اليسار وبنية التنظيم السري
وسام رفيدي
الحوار المتمدن
-
العدد: 4746 - 2015 / 3 / 12 - 22:04
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
اليسار وبنية التنظيم السري
الجبهة الشعبية نموذجاً[1]
تجد موضوعة التنظيم السري، البنية السرية بمعنى آخر، تأصيلاً واسعاً لها في التراث الغني لليسار العالمي، بشقه الماركسي، على تنويعاته. فمنذ ظهور البواكير الأولى للبرنامج العمالي الداعي للاستيلاء على السلطة والإطاحة بسلطة البرجوازية، وبناء حزب ثوري للعمال، كما في قرارات المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي، منذ ذلك الحين، والبنية السرية حاضرة على جدول أعمال اليسار الثوري.
وعليه يمكن الافتراض أن موضوعة البنية السرية ارتبطت بمتغيرين اثنين: بناء الحزب الثوري بالمفهوم اللينيني، أي هيئة الأركان للثورة، والبرنامج الثوري للعمال بالاستيلاء على السلطة وبالتالي استهداف الحزب بالقمع والملاحقة.
لذلك غدا من نافلة القول الحديث عن أن البرنامج يحدد شكل التنظيم، ومتضمناً في هذا البرنامج شكل النضال. وللتحليل المستند للتراث النظري الماركسي من أن البرجوازية لا تتخلى عن فردوسها بسهولة، وهو تحليل لا ينقصه الدلائل التاريخية على أية حال، وكذا لغياب المؤسسات الضابطة لانتقال السلطة بشكل سلمي، انخرطت الأغلبية الساحقة من الأحزاب الشيوعية واليسارية في النضال السري ضد الطبقات الحاكمة وضد الإمبريالية في ملحمة سطر التاريخ بطولاتها رغماً عن كل التراب الرجعي الذي يهال اليوم على كل ما هو مشرق في هذا التراث.
وعليه لم تكن تجربة اليسار الفلسطيني بمقطوعة الجذور عن التراث الغني لليسار الفلسطيني والعربي والعالمي، ومع ذلك حفرت تراثها الخاص المستجيب لخصوصية الواقع الفلسطيني.
البدايات المتعثرة
إن هذه الورقة وإذ تتناول بالقراءة تجربة حركة المقاومة من خلال الجبهة الشعبية في الوطن كحالة، إلا أنها، إلى حدٍ ما، تبلغ في قراءتها حدود تطابق استنتاجاتها مع التجارب الأخرى لفصائل العمل اليساري الفلسطيني وتحديداً مع الجبهة الديموقراطية.
منذ العام 1967 وحتى نشوء أول تجربة مركزية متعثرة في العام 1976 يمكن على العموم وصف بنية التنظيم بأنها تجمع بين متغيرين اثنين: ثوريتها وتضحويتها وإخلاصها من جهة، ومن جهة ثانية افتقارها لنظرية في البناء الحزبي تؤهلها لتركيم التجربة بكل تشعباتها.
في قطاع غزة ردت الجبهة على الاحتلال بعد العام 1967 ببناء تنظيم عسكري وتسليح المئات من أعضائها جنباً إلى جنب مع جنود جيش التحرير في القطاع ولاحقاً القوات الشعبية، وقد لعب التنظيم العسكري في حينه بقيادة الشهيد محمد الأسود( جيفارا غزة) عضو المكتب السياسي دوراً بارزاً وطليعياً في النضال المسلح ضد الاحتلال.
لكن هذه البطولة كان يعتريها نقص خطير متعدد الأبعاد: لا بنية تنظيمية تحتضن العمل العسكري وترفده وتحميه بتقنيات سرية، ولا نظرية للبناء الحزبي محددة الأصول والقواعد ومستندة للتجارب السابقة من جهة، وقادرة في آن واحد، على تطوير نفسها من جهة ثانية. فكانت خلايا التنظيم إما تعتقل أو تستشهد دون تراكم بناء وتعويض عن النقص الحاصل في المقاتلين، الأمر الذي مكن الاحتلال، مدعوماً بضرب المقاومة في الأردن وقطع إمدادات غزة بالتالي، من تصفية ظاهرة الجبهة في القطاع ومعها تنظيمها الأولي.
أما في الضفة فكان الحال يختلف بعض الشيء وإن اتفق في الجوهر. استند تراث التنظيم هنا لكادرات أساسية تحدرت من تنظيم القوميين العرب( وفي هذا تتلاقى تجربتي الشعبية والديموقراطية) واستندت لامتدادات جماهيرية أولية تمثلت في اتحاد طلاب فلسطين الذي تمتعت فيه الجبهة بنفوذ واسع..ولكن بذات الوقت كان مقتل العمل التنظيمي باستمرار غياب نظرية في البناء الحزبي تؤكد قبل كل شيء على تراكم التجربة وحمايتها من التصفية. كان طابع النضال الأساسي، بل والوحيد، طابعاً عسكرياً، وألقى التنظيم في الخارج بثقله لبناء حركة عسكرية شبيهة لتلك التي في غزة، ورفدها بكادرات وقيادات من الخارج، منهم الشهيد أبو علي مصطفى. وبعد تصفية المقاومة في الأردن تأثر النضال في الضفة شأن النضال في غزة، علماً أن التجربتين لم يربطهما غير علاقة كل منهما بقيادة التنظيم في الخارج لا تنظيم مركزي في الوطن يجمع الشقين الضفة والقطاع.
بعد ذلك استمرت محاولات حثيثة لبناء تنظيم، كانت في أغلبها محاولات أنوية صغيرة ليست ذات امتداد جماهيري سرعان ما يكتشفها الاحتلال ويقوم بتصفيتها بوحشية.
إن السمة البارزة لبنية التنظيم السري حتى أواسط السبعينات هي غياب نظرية محددة لبناء التنظيم، نظرية تستند لأس وقواعد مختبرة وتملك القدرة على تطويلا آليات جديدة تتناسب وتجربتها، بما يكفل، وهذا هو الأهم، ضمان مراكمة تجربة البناء السري وعدم تصفيتها. ومع كل ذلك كان التوجه للعمل الجماهيري العلني، أو حتى شبه العلني يكاد يكون معدوماً باستثناء المشاركة في لجان العمل التطوعي، كمنظمات طوعية جماهيرية محدودة القاعدة، ولكن دون سياسة حزبية تجاه هذا الشكل من العمل.
تجربة العمل المركزي الأولى
منذ العام 1975 شرعت الجبهة الشعبية ببناء تنظيم مركزي في الوطن ببنية سرية سعت لأن تستجيب لمتطلبات المركزة من جهة ومن جهة ثانية لتستفيد من تراث الجبهة على هذا الصعيد. كانت قواعد السرية ذات طابع أولي في التجربة شأنها شأن طابع المركزة أيضاً. لم تكن المركز تعني سوى قيادة مركزية موحدة، ونشرة داخلية واحدة، أما مفردات من نوع وحدة السياسة التنظيمية والجماهيرية والتربوية....على مستوى الوطن، بحيث يتم القضاء على النزعة الحلقية المناطقية ويتم بناء نزعة مركزية تسري في أوصال المنظمات والخلايا فقد كان غائباً. وغياب هذه النزعة لا يمكن أن يُعزى إلا إلى محدودية الثقافة التنظيمية بالمفهوم اللينيني، أو لنقل غياب القدرة على اشتقاق ثقافة تنظيمية مستندة لنظرية الحزب اللينينية وقادرة على ملامسة الواقع الخاص. كان كتاب ما العمل مثلاً للينين ذات تأثير سحري على كادر تلك الفترة، ولكن دون القدرة على إعادة تمثل الفكرة اللينينية الجوهرية( منظمة مركزية لا منظمات حلقية) في الواقع الخاص في المنظمة. إن هذه الفكرة تحيل على معضلة العمل اليساري ككل في فلسطين: كان يتمثل التراث الماركسي، ولكن لا ينتج ثقافة ماركسية، فيغدو التمثل والحال هذا شكلياً وحفظياً فحسب. إن هذا التقييم لتجربة 1975- 1976 لا يعني الحض من جراءتها في النزوع لبناء منظمة حزبية موحدة في الوطن، رغم ما كانت تعانيه الجبهة من ملاحقات دامية، جراءة تمثلت بأن قدمت التجربة على مذبحها الشهيد محمد الخواجا الذي استشهد في أقبية التحقيق ليصون أسرار تلك التجربة التي صفيت تقريباً بالكامل.
مطلع الثمانينيات..آفاق جديدة في العمل السري والحزبي
كان من تداعيات تصفية تجربة العام 1975 أن توقفت الجبهة أمام تجربتها ككل في الوطن. إن السؤال الذي طُرح بقوة في حينها كان التالي: ما الضمان لعدم تصفية التجربة من جديد وبناء المنظمة المركزية من جديد. إن أول رد على تصفية التجربة كان بالتمسك بقرار بناء منظمة مركزية وعدم العودة للحلقية والمناطقية، ولكن مع وضع سلسلة من الأس والقواعد لضمان تراكم التجربة. وهنا، هنا بالذات، كانت أهمية طرح محددات ثابتة، لا مساومة عليها، لضمان تراكم التجربة.
كانت كل مصيبة التنظيم السري، إن جاز التعبير، هي تصفيته قبل أن يقف على قدميه، ليبنى من جديد وليصفَّى من جديد...فأضحت الصورة واضحة بعض الشيء، بعد سلسلة من الآلام والعذابات دفعها المئات من الرفاق من حريتهم : عدم تسليم المفاصل الأساسية للاعتقال لضمان التركيم الكادري وتجربته من جهة وطرح موضوعة الموقف في التحقيق من جهة ثانية.
كان (العرف الدارج والمقيت في آن) أن من يُطلب للاعتقال يسلِّم نفسه، وفي أفضل الأحوال يقطع النهر، علماً أن حالات فردية طلعت للجبل كمطاردة سرعان ما اعتقلت في أواسط السبعينيات.
أما العرف الآخر، الذي لا يقل مقتاً، فكان الصمود لثمانٍ وأربعين ساعة ليتمكن الآخرون من قطع النهر. وفي هذين الجانبين بالذات، تسليم الذات والاعتراف، كانت الضربة الحزبية الأولى التي أصبحت مختبرة فيما بعد كأبرز مفاصل الحفاظ على البنية السرية متواصلة دون تقطع.
وعليه كانت مفاصل بناء منظمة حزبية سرية تندرج في عناوين بُدء العمل بها، ولا يعني أنها كانت مكتملة كمفاهيم وسياسات، بالتالي جاهزة، بل تبلورت أكثر فأكثر عبر التجربة، صاغت نفسها، كعناوين، مراراً، حتى أمكن في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات الحديث عن بينة يستحيل تصفيتها على حد تعبير ضباط مخابرات العدو.
عناوين البنية السرية
الموائمة بين السري والعلني وتغليب السري على العلني.
أشكال التنظيم السري والعلني مقولة لينينية بامتياز، وبهذا المعنى فهي ليست من اختراع الجبهة الشعبية أو اليسار. ولم يكن النقاش يدور يوماً حول أهمية الموائمة بين السري والعلني في أشكال التنظيم، فالتنظيم الذي يمارس العمل المسلح ويواجه جهازاً استخبارياً قوياً يلاحقه لا يمكن أن يركن لغير العمل السري لحماية أعضائه من البطش. لذلك كان النقاش دائماً يدور حول الفهم الصحيح لمقولة قيادة التنظيم السري للبنية العلنية، وإلى مدىً تتجسد تلك القيادة. وهنا بالذات تكمن، بتقديري، إحدى الإشكاليات التي طبعت مسيرة الجبهة. أن تكون المفاصل الأساسية سرية وكذا القيادة الحزبية، المركزية والمناطقية، فهذا مفهوم، ولكن النزوع العالي لتأكيد قيادة السري للعلني أثر سلباً على اتجاهات أخرى في العمل الحزبي، وباتت، بالتالي، تسم الجبهة بسماتها.
حتى سنوات عديدة كان لفهم العلاقة بين السري والعلني أن يهمش إلى حدٍ كبير من دور الرفاق والمنظمات الجماهيرية والعلنية وشبه للجبهة. لقد تزامن بداية تشكيل الجبهة لمنظماتها الجماهيرية مع توجه قوى اليسار المختلفة( وهنا كان الشيوعييون قطعاً سباقون على الشعبية والديموقراطية). لم يُطرح تشكيل المنظمات الجماهيرية في البداية كمنظمات للكفاح الطبقي/ الاجتماعي، بل طُرحت كتيار ساتر لحماية الرفاق والمنظمة السرية. على الأقل كان هذا نص القرار لتشكيل جبهة العمل الطلابي في نهاية السبعينيات. وفي أحسن الأحوال طُرحت كرافد للعضوية الحزبية في نسخ معروف لدور منظمة الشبيبة الشيوعية كرافد للحزب الشيوعي في الحركة الشيوعية. من المفهوم أن أية منظمة جماهيرية هي بالضرورة رافد للحزب بالعضوية، ولكن أن تؤسس لهذا السبب حصراً فهذا سيضعف من دورها الاجتماعي الطبقي. لم يكن دائماً النضال الوطني هو السبب الذي همش المسألة الاجتماعية في توجه وبرنامج الجبهة بل وأيضاً التمييز في السياسة الحزبية بين السري والعلني بحيث تجاوز هذا التمييز حدود الأولوية ليطال التهميش، المقصود أو غير المقصود سيان.
وهذا التمييز طال سياسة توزيع الكادرات الأمر الذي ترك تأثيره اللاحق على قدرة الجبهة على تقديم قيادات على المستوى الوطني يعكس حضورها ومكانتها وتاريخها محتوى كفاحية وبرنامج الجبهة.
والنتيجة الأولى تقود للنتيجة الثانية، وهي الضعف الملازم للجبهة في طرح المسألة الاجتماعية. كان للمنظمات نشراتها ونضالاتها الاجتماعية وتحديداً الطلاب والعمال( وربما الأولون تميزوا أكثر) ولكن لم يكن هذا ليكفي لتكون المسألة الاجتماعية في الصلب من عمل المنظمة. وهذه القضية الأخيرة تترجم في مفاصل أساسية: شروط العضوية( كانت أقرب للعضوية الحزبية لدى كافة المنظمات الجماهيرية)، تربية الكادرات داخل المنظمة على المسألة الاجتماعية بنفس مستوى المسألة الوطنية، تحيد سياسة تحالفات تتفق والمسألة الاجتماعية ولا تتفق بالضرورة والمسألة الوطنية....إن هذه النقيصة تركت تأثيرها الللاحق على مصداقية حقيقة الترابط، الذي كانت الجبهة تركز عليه نظرياً، بين البرنامجين الوطني والاجتماعي، بحيث غدا تأكيداً نظرياً أكثر منه عملياً يترجم في سياسات حزبية.
التمايز في تجربتي المراكمة وحماية التنظيم السري
وليس التخفي والصمود في أقبية التحقيق سمتان مقطوعتا الجذور في الساحة الفلسطينية. فتجارب اليسار الفلسطيني والعالمي حافلة بنماذج رفض تسليم الذات للاعتقال والصمود في أقبية التحقيق، وبالعكس فالجبهة افتتحت تربيتها لكادرها على هذا الصعيد في مطلع الثمانينيات بأسماء انطبعت في ذاكرة الرفاق: فوتشيك، إبراهيم نُقدن محمد الخواجا، عربي عواد، سليمان النجاب، الشفيع، محجوب...ولكن ما ميز تجربة الشعبية هنا عدة بصمات أساسية طبعت تاريخها:
الانتقال للتخفي لقيادات وكادرات لسنوات طويلة وبالتالي عدم المساس بالمفاصل الأساسية للتنظيم ما كفل مواصلة التركيم وبالتالي الحفاظ على سريان السياسة التنظيمية، بتشعباتها وخبراتها لسنين دون تقطع. والعلاقة جدلية تماماً بين البنية التنظيمية وبين التخفي: من جهة لا يمكن ضمان نجاح التخفي دون بنية حماية حقيقية( وبرنامج سياسي متصادم أيضاً) وبنفس الوقت من جهة ثانية لا يمكن بناء بنية حقيقة دون ضمان تراكم التجربة وسريان تاريخي لمكونات السياسة التنظيمية دون تقطع أساسي. أما كيف جرى التوفيق بين هذين فراجع لحنكة القدرة على الحفاظ على التخفي لبناء المنظمات التي ستشكل لاحقاً بنية متينة لاستيعاب أعداد أخرى من الكادرات المتخفية، وهذا ما نجحت به الجبهة بامتياز.
أما ما ميز التربية على الصمود في أقبية التحقيق فقد كان تحولها، بالملموس، لضمانة لحماية المنظمات. يمكن الحديث مطولاً عن تقنيات وإجراءات العمل السري، ولكن يبقى المحك الأخير، القلعة الأخيرة هي ببساطة: هل يتحرك اللسان أم لا؟ وعلى هذا المتغير يقف مستقبل المنظمات برمتها. إن ما بدا تربية "حادة وقصوية" تجسدت في شعار (الاعتراف خيانة) لعب دوراً تربوياً وتحشيدياً هائلاً في ضمان حماية المنظمات والأسرار ناهيك عن أن الجبهة بالتحليل النهائي لم تعامل المعترف كخائن! ولهذه التربية ولتجسيدها من قطاع بات يتسع عند لأعضاء في الثمانينيات ومطلع التسعينيات ميزة تحولها لقيمة شعبية لا حزبية فحسب، مارست تأثيرها على قطاع الأصدقاء ومناضلي القوى الأخرى، ولم تقتصر على حالات فردية كما الحال في السبعينيات أبرزها علي الجمال والشهيد محمد الخواجا...
§ البنية السرية كبنية شمولية
يغلب الاعتقاد أن البنية السرية هي محض إجراءات وضوابط وقواعد تقنية وفنية يجري التمسك بها بحرفية كي لا تنكشف أسرار الحزب ومناضليه. إن البنية السرية هي هذا وغيرها الكثير. من زاوية الإجراءات يمكن وصف السرية بأنها السعي الحثيث لتقليل الصدفة القاتلة من جهة، ومن جهة ثانية النجاح في معرفة طريقة تصرف العدو والتغلب عليه، أو كما وصفها لينين " قدرة الكادر على الضحك على ذقن الدرك ". ولكن من هذه الزاوية لا يمكن التعويل على الإجراءات والتقنيات السرية فحسب، بل بالأساس على الصمود في التحقيق والاستعداية للانتقال للتخفي، إذ أن المقاومة مهما بلغت من تقنيات العمل السري فالتكنولوجيا الأمنية أقوى وأعظم شأناً. على الأقل هذا ما ظهر في الهجوم الواسع الذي تم على امتدادات الجبهة في حملة 21/1/1992 التي أسماها الاحتلال الذئب والحملان.
وفوق ذلك فالبنية السري، إذ شكلت البنية الأساسية والطاغية في عمل الجبهة فإنها غدت والحال هذا تطلع بمهام وتقود كل تشعبات العمل الحزبي، الفكرية والكفاحية والسياسية والجماهيرية والتثقيفية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه التشعبات وإن تم ضمان سريانها في بنية التنظيم لسنين بشكل متواصل نتيجة ثبات نسبي معقول للقيادة والكادر السري، إلا أنها قد تكون، بطبيعتها هذه، لعبت دوراً في الحد من الاستفادة من كفاءات خارج بنية العمل السري، ثقافية وجماهيرية...وقد تكون هذه إحدى الأسباب التي ميزت هجرة الكفاءات والمثقفين بعد تراجع اليسار ككل. هذا محض اجتهاد لا أكثر.
§ ارتباط شكل التنظيم بطبيعة المهام
إنطلاقاً من المقولة اللينينية المختبرة ( جهاز يخدم سياسة لا سياسة تخدم جهاز) فقد تمكنت الجبهة من تنويع أشكال الصلات التنظيمية بما يتناسب والمهام المحددة للامتدادات الحزبية. النقطة الأبرز هنا كانت في الانتفاضة الأولى التي امتحنت ممكنات كل القوى السياسية وبناها التنظيمية. لقد داهمت الانتفاضة الجميع بعفويتها، ولكن قيادتها اللاحقة أمر محسوم في تأريخها. والأهم أنها اختبرت جاهزية القوى من الناحية التنظيمية على استيعاب عشرات الآلاف من الراغبين بالالتحاق بالتنظيمات، من العمال والطلاب والمثقفين، الأمر الذي استدعى فحص متغيرين اثنين: الأول مدى جاهزية البنية لاستيعاب هذا الإقبال الجماهيري على الانتظام، والثاني قدرة البنية على التطوير السريع لنفسها استجابة لبروز كادرات جديدة.
بالنسبة للجاهزية وفرت البنية السرية التي تنامت في الثمانينات القدرة على ذلك علماً أن الانتفاضة داهمت الجبهة وهي بالكاد تخرج من الهجمة الموجعة في العام 1975. ولكن سياستي حماية الذات من الاعتقال والصمود في التحقيق كفل لها الجاهزية لفتح أبواب الحزب لتوسعات لم تكن تخطر بالبال. لقد سُمع حينه في الحزب أصوات تدعو( للتريث والتعقل) من فتح الأبواب، خشية المس بالوضع الأمني، ولكن الثقة بالبنية السرية والضغط الصديق للالتحاق كانا أقوى. والأهم كانت الثقة بالكادر لا حدود لها إلا الصلابة الأمنية والإنجاز في الميدان، فجرى حراك واسع في البنية الكادرية ( وتلك ديموقراطية ثورية بمعنى ما) وتحمل مهاماً واسعة ومنح الثقة الكاملة، ومن لم يتمكن من التجاوب السريع مع المتغيرات من (الرعيل القديم) نُحي دون تردد فالبنهاية فالثقة بالشباب المنجِز والصلب هي الأصح لا التمسك بأسماء لامعة لا تقوى على الحراك!
أما بالنسبة للمتغير الثاني( قدرة البنية على التطوير السريع) فيحضرني هنا القرار الجريء الذي قضى بتحويل الخلية من محض مجموعة من الأعضاء (3-5 أعضاء) إلى مؤسسة كاملة تقود تفرعات سياسية( لجان للعلاقات) ولجان انتفاضية( لجان مقاومة ولجان شعبية) ولجان عمالية ونسائية... الأمر الذي اقتضى ترفيع سريع لكادرات منجٍزة وصلبة أثبتت على العموم صلابتها في هجمة عامي 1991 و1992، ونفس الشيء يقال عن توسيع اللجان الحزبية للمنظمات القطاعية وتفريخ منظمات جديدة وإعادة تقسيم المناطق الجغرافية...كل ذلك ما كان يمكن ليتم دون جاهزية البنية السرية التي بنيت على مدار الثمانينيات.
§ التناقض في العلاقة بين السري والعلني
وما بدا مظهراً سلبياً تمثل في طغيان المسألة الوطنية على المسألة الاجتماعية في برنامج وبنية المنظمات الجماهيرية تحول ليغدو عنصر قوة باندلاع الانتفاضة التي عنت تسلل المسألة الوطنية لكل بيت. فهذه التركيبة وتلك البنية وفرت معيناً ليس للعضوية الحزبية فحسب بل للنضال الوطني على العموم، شأن كافة التنظيمات السياسية، فلم يجد التنظيم السري أية صعوبة في قيادة الفعل الكفاحي للجبهة من خلال تلك المنظمات. وبعل هذه التركيبة وتلك البرامج، وبعد إغلاق الجامعات مثلاً كان من السهل على عضوية المنظمة الطلابية الديموقراطية أن تنخرط أن تعيد تنظيم علاقات أعضائها في الأرياف والمخيمات دون عناء، بل وتبني منظمات حزبية جديدة. إن هذا الملمح الإيجابي، وبع تراجع الانتفاضة وقدوم السلطة تحول لملمح سلبي تماماً. فقد تفككت المنظمات الجماهيرية عملياً لأنها عجزت بحكم ذات البنية والبرنامج عن إعادة صياغة نفسها كمنظمات اجتماعية. ما عاد طرح المسألة من أساسها: إن بنية تصلح لمهمات انتفاضية لن تصلح ذاتها لمهام اجتماعية. واليسار هنا كان عاجزاً عن إدراك هذا المتغير وإعادة، لا بناء منظماته فقط، بل وبناء بنية تنظيمية تستجيب لمتغير جديد: ازدياد ثقل المسألة الاجتماعية واستمرار الصراع مع الاحتلالن فأولى اهتماماً عالياً، من حيث الشكل لا أكثرن للبنية العلنية، المكاتب والألقاب العلنية وطل ما صاحبها، دون الاهتمام بالمحتوى، البنية والمهام والتثقيف والتربية والأهم إيجاد الصلات مع القطاعات الجماهيرية في زمن متغير كثيراً.
خلاصة
إن الجبهة الشعبية والتي نجحت بامتياز ببناء بنية سرية عانت سياستها التنظيمية من إشكاليات جدية في العلاقة بين شكلي التنظيم العلني والسري الأمر الذي أثر على مفردات العمل الجماهيري، منظمات، برنامج وكادرات. إن أية محاولة لإعادة تأسيس اليسار الثوري، ولا بد أن يكون موحداً ، سيكون عليها حل هذه المسألة حلاً يتناسب والمتغيرات الجديدة، فكل موضوعة العمل السري تكمن هنا بالذات، في العلاقة بين السري والعلني.
[1]- مقالة نُشرت في كتاب حول اليسار الفلسطيني اصدار مركز منيف البرغوثي الثقافي- فلسطين