كل التيارات الأيديولوجية في سلة واحدة!
وسام رفيدي
الحوار المتمدن
-
العدد: 4758 - 2015 / 3 / 25 - 21:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كل التيارات الأيديولوجية في سلة واحدة!
مراجعة نقدية لكتاب: الخطاب العربي المعاصر- دراسة تحليلية نقدية لمحمد عابد الجابري
حول الكتاب: محمد عابد الجابري /الخطاب العربي المعاصر- دراسة تحليلية نقدية/ الناشر مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت -لبنان /عدد الصفحات 217 من القطع الكبير وبطباعة انيقة. صدر منه حتىالان خمس طبعات، الاولى سنة1982 والاخيرة سنة 1994 .
الكاتب محمد عابد الجابري وكما هو مثبت في التظهير من مواليد المغرب ، حاصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة سنة 1967 ودكتوراة الدولة في الفلسفة سنة 1970 من كلية الرباط في المغرب. يعمل استاذا للفلسفة وللفكر العربي والاسلامي في ذات الجامعة.
وهو مثقف ومفكر بارز ومتميز في قائمة المفكرين العرب المعاصرين نظرا لاسهاماته الاساسية في بحث المسائل الاكثر جوهرية في الفكر العربي المعاصر، وقد ظهر ذلك جليا في بحثه الكبير المعنون ب (نقد العقل العربي) من ثلاثة اجزاء كبيرة وله غيره حوالي 8 مؤلفات اخرى في قضايا التراث والدولة والتعليم والفلسفة . اما خلفيته الفكرية الايدولوجية فأرجئ الحديث عنها الى آخر عرضي هذا لكتابه.
مقدمة الكتاب / الافكار الرئيسية
يحدد الكاتب الهدف الاساسي من دراسته بالوقوف على الاسباب التي حدت بالخطاب العربي المعاصر ان يقف عند ذات القضايا التي بحثها منذ قرن ولا زال، يجترها ويعيد بحثها بنفس الطريقة كما يرى (ص10) معتبرا ان مدخله لذلك هو تحليل الخطاب نفسه لا مضمونه باعتبار ان سلاح النقد ينبغي ان يسبقه نقد السلاح ، السلاح هنا الخطاب -المنهج في استعارة لتعبيرات ماركس الكلاسيكية.
اما طريقة العرض فهي تقسيم الخطاب العربي المعاصر حسب مضمونه الى اربعة خطابات [الخطاب النهضوي- الخطاب السياسي- الخطاب القومي- الخطاب الفلسفي] لا حسب الخلفية الفكرية الايدولوجية لصاحب الخطاب نفسه، انما داخل الخطاب نفسه ينقسم الى اربعة خطابات -تيارات هي السلفي- القومي- الليبرالي- الماركسي معتبرا انها التيارات الابرز في الفكر العربي المعاصر [المقدمة وتحديدا ص16 منها]
وقد استعرض انواع القراءات الدارجة في الممارسة الثقافية العربية معلنا انحيازه للقراءة المسماة "بالتشخيصية" وهي ترمي "الى تشخيص عيوب الخطاب وليس الى اعادة بناء مضمونه" ص12 . اما من حيث المنهج فهو لا يقر باستخدامه منهج معين بل يستخدم مفاهيم تنتمي لمناهج عديدة سواء كانت لفوكو او فرويد او التوسير او ماركس معرفا المنهج بأنه "المفاهيم التي يوظفها الباحث في معالجة موضوعه والطريقة التي يوظفها بها" ص14. وهنا لنا وقفة مع قضيتين:
1. ان الكاتب كما سنلحظ لم يتوقف في كتابه عند حدود "تشخيص العيوب" بل انتقل منه في اكثر من موضع الى "اعادة بناء المضمون" ذاته لينتقل بذلك من النقد الابستمولوجي الى النقد الايدولوجي الامر الذي اكد عكسه تماما في مقدمته ص15. والتساؤل الذي ينتصب هنا هو هل يمكن الفصل بين النقدين، وبصورة ادق هل يمكن الا تنعقد صلة ما ولو خفية بين عملية نقد السلاح وعملية سلاح النقد؟
2. الكاتب يعلن الا منهج له، بل يأخذ مفاهيمه من كل المناهج ، الماركسية ، الفرويدية، الفوكومية، … منكرا ان هذه محض نزعة اجرائية او برغماتية بل معتبرا ان الموضوع ذاته يفرض منهجه او عدة مناهج او حتى توليفة منهج خاص به ص14.
من ناحية منطقية ابستمولوجية ان شئنا استخدام نفس مصطلحات الكاتب ، فليس هناك بحث بلا منهج ما حتى لو كان خفيا فطالما المنهج مفاهيم ولا بحث لا يستخدمها، فمنطقيا البحث يقتضي منهج! فاعلان تبني عدة مناهج هو منهجية تزعم انها فوق التصنيف الصارم للمناهج وللحدود فيما بينها، ولكنها بالنهاية منهجية توليفية او انتقائية …. وربما يعود لمحمود امين العالم الفضل في ادخال مصطلح المنهج التكاملي في الفكر العربي لينقله من حقل النقد لحقل الفكر ولينزع عن المنهجية التي تستخدم عدة مناهج تهمة الاجرائية او التوفيقية.
الكتاب:
الكتاب مقسم الى فصول هي ذاتها انواع الخطاب الاربعة (النهضوي/ السياسي/ القومي/ الفلسفي) وملحق فيها فصل خاص بعنوان (خلاصات وآفاق) وقد الحقه بقائمة للمراجع واخرى لفهرست الاسماء والمصطلحات ، سأستعرض كل فصل على حده ومن ثم اعلق عليه.
الفصل الاول /الخطاب النهضوي:
وقد قسمه لجزئين الاول بعنوان النهضة والسقوط والثاني بعنوان الاصالة والمعاصرة.
ينطلق بداية من تحديد الفارق بين موقع المصطلحين (النهضة والثورة في الفكر العربي عنهما في الفكر الاوروبي… باعتبار انهما في الثاني واقعين متحققين فيما في الاول طموحا لم يتحقق بعد. اما الاشكالية الاساسية الصحيحة بتصوري، التي واجهها العرب في لحظة الصراع الحضاري- الثقافي بينهم وبين الغرب فهي حصرا ان النموذج الاوروبي حمّل اليهم على محملين 1. "الحرية" (الايدولوجية الليبرالية) .2. والقمع (التدخل الاستعمارية) ص23 وهذا ادى للتناقض الوجداني لان ما قدمه النموذج الاوروبي لم يكن فقط متناقضا في جوهره بين المحملين بل وايضا لان مقابلة النموذج العربي يبرز للعيان امامهم كنموذج للركود والانحطاط.
الاتجاه السلفي ربط بين النهضة وقيادة البشرية تحت راية الاسلام حسب ابرز ممثل له سيد قطب ص24 اما الاتجاه القومي فهو يربط بين النهضة وبين حمل العرب "لرسالة للعالم" ص25 فيما فرانسيس مراش الليبرالي المتنور من القرن الماضي يرى الى ان انهيار الغرب قد ازفت ساعته، اما الاتجاه الماركسي الذي يؤكد الكاتب انه ايضا تنبأ بانهيار حضارة الغرب وارتباطها بالنهضة العربية فلم يأتي بشاهد على ذلك.
بعد ذلك يستعرض موقف الاتجاهات الاربعة من هزيمة حزيران سنة 1967 مركزا على التيار الماركس (ممثلا بميشيل كامل وغالي شكري) والتيار القومي ممثلا بأنطوان مقدسي وياسين الحافظ….
محتوى الكتاب
الكتاب موزع على مقدمة وخمسة فصول وقائمة بالمراجع وفهرست بالاسماء والمصطلحات فيه. وقد خلا من الوثائق وهذا طبيعي…
الفصول الاربعة الاولى هي انواع الخطاب العربي المعاصر ( الخطاب النهضوي/ السياسي/ القومي/ والخطاب الفلسفي) وكل فصل من هذه الفصول قسم لجزئين فقط هما عمليا قضايا الخطاب الجوهرية التي تتناولها فمثلا الخطاب النهضوي قسم الى اولا : النهضة والسقوط ثانيا الاصالة والمعاصرة.
مراجع الكتاب
هي تلك التي ينتمي اصحابها الى التيارات الاربعة المشكلة للخطاب العربي الحديث والمعاصر، فالكتاب ينتمون الى التيار السلفي/ القومي/ الليبرالي/ الماركسي… لذلك جاءت في اغلبيتها الساحقة مراجع عربية باستثناء مرجعين فقط، وقد توزعت مراجعة على كتب ودوريات تتناول قضايا فكرية هامة.
وبالاجمال وكنتيجة لطريقة الكاتب في القيام بجردية فكرية للتيارات الاربعة المشكلة للخطاب فقد تحقق التوازن في مراجعة ومصادرة، فهي بالاجمال تنتمي الى تلك التيارات باستثناء ملاحظة يمكن تسجيلها على استخدام ممثلين للفكر الماركسي لا اعتقد ان المنتمين لهذا الفكر يقبلون بهن كممثلين لهم في طرح الموقف الماركسي ( نسيب عز وكتابه فلسفة الحركة الوطنية التحررية…) فالكاتب مشوش من وجهة النظر الماركسية ولا يقدم سوى ماركسية بدائية جدا يسهل دحضها اضافة لكونه ليس من اعلام الفكر الماركسي ، انظر (ص49-54) . وملاحظة اخرى هي تركيزه على نماذج متطرفة للفكر الليبرالي ذهبت بعيدا في موقفها لدرجة يسهل دحضها ايضا (سلامه موسى تحديدا )وما يقال عنهما يقال عن الاستشهاد بالعفيف الاخضر ص138، صاحب الانتقالة العجيبة من "الثورة الدائمة على نمط التروتسكي" حتى التطبيع مع اسرائيل وتقديمه مع ذلك كنموذج لليسار.
الفرضية الاساسية للكتاب
قلت في استعراض المقدمة ان هدف الدراسة هو تحديد الاسباب التي حدت بالخطاب العربي المعاصر ان يقف عند ذات القضايا التي بحثها منذ قرن ولا زال يجترها ويعيد بحثها بنفس الطريقة كما يرى ص15 وهذا بسبب ان الفكر العربي مرتبطا بالممارسة لم يتمكن بعد من حل هذه القضايا . اما فرضيته الاساسية فهي ان مختلف التيارات العربية الحديثة والمعاصرة الاربعة تتشابك فيما بينها بمنهجية طرحها لخطابها وهي بالنهاية تعود في خطابها الى موقف واحد لانها تصدر عن نفس الاشكالية ص33 وهي عنده "نقد العقل" لانه كان من الاجدر البدء بنقد السلاح قبل استخدام سلاح النقد ص9 .القضية التي يناقشها الكاتب فريدة ولذلك فالكتاب بتقديري متميز ولذلك احتل مكانة هامة في الثقافة العربية في العقود الاخيرة… وواضح من حجم مراجعة وقراءاته المتنوعة والعديدة انه متمكن تماما من الموضوع الذي يتصدى له لذلك كان ينجح احيانا في التقاط الوشيجة التي تربط خطاب تيار بآخر تدعيما لفرضيته الاساسية ولكنه بتقديري اخطأ في :
1. حدد فرضيته مقدما شأن أي بحث علمي ولكنه اخذ احيانا يقولب التحليل ليصب في الفرضية وعلى مقاسها الى درجة افقدته العلمية بل واحيانا وقع في التشويه الصريح خاصة في مواقف التيارين القومي والماركسي والاخير على وجه الخصوص الامر الذي يثير ملاحظة صحيحة حول موضوعيته ونزاهته العلمية، وتدعيما لذلك احدد التالي:
أ. ص35 يزعم الكاتب ان ممثلو الخطاب الماركسي والقومي والليبرالي قد طالبوا بسقوط الغرب كحضارة كشرط لنجاح النهضة باعتبار ان السلفي يعتقد نجاح مشروع الاسلام النهضوي بمعزل عن سقوط الامبراطورية الرومانية والبيزنطية وبالتالي كان نجاحه مرهون بالسكوت عن سقوط الآخر وهنا يلتقي السلفي مع القومي والماركسي والليبرالي الذين يسعون ايضا الى تأكيد النهضة القومية العربية بسقوط الغرب.
هذا لا يقرأ الا بدهشة شديدة لانه بعيد تماما عن الحقيقة وفيه قدر من التشويه ، فانهيار الرأسمالية الحتمي "كموضوعة ماركسية دارجة في الادب الماركسي قدمت باعتبارها مناداة بانهيار الحضارة الغربية كشرط للنهضة العربية والكاتب على ثقافته الواسعة يدرك تماما الفرق الجوهري بين الرأسمالية كتشكيلة اجتماعية- اقتصادية ستزول حسب المنظور الماركسي وبين الحضارة كنتاج لمجمل الانتاج المادي والروحي الغربي على مدى التاريخ.
اما كيف يحمل نص الليبرالي ما لا يحتمل ليحشره هو الآخر في القالب الجاهز فعبر التحليل الغريب لجملة سلامه موسى ص25 [لا استطيع ان اتصور عصرية لامة شرقية ما لم تقم على المبادئ الاوروبية للحرية والمساواة والدستور مع النظرة العلمية الموضوعية للكون] لسنا في معرض نقاش القطعية هنا بل لنرى كيف قرأ الجابري النص [لن ينهض العرب الا بأمور نهضت بها اوروبا من قبل، من بينها ضرورة غياب كل منافس ومعترض ، الشئ الذي يعني غياب اوروبا ذاتها]. وحتى لدى ممثل "جيد" للماركسية العربية عبدالله العروي يسعى للدمج بين منجزات الليبرالية (الاصلية) والماركسية (المعاصرة) فهو يحاول دحض هذه الافكار عبر الاشارة لتناقض الجمع بين ماضي الغرب (الليبرالية) ومستقبله (الماركسية) وهي تبدو لي محاولة فاشلة تماما ص 50.
يتضح ان الفرضية التي اقامها (غياب الاخر شرط لنهضتنا) باعتبارها قاعدة منهجية للخطاب (الرباعي) ضعيفة وواهية.
ب.في حديثه عن نظرية "المستبد العادل" التي استقاها من محمد عبده تحديدا ص58 يقوم بموائمتها مع ما قدمه الفكر القومي والماركسي بعد سقوط المشروع الناصري من ضرورة الدمج بين الديمقراطيتين، السياسية والاجتماعية، اذ يربط بطريقة عجيبة بين الديمقراطية السياسية (الحاكم المستبد) والديمقراطية الاجتماعية (الحاكم العادل) فلا يجد في اليثاق القومي مثلا للناصرية غير صدى لشعار المستبد العادل لمحمد عبده!! بل ان طرح الدمج بين الديمقراطية يعبر عنده عن "شقاء" العقل العربي. لماذا؟ لان ممثلا للفكر القومي (ناجي علوش) قد فرغ الديمقراطية السياسية من بعدها التعددي واعادها للحزب الواحد ص95. بينما شبلي العيسى فيتحدث صراحة عن التعددية. اخذ علوش واستنتج ان الفكر العربي يرى في الديمقراطية السياسية هي ذاتها الناصرية ، وفي الحزب الواحد نقض ونقد التعددية.وترك شيلي العيسى جانباً.
ويزداد عجبنا من طريقة الربط "المنهجي" بين الديمقراطية السياسية والاجتماعية من جهة والمستبد العادل من جهة اخرى في رفضه للبلاغ الصادر عن كتّاب ومفكرين قوميين وتقدميين عرب في نهاية اعمال ندوة عقدوها في الرباط بعنوان "اشكالية الديمقراطية في الوطن
العربي" وتحديدا في اعتباره البند الاخير من البلاغ اثبات قاطع على ما ذهب اليه بأن شعار الديمقراطية هي صدى معاصر "للمستبد العادل" ايامنا وقد دعى البند الى "البحث عن صيغة ديمقراطية جديدة تسعى للتوفيق بين واقع التعدد والتنوع ، وبين الالتزام بأهداف التحرر الوطني والتوحيد القومي والتقدم الاجتماعي" .اما كيف ربط هذه بتلك فغير واضح بل مشوش ، شأن أي تفصيل للقضايا على مقاس القوالب.
2.في تحليل للخطاب القومي يعتبر ان التلازم بين الوحدة والاشتراكية في هذا الخطاب كان بفعل الصراع الذي خاضته الحركة القومية مع الحركة الشيوعية باعتبار الاخيرة ناهضت او اغفلت القضية القومية ص115 . ان الاخيرة اغفلت فهذا صحيح ولكن كيف يمكن تصور رد القوميون العرب على اغفال الشيوعيين لقضيتهم الاولى -قضية شعبهم- بأخذ جوهر ما لدى الشيوعيين (مشروعهم الاقتصادي، الاجتماعي أي الاشتراكية) !؟ هل لمجرد كونهم كانوا داخل الحركة الشيوعية فاختلفوا معها فأخذوا الاشتراكية حين هجروا حركتهم ليدمجوا بين الوحدة والاشتراكية..؟؟ هذا سيناريو يصعب قبوله ، بل هناك سيناريو آخر، اقدم ابرز معالمه:-
أ. العداء للاستعمار وبعد الحرب العالمية الثانية بدأ يأخذ طابع العداء للرأسمالية نتيجة اتضاح الصلة الوثيقة بين الاثنين ناهيك عن وضوح السمة الاقتصادية للمشروع الاستعماري وبالتالي فهذا فتح الطريق لتسلل النزوع الاشتراكي المعادي للرأسمالية للحركة القومية.
ب. ظهور المعسكر الاشتراكي ووقوفه الى جانب الحركة القومية عمّق من معاداة الحركة للرأسمالية
ج. طرح القضية الاجتماعية على جدول اعمال الحركة القومية (بفعل تأثير طرح الشيوعيين لها) وهذا يقر به الكاتب ص115.
3.يتناقض موقف الكاتب من ترتيب اولوية التأثير في نهوض النهضة القومية العربية: هل هو في العوامل الداخلية ام الخارجية.
في ص 108 يعتبر ان التهديد الخارجي ، وليس التطور الداخلي هو الذي كان المهماز الرئيسي الذي ايقظ،ويوقظ في نفوس العرب الشعور القومي ، هو الغرب دفعهم ودفعهم الى ربط التقدم بالوحدة ص111 ويدفعهم تأكيدا لما قبل ص108 وهنا يتشهد من الماركسي الياس مرقص السياسي بأن [تعميق التجزئة العربية هو القانون الموضوعي لعصر الامبريالية ، أي القانون الموضوعي لعمل الامبريالية في الوطن العربي] .لكل ذلك كان طبيعيا ان يقول اديب ديمتري (ماركسي مصري) ما نقل عنه الكاتب ص125 :بناء وطن حر الهدف الذي يستجيل تحقيقه دون تصفية الوجود الامبريالي في المنطقة وقاعدته اسرائيل….
ومع ذلك رفض الكاتب ذلك تماما مع انه ينسجم مع ما ساقه هو في ص 108 وفي ص111 من موافقته على ما كتبه الياس مرقص. وقبل ذلك سخر من ميشيل كامل (ماركسي مصري) حول دور الاستعمار والامبريالية في اجهاض محاولات النهوض القومي ، كما يسخر من صيحة مماثلة لياسين الحافظ (الاتجاه الماركسي في البعث) ص30+ص31 .
ان هذا التشوش نتاج الرغبة في حشر الاستشهادات في قالب لا يتسع لها.
4. يتركز نقده للجزء الثاني من الخطاب القومي (الوحدة ..تحرير فلسطين) على انه خطاب في الممكنات لا في الواقع. وتلك حجة غريبة تذكر بالمأثور المصري (احمر الخدين).ما مشكلة خطاب الممكنات؟! هل خطاب الاحلام الرومانسية افضل؟! ام الخطاب الاستسلامي المتلفع بعباءة الواقع والواقعية ؟! بل ومتى كانت برامج العمل الثوري غير (خطاب في الممكنات) كاستنتاج لتحليل احتمالات حركة الواقع السياسي التي تسمح بتوقع تحول الامكانية لواقع مستقبلي.
5. في تحليل لأثر هزيمة 1967 على الخطاب القومي يتناقض "خطابه" كما تناقض عند الحديث عن العوامل الخارجية والداخلية المؤثرة في حركة النهضة العربية.
ص37 يقلل بطريقة لا تليق بمفكر بأثر الهزيمة بحيث يعتبرها مجرد [ان العرب خسروا حرباً اخرى مع اسرائيل] ص37 معتبرا ان لا مجال لمقارنتها مثلا بهزيمة المانيا او اليابان في الحرب العالمية الثانية، ومستخدما هذا "التسخيف" ان جاز التعبير للرد على الخطاب العربي بعد الهزيمة وبعضه سقناه اعلاه (ميشيل كامل/ياسين الحافظ/ الياس مرقص) .
ص117 يعتبرها [احدثت تحولا هاما في الساحة العبية ، السياسية والفكرية] ، ص136 يعتبرها [بداية النهاية للتجربة الناصرية ، ولكنها كانت في ذات الوقت البداية الفعلية للثورة الفلسطينية ، وبالتالي كانت تدشينا للحظة جديدة ، لحظة ثالثة في تطور الخطاب القومي حول فلسطين]. لا يمكن عقد صلة منطقية بين حديث ص37 والصفحتين التاليتين.
والان لا بد من التطرق الى ما يعتقده الكاتب حداً لافتقاد [الذات العربية المعاصرة الى ما عبر عنه غرامشي بالاستقلال التاريخي التام، او بالاحرى عجزها عن تحقيق الاستقلال] ص 204 ويعني فيها تحديدا خروج الخطاب من اللهاث وراء أي نموذج ،سلفي، او اصل . وذلك عبر الاتجاه (أي اتجاه الاستقلال التاريخي) الى الواقع المعطى وليس الى الواقع المأمول وحده.
وبالنسبة له ان الذي افقد الذات استقلالها التاريخي التام هو انجذابها دائما الى صيغة نحن (النموذج العربي الاسلامي) والاخر [النموذج الاوروبي] .
وواضح ان الخطاب العرب ايا كان نوعه وايا كان التيار الذي نتيجه كان محكوما كما يظهر في الكتاب فعلا بالعلاقة مع النموذجين ، اذ ان بداية تشكل الخطاب الحديث وبعده المعاصر كان في الصدام مع الاخر ، خطاب وممارسة.
يطرح التحرر من الغرب " أي التعامل النقدي مع ثقافته [ بقراءتها في تاريخيتها وفهم مقولاتها ومفاهيمها في نسبيتها] . كما يطرح "التحرر من الذات" أي [ امتلاكه ومن ثم تحقيقه وتجاوزه]وبهذين المفهومين يتحقق غياب الاخر كشرط للنهضة.
اما تعليقي على ما ذهب اليه فهو التالي:
الشرطية في الفكر هي ازاحة ما . وكل مضمار كتابه كان حول اشتراط غياب الاخر (ازاحته) لنهضتنا القومية وهو غياب لم نجده كما زعم عند الليبرالي والقومي والماركسي. وهو يعود لازاحة من نمط أخر ، ولكنها تتحايل بصيغة لغوية غير قوية وقد تقود الى احد نتيجتين :أ. الارتباط بالغرب عبر قراءته وليس من رافض لذلك الا السلفي .ب. شطب التراث عبر تجاوزه ولا يرضى ذلك الا المتغرب. وفي الحالتين اما الارتباط او الشطب فازاحة لتاريخ هذه الذات.
الكاتب الذي يدعو للتاريخية والنسبية لم يفعل ذلك مع 3 قضايا اساسية:
1. شعار محمد عبده (المستبد العادل) في تاريخيته (والنسبية ليست سوى وضع القضية في تاريخيتها منهجيا ) خطوة اصلاحية جذرية في التصدي للمؤسسة الدينية السلفية المحافظة وكذلك للتحدي الحضاري.. ومن المظلم حقا لهذا المفكر سحبها من هذا التاريخ ومحاكمتها اليوم ارتباطا بالخطاب المعاصر.
2. الاشتراطات التي كانت تساعد في الفكر القومي بين الوحدة والحرية والاشتراكية…انتهت حتى اواخر الستينات على الاقل تساق بتحول اتجاهات قومية لمواقع ماركسية (القوميين العرب وبعض تيارات البعث) ولم تعد قائمة. وبالتالي لا يجوز تناولها كشاهد الا من قدرة الخطاب على نقد نفسه، وقد فعل . اما الجابري فتناولها كشاهد على قضية لا زالت قائمة حتى الان في الفكر العربي .
3. الخطاب الماركسي في الذات ممثلا بحسين مروه اكثر ما ميزه بتصوري هو نسبيته وتاريخيته ولو تناول الجابري هذا الخطاب انطلاقا من تحليل منهجه في مقدمة الكتاب ص1-ص174 (النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية) لكان أعفى نفسه من طرح موضوعة التحرر من الذات في سبيل تحقيق الاستقلال التاريخي التام، فمروه عبر تاريخيته 0ماركسيته) تحرر من القراءة المتافيزيقية للذات وقرأة بالاستناد للوضع التاريخي… ومن غير المفهوم لي ما الذي لم يعجب الجابري هنا ، بغض النظر عن صوابية هذا الاستنتاج او ذاك لمروه ، فتلك قضية اخرى.
ص36 هناك فقرة ملفته للنظر تظهر مدى لا نزاهة الكاتب في التعامل مع خطاب التيارات المختلفة وخاصة الماركسي. يقول في تحليله لوضع قضية (سقوط الغرب) كشرط لنهضة العرب، [ان طرح القضية انطلاقا من تحليل موضوعي واقعي وعلمي، سيحول المشكل الذي يعانيه العرب من مشكل صياغة (حلم مطابق) للنهضة الى قضية التحرر الوطني والخروج من وضعية التبعية والتخلف]. هل يمكن اعتبار هذا اكتشافا "للجابري ضد الخطاب الماركسي ، وحتى القومي الناصري والبعثي"؟ بالتأكيد لا. فحتى المصطلحات هي من قاموس الفكر الماركسي العربي وتحديدا مدرسة سمير امين في التخلف الناتج عن التبادل اللامتكافئ (وهو من اشهر الاقتصاديين الماركسيين في العالم. وما كل جوهر النضال القومي العربي (لتياريه الوطني القومي والماركسي) في العقود الاخيرة الا طرحا لقضية التحرر الوطني ( بغض النظر عن آلية الطرح ونجاح المشروع في مصر واليمن وفلسطين ولبنان…
وبالتالي اين اشكالية الطرح الماركسي حول التحرر الوطني والتبعية والتخلف؟
منهج الكتاب
منهجه كان تحليل الخطاب لا مضمونه وبالتالي عدم التعليق على هذا المضمون فقط تحليل اتساقه المنطقي الداخلي . اجمالا التزم بذلك ولكنه احيانا كان ينجر لنقاش مع التيار الماركسي خاصة مع نسيب نمر (ولنا ملاحظة حول انتماءه للتيار )وحسين مروه. اما وجهة نظره فمدعمة بكثير من القراءات ولكن مستثمرة بطريقة خاطئة هدفها حشر التيارات الثلاث (الليبرالي والقومي والماركسي) في ذات القالب مع المنهج السلفي القائم على اعتبار شطب الاخر وتغيير العقل وعدم نقده في الخطاب.