حول الإمبريالية وروسيا الإمبريالية 2-2
سلامة كيلة
الحوار المتمدن
-
العدد: 5547 - 2017 / 6 / 10 - 22:30
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
(هذا هو الجزء الثاني من الرد على مقال مهند دليقان، روسيا: "الشبح الإمبريالي".....؟!، وهناك مسائل أخرى تحتاج الى نقاش لاحق)
2) هل روسيا إمبريالية؟
نصل هنا الى جوهر الأمر، وهو ما أراد أن يصل إليه مهند. ولهذا مهَّد بالتأكيد على شكل جديد للإمبريالية يتجاوز "السمات" التي قدّمها لينين، ومن ثم للتأكيد على أن وجود هذه السمات لا يعني وجود إمبريالية، ليصل هنا الى اعتبار روسيا قد باتت رأسمالية لكنها ليست إمبريالية، وليوحي بأنها دولة طرفية.
كيف تعامل مع "السمات" التي أشار إليها لينين في كتاب "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية"؟
لقد أقرّ أنها "لا تزال صحيحة تماماً"، ثم اعتبر أنها كانت صحيحة في "مرحلة نشوئها الأول"، ليصل أنها لم تعد سمات الإمبريالية، وأن كل تمسك بها هو "نصوصية"، لأنه بات هناك تشابك بين مسألتي "المركز والأطراف" و"عالمية" الدولار مع الإمبريالية. ما معنى هذا التشابك، وكيف يتمظهر؟ هذا ما لا يوضحه مهند، بل "يشلف" الفكرة شلفاً كما أوضحت قبلاً.
لكن مهند ينطلق من "السمات الخمس" وهو ينفي إمبريالية روسيا. ليصل الى أنها ليست إمبريالية، بل رأسمالية تتناقض مع الإمبريالية، وهو ما يربط "نضالها الوطني ضد الغرب الإمبريالي وضد الصهيونية أكثر فأكثر مع نضالها الاقتصادي الاجتماعي" ليفرض ذلك تبلور "قطب الشعوب في وجه القطب الرأسمالي"، ليؤكد في الأخير أن الخوف من "شبح روسيا الإمبريالية" هو خوف من "شبح الشيوعية"، والله على كل شيء قدير.
لتفكيك ذلك سوف أشير الى "السمات الخمس"، ثم الى "التحليل العميق" الذي أتحفنا به مهند لنفي إمبريالية روسيا. لكن قبل ذلك لا بد من التوقف قليلاً عند الاتهام بـ "النصوصية"، حيث يبدو مهند كمدافع عن منهج ماركس ولينين، وأنه لا يلتزم النصوصية، بعكس الذين يدعون "تجديد الماركسية" ويقلصون الماركسية من "نظرية" الى "منهج" (وهو هنا يشير لي). حيث يظهر بشكل واضح سوء الفهم الذي يطال المصطلحات أصلاً، ولكنه يشير الى الإشكالية التي حكمت "الماركسية" منذ زمن طويل، بعد أن باتت نظرية بدل أن تكون منهجية لفهم الواقع، ولفهم آليات تغييره. فالنظرية هي المُنْتَج عن تحليل الواقع، هي التصور الذي ينشأ عن تحليل الواقع، وليست ملخص الأفكار التي كتبها ماركس وإنجلز ولينين، أو حتى ستالين أو تروتسكي. ما أضافه ماركس جوهرياً هو طريقة تفكير جديدة تنطلق من الواقع لفهم صيرورته. هذا ما يوضحه ماركس في المقدمة الثانية لكتاب رأس المال، ويوكد عليه إنجلز في أكثر من دراسة. لهذا أنطلق من الجدل المادي لفهم الواقع في صيرورته ولا أتعلق بالنصوص، لأنها نتاج تحليل واقع بات من الماضي. هذا لا يعني أن هناك أفكار وتصورات صحيحة، وراهنة، لكن ما يسمح لنا باعتبارها كذلك هو المنهجية ذاتها. وبالتالي هناك كثير من الأفكار باتت من الماضي، تُدرس كجزء من صيرورة تطور الفكر الماركسي، وصيرورة تطور المجتمعات.
ومهند يُقحم هذا الخلاف، وكذلك الاتهام بـ "النصوصية"، رغم أن الأمر يتعلق بفهم الإمبريالية اليوم، وبتحديد طابع روسيا الرأسمالية (وهو ما يعترف به مهند). والمشكل هنا يتمثل في أن تطبيق "السمات الخمس" على روسيا سوف يقود الى اعتبارها إمبريالية كما سأوضح تالياً، لهذا لجأ الى "سمات جديدة" باتت هي المفصل لتحديد إمبريالية الدول. وبهذا لم يلحظ، وهو يريد إخراج روسيا من كونها إمبريالية، أنه أخرج كل الإمبرياليات من سمة الإمبريالية، لتبقى أميركا وحدها هي الإمبريالية. حيث أصبحت سمتي: المركز/ الأطراف و"عالمية" الدولار هما المحدِّد الجوهري للإمبريالية، وليست السمات الأخرى.
ولا شك في أن هذا الإقحام للمنهج والنظرية ذو معنى، بالضبط لأن مهند يتعامل مع الماركسية كنظرية، لهذا تصبح السمات الخمس نظرية لينين حول الإمبريالية، ومن ثم يجري تطبيقها على روسيا عبر الإشارة الى وضع روسيا فيما يتعلق بكل سمة من هذه السمات. كما ظهر كذلك حينما أوجد سمات جديدة للإمبريالية ألغت ما قبلها، وجعلت أميركا هي الإمبريالية الوحيدة. حيث تظهر السمات الجديدة وكأنها تفرض تجاوزاً لتلك القديمة (رغم إشارته للربط بينها، وهي الإشارة التي لا معنى لها ما دام لم يعد يعتبر أن السمات الخمس كافية لتوصيف دولة أنها إمبريالية)، دون أن تتضمنها.
تعريف لينين
يذكر مهند "السمات الخمس" التي أشار إليها لينين في كتاب "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية"، لتصبح "مسطرة" يقيس بها واقع روسيا (وهذه أصلاً هي سمة المنطق النصّي)، فيصل الى أنها لا تنطبق على روسيا بعد أن يجهد في توظيف أرقام مختلفة حول كل سمة. وستكون هذه الأرقام مفيدة لتوضيح عكس ما ذهب إليه.
لينين لم يعتبر أن هذه السمات هي مقياس "ريختر"، بل أنه وصّف وضع الرأسمالية بداية القرن العشرين، وشرح تكوينها الداخلي الذي أفضى الى نشوء الاحتكارات (وهو هنا كان يكمل ما بدأ به ماركس)، وأيضاً تشكّل الرأسمال المالي من اتحاد الرأسمال الصناعي والرأسمال المصرفي. ولقد اعتبر أن ذلك هو أساس نشوء الإمبريالية، حيث أكد أن الإمبريالية هي الاحتكارات، لكنه استكمل تحليله كي يُظهر ما يستتبع هذا التكوين الجديد للرأسمالية من ميل لتصدير الرأسمال (إضافة الى السلع)، ومن ثم طابع الصراعات العالمية التي فرضت "تشكيل اتحادات رأسماليين احتكارية عالمية تقتسم العالم"، والصراع على تقاسم العالم بين الدول الإمبريالية. وهو بناءً على هذه السمة الأخيرة فسّر نشوب الحرب العالمية الأولى، حيث وجدت كل من ألمانيا واليابان، بعد أن باتتا إمبرياليتين أنه قد جرى تقاسم العالم بين الإمبريالتين الأقدم، إنجلترا وفرنسا.
إذن، هي حسب لينين (والماركسية) صيرورة تشكّل داخلي، يقوم على نشوء الصناعة (وهذا ما يتجاهله مهند)، يفضي الى تشكيل الاحتكارات والرأسمال المالي، ليفرض شكلاً جديداً لسيطرته على العالم، ويُنتج صراعات جديدة، أفضت الى حربين عالميتين. بمعنى أن السمات لا تتعلق بمقارنة مع الإمبرياليات الأخرى، كون أسبقية التطور والتشكّل الإمبريالي تفرض ذاتها، حيث تكون الإمبرياليات الأقدم حتماً قد تقاسمت العالم، وتجد الإمبرياليات الجديدة ذاتها في وضع صعب، وهو الأمر الذي يدفعها الى الحرب. لهذا لا بد من دراسة التكوين الداخلي أولاً، وملاحظة نشوء الاحتكار والرأسمال المالي في الدولة ذاتها. وهنا تكون المقارنة بالإمبرياليات الأخرى هي من أجل فهم طبيعة الصراعات التي تنشأ نتيجة ذلك، أي فهم اختلال تقاسم العالم الذي يفضي الى الحروب. وهذا ما فعله لينين وهو يدرس حالة كل من ألمانيا واليابان، حيث أوضح الاختلال في السيطرة، وفي القدرة الاقتصادية. ولقد بيّن صِغَر مساحة مستعمرات ألمانيا، وضعف تصدير الرأسمال، والسلع، وأكد أن كل ذلك كان في أساس ميلها (مع اليابان التي كانت حصتها أقلّ من ألمانيا) الى خوض الحرب من أجل فرض إعادة تقاسم العالم.
وهنا يكمن جوهر تحليل ماركس لنشوء الرأسمالية، حيث فرض نشوء الصناعة الى التمركز نتيجة التنافس الداخلي، وبالتالي قاد الى نشوء الاحتكارات، كما فرض نشوء الصناعة الى نشوء ظاهرة فيض الإنتاج التي جعلت الرأسمالية تبحث عن الأسواق. لهذا فإن التمركز ونشوء الاحتكارات، والرأسمال المالي، والتوسع الخارجي هي سمة ملازمة لنشوء الرأسمالية قبل أن تصبح إمبريالية، وأساس الوصول الى الإمبريالية كشكل أعلى للرأسمالية، وأكثر حاجة الى التوسع والأسواق. ولهذا فإن كل بلد رأسمالي أصبح صناعياً يميل الى التوسع الخارجي بالضرورة، حيث أن وجود الصناعة يفرض حتمية ذلك في الإطار الرأسمالي، حيث لا إمكانية لنمو الصناعة في سوق ضيّق، وهو الأمر الذي يدفع نحو التوسع الخارجي، ونقل التنافس بين الرأسماليات من السوق الداخلي الى السوق العالمي.
بالتالي يمكن تلخيص الأمر في أنه ليس من الممكن أخذ "تعريف لينين" كوحدة قياس، بل يجب فهم صيرورة تشكّل الرأسمالية ونشوء الاحتكار، حيث يمكن توضيح أنها أولاً سعت الى الاستعمار حتى قبل نشوء الاحتكار، رغم أن نشوئه قد أضاف أهداف جديدة تتمثل في تصدير الرأسمال كذلك، وفي تعزيز النزعة الاستعمارية. وثانياً إن التشكّل الاحتكاري الداخلي لا يعني حتماً وجود أسواق كبيرة في الخارج، ولا تصدير كبير للسلع والرأسمال، ومثال ألمانيا واليابان قبيل الحرب الأولى واضح هنا. وثالثاً إن التشكّل الاحتكاري للرأسمال يفرض البحث المحموم عن الأسواق، ويفرض الصراع المحموم عليها.
لا شك في أن "الخطيئة الأصلية" في التحليل الذي يقدمه مهند تكمن هنا: أي تجاهل التكوين الداخلي والتركيز على المقارنة مع الإمبرياليات الأخرى. لهذا يصبح نفيه لإمبريالية روسيا لا معنى له، بالضبط لأنه يتجاهل جوهر الأمر، أي التكوين الداخلي للاقتصاد الروسي، رغم أنه ينطلق من نتائج مقارناته في "السمات الخمس" لكي يصل الى أن روسيا "دولة طرفية". متجاهلاً أن الفارق بين الدولة المركزية والدولة الطرفية يتحدد في طبيعة نمط الإنتاج، أي بوجود الصناعة أو عدمه.
مركز/ أطراف
نعود الى نظرية مركز/ أطراف، ونهدف هنا تحديد وضع روسيا، فهل يمكن أن نضعها في الأطراف (مثل أي دولة طرفية، الكونغو أو أورغواي أو ماليزيا أو مصر)؟ بالتالي ما هي نظرية مركز/ أطراف؟
نظرية المركز والأطراف ليست جديدة، حيث أنها معروفة منذ أكثر من نصف قرن، وهي نتاج مدرسة التبعية، ولا شك في أن سمير أمين كان من منظريها الأساسيين. وكنت ممن يعتقد بصحتها منذ زمن طويل، وقام تحليل لوضع الأطراف على أساسها. في حين كان الشيوعيين، ومنهم تيار قاسيون، يبتعدون عنها، متهمين أصحابها بالتحريف. ماذا دهى مهند دليقان إذن لأن يتبنى هذه النظرية؟ حيث يظهر في تحليله استناد متعدد الى سمير أمين، رغم الإشارة الى خلاف ما معه. ربما كان موقف سمير من روسيا تحديداً، ومن الصراع العالمي الراهن، يلقى هوى لدى مهند. فسمير يشير الى روسيا كرأسمالية مستقلة، وتدعم التحرر من إمبريالية الثالوث. رغم أن سمير يؤكد على أن كل رأسمالية هي إمبريالية. لكن منطلق تحليل سمير للمركز والأطراف، ولإمبريالية الرأسمالية، نابع من فهم معنى المركز والأطراف. لكن لأن مهند مستجد في التعامل مع هذه النظرية يستخدمها "خبط عشواء"، ويعتبر لأنه اكتشفها حديثاً أنها سمة من السمات الجديدة للإمبريالية.
هنا لا بد من أن نعيد لنشوء الرأسمالية، التي لم تتشكّل إلا انطلاقاً من اكتشاف الصناعة، بحيث باتت هذه هي وسيلة الإنتاج المركزية في النمط الرأسمالي، والتي على أساسها جرت صياغة التكوين المجتمعي بمستوياته الاقتصادية والطبقية والأيديولوجية والسياسية. فقد باتت مركز الإنتاج السلعي، وإنتاج فائض القيمة، ووجود البروليتاريا. وكان نشوؤها يفرض الحاجة للمواد الأولية والأسواق، وهو الأمر الذي جعل الاستعمار حاجة ملحة. وإذا كان التنافس قد فرض الميل للتمركز وصولاً الى الاحتكار في كل أمة خطت نحو الرأسمالية، فقد فرضت الحاجة الى الاستعمار الميل لمنع نشوء الصناعة في المستعمرات، وإخضاعها لمتطلبات المركز الرأسمالي، بحيث تخدم تحقيق التراكم الرأسمالي فيه. لهذا حين تشكّل العالم الرأسمالي تشكّل في تمايز واضح بين البلدان الرأسمالية والبلدان التي كانت مستعمرات أو تابعة اقتصادياً، وكان أساس هذا التمايز هو تمركز الصناعة في المراكز وبالتالي تمركز الثروة، والتقنية والتطور العلمي والتكنولوجي، والعسكري، وكل ذلك هو الذي بات يحقق الهيمنة العالمية بعد أن فرض الاستعمار تخليف الأطراف بمنع تصنيعها، وتشكيل بنيتها الاقتصادية بالترابط مع اقتصاد المركز عبر تحويل النشاط الاقتصادي الى "القطاع الثالث"، أي التجارة والخدمات والبنوك. لقد باتت الرأسمالية المحلية كومبرادورية الطابع، مرتبطة عضوياً بمركز الإنتاج السلعي والنشاط المالي. وهي العملية التي كانت تفرض نزوح الفائض الى المركز، وبقاء الأطراف مخلَّفة، سواء من حيث الصناعة أو العلم أو التكنولوجيا أو تراكم الثروة والتقنية. تعتمد على إنتاج المواد الأولية (وفي مرحلة أولى على الزراعة، التي تراجع وضعها بعد الحرب الثانية).
الفارق هنا هو بين رأسمالية منتجة، وأخرى تابعة تعتمد على استيراد ما يُنتج في المركز الرأسمالي. بين نمط إنتاج رأسمالي مكتمل، وآخر ملحق يعتمد في وجوده على التجارة والخدمات والبنوك، وعلى الإنتاج الحرفي والزراعي البسيط. وفي هذه الوضعية الهيمنية لرأسمالية المركز لا تستطيع رأسمالية الأطراف سوى التموقع في القطاع الاقتصادي ممكن النشاط فيه، وهو "القطاع الثالث"، وهو القطاع الذي لا يفرض الحاجة لا الى الأسواق ولا الى الحداثة. بل أن وجوده يعتمد على تعميم "الوعي التقليدي" من طرف، ومن طرف آخر على استيراد السلع من المركز الرأسمالي ذاته، وهذا هو سرّ تبعيته، التبعية التي تتخذ شكلاً سياسياً من خلال التحاق الدولة التي تحكمها هذه الرأسمالية بـ "المعسكر الغربي"، حيث أن مصالح الرأسمالية ذاتها تفرض ذلك بالضرورة. ولهذا هي تقبل بكل الشروط التي تفرضها رأسمالية المركز كما ظهر منذ انهيار نظم التحرر الوطني من تطبيق لسياسة التكييف الهيكلي (الخصخصة)، وتدمير للتعليم والصحة، والزراعة أيضاً. والتزام السياسات التي يفرضها صندوق النقد الدولي الذي يعبّر عن مصالح الطغم المالية، خدمة لمصالح هذه الطغم.
هنا الفارق بين المركز والأطراف فارق حدّي. ولا شك أن في جوهره يكمن وجود أو غياب الصناعة، وكل المستتبعات التي تلحق بذلك. فالميل للتمركز والاحتكار لا يحدث في بلد لا صناعة فيه، والميل للتوسع الخارجي والبحث عن أسواق لا يكون من دولة لا تنتج السلع قبل أن تراكم الرأسمال. إن نشوء الصناعة هو الذي فرض كل تلك الصيرورة التي أنتجت النمط الرأسمالي بميوله الاستعمارية والتوسعية والهيمنية، ونشوء الصناعة هو الذي أوجد الفائض المالي الذي بات يبحث عن أسواق، وسمح بتطوير القدرات العسكرية وغير ذلك. والرأسمالية القائمة على أساس ذلك هي إمبريالية بالضرورة بالتالي. بعكس رأسمالية الأطراف التي تظل تابعة بلا ميل للفكاك أصلاً.
بالتالي حين الإشارة الى المركز/ الأطراف يشار الى هذا التكوين العالمي للرأسمالية، الذي أخذ شكله الواضح بعد الحرب الثانية في جزء من العالم، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في العالم كله. لكنه وهو يتخذ شكله العالمي فتح على تناقضات وصراعات جديدة، أولاً نتيجة انهيار الاشتراكية وبالتالي نشوء رأسماليات جديدة، وثانياً نتيجة أزمة الرأسمالية القديمة ذاتها التي كانت تفتح على صراعات خفية في السابق باتت مكشوفة بعدئذ. الآن أين نضع روسيا والصين، في المركز أو في الأطراف؟
لست هنا معنياً بوضع الصين، رغم أننا إذا طبقنا "مقياس رختر" المتعلق بالإمبريالية وفق ما قام به مهند لوجدنا أنها إمبريالية ونصف، فهي تنافس في تصدير السلع والرأسمال، وبعدد المليارديرات والشركات الاحتكارية. لهذا سوف أتناول روسيا التي يدافع مهند عنها بكل حمية، وإصرار، ويجلب الأرقام لتوضيح فكرته.
وضع روسيا
بين المركز والأطراف
في كل المقارنات التي يوردها مهند تبدو روسيا "في ذيل القائمة، سواء في عدد الشركات الاحتكارية أو تصدير السلع والرأسمال. ورغم أن الأمر يحتاج الى بعض التدقيق فإن روسيا ليست من الدول الأولى في كل هذه القطاعات. لكن هل يعني ذلك أنها باتت من دول الأطراف؟
أشرت الى خطل المقارنة التي توضّح فقط أن روسيا ليست في المركز الأول بين الدول الرأسمالية (ربما جرى تصنيفها في المرتبة الثامنة، وأخيراً الخامسة). لكن يجب أولاً أن نحدِّد هل أنها رأسمالية؟ وبأي معنى؟ أي هل هي رأسمالية طرفية أو رأسمالية "مركزية"؟
إن القول بأن روسيا دولة طرفية يبخس التجربة الاشتراكية حقها، ويؤكد على أنها لم تفعل شيئاً في واقع روسيا، التي كانت في ذيل السلسلة الرأسمالية وباتت في الأطراف بعيداً عن هذا الذيل. لكن الواقع غير ذلك، وبغض النظر عن انهيار الاشتراكية فقد نقلت روسيا من دولة زراعية بطريركية في ظل سيطرة الإقطاع الى دولة صناعية حديثة. لقد طوّرت الصناعة بشكل كبير، وتطور العلم والتعليم، ووصلت روسيا درجة عالية في مجال التقنية. كذلك أوجدت قطاعاً اقتصادياً منتجاً، كبير الشأن، وطوّرت القدرات العسكرية بشكل كبير. كل ذلك تحقق في روسيا في ظل الاشتراكية. هل انتهى مع انهيار الاشتراكية؟ بالتأكيد لا، ربما جرت تصفية قطاعات صناعية بدت متخلفة، وربما انهارت صناعات أخرى في ظل التنافس الذي أصبح جزءاً من اقتصاد مفتوح فُرض بعد استلام يلتسين. لكن لا بد من التأكيد على استمرار وجود ثلاث مسائل جوهرية: تطور تقني وعلمي، تراكم مالي هائل (ملكية الدولة الاشتراكية)، وقاعدة صناعية. وربما أيضاً صناعة سلاح متطورة وجيش ضخم.
طبعاً كل ذلك ليس متوافراً في أي بلد من بلدان الأطراف، حتى أكثرها تقدماً، والتي تطمح لأن تصبح "قوة عظمى" مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا. وإذا كانت ملكية الدولة قد تلاشت فقد أصبح التراكم المالي الهائل ملكية شخصية لكثير من المليارديرات الروس، واصبحت المصالح ملكية خاصة، وحتى النفط والغاز جرت السيطرة عليه من قبل مافيات الانفتاح قبل أن يعيد بوتين ضبط الأمر وإعادة فرض سيطرة الدولة عليها، مع مشاركة رأسماليين روس وأجانب. ورغم ضعف التصدير السلعي الروسي فإن السلع الصناعية الروسية تغطي السوق الداخلية، في ظل منافسة السلع المستوردة. وإذا كان نهوض الصناعة الروسية يحتاج الى الأسواق الخارجية (التي هو ضيف فيها نتيجة "ضعف" التقنية) فإن وجود جيش متطور، وصناعة عسكرية متطورة يفرضان أن ينصبّ التفكير في استخدام القوة لتحقيق ذلك. ها هو جوهر السياسة الروسية في الوقت الحالي، بعد أن شعرت بـ "ضعف أميركا".
إن الفارق بين روسيا ودول الأطراف، بين الرأسمالية الروسية ورأسمالية الأطراف يتمثّل في أن روسيا تمتلك قاعدة صناعية ليست موجودة في الأطراف، ورأسمالية تنشط في الصناعة (وفي الخدمات والتجارة والمال والمافيا) تحتاج الى التوسع الخارجي. هنا ميول نحو ذلك في الهند وتركيا، وربما في البرازيل وجنوب أفريقيا، لكنها ليست في المستوى الموجود في روسيا، التي كانت قوة عظمى بقدراتها وتطورها، وتراجع دورها مع الانهيار السريع للاشتراكية وميل المافيات التي كانت تعشش في بيروقراطية الدولة لنهب الثروة التي حققتها، لكن وجود العناصر المشار إليها (التطور التقني العلمي، الثروة المتراكمة، القاعدة الصناعية، القدرة العسكرية) يسمح بإعادة بناء الاقتصاد الرأسمالي على أساس صناعي. وأزمة روسيا تكمن في أن إعادة البناء هذه تحتاج الى السوق العالمي المسيطر عليه من قبل الرأسماليات القديمة. لقد ضبط بوتين الميل الليبرالي المنفلت (المافياوي) لكنه أطلق الميل الإمبريالي لروسيا، وهو المعبّر عن الطبقة الرأسمالية التي تريد حصة في السوق العالمي كي تطوّر قدراتها الصناعية، وتراكم الرأسمال. ويعبّر عن الطغم المالية التي تريد الاستثمار في الأسواق المالية العالمية، وفي نهب الأطراف.
بالتالي إذا كانت روسيا في "الدرك الأسفل" مقارنة بالإمبرياليات الأخرى (حسب ما يريد مهند التأكيد) فإنها دولة صناعية، ولديها طبقة رأسمالية تمركز الثروة، حيث هناك عدد كبير من المليارديرات، وشركات كبرى تنتج للسوق الداخلي أو تنشط في التجارة والخدمات والمواد الأولية، وتسير نحو التمركز الصناعي، في وضع يتسم بامتلاكها قدرة تقنية عالية وجيش متطور يمتلك أحدث الأسلحة. ولا شك في أن صناعاتها العسكرية، وصناعات الفضاء، تشكّل ثقلاً في بنيتها الاقتصادية، ولقد زادت صادراتها من السلاح لتصبح الدولة الثانية في العالم بعد أن فكّت الحصار الأميركي على ضوء تدخلها في سورية.
الدولة الاشتراكية بنت قاعدة صناعية ضخمة، وبنية تحتية هائلة، وكانت ملكية الدولة هائلة، ولقد أفضى "تفكيك الاشتراكية" الى نهب كل ذلك من قبل أفراد لصيقي الصلة بالدولة، فتحولت الى ليس مشاريع صغيرة بل صناعات وشركات ضخمة مملوكة لأفراد، ويمكن رصد عملية التحوّل هذه منذ استلام بوريس يلتسين الى بداية القرن الحادي والعشرين. وهي العملية التي أفضت لنشوء طبقة من الأثرياء وأصحاب الشركات الكبيرة والمافيات. بهذا أدت الخصخصة ليس الى دمار الصناعة ومجمل شركات الدولة بل الى تحوّل ملكيتها مع بقائها ليس مشروعات صغيرة بل احتكارات تهيمن على مجمل الاقتصاد الروسي. وكما أشرت لديها مستوى تقني عالي، وخبرات علمية كبيرة. ولهذا نجد أن نسبة الإنتاج الصناعي تبلغ 36% من مجمل الناتج القومي، هي في أميركا 19%، نتيجة الأمولة التي حدثت في بنية الاقتصاد الأميركي. ولم تكن روسيا بعيدة عن ذلك لأنها اندمجت في النمط الرأسمالي في مرحلته المالية، بالتالي كان اندماجها المالي سابق على دخولها منظمة التجارة العالمية (الذي لم يتحقق بعد)، وعلى انخراطها في السوق العالمي. لهذا سنلمس أن الكتلة المالية الروسية ناشطة، وجزء منها ذو طابع مافياوي.
هذا ليس وضع دولة طرفية بل هو وضع دولة رأسمالية حقيقية، وهي بذلك دولة إمبريالية، بالضبط لأنها تمثّل الاحتكارات التي تريد التوسع الخارجي وإعادة تقاسم العالم. هل بين هذه وتلك شكل آخر؟
هناك من يشير الى أنها دولة "رأسمالية مستقلة"، لا شك في أنها رأسمالية ومستقلة، لكن ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أنها ليست إمبريالية كونها مستقلة؟ وبالتالي إما أن تكون ضمن الثالوث أو تكون رأسمالية ليست إمبريالية؟ لقد كانت ألمانيا الإمبريالية مستقلة، ومثلت الدولة فيها طبقة رأسمالية مستقلة، لكنها كانت إمبريالية. لا بد هنا من ملاحظة "اللعب بالكلمات"، حيث يعني الاستقلال السياسي عن إمبريالية أن الرأسمالية الأخرى ليست إمبريالية، وإلا ماذا نسمي صراع الإمبرياليات الذي قاد الى حربين عالميتين؟ ألم تقم الحرب بين رأسماليات مستقلة؟ إن اختلاف روسيا مع الإمبريالية الأميركية لا يعني أنها ليست إمبريالية، بل أنه يعني أن وضعاً جديداً أخذ يتشكّل هو، بشكل ما عودة الى ما قبل "الإمبريالية العليا"، حيث تميل كل إمبريالية الى البحث عن مصالحها على حساب الإمبرياليات الأخرى. لهذا نلمس التناقضات التي تتبلور بين أميركا والصين (الدولة التي تعتبرها أميركا هي الخطر القادم)، وبين أميركا وألمانيا وفرنسا، وبين روسيا والصين. وهذه صراعات بين رأسماليات مستقلة، كل منها يسعى لأن يحقق مصالحه على حساب الآخرين.
إن كلمة "مستقلة" توحي بما هو إيجابي، حيث تُظهر أن طرف هو "ضد أميركا"، "مستقل" عنها، لهذا فهو ليس إمبريالي بالضرورة، ومع التحرر وحتى الاشتراكية! هذا هو منطوق بعض "الماركسيين"، متناسين أن كل الصراعات بين الإمبرياليات كانت صراعات بين دول مستقلة. وبالتالي فإن كلمة "مستقلة" هذه لا معنى لها هنا، إلا لتبرير موقف مع إمبريالية ضد أخرى. الأساس هنا يتحدد فيما تمثّل الرأسمالية "المستقلة"؟ أليست مصالحها هي التي تجعلها "تستقل" عن الإمبريالية الأميركية؟ وما هي مصالحها؟ أليس نهب الشعوب وإفقارها مثل الرأسمالية الأميركية؟ كل رأسمالية إما أن تكون تابعة وبالتالي تخدم المركز الإمبريالي، أو مستقلة لأنها رأسمالية "حقيقية" (صناعية أو تمثل الرأسمال المالي)، فتسعى للتوسع الخارجي لأن وجودها وتطورها ومراكمتها الرأسمال يعتمد على ذلك، وإلا سيكون مصيرها الانهيار نتيجة "نقص السوق". وكما أوضحت فإن الرأسمالية الروسية هي من النوع الثاني بالتأكيد، لهذا فإن "استقلالها" يعني ميلها للتوسع والسيطرة وفرض تقاسم عالمي جديد.
لكن يبدو أن هناك من الماركسيين من بات مقتنعاً بأن هناك رأسمالية "طيبة"، "خلوقة"، و"مسالمة"، وتريد "خدمة التحرر". هناك من يتوهم ذلك في روسيا، وهناك من له مصالح في تعميم هذا الوهم حولها. الرأسمالية رأسمالية، وما دامت تمتلك قدرة تقنية وقاعدة صناعية وجيشاً كبيراً، فهي تمتلك طموحاً للسيطرة والنهب. لهذا فروسيا إمبريالية بالتأكيد، وبالتحديد، بلا تردد أو تمويه. ولسوف أتناول كل مبررات مهند التي يسوقها لنفي ذلك، لكن مع ملاحظة مكررة تتمثل في أنه لم يدرس البنية الداخلية لروسيا بل اعتمد المقارنة، ولو كان لينين قد فعل ذلك لكانت ألمانيا (وأيضاً اليابان) رأسمالية وطنية مستقلة، ترفض الخضوع للسيطرة الإمبريالية الإنجليزية. ولما بلور رؤيته حول الإمبريالية أصلاً. مسكين لينين لم يعش طيلة القرن العشرين لكي يتثقف على يد "عباقرة" في تحليل البول. وقبله مسكين ماركس الذي قضى عمره في دراسة الرأسمالية ليقول لنا أن نشوء الصناعة يفضي في ظل التنافس الى التمركز الذي يفرض الاحتكار. وأن الرأسماليات تتصارع على السيطرة والاستعمار ونهب الشعوب.
يبدو أن البحث عن تبرير لوضع روسيا فرض رمي كل الماركسية في سلة المهملات، من خلال رفض "النصوصية" (أو اللصوصية)، وتجاهل منطق التحليل الماركسي، وليس المنهجية الماركسية فقط، واختراع "سمات جديدة" للإمبريالية لا تمتّ بصلة لكل التحليل الماركسي. ربما ليس غريباً ذلك لأن الماركسية ليست معروفة لدى كل هؤلاء، فقد حفظوا نصوصاً معلبة، ومختوم عليها بالشمع الأحمر السوفيتي. ومن السهل للمحفوظات أن تسقط في مجاهل النسيان. فقد سقط الاتحاد السوفيتي بذاته، كيف لا تسقط كل "نظرياته"، لاختراع نظريات تبرر لرأسمالية متوحشة باتت تحكم.
روسيا إمبريالية؟
أشرت الى أن مهند "يدرس" السمات الخمس بشكل ستاتيكي، حيث هي "روشيتة" نبحث في هل أن ما فيها ينطبق على روسيا أو لا ينطبق. لكن الأدهى يتمثل في أن الأمر يقوم على مقارنة بدول أخرى، أي مقارنة الاحتكارات في روسيا بالاحتكارات في بلدان أخرة، وهكذل الرأسمال المالي والتصدير السلعي. بالتالي سيكون الجواب لا أو نعم، ولقد كانت النتيجة هي لا.
لكن ليس من دراسة تاريخية لوضع روسيا الآن، على ضوء تشكلها الحديث. وبالتالي يختفي هنا كل التحليل المتعلق بنشوء الرأسمالية وتطورها، ذاك التحليل الذي قام به ماركس وأكمل لينين بعضاً منه. بمعنى أن مهند يرى روسيا في مقابلة مع الإمبرياليات الأخرى، فتظهر بعيدة عنها، وحتى يجد أن هناك دول طرفية متقدمة عن روسيا. وهو بهذا لا يلتقط جوهر الرأسمالية، ولا مسار تطورها، ولا ينتبه لوضع روسيا التي تطورت في ظل الاشتراكية، أي أنها لم تتطور وفق الشكل الكلاسيكي الذي حدث في إنجلترا، أو فرنسا، أو حتى ألمانيا واليابان. فقد كانت روسيا في "ذيل السلسلة الرأسمالية" تنحكم لنمط اقطاعي مع تغلغل حديث للصناعة والحداثة، وكانت إمبراطورية واسعة، لكنها لا زالت تنحكم لوضعية القرون الوسطى. ورغم ضخامتها لم تستطع الانتقال الى الرسملة نتيجة سيطرة النظام القيصري وتحكم الإقطاع. لهذا لم يكن أمامها، في لحظة تشكّل الإمبريالية كنمط عالمي، سوى أن تتعمق الثورة وتنتصر الاشتراكية.
بالتالي فقد بنيت الصناعة (الثقيلة والخفيفة) وتطور الاقتصاد تحت قيادة الدولة التي يحكمها حزب شيوعي، خصوصاً بعد إلغاء الملكية الخاصة بداية ثلاثينات القرن العشرين. ورغم تباطؤ التطور التقني في القطاع الصناعي المدني، وفشل الانتقال من عملية التوسع الأفقي الى التركز العمودي كما أشار سمير أمين، كان الاتحاد السوفيتي يعيش حالة اكتفاء ذاتي، توسّع بعد الحرب الثانية عبر نشوء المنظومة الاشتراكية. هذا ما أسميته قبلاً "وجود القاعدة الصناعية"، سواء كمصانع أو كتقنية وتطور علمي. وكذلك كثروة مالية هائلة هي قيمة مجمل الاقتصاد الخاضع لسيطرة الدولة. إن كل ذلك لم يتبخّر، ولا جرى تدميره حين الانتقال السريع الى الرأسمالية (سياسة الصدمة)، ورغم أن جزءاً من الصناعات قد جرى التخلص منه نتيجة تقادمه وتخلفه التقني، فقد تحوّلت مجمل الصناعات الى الملكية الخاصة من خلال "الخدعة" التي قام بها يلتسين، والتي قامت على توزيع ملكية المصانع أسهماً على العمال. والتي قادت الى بيع العمال أسهمهم بأسعار زهيدة لـ "رأسماليين جدد"، ربما كانوا جزءاً من بيروقراطية الدولة أو من المافيا التي كانت تنشط ضمن الدولة السوفيتية. ورغم ميل جزء من هذه المافيا لتدمير الصناعاة والتحوّل للنشاط المالي في السوق العالمي، أو الى النشاط التجاري القائم على استيراد السلع "الغربية"، فقد تشكلت طبقة رأسمالية تملك الصناعة، وتنشط في مختلف القطاعات الاقتصادية التي طالتها الخصخصة كذلك. والتي باتت رأسمالية نتيجة سلب ملكية الدولة بـ "أسعار زهيدة". وإذا كانت المرحلة الأولى، وهي مرحلة يلتسين، قد اتسمت بالطابع الفوضوي لكل ذلك، فقد كان منطق الرأسمال يفرض إعادة ضبط الوضع. ولهذا، مع تسليم يلتسين السلطة لبوتين، عادت الدولة لتسيطر على قطاعات إستراتيجية هي قطاعات النفط والغاز، وتضبط الميل الساعي لـ "تدمير" الصناعة، وليعاد بناء الاقتصاد على أساس رأسمالي بتدخل الدولة (وهي حالة حدثت في ألمانيا، وطالت إنجلترا وفرنسا بعد الحرب الثانية).
في هذه الوضعية تشكلت الاحتكارات في بنية الاقتصاد الروسي، وإذا كان مهند لا يرى سوى طريق واحد لنشوء الاحتكارات هو الطريق الكلاسيكي، لا بد له أن يراجع تاريخ تطور الرأسمالية وما أشارت إليه الماركسية في هذا الأمر، الى حدّ أن لينين يشير الى "الطريق البروسي" الذي هو قائم على تدخل الدولة لتطوير الصناعة، وهو كذلك طريق اليابان. بالتالي فقد نشأت الاحتكارات في روسية بعد فكفكة ملكية الدولة، و"استيلاء" "رجال أعمال جدد" على الشركات الكبرى وفق الطريقة التي أشرت إليها للتو. فقد كانت الدولة تمركز الصناعة والشركات نتيجة ملكيتها لها، وبالتالي كان الأمر "الطبيعي" ألا تفكفك وهي تخصخص، بل تتحوّل الى احتكارات مملوكة لأفراد، أو شراكة بين الدولة وأفراد (ودخل على الخط أطراف دولية، أو بالشراكة مع شركات أجنبية. أو حتى استحوذت عليها شركات احتكارية دولية في ظل انخراط روسيا في "السوق العالمي" وتشابكها مع النظام المالي الدولي، ككل ما جرى بين الإمبرياليات القديمة. إن الاقتصاد الروسي بات متشابكاً ومتداخلاً مع مجمل الاقتصاد العالمي رغم التناقضات والخلافات التي تحكم علاقة الدولة الروسية مع الإمبرياليات القديمة، وعلى أرضية هذا التشابك يجب فهم هذه التناقضات والخلافات وليس خارجها. لهذا فإن استهزاء مهند لفكرة أن روسيا ما بعد الاشتراكية عادت بالضرورة للنادي الرأسمالي قائم على تحيّز أيديولوجي، حيث لا أحد يستطيع نفي أن روسيا باتت جزءاً من التكوين الرأسمالي العالمي، وأن رأسماليتها جزء من هذا التكوين، وتخضع لقوانينه، وتنعكس أزماته عليها. فهي تتمتع باقتصاد رأسمالي حرّ، رغم تدخل الدولة ككل الدول الرأسمالية، وتخضع للنظام المالي الدولي. إلا إذا انطلقنا من الخلافات بين الدول كتحديد لعدم انخراطها في النادي الرأسمالي الدولي، رغم أن هذا الخلاف يؤشّر الى حالة "تمرّد" تفسيرها مرتبط بتحديد طابع الاقتصاد الروسي. والتفسير السياسي هو مرض الماركسية الخاضعة للتأويل السوفيتي، التي تنطلق من الخلاف السياسي بين الدول لاختراع تصوّر عن الوضع الواقعي وتنتج الأوهام عن طبيعة الدول، كما يحدث الآن فيما يخص روسيا، ويتعلق ببوتين.
وإذا كان مهند يشير الى ضآلة عدد الشركات الكبرى الروسية (25 من بين 2000 شركة عالمية)، لكي يؤكد على غياب الاحتكار في روسيا، فهو ينطلق من مقارنات دولية دون أن يعود الى بنية الاقتصاد الروسي. فكما أشرت أسست الدولة الاشتراكية بنية اقتصادية متكاملة، وهي البنية التي تحوّل جزء كبير منها الى ملكية طبقة رأسمالية. فليس شركات النفط والغاز هي الشركات الكبرى فقط في روسيا، وهنا يجب أن نلمس بنية الاقتصاد الروسي ذاته قبل المقارنة مع الإمبرياليات الأخرى. فمثلاً شركات صناعة السلاح التي هي شركة عملاقة لا ترد في "قائمة فوربس" لكنها جزء أساسي في بنية الصناعة الروسية، وربما تكون رافعة التطور الصناعي كله. وهي القطاع الذي جعل روسيا ثاني مصدّر للسلاح في العالم. وهناك أيضاً شركات صناعة المفاعلات النووية لأغراض سلمية، وروسيا متفوقة في هذا المجال، وتبني مفاعلات في العديد من دول العالم. وكذلك الصناعات الفضائية التي أدخلت روسيا في شراكة مع أميركا في بحوث الفضاء، وكانت المنافس الأساس لها. وقبل كل ذلك يمكن الإشارة الى الصناعات الثقيلة التي تنتج المصانع، وهي القاعدة التي تخدم كل الصناعات السابقة. ويمكن أن نشير الى صناعة الطائرات المدنية والسياسات والقطارات والمترو، وهي موجودة رغم أنه يمكن نقاش مدى تطورها وقدرتها على المنافسة. وإذا أضفنا مجمل الصناعات الغذائية والغزل والنسيج والأدوية، نكون إزاء بنية صناعية متكاملة. ربما هناك قطاعات متخلفة تكنولوجيا فيها، لكنها جزء من البنية الصناعية الروسية، هذه البنية التي تساهم في 36% من الناتج القومي الإجمالي. وهذه البنية لا تتسم بسيادة المشاريع الصغيرة بل تتسم بسيادة التمركز القطاعي وانتشار الشركات الكبيرة. هل أنها كلها شركات احتكارية؟ في إطار التنافس العالمي لا، وربما في روسيا ليس كلها كذلك، لكن "نقص المركزة" لا ينفي سيادة الطابع الاحتكاري، حيث أن طبيعة المنافسة الرأسمالية تفرض تحقيق التمركز، ومن ثم إذا كان الاقتصاد الروسي يعاني من نقص في التمركز لا يعني أنه لا يسير نحوه. وهنا لا بدّ من لمس وضع روسيا العالمي، لأن التمركز الداخلي مرتبط حتماً بالتوسع الخارجي، وهو ما يبدو واضحاً في ميل الدولة الروسية للتوسع باستخدام القوة.
في هذه النقطة يمكن أن نعود الى كل الأرقام التي أتى بها مهند، لكن لتوضيح أن تطوير قدراتها العسكرية وتدخلها الخارجي، وصراعها مع الإمبرياليات القديمة ناتج عن نقص هيمنة شركاتها عالمياً، حيث ضيق الأسواق التي تسيطر عليها.
وضع روسيا العالمي
رغم ما يمكن أن تتسم به الأرقام التي أتى بها مهند من عدم دقة، سوف نشير إليها لتوضيح "تدني" وضع روسيا مقارنة بالإمبرياليات القديمة، وحتى بالصين.
فيما يتعلق بالشركات الكبرى، نجد أن روسيا متخلفة كثيراً، حيث فيما عدا الصين تسبقها الإمبرياليات القديمة وحتى النمور الآسيوية. وهي تمتلك 25 شركة من أصل 2000 ذكرتها مجلة فوربس.
(25 شركة روسية، 19 برازيلية، 21 سعودية، 56 هندية، 53 كندية، 61 فرنسية، 50 ألمانية، 92 بريطانية، 200 صينية، و540 أمريكية...).
أما فيما يتعلق بالبنوك فلروسيا بنك واحد من أصل مائة.
تضم قائمة أكبر 100 بنك في العالم تبعاً لحجم أصولها المالية لعام 2016، والتي أصدرتها (Relbanks) (31) بنكاً روسياً واحداً هو Sberbank وترتيبه هو 69 بأصول تبلغ 404 مليار دولار. ضمت القائمة مثلاً: بنكين لسنغافورة، 5 للبرازيل، 6 لكوريا الجنوبية... وأصول البنك الروسي تبلغ حوالي عُشر أصول البنك الأول: (البنك الصيني للزراعة والصناعة، وهو بنك حكومي) وخُمس أصول البنك العاشر (japan post bank).
وهي ثاني دولة في تصدير السلاح سنة 2016 بعد أن كانت متأخرة قبل سنوات، أي قبل تدخلها في سورية.
(31% الولايات المتحدة، 27% روسيا، 5% الصين، 5% ألمانيا، 5% فرنسا، 4% المملكة المتحدة، 3% إسبانيا، 3% إيطاليا، 3% أوكرانيا، و2% "إسرائيل").
صادرات روسيا سنة 2015 حسب نوعها
أما حول "تصدير الرأسمال" فيقول مهند: وفقاً لإحصاءات UNCTAD (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية) (35)، فإن مجموع الأصول الروسية خارج روسيا عام 2014 (FDI outward stock) بلغت 258 مليار دولار، بنسبة 1% من مجموع الأصول الموجودة خارج بلدانها في العالم. أما الولايات المتحدة فقد بلغت أصولها في الخارج حتى 2011، 25% من الإجمالي العالمي، وأوروبا 51%.
ووفقاً للمنظمة نفسها، فقد بلغ الاستثمار الروسي في الخارج عام 2011 مقدار 362,101 مليون دولار، في حين بلغت الاستثمارات الأجنبية في روسيا 457,474 مليون دولار؛ أي أنها تسجل عجزاً في الاستثمارات الأجنبية قدره 95,373 مليون دولار حتى عام 2011، وبكلام آخر فإن روسيا بالمحصلة هي بلد مستورد صافٍ لرأس المال، وليس مصدراً له.
بالمقابل بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية للولايات المتحدة الأميركية وأوروبا في الخارج في عام 2011 على التوالي 4,499,962 مليون دولار 10,443,870 مليون دولار، أي أن حصتهما معاً من الاستثمار الأجنبي الخارجي في العالم شكلت 70.6% من حجم الاستثمارات الأجنبية في العالم على أنهما مصدّرين صافيين لرأس المال.
كل هذه الأرقام تشير بالتأكيد الى "تخلف" روسيا، في إطار التنافس العالمي مع الإمبرياليات الأخرى. لكن هل يعني هذا "التخلف" أن روسيا ليست إمبريالية أولاً؟ ويفسّر سبب دورها العنيف ثانياً؟
إن كل منظور شكلي سوف يوقع في مطب الأحكام الخاطئة، وكل بناء على أساس المقارنة هو منظور شكلي بالتأكيد، حين يسقط في تفسير سطحي ينحكم لمنطق أنه ما دامت روسيا ليست في موازاة الإمبرياليات القائمة فإذن لا يمكن أن تكون إمبريالية. لم تكن ألمانيا، وأكثر اليابان، في موازاة إنجلترا أو فرنسا، في بداية القرن العشرين، ولا في موازاة أميركا وإنجلترا وفرنسا وروسيا أواسطه، لكنها كانت إمبريالية. ومن يعود الى مقارنات لينين في كتاب "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" يجد المفارقة ذاتها، حيث لم تكن الشركات الألمانية ولا تصدير الرأسمال الألماني في الصفوف الأولى، وكانت مستعمرات ألمانيا محدودة. ولا شك في أن كل ذلك هو الذي فرض عليها، وعلى اليابان، اللجوء الى الحرب من أجل إعادة اقتسام العالم. وما يحصل لروسيا هو هذا بالضبط، بعكس الصين التي استطاعت أن تصل الى الأسواق، وأن تصدّر الرأسمال، وأن تطور اقتصادها وتضخّم شركاتها بهدوء.
بالتالي إن تطور الصناعة وتعمّق الاحتكار في الاقتصاد الروسي بات مرتبطاً بالضرورة بالتوسع الخارجي، بإيجاد أسواق للسلاح وللسلع وللرأسمال. وفي ظل السيطرة الكبيرة للإمبرياليات القديمة وللصين سوف تكون القوة العسكرية هي الرافعة لهذا التوسّع. هذا هو أساس الدور العسكري الروسي في جورجيا وأوكرانيا وسورية، وربما يمتدّ الى مناطق أخرى. ويمكن أن نلمس أثر ذلك على اقتصادها، حيث زادت صادراتها السلعية من 297 مليار دولار سنة 2009، الى 393 مليار سنة 2010، الى 515 مليار سنة 2011، الى 527 مليار سنة 2012، و522 مليار سنة 2013، ثم أخذت في التراجع بعد العقوبات "الغربية" عليها، فكانت 497 مليار سنة 2014، تراجعت الى 260 مليار سنة 2015(3). كذلك يمكن ملاحظة ذلك في تطور الناتج المحلي الإجمالي، حيث كان 306 مليار دولار سنة 2001، وصل الى 1660 مليار دولار سنة 2009، وتراجع الى 1220 مليار سنة 2010، ليصل الى 2230 مليار سنة2013(4). وحدث الأمر ذاته في التدفقات الاستثمارية الأجنبية (الداخلة مقابل الخارجة)، فقد كانت التدفقات الداخلى تقارب الـ 57 مليار دولار مقابل 45 مليار دولار سنة 2007، ارتفعت الى 75 مليار دخلت روسيا مقابل65 مليار خرجت منها سنة 2008، تراجعت الى37 مليار داخلة و43 مليار خارجة سنة 2009، و31 مليار و42 مليار سنة 2010 (وهذه أوج سنوات الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد العالمي)، ثم عادت لترتفع الى 38 مليار و49 مليار سنة 2011، لتعود الى الانخفاض الى 30 مليار و29 مليار سنة2012، لترتفع من جديد الى 52 مليار و71 مليار سنة 2013، والى29 مليار و65 مليار سنة 2014 لتهبط الى 10 مليار و28 مليار سنة 2015 (أي بعد العقوبات). وهذه الأرقام تشير الى تصاعد ملفت في الاستثمارات الروسية سنتي 2013 و2014(5). وفي السنوات الأخيرة هذه زادت صادرات السلاح لتصل الى 15 مليار دولار، بحيث باتت روسيا البلد الثاني في تصدير السلاح بعد أن كانت في مرتبة رابعة أو خامسة.
إذن، هناك تحوّل في التوسع الخارجي مرتبط بالدور الهجومي الذي بدأته القيادة الروسية بُعيد الثورات العربية، وخصوصاً بعد تدخلها العسكري في سورية. وهو التوسع الذي بات يصطدم بالعقوبات التي فرضتها الإمبرياليات القديمة، والتي مثّلت وسيلة ضغط في إطار الصراع والتفاهم لتقاسم العالم. وهذا يشير الى ضعف وضع روسيا بعد أن انخرطت في الاقتصاد العالمي، والسبب الذي يدفعها الى "التوحش" بشكل ما في الوقت ذاته حيث أنها تسعى لأن تصبح إمبريالية مهيمنة في وضع تراجع أميركا. كل ذلك يوضّح أن روسيا ليست دولة عالمثالثية بل أنها دولة إمبريالية يفرض وضعها الميل للقوة من أجل تحقيق تطورها وهيمنتها. فهي تمتلك قاعدة صناعية وقدرات مالية وقوة عسكرية، لكنها تعاني من هيمنة الإمبرياليات القديمة على العالم، وحتى على مجالها الحيوي القديم، الأمر الذي يشلّ تطورها، ويجعلها تعاني من مأزق كبير. وهذا حال كل إمبريالية نشأت بعد هيمنة الإمبريالية الأولى: إنجلترا وفرنسا. فقد شهدته ألمانيا واليابان، وتشهده اليوم روسيا والصين (رغم أن مأزق هذه أقل كما أشرت قبلاً). كما تعاني منه دول تطمح لأن تصبح "قوة عظمى" (أو إمبريالية) مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا خصوصاً. وأصلاً هذا هو مأزق العالم اليوم، حيث تتراجع الإمبرياليات القديمة عن الهيمنة لينفتح أفق صراع عالمي جديد من أجل إعادة تقاسم العالم. لكن هذه المرة في وضع يتسم بدخول الرأسمالية ككل في أزمة عميقة ومستمرة، وبلا حلّ: أزمة هيمنة الأمولة. وفي عالم يكون فيه الإندفاع نحو الحرب خطيئة قاتلة بسبب امتلاك الأسلحة النووية، وهو الأمر الذي يفضي الى تغذية الحروب الإقليمية والتدخلات المباشرة في المناطق التي لا تثير حرباً كبرى (وسورية تقع هنا).