إسرائيل تحاول ضرب الوحدة الوطنية والدينية للمغرب من خلال العودة لتفجير اللغم الإثني.
لطفي الإدريسي
2010 / 10 / 2 - 04:57
بداية يمكن القول بأن الإهتمام الأجنبي "بالمسألة البربرية"لم يكن يوما حديث العهد ونبرهن على ذالك من خلال البحوث والدراسات التي ثم إنجازها في نفس السياق حول البلدان المغاربية بصفة عامة والمغرب بصفة خاصة .وسنتطرق بالدرس والتحليل في هذا البحث إلى ثلاث نماذج ترجع كلها إلى مرحلة ما قبل احتلال الجزائر( 1830) (1)؛ وهي دراسات تؤسس لبداية التصور الأوروبي والفرنسي تحديدا حول (المسألة البربرية). فقد ركزت الكتب الثلاثة على مسألة تشبث "البربر" أو (الإمازيغن) بأعرافهم ولهجاتهم وعاداتهم، مع نزوعهم الراسخ نحو الحفاظ على استقلالهم في إطار كيانهم القبلي "وهويتهم البربرية"؛ ولعل هذا ما يفسر "حقدهم" على العرب وبالتالي عداءهم للمخزن (العربي الإسلامي) الذي ينظرون إليه كمحتل غاصب.
لكن إذا كانت هذه هي البداية، فإن "المسألة البربرية" ستعرف أوجها بعد احتلال الفرنسيين للجزائر (1830)، حيث سيتم تطوير أطروحة الصراع تلك بين العرب و"البربر" وتعميمها على مرحلة هامة من تاريخ المغرب ومجتمعات شمال إفريقيا. ومن هذا المنطلق، أصبح تاريخ هذه المجتمعات هو تاريخ صراع بين العرب و"البربر"، كصراع يمكن التأريخ له منذ أول دخول عربي إلى المنطقة في إطار عملية غزو منظم. وكما يذهب أحد المؤرخين الكولونياليين،إلى القول بأن "البربر" لم يقبلوا أبدا بهذا الغزو، بل قاوموه بكل الوسائل المتاحة ونجحوا في ذلك بين الحين والآخر. وفي نفس الصدد: "وقد وفق البربر المعتصمون بالجبال في مقاومتهم لعزم سكان السهول على تعريبهم، منذ أن شرع في ذلك إدريس الأول في القرن الثامن. وعاشوا دائما
في حالة حصار، ولم يمنعهم ذلك في أن ينزلوا من حين لآخر كتلا بشرية لا سبيل إلى صدها، يقودها مؤسسو الإمبراطوريات" (2). وفي هذا الإطار، يدرج الباحث تجارب كل من المرابطين والمرينيين باعتبارهم من البربر، إلا أنه قد ركز أكثر على تجربة (المرابطين) التي كادت – في اعتقاده – أن تحقق وحدة المغرب في إطار "دولة بربرية" صنهاجية وذلك في القرن (11م).
لكن لم يسجل التاريخ للبربر أن يحافظوا على استقلالهم هذا في إطار "دولتهم البربرية" تلك، وذلك "بسبب زحف (عرب) بني هلال" (3). وربما هذا ما دفع بأحد رواد الأطروحة الكولونيالية، وهو (جورج مارسي) إلى الذهاب أبعد في توصيفه لهذا الوضع، إذ يعتبر بهذا الخصوص بأن "ما يسمى بالغزو الهلالي، يظهر مع البعد الزماني كأكبر كارثة ما كان لبلاد البربر أن تشفى منها تماما" (4). وهذا يعني حسب ذات المنطق الكولونيالي، بأن هناك كوارث أخرى سابقة (غزوات) حدث وأن تعرضت لها بلاد "البربر"، وإن كان ما يسمى (بالغزو العربي) آخرها وأخطرها على الإطلاق.
لم يكن باستطاعة البربر الحفاظ على استقلالهم وفق هذا الطرح إذن، كما لم يكن بمقدورهم تأسيس كيان دولتي موحد وقائم بذاته، والسبب في ذلك يرجع – حسب شارل أندري جوليان – إلى خاصية العجز والنقص المتأصل في الإنسان "البربري"، مما يفسر "في الظاهر كيف أن بلاد البربر كان لها دائما "أسياد أجانب" (5). وقد حاول باحث آخر – وفي إطار نفس الطرح – أن ينظر للمسألة مؤسسا بذلك لتاريخ مغربي على شكل محطات استعمارية؛ وهذا ما جسده بالفعل المنظر الكولونيالي (غوتيي) الذي يقول بهذا الخصوص: "حتى إذا ذهبنا بعيدا في الماضي، فلا نجد إلا شلالا متواترا من الهيمنات الأجنبية: الفرنسيون خلفوا الأتراك الذين خلفوا العرب، وهؤلاء أتوا بعد البيزنطيين، الذين خلفوا الوندال، وهؤلاء حلوا محل الرومان الذين خلفوا القرطاجنيين. ولاحظوا أن الغازي كيفما كان، يبقى سيد المغرب إلى أن يطرده الغازي الجديد منه، أما السكان الأصليون (البربر) فلم يستطيعوا أبدا طرد سيدهم" (6).
بطبيعة الحال، لم يكن الفرنسيون يعتبرون أنفسهم أجانب، لأن البربر هم في الأصل (أبناء عمومتهم)؛ وهذا ما يؤكده الأصل المشترك بينهما، على اعتبار أن الإثنين معا ينتميان إلى الجنس الآري. وعلى هذا الأساس، فإن واجب فرنسا يفرض عليها التدخل من أجل حماية هذا "الشريك السرمدي" الذي لا يقدر أن يفعل شيئا بمفرده" (7).
لقد حاول منظرو الأطروحة الكولونيالية إذن– ومن خلال إثارتهم للمسألة العرقية هذه – إعادة إنتاج أسطورة ما يسمى بالعصر الروماني وحضارته المشرقة ببلاد البربر، ولعل هذا ما يتأكد من خلال مجموعة من الأبحاث والدراسات. فقد ركز الأنثروبولوجيون الفرنسيون في هذا الإطار على تشريح بنيان المجتمع "البربري" بالمغرب، من خلال تركيزهم الشديد على عناصر: اللغة، الدين، اللباس، العادات والتقاليد. هذا علاوة على العناصر البيولوجية والذهنية التي تميز الإنسان البربري عن العربي وتجعل منه استمرارا فعليا للعنصر الروماني. بل حتى على مستوى إيكولوجي توحي حياة "البربري" بذلك التشابه مع "ابن عمه" الأوروبي، ناهيك عن أشكال التنظيم السياسي والاجتماعي المشبعة بروح الديمقراطية، كما كان الأمر مع الأجداد (الرومان). وفق هذا المنطق إذن، يتضح مدى هول "الكارثة" التي سيتسبب فيها دخول "الغازي العربي" إلى المغرب؛ فالعرب وحدهم المسؤولون – وبحكم طبيعتهم التسلطية – عن القضاء على هذه التقاليد الديمقراطية وإجهاض تجربة تاريخية تمتد من "العصر الروماني المشرق"(8). لعل هذا ما حذا بكل من (M.M.Bertholon) و (Chanter) إلى اعتبار أن المجتمع المحلي (البربري) قد تعرض بالفعل إلى نوع من الجمود أثناء "الغزو العربي" (9) ، وأن مقدم الأوربيين إلى المغرب ليس إلا لإنقاذ إخوانهم البربر (الآريين) الطيبين من غزو وتسلط العنصر العربي (السامي) ؛ وبالتالي إخراجهم من حالة الركود التي أضحوا عليها بسبب هذا الغزو (10). بل أكثر من ذلك – وكما يذهب ش. أندري جوليان – فقد اتخذت المسألة منحى أكثر تطرفا وإمعانا في العنصرية، خاصة لدى أولئك الذين حاولوا تبرير الوجود الفرنسي بالمغرب بحجة "الدفاع عن هذه القبائل (البربرية) وحمايتها من عدوى "التلويث العربي" (11).
لقد اجتهد الخطاب الكولونيالي الفرنسي إذن، في إبراز وتأكيد ذلك التعارض التاريخي بين كيانين منفصلين هما: "المخزن العربي" و"القبائل البربرية" السائبة، كما اجتهد في ربط تاريخ ومصير "البربر" بالدولة الاستعمارية الفرنسية. وهكذا، فبقدر ما يتعمق التباعد بين الفرنسيين والمخزن الإسلامي، بقدر ما تبدو القبائل البربرية وفق (الإستراتيجية الاستعمارية) أقرب إلى الفرنسيين في كل شيء، وهنا بالذات تكمن الخلفية الإيديولوجية "للسياسة البربرية"Le berbérisme التي تم تأسيسها على قاعدة "الاختلاف والتعارض على مستوى الأخلاق، العادات، التنظيم الاجتماعي، اللغة وعلى نفور البربر من كل ما له صلة بالمخزن" ( 12). بحيث كان هم الفرنسيين من وراء ذلك هو إيجاد المنفذ "الشرعي" للدخول إلى المغرب، وكان الرهان بالطبع على القبيلة و"القبيلة البربرية" بالتحديد ( 13).
في هذا الإطار إذن، ينبغي أن نفهم سر اهتمام هؤلاء "بالمسألة البربرية"؛ ولا مندوحة هنا عن العودة إلى (روبير مونطاني) في أطروحته حول "البرابرة والمخزن" ( 14)، لتأكيد هذه المسألة.
باختصار شديد، يرى (R.Montagne) بأن النظام السياسي المغربي، وإلى حدود الدخول الفرنسي، قد مر بأربعة مراحل أساسية يصنفها كالآتي: (مرحلة الحكم الجمهوري الأوليغارشي والديمقراطي؛ مرحلة حكم الشيوخ أو ال"إمغارن"؛ مرحلة حكم القواد الكبار أو ما يعرف بسادة الأطلس وأخيرا مرحلة حكم المخزن).
إلا أن الملفت للانتباه هنا، هو أن (ر.مونطاني) يرصد تطور هذه الأنظمة السياسية في إطار حركة تراجعية. والتراجع هنا هو تراجع في الأصل عن مبدأي الديمقراطية والعدالة، لصالح مبدأي الهيمنة والاستبداد، مع ما يوازي ذلك طبعا من تراجعات على مستوى "حضارة القبيلة" بالمغرب؛ والتي بدأت تدريجيا تفتقد أصالتها واستقلاليتها بضرب عمقها الجمهوري وروحها الديمقراطية: (الجمهوريات البربرية).
من هنا ووفق هذا التصور التراجعي العنيف، تعتبر المرحلة الأخيرة (مرحلة حكم المخزن) هي التجسيد الفعلي لسيادة نظام استبدادي في جوهره. وليس عبثا هنا أن نجد (ر.مونطاني) يصر على الربط بين هذه المرحلة، وبين واقع افتقاد القبائل البربرية لاستقلالها السياسي، الذي كانت تضمنه لها مؤسساتها السياسية ذات الطبيعة الديمقراطية الجمهورية؛ وكأن لسان حال (ر.مونطاني) يريد أن يقول: بأن هذه القبائل البربرية أصبحت في حاجة إلى التدخل الفرنسي لحمايتها ودعم استقلالها إزاء هذا "المخزن العربي المتسلط"(15).
لعل نفس الطموح كان قد راود باحثا آخر من قبله، الأمر يتعلق طبعا برائد البحث الإثنوغرافي الفرنسي، وأحد أهم مبدعي سياسة "البعثة العلمية" و"السياسة الأهلية" بالمغرب: (إدموند ميشو بيلير) E.Michaux.Bellaire. فقد سعى هذا الأخير إلى تقسيم مجالات البحث السوسيولوجي بالمغرب إلى ثلاثة حقول: فمن جهة : هناك (السوسيولوجيا الإسلامية) أو"أشكال التدين الشعبي" ، والتي ينحصر مجال اهتمامها في دراسة مظاهر الإسلام الرسمي والسني. ومن جهة ثانية هناك (سوسيولوجيا المخزن)، التي تركز اهتمامها بالمدن وبعض المناطق المحيطة التي تدخل ضمن دائرة نفوذ الشرع والمخزن. غير أن (السوسيولوجيا المغربية) تمثل، في اعتقاده، أهم هذه الحقول وأغناها على الإطلاق، وذلك بالنظر إلى ما يمكن أن تقدمه من معطيات وتفاصيل حول واقع المغرب العميق والحقيقي؛ مغرب القبائل البربرية المتشبثة بمؤسساتها، أعرافها، تقاليدها ومعتقداتها الماقبل إسلامية: أي كل ما يصون هويتها ضد أي اختراق عربي إسلامي ممثلا في المخزن.(16)
باختصار، هذا هو التصور الذي كانت تتمحور حوله الأطروحة الكولونيالية فيما يتعلق بالإستراتيجية الأولى: (الإستراتيجية البربرية)، حيث كان رهان الفرنسيين هو ضرب الوحدة الوطنية والدينية للمغرب من خلال تفجير "اللغم الإثني"؛ وذلك عن طريق إثارة ما يسمى بـ (المسألة البربرية). وفي هذا السياق، فقد ذكر (L.Massignon) بأن هذه المسألة بالذات Le berbérisme قد شكلت بالنسبة إليه هاجسا علميا وواجبا دينيا منذ (1909) ، وأن الراهب (شارل دوفوكو) هو الذي أقنعه بأن يكرس لها حياته، قصد إزالة اللغة العربية والدين الإسلامي وإحلال اللغة الفرنسية والمسيحية محلهما (17). لكن – وكما هو معلوم – فإن رهان فرنسا هذا لم يتحقق على أرض الواقع، وذلك بسبب المقاومة الباسلة التي أبدتها القبائل المغربية (البربرية منها والعربية) للاستعمار. وقد كان لتنظيم الزوايا الدور الكبير في تأطير حركة المقاومة تلك ، الشيء الذي سيجعلها أي (الزوايا) في مقدمة اهتمام الكولونياليين في إطار إستراتيجيتهم الثانية.
ألا يدفع تبادل الزيارات بين إسرئيل وبعض المحسوبين على الأمازيغ في الحق في التساؤل عن ما جدوى فتح العلاقات بين الطرفين،ألا تود تلأبيب تفجير اللغم الإثني من جديد.عرب/بربر؟
قائمة الإحالات والمراجع:
-(1) Parmi ces œuvres on peut citer :
-Dechenier : « recherches historiques sur les maures et histoire de l’empire du Maroc », in poly type, Paris, 1787.
-Lempière (G) : « voyages dans l’empire du Maroc et dans le royaume de Fès, fait dans les années 1790-1791 », Tavernier, Paris, 1801.
-Raynal (Abbé), auv. Posthine : « histoire philosophique et politique des établissements du commerce européens dans l’Afrique septentrionale », Amable, Costes, Paris, 1826.
-(2) شارل أندري جوليان:"تاريخ إفريقيا الشمالية"، تعريب محمد مزالي والبشير بن سلامة. الدار التونسية للنشر؛ ص 29.
-(3) نفس المرجع، ص 35.
-(4) بنسالم حميش: "العرب والبربر..."، (م.س) ، ص 4.
-(5) شارل أندري جوليان، نفسه، ص.ص (34-35).
-(6) بنسالم حميش، نفسه، ص5.
-(7) هذا هو التبرير الذي يقدمه (غوتي) كغطاء للدخول الفرنسي إلى المغرب، راجع بنسالم حميش، نفسه، ص 5.
-(8) G.Huguet : « Latins et Berbères », Expositions Franco-marocaines de Casablanca, in conférences Franco-marocaines, Tome II, éd. Plan Nourit et Cie, 1917, PP (179-199).
-(9) Dorra Mahfoudh : « Essai d’analyse critique des recherches sociologiques pendant la période coloniale en Tunisie », in Héspéris Tamuda-(Vol. 26/27) 1988-1989. p 261.
-(10) Ibid, P 264.
-(11) Charles André Julien : « Le Maroc face aux impérialismes : 1415-1956 », Ed. J.A- Paris 1978. p 99.
يجب التنويه هنا إلى أن هذا الباحث قد قدم نقدا ذاتيا لأعماله السابقة التي كانت تؤطر ضمن (الأطروحة الكولونيالية)، ومن ضمنها المرجع السابق الذكر:"تاريخ إفريقيا الشمالية".
-(12) Ibid, P 100.
-(13) Ibid, PP (99-100).
-(14) R.Montagne, op cité.
-(15) أنظر: عبد الجليل حليم: "البحث السوسيولوجي بالمغرب" ، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية- فاس: عدد (2-3) 1979. ص 25.
-(16) راجع بهذا الخصوص: ميشو بيلير " السوسيولوجيا المغربية"، مجلة أبحاث، عدد (9 - 10) السنة الثالثة؛ شتاء 1986. ص 28.
-(17) نفس المرجع ص41 .