|
احتلال الدعم السريع للخرطوم.. حروب المدن الجديدة
عديلة جعفر
الحوار المتمدن-العدد: 8135 - 2024 / 10 / 19 - 10:11
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
تستمر الحرب في السودان لشهرها الثامن عشر، ومنذ بدايتها، شهدت البلاد والمنطقة تطورات كثيرة. حربان إضافيتين أشعلتهما إسرائيل في فلسطين ومؤخراً في لبنان مستمرتان أيضاً، مع عدد لا يُحصى من الضحايا والدمار للمنازل والأرواح.
السودان وفلسطين ولبنان يشتركون في سمة الفظائع، إذ إن العاصمة هي الساحة الرئيسية للمعارك؛ غزة وبيروت والخرطوم وبدرجات متفاوتة مدن أخرى داخل هذه الدول، محاصرة ومقصوفة ومنهوبة. هذه ليست ظاهرة جديدة، إذ إن استهداف السكان وحياتهم الحضرية أصبح سلاحاً يُستخدم في خدمة القضاء على المشاريع الاجتماعية والسياسية القائمة من خلال الاستيلاء على الأراضي أو إعادة تشكيل علاقات الأرض بالعنف. في غزة والآن في لبنان، يتحدث المحتلون الصهاينة بوضوح عن وعد التوسع. نماذج الذكاء الاصطناعي لمنازل المستقبل بأسعار باهظة تُعرض في المدن الكبرى التي تمول الحروب. الأمن والصراع وتدمير المدن يشكل ذريعة مفيدة لإعادة ترتيب علاقات الأرض، ومعها الأنظمة الاجتماعية والسياسية، كما حدث في سوريا تحت حكم الأسد حيث اقتلع التهجير كامل السكان، وجلب آخرين لإعادة شراء منازلهم وتشكيل قاعدة سياسية جديدة للنظام. في لبنان، سعى الخليج إلى كبح النفوذ السياسي لحزب الله وإيران من خلال سكب أموال النفط الطائلة لتمويل إعادة إعمار ما دمرته الحرب الأهلية في الثمانينات.
اما في السودان، وعلى الرغم من أن الديناميكيات مختلفة، إلا أنها ليست منفصلة عن المشروع العالمي المستمر لإعادة تخطيط المشهد البشري. لقد عانى السودان دائمًا من النزاعات الداخلية على ملكية الأراضي، وهو إرث من حكم الحقبة الاستعمارية. فبينما مُنحت بعض المجموعات مساكن، سُمِح لأخرى فقط باستخدامها بشكل محدود ومراقب. فتتداخل الهويات الإثنية وتوتراتها مع سياسات الأرض وتتغذى وتتشكّل منها. تدخل الدولة من أجل استغلال الموارد تحت ذريعة التنمية؛ قد أجج نيران هذه النزاعات، ما أدى في النهاية إلى تحويلها إلى حروب أهلية.
هذه هي قصة قوات الدعم السريع، وهي مجموعة مقاتلة مكونة من شرائح مجتمعية بلا أراضٍ (البدو العرب الذين يمتدون عبر المنطقة بين دارفور في غرب السودان وتشاد ومنطقة الساحل). تحالفهم الجديد مع الدولة ضد المجموعات المستقرة (القبائل التي تمتلك أراضٍ لغرض الاستخدام المشاعي وتعرف بحواكير – المفرد حاكورة) – لكل طرف أجندته؛ الدولة تسعى لإخماد المقاومة في الهوامش، والبدو العرب يسعون للوصول إلى الأراضي التي طالما رغبوا في الحصول عليها لتأسيس حواكيرهم – دخل مرحلة جديدة مع التمويل الخليجي. كان أحد الخطابات العسكرية الرئيسية الذي تطور بعد الحرب، وقادته قوات الدعم السريع، هو أن احتلال الخرطوم كان عملاً انتقامياً وان جاء متأخراً من لإعادة توزيع الثروة تركة الاستعمار التي احتكرتها النخب النيلية (المجموعات التي تنحدر من وسط السودان وحول ضفاف نهر النيل) تاريخياً.
كيف نقلت قوات الدعم السريع بعض هذه التكتيكات من دارفور (تحالفات مع السلطة بغرض انتزاع الملكية) إلى أماكن أخرى في السودان مع توسع الحرب؟ وجود قوات الدعم السريع المستمر في الخرطوم خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية تطلب، بالإضافة إلى الغطاء الأيديولوجي المتمثل في “نحن هنا بغرض التحرير”، تقنيات واستراتيجيات ملموسة للسيطرة على المدينة وسكانها في حين استمرت المعارك. تشتهر قوات الدعم السريع في أماكن أخرى من السودان، وخاصة في الهوامش، بتطويرها لاقتصاد سياسي يقوم على انتزاع الموارد بالعنف، مترافقاً مع قمع عنيف لأي شكل من أشكال المقاومة السياسية. “نموذج الميليشيا”، كما أصبح معروفاً، يعين الدولة السودانية على ادارة المؤسسات الحكومية والخاصة عبر القطاعات مختلفة، من الزراعة إلى الثروة الحيوانية وتعدين الذهب. حيث تقوم هذه الميليشيا بوضع الفاعلين المسلحين كوسيط بين العمالة والدولة لصالح تراكم رأس المال وخاصة أن الدولة فشلت في تطوير بيروقراطية فعّالة ومشروع سياسي لإدارة عقد اجتماعي ييسر- في العادة- عملية الإنتاج. وهكذا، عندما جاءت قوات الدعم السريع إلى الخرطوم، لم تصل فقط بالأسلحة التي حصلت عليها من الإماراتيين، بل كانت مسلحة أيضاً بخبرة عنف إدارة العمالة والإنتاجية بهدف الاستخراج.
الخرطوم العاصمة، مثل القاهرة وربما معظم المدن ما بعد الاستعمار، هي عبارة عن حصن عسكري. المنشآت العسكرية مثل سلاح المهندسين ومستودعات الذخيرة والقوات الجوية السودانية، على سبيل المثال، تقع داخل المدينة، بينما يحتل المقر الرئيسي للجيش، المعروف بـ “القيادة العامة”، موقعاً بارزاً في وسط الخرطوم. وجود المنشآت العسكرية في جميع أنحاء المدينة يضعف أمنها العام من خلال توفير أهداف عسكرية مشروعة داخل المناطق السكنية الحضرية. هذا الأمر شكّل جزءاً من استراتيجية قوات الدعم السريع العسكرية عند تقسيم الخرطوم. ومن خلال مهاجمة الأحياء التي توجد فيها أكبر نسبة من الجيش ومحاصرتها، أصبحت المجتمعات داخل تلك الأحياء عرضة لخطر المجاعة والاستهداف العشوائي والمزيد من الإجراءات الأمنية. وقد أدى ذلك إلى نزوح مبكر للأشخاص، هرباً من الاستهداف المتعمد لمنازلهم التي استولت عليها قوات الدعم السريع وحولتها إلى مراكز عمليات عسكرية. كانت أم درمان بشكل خاص هدفاً لهذه التكتيكات كونها المدينة الفرعية التي تضم أكبر عدد من المنشآت العسكرية في العاصمة الثلاثية.
اما المناطق الأخرى في العاصمة الثلاثية، الخرطوم وبحري، فقد خضعت لنفس الديناميكيات، ولكن بشكل مختلف. الخرطوم، باعتبارها المدينة الفرعية التي تحتوي على أقل عدد من المنشآت العسكرية، تحولت إلى مركز اقتصادي لقوات الدعم السريع. وقد لعبت عدة عوامل وتقنيات دوراً أساسياً في إخضاع المنطق الاقتصادي للخرطوم لسيطرة قوات الدعم السريع. أنشئت القوة العنيفة نظام أمني جديد يعتمد على تعدد وتوزيع نقاط التفتيش عبر المناطق التي يديرها جنود قوات الدعم السريع، إذ تتشكل خارطة مستعمرة الدعم السريع في الخرطوم من الطرق المعبدة بنقاط التفتيش رابطه الأحياء بالأسواق. وفرت هذه النقاط سلسلة قيمة جديدة للبضائع المسروقة/المنهوبة من أحياء الطبقة المتوسطة والغنية التي تم إفراغها من ساكنيها في احياء الخرطوم إلى مواقع أسواق جديدة عُرفت باسم “أسواق دقلو”. كانت نقاط التفتيش أيضاً مصدراً هاماً لجمع الإيرادات لدعم الميليشيا. كان على الأشخاص والبضائع التي تمر عبر هذه النقاط دفع رسوم غير محددة في كل محطة ليتمكنوا من التحرك عبر المدينة أو الحصول على تصريح للتجارة في الأسواق. وفرض ايضا جنود قوات الدعم السريع ضرائب على التجار في الأسواق مقابل السماح لهم بالتجارة، وعلى الأفراد للحصول على إذن بالتحرك عبر المدينة، وفي بعض الأحيان جُمعت الضرائب من مناطق عشوائية كـ”ثمن” للحماية.
كان جوهر السيطرة على الخرطوم هو إعادة ترتيب العلاقات الاقتصادية فيها. استولت الميليشيا على البنية التحتية للأسواق في جميع أنحاء المدينة في الأيام الأولى للحرب. وأعيد تسميتها بـ”أسواق دقلو”، نسبة إلى قائد قوات الدعم السريع، وأصبحت رمزاً للاقتصاد الحربي الذي هيمن بعد 15 أبريل 2023. في هذه الأسواق، يعكس نظام اقتصادي افتراسي غياب القانون والنظام بعد انهيار الدولة. كانت السلع المباعة في هذه الأسواق، في الغالب، من المنازل المنهوبة في جميع أنحاء الخرطوم. شملت المنتجات المباعة الطعام والأثاث والإلكترونيات والأشياء الثمينة مثل الذهب والمجوهرات والملابس وأدوات المطبخ. كما تأثرت أسعار السوق أيضاً بالفوضى حيث لم يكن هناك سلطة مركزية لتحديد الأسعار، بل تُركت لأهواء التجار. لم تكن عملية النهب نفسها – التي أعيد تزويد الأسواق من خلالها – عملاً فردياً عشوائياً في غياب السلطة المنظمة، بل كانت مشروعاً متطوراً تديره قوات الدعم السريع مقابل حصة. فهناك شبكة واسعة من الفاعلين المشاركين في تسهيل ذلك. أولاً، يقوم المخبرون المحليون بتحديد المنازل التي قد تحتوي على أصول ثمينة، ويمنح قادة ميدانيون في قوات الدعم السريع الإذن للشاحنات – التي كانت متوقفة أمام هذه المنازل في وضح النهار – لنقل البضائع عبر نقاط التفتيش التي تديرها قوات الدعم السريع إلى أسواق دقلو لتُباع هناك كنقطة بيع نهائية. النظام المعقد الذي يشمل عدة فاعلين؛ مخبرون وناقلون وقادة ميدانيون يمنحون الإذن وجنود عند نقاط التفتيش يفرضون الضرائب على البضائع، وتجار يعتمدون على المسروقات لكسب عيشهم ويدفعون الضرائب، ومجتمع معزول عن طرق الإمداد القانونية ويعتمد على الافتراس كوسيلة وحيدة لكسب الرزق أو الحصول على الغذاء. ومع ذلك، على عكس العامة، وضعت هذه الشبكة الاقتصادية الافتراسية قوات الدعم السريع في موقع متميز للاستفادة، كونهم جزءاً من شبكة مسلحة واسعة تجمع بين المجالات العسكرية والاقتصادية.
تلعب العمالة دوراً كبيراً في تشكيل النظام الاقتصادي السياسي لقوات الدعم السريع في الخرطوم. ففي البداية، استهدفت عمليات التجنيد بشكل رئيسي الشباب القادرين بدنياً للخدمة كجنود. كانت الحاجة تتزايد بشكل خاص مع امتداد فترة الحرب وعودة بعض جنود قوات الدعم السريع إلى دارفور أو منطقة الساحل. كان التجنيد الطوعي، وليس الإجباري، هو النموذج السائد. انضم الناس إلى قوات الدعم السريع لحماية أنفسهم من انتقام الميليشيا العشوائي ضد عائلاتهم ونهب منازلهم. وفي النهاية، رأوا في التجنيد فرصاً اقتصادية، سواء كجنود يديرون النظام الأمني الذي يُشغّل الاقتصاد الافتراسي أو كعمال يدفعون عجلة إنتاجيته الاقتصادية من أسفل. وأدى الانهيار السريع للدولة وغياب شبكات الأمان والدعم إلى دفع الناس إلى اقتصاد قوات الدعم السريع خوفاً من الجوع أو الانتقام.
الاقتصاد الافتراسي الذي يدفع السودانيين إلى أنشطة غير قانونية للبقاء على قيد الحياة يؤثر أيضاً على حركة السكان أثناء الحرب. سعى الناس لمغادرة الخرطوم رغم التكلفة العالية للانتقال إلى مصر، للهروب من الشروط غير القانونية وغير الآمنة للعمل تحت سيطرة قوات الدعم السريع. ومع ارتفاع تكاليف التأشيرات المصرية، لجأ البعض إلى تجار البشر الذين يديرون حركة تهريب للوصول الى القاهرة وأماكن اخرى كوسيلة للفرار ليس فقط من انعدام الأمن في الخرطوم، ولكن أيضاً من القواعد المقلقة التي تحكم التبادل الاقتصادي تحت إمرة الدعم السريع. في الأشهر الماضية، تزايدت عمليات الترحيل الجماعي من قبل الدولة المصرية لطالبي اللجوء غير النظاميين، والعودة الطوعية للسودانيين غير القادرين على تحمل تكاليف المعيشة في القاهرة إلى الخرطوم، مما يزيد من خطر انخراطهم في نظام قوات الدعم السريع كجنود أو عمال من أجل البقاء، سواء أرادوا ذلك أم لا.
تسيطر قوات الدعم السريع على الخرطوم من خلال نظام افتراسي، ولكنه منتج يربط الجمهور بالأسواق التي استولت عليها، والمترابطة عبر نظام نقاط التفتيش حيث يعمل الناس كجنود، مخبرين، بائعين ومشترين. تم تطوير هذا النظام أولاً في دارفور – بمساعدة الدولة – كنوع من الإدارة/السيطرة الاستخراجية على المجتمعات المقاومة في الأطراف. امتد هذا الشكل الميليشياوي ليخدم الاستراتيجية العسكرية لقوات الدعم السريع في الخرطوم أثناء الحرب.
#عديلة_جعفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
احتلال الدعم السريع للخرطوم.. حروب المدن الجديدة
المزيد.....
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
-
شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه
...
-
الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع
...
-
حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق
...
-
بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا
...
-
وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل
...
-
الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا
...
-
وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني
...
-
تأثير الشخير على سلوك المراهقين
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|