملك لا استقلالية قرارها ولا استقلالية ارادتها.
وقسم اخر من المعارضة الديمقراطية واليسارية بقي خارج هذا الوحل الانتهازي، لكنه بقي مشتتا وضعيفا، واقع حاله هو التالي، هنالك مجموعات وافراد منها تتواجد في مناطق النظام، وقسم اخر منها يتواجد في مناطق الاحتلال التركي والنفوذ التكفيري الجهادي. وأخيرا هنالك تجربة شمال شرق سوريا، أي منطقة الإدارة الذاتية، وهي تجربة غنية وهامة، لها تخومها ونواقصها التي يفاقمها وضع الحرب الذي تعيشه البلاد، ونري بأن قضية الديمقراطية في سوريا مرتبطة بحل ديمقراطي للقضية الكردية، وان الاخيرة تأخذ أهمية بيضة القبان في إمكانية وعمق التحول الديمقراطي الممكن. هكذا اذن، هنالك ثلاثة قطاعات، ماتزال منفصلة ومنعزلة عن بعضها البعض، لتواجد ونشاط القوي الديمقراطية واليسارية، ولكن لا تواصل او تنسيق جدي ومثابر فيما بينها الا في حدود ضيقة، مع تنافس رؤاها واستراتيجياتها مما يزيد من ضعفها ووهنها.
ان استطاع النظام، اللعب على ذلك واستمالة الإدارة الذاتية له، فهذا سيقوي من قدراته وفرص بقائه واستمرار الدكتاتورية، وفي المقابل، ان استطاعت المعارضة الديمقراطية تشكيل تحالف مع الإدارة الذاتية فان موازين القوي السياسية والاجتماعية ستتغيران، الي حد كبير، لصالح كفاح شعبنا من اجل الحرية والديمقراطية والمساواة والعدل الاجتماعي
اننا نعتقد، ان التكتيك الصحيح، في لحظات الهزيمة والردة الرجعية، هو تكتيك الجبهات المتحدة. ما يعني بضرورة توحيد هذه القوي في القطاعات الثلاث المذكورة في جبهة او جبهات متحدة حول مهمات أساسية مطروحة علينا جميعا، أولها قضية الخلاص من نظام الاستبداد وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي على انقاضه يقوم على المساواة الكاملة بين السوريين بغض النظر عن دينهم او عرقهم او جنسهم، وقضية إزالة الاحتلالات وإخراج كل الجيوش والميليشيات الأجنبية والطائفية، وثالثا، العدالة الاجتماعية. دون ان نهمل اطلاقا، ضرورة الدعوة، والعمل، على وقف هذه الحرب المجنونة ضد شعبنا، وعودة اللاجئين والنازحين الي ديارهم والافراج عن المعتقلين والمخطوفين في كل المعتقلات.
مدي جدية القوي المذكورة، رغم ضعف معظمها الراهن، في تحقيق ذلك، وقدرتها على الفعل بالارتباط مع هموم الناس وكفاحهم، سيكون عاملا أساسيا في رسم صورة مستقبل شعبنا وبلادنا.