مخيفة هذه الوحدة الوطنية
عصام الخفاجي
الحوار المتمدن
-
العدد: 5585 - 2017 / 7 / 19 - 09:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لكثرة ما ألف العراقيون المصائب (التي أحاقوها بأنفسهم ولاموا غيرهم على التسبب بها في معظم الأحيان) تعودوا أن يستعيذوا بالله إن ضبطوا انفسهم متلبّسين بجريمة الضحك "اللهم أجعله خير". فالفرح شأن عابر لهم. وكعراقي ضبط نفسه متلبّسا بالفرح لهزيمة داعش أقول: اللهم اجعله خير. لكن لهذا التخوف أسباب أتمنى أن تكون في غير محلّها.
مخيف مايرافق الفرح الغامر من تعليقات وتوصيفات يكتبها أصدقاء من المثقفين النقديين على صفحات التواصل الإجتماعي. مخيف أن أضطر إلى القول منذ البدء أنني أشارك الغالبية الساحقة من العراقيين فرحهم لكيلا أُتّهم بغير ذلك. كلّما ورد اسم العراق ككناية عن إنجاز تحقق على يد قادته كان ذلك نذير شؤم. كأن من يكتبون مشيدين بتحرير الموصل يرون أن الحديث عن انتصار بشر من لحم ودم ينتمون إلى مؤسسة القوات المسلحة يبخس الإنتصار حقه. الصيغة الغالبة تنزع إلى تشيئ البشر وتحويلهم إلى تجريد: انتصر العراق. صيغة تضفي على الحرب طابع معركة وطنية لتحرير تراب مغتصب وتزيح عنها صفتها كمعركة إنسانية من أجل الحرية، معركة كونية ضد عدو كوني لعب العراقيون الدور الأكبر في خوضها كما لعبوا من قبل الدور الأكبر في تأسيس داعش. لن يقلل من شأن العراقيين الإعتراف بأن قوى دولية عدّة ولاسيّما الولايات المتحدة لعبت دورا حاسما في تحقيق النصر كما لعبت دول أخرى أدوارا متفاوتة الأهمية في محاولة إفشاله. ولن يقلل من قيمة تلك المساهمات القول بأنها مدفوعة بهدف حماية الأمن القومي للدول المساهمة في الحرب لا لمساعدة العراقيين أو السوريين فقط.
تشيئ الطرف المنتصر في الحرب واختصاره إلى إسم مجرد يسمح بإطلاق أوصاف القوة والبأس والإقتدار عليه ويصادر في الآن نفسه إمكانية ربط الإسم بأفعال يقوم بها بشر من لحم ودم. التشيئ يعفي من يتبنّاه من الحديث عن انتهاكات. لامعنى لجملة "قتل العراق عددا من المدنيين" فيما جملة "قتلت فصائل الحشد الشعبي عددا من المدنيين" تحيل إلى جريمة وتشير إلى مرتكبها. ولكن ربما كان هذا التشيئ المريح ضروريا لكي تتوحّد غالبية العراقيين للمرّة الأولى منذ عقود حول الإيمان بقضية مشتركة هي الحرب ضد داعش. توحّدنا لأن تربة وطننا المحتلة تم تحريرها. أما حين نحيل المعركة إلى تحرير المواطن فيمكن أن تثور خلافات حول أحقّية بعض المواطنين بالحرية أو حول كفاية تحرير التراب لتحريرهم.
مفرحة وحدتنا ومخيف ألاّ يوحدنا غير الدم المراق. لماذا يلعب تصوير الحرب كتحرير للتراب من غاز أجنبي دورا هائلا في توحيدنا ولا يؤدي تصويرها كحرب ضد عدو داخلي حتى إن كان أكثر وحشية من الغازي الأجنبي إلا إلى الإنقسام؟
الحروب وإراقة الدماء كانت الوسيلة الأثيرة عبر التاريخ لإثارة غريزة انتماء الأفراد إلى جماعات لم يختاروا الإنتماء لها طوعا. مارق من يشكّك في عدالة حرب تخوضها قبيلته أو طائفته أو دينه. وإلى تلك الجماعات اخترعت البشرية في القرن التاسع عشر جماعة جديدة أسمتها القومية وأثبتت العصبية المقرونة بها أنها لاتقل فتكا عمّا سبقها. صارت إراقة الدماء على جانبي حدود رسمها البشر إسمنتا يرصّ بناءا اسمه الوحدة الوطنية. تقول القصيدة: وطن تشيّده الجماجم والدم/ تتهدم الدنيا ولا يتهدم. النشيد والعلم الوطني وهما من مبتكرات النصف الثاني للقرن التاسع عشر أثبتا جبروتهما في شل موجة ثورات 1848 الإجتماعية التي وحّدت الأوربيين ضد حكّامهم وافتتحتا عصرا يُساق فيه الفرنسي لمحاربة الألماني من دون التساؤل عن جدوى الحرب بعد أن كان الثائر الألماني والفرنسي يقفان خلف متراس واحد يقاتلان مضطهديهما من الألمان والفرنسيين.
مفرح أن نشغّل العقل فنختار بملء حريتنا التوحّد حول قضية نعرف أبعادها ومعطياتها ومخيف التوحّد حول أسماء مجرّدة لصق بنا الإنتماء لها بحكم الولادة. ومساواة الحرب بالبلد لا ببشر وبمؤسسة عسكرية تخوضها تشلّ العقل وتعيدنا إلى أيام القائد الفرد المجسّد للبلد ولوحدته الوطنية المفترضة، تعيدنا إلى أيام "فتح الكويت" واستعادة الأصل لفرع اقتطعه الغريب الأجنبي منه. فتعبير الوحدة الوطنية نفسه يحمل في طيّاته تهديدا إذ يحال الإختلاف أو الإعتراض إلى خلاف مع الوطن أو اعتراضا عليه، أي إلى خيانة. الوحدة حول الإنتماء إلى تراب لاحول الإنتماء إلى قضية هي العدو الأكبر للديمقراطية. لأن القومية هي عدو الديمقراطية.
لا أظن أن كاتبا من منطقة أخرى من العالم يجد نفسه مضطرا لسوق كثير مما سبق، لكن المشرق هو آخر مناطق العالم التي لاتزال مفردات الحرب والجيش والوطن والوحدة تترادف فيها في لاشعور الأفراد لدرجة أن السلطات الحاكمة لم تعد ترى ضرورة بذل مزيد من عمليات الحقن الدعائي لترسيخها. نصب الحرية، أهم معالم بغداد، هو جدارية ضخمة يفترض أنها تصوّر تاريخ العراق يتوسطها جندي يحطم قضبان سجن فينهي عصر العبودية ويفتتح عصر الحرية والرخاء. كأن المشرقي يحس في قرارة نفسه بأن ليس ثمة مايجمعه بابن بلده غير ماكنة القسر التي تجبره على العيش معه. وإن صحّ هذا القول في حال بلد حافظ على وحدته عبر آلاف السنين مثل مصر فهو أكثر صحّة بالتأكيد في حال العراق. حين تعثّرت مسيرة الثورة والديمقراطية في مصر سلّم المصريون قيادهم للجيش باعتباره المؤسسة التي وقفت دوما مع الشعب فما كان من الجيش إلا أن عاود ابتلاع دولة كادت ثورة 2011 أن تخرجها من بين فكّيه بعد ابتلاع دام ستين عاما.
مخاوف تقديس القوات المسلّحة في عراق اليوم تتعدى ذلك بكثير إذ أن الإنتصار يضعه على أبواب صراع داخلي ستلعب القوة المسلّحة دورا قد يكون حاسما في تحديد مصيره. وفي معارك الحسم هذه سيستحضر كل من أطراف الصراع المسلح إرث انتصاراته على داعش لتعبئة العراقيين للوقوف إلى جانبه. سيخجل كثير من العراقيين إن تم تذكيرهم بأن عمر جيشهم ثلاث سنوات لاغير. الجيش الذي تأسس عام 1921 وتم حلّه عام 2003 انهزم في كل حرب خارجية خاضها بما في ذلك الحرب مع إيران التي انتهت من دون أن يتحقق هدف واحد من الأهداف التي أراد صدّام حسين تحقيقها لكنه انتصر على الآشوريين وعشائر الفرات الأوسط في ثلاثينات القرن الماضي وعلى الأكراد طوال نصف قرن وعلى المنتفضين في جنوب العراق عام 1991 وعلى مدينة الرمادي عام 1995. والجيش الذي بوشر ببنائه عام 2004 ذاب مع اجتياح داعش عام 2014. أما الجيش الحالي الوليد فقد حقق انتصارات تثير فخر كل من وقف بوجه ظلامية داعش وهو يوشك أن يدخل المعركة الأقسى التي ستمتحن ديمومته حتى قبل أن ينسدل الستار على هذه الحرب. في المعركة الأقسى على السلطة والدولة ستعلّق كل الأطراف المتقاتلة اسم العراق على راياتها. ولن تكون خطوط التماس واضحة مثلما هي عليه اليوم مع داعش. لن يكون من السهل على الفرد العادي تحديد أي من المتقاتلين هو العراق. ولن يكف لتعيين تلك الحدود أن يرفع الجيش النظامي العلم الوطني فيما ترفع فصائل الحشد الشعبي التي تواجه الجيش خرقها المذهبية. فملايين العراقيين وقفت وراء الحشد الشعبي الذي حقق انتصارات على داعش حين كان الجيش منكسرا وظلّت ترى أنه ضمانة بقاء وطنهم وأن توجيه الإتّهام له بارتكاب جرائم هو استهداف للعراق. في المعركة القادمة التي تنطوي على صراع بين برنامج بناء دولة حديثة وبرنامج دولة الطائفة الغالبة عدديا قد يتّخذ شحن الغرائز الوطنية التي تحيل كل معركة داخلية إلى صراع بين الوطن والأجنبي أبعادا درامية حين يصوّر دعاة برنامج الطائفة حربهم بأنها حرب العراق ضد الإستكبار الأمريكي فيما يصوّرها خصومهم كحرب وطنية ضد النفوذ الإيراني.
كان بوسع الحرب ضد داعش أن تكون مدخلا لإيصال منطقتنا إلى ما وصل إليه الغرب قبل ثلاثة أرباع القرن، وهو نجاح كبير سيُسجل لنا كمجتمعات لم تدخل عصر حداثة دخله الغرب قبلنا بقرنين بعد. كان بوسعها أن تنقلنا من عصر الحرب العالمية الأولى التي كانت حربا بين قوى استعمارية تتصارع على مناطق النفوذ باسم الهوية والتراب الوطني إلى عصر الحرب العالمية الثانية التي توحّدت فيها قوى متعددة تحت راية الحرية والديمقراطية لقتال الوحش النازي الذي حظي هو الآخر بدعم قوى قومية وعنصرية عدة حول العالم. ولكن، إن لم يحمل خصم داعش برنامجا ديمقراطيا بديلا يحرر الإنسان، كيف بوسعه أن يزيح رمزية التراب الوطني عن حربه؟