|
التغيير: مقاربة القطيعة المعرفية
عبد الله ميرغني محمد أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 8039 - 2024 / 7 / 15 - 17:45
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
إضاءة (1): ليس الشك، وإنما اليقين هو الذي يقتل – فريدريك نيتشه إضاءة (2): الواقع يفيض دوما خارج المفاهيم، لا يمكن محاصرته أو تنميطه – عبد الله بولا مدخل: التغيير، الكلمة السحرية التي ينادي بها الجميع من الساسة والثوار وحتى الأكاديميين، للانتقال من وضع "أدنى" الي وضع "أفضل“، على المستوى النظري ومن ثم الي الواقع بما يحمله من مفارقات وتناقضات هيكلية وبنيوية. التغيير أيا كان نوعه يجب أن يقوم على أساس فكري يؤطر له ويعطيه الشرعية. والتغيير المزمع إنجازه، يجب أن يعتمد أولا وأخيرا على المعرفة العلمية.
أول سؤال في البحث التاريخي للعلم هو: ما هي طبيعة التقدم العلمي؟ ويمكن تقسيم إجابات فلاسفة العلم إلى أربعة (1) 1. لا يمكن تفسير التقدم العلمي لأن الأحداث فيه لا تسير على منوال واحد. 2. التقدم العلمي يسير في خط تراكمي متصل غير منقطع مع المعارف العلمية السابقة له. 3. العلم يسير في خط تراكمي إلى حد معين ثم يبرز قطيعة أو ثورة ليشق طريقًا مختلفًا. 4. التقدم العلمي يسير في شكل قطائع مع الماضي أي يشق العلم طريقًا مختلفًا تمامًا عن المعارف العلمية السابقة له، وهذا ما يمكن تسميته بالقطيعة الإبستمولوجية (المعرفية)، ولها بعد آخر متعلق بسؤال نشأة النسق العلمي: فهل المعرفة العلمية امتداد للمعرفة العامية والمعرفة الموضوعية (التجريبية) أم منقطعة عنهم؟
إن افتراض وجود القطيعة الإبستمولوجية يُبرِز سؤال كيفية نشوئها؛ هل يرجع ذلك لمنهج العلم نفسه أم أنه ينتج لأنه ليس للعلم منهج معين؟ وهل طريق تقدم العلم قائم على الذكاء الفردي أم نتاج مجتمعات علمية؟ وهل هناك عوامل سوسيولوجيا وسيكولوجية تؤثر على النشاط العلمي؟ والقطيعة المعرفية تعني قطع الصلة بالماضي دون إنكاره، بحيث يبدأ الإنسان بالعمل وفق منظومة عقلية كلية جديدة أوسع من المنظومة السابقة وأكثر تعقيداً، فمثلاً استخدام الإنسان الطائرة للسفر، ليس استمراراً لاستخدام ترويض الحصان للسبب نفسه، فكلاهما مختلف تماماً. فالقطيعة المعرفية تؤسس وتبني آلية تفكير وأسلوباً عقلياً جديداً كلياً ينطبق على كامل المعرفة البشرية على حد سواء وليس المعرفة العلمية فقط، ذلك أن المفاهيم تتغير وعلاقاتها المتبادلة كذلك بما يتناسب مع طبيعة العقل البشري في كل مرحلة (2)
مصطلح القطيعة المعرفية: الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884-1962) - الذي صك مصطلح " القطيعة الابستمولوجية (المعرفية) ، فكرته الأساسية هي أن العلوم لا تتطور بالكيفية التي تسمح باستنباط النظريات الجديدة من التاريخ السابق لها في مجالها، ولا فهمها في جميع الأحوال في ضوء النظريات السابقة. فليس في تاريخ العلوم استمرار مظهره الانتقال في التطور من نظريات إلى التي تليها فحسب، بل فيه أيضا مظاهر قفزات كيفية وثورات معرفية لا يكون فيها الجديد دائما استمرارا لما سبقه، وهذه هي المظاهر التي اقترح باشلار من أجل فهمها مفهوم القطيعة المعرفية. (3) قسم باشلار القطيعة المعرفية إلى ثلاثة مستويات: (1) 1. المرحلة اللا علمية: وتشمل من الأزمنة القديمة وحتى عصر النهضة. وهي مرحلة ملموسة ينشغل فيها العقل بظاهر الظواهر ويؤمن بوحدة العلم، والنفس فيه عامية عادية مدفوعة بحب الاستطلاع الساذج ومصابة بالدهشة. 2. المرحلة العلمية: بدأت أواخر القرن الثالث عشر لتتوقف ثم تبدأ في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. مشابهة للمرحلة الأولى، ولكن بإضافة التجربة والأشكال الهندسية. 3. العقل العلمي الجديد: وقد بدأ عام 1905 مع ظهور النظرية النسبية (مرحلة التحليل العقلي الملازم للتجربة)، والنفس فيها تعاني من مصاعب التجريد، وهي وعي علمي متألم وتلعب لعبة الفكرة الخطرة
هذه المراحل الثلاث بحالتها، التي يميزُ بينها باشلار، تؤكدُ على فرضية التطور العلمي وفقاً لهذه النظرية ِ التي قدمها، لكن باشلار وهو يطرحُ تحقيبهُ ينظرُ إلى تطور العلوم، باعتبارها وحدة داخلية منعزلة عن المثيرات الخارجة عنها وبالتالي؛ فهو يصدر احكاماً غير مرنة على الحالتينِ الأولى والثانية، بحيث اعتبر الحالة الأولى، حالة شعورية ساذجة يدفعها الشغف نحو البحث والاستكشاف، أما الحالةُ الثانية، هي حالة أستاذية تُعبرُ عن الوثوقية في النجاح والاستدلال، أم الحالةُ الثالثةُ عندَ باشلار، فهي الحالة الأقوى على التجريد، حيثُ يبرز انشدادٌ قوي نحو التدقيق والتجريد، يكون الشعور العلمي في هذه الحالة مؤلم ومنشغل بالاستقراءات الناقصة والغير التامة، التي تلجُ المغامرة بدونِ سندٍ تجريبي ثابت. هذه الحالات الشعورية التي يطرحها باشلار، لا تشترك في شيء مع الأخرى، يل هي منفصلة عنها تماماً، أو بلغة باشلار هي في قطيعةٍ عنها. (4)
القطيعة المعرفية في المرحلتين الأولى والثانية كانت تامه (نقطة اللا عوده) حيث الانتقال من الجهل الى العلم من الأسطورة والخرافة الى التجربة (ارسطو / بيكون) مثال على ذلك الحصان والطائرة، الشمعة والمصباح الكهربائي. أما القطيعة في المرحلة الثالثة فكانت جزئية حيث ساد العقل العلمي كل جزئيات الحياة، وأصبح الصراع لمصلحة النظريات العلمية الحديثة التي تتواءم مع الواقع سريع التغير. الانتقال من ميكانيكا اسحق نيتون الى النسبية و من ثم الى ميكانيكا الكوانتم .
لا يقف تاريخ الأفكار العلمية على أرضيةٍ صلبة، إلاّ إذا انفتح على المكونات المعرفية الأخرى (الأساطير- الفلسفة- الفن- الدّين)، المتنوعة المصادر، والمختلفة الأبنية والأنساق. إذ لا يتطور العملُ العلمي والنشاط التجريبي للعالِم، إلا تحتَ وطأة الذاكرة وسلطة التاريخ، باعتبار الكائن الإنساني كائنٌ محدُودٌ في الزمانِ والمكانِ، فالتشكلات المعرفية للظاهرة العلمية، لا تخضعُ في صيرورتها، لمجرد قوانين استنباطية وأخرى استقرائية. بل إنّ النّشاط العلمي للعالِم يخضعُ لمؤثرات متعالية عن الظاهرة العلمية في حدّ ذاتها، باعتبار أنّ المفاهيم كائنات مشحونة بذاكرة ثقافية (4) يعتبر باشلار أن العائق الأول أمام تقدم العلم، ما يسميه بالتجربة الأولى، فبالرغم من كونها تساهم في تشكل الروح العلمية، وهي جزء لا يتجزأ منه، إلا أنها معرفة غير موضوعية، بسبب التصاقها بالذات العارفة. ولمّا كانت التقنية امتدادًا للمعرفة، إذن يجب الانفصال عن المعرفة العامية لنكِّون معرفة علمية؛ ويرى باشلار أن المعرفة العامية لا يمكن أن تتطور لأنها لا تستطيع مغادرة تجربتها الأولى، فهو يضع مفهوم التجربة الأولى ضمن العوائق الإبستمولوجية (1)
القطيعة مع التراث: القطيعة المعرفية من وجهة النظر الفلسفية لدى بعض المفكرين العرب ومن أشهرهم في هذا الصدد محمد عابد الجابري ومحمد اركون وموقفهم من التراث عموما والفقه على وجه الخصوص، اثار نقاش استمر حوالي نصف قرن، وكان بمثابة تأطير للدخول الى "الحداثة" بعد ان تخطاها الغرب الأوربي.
ومفهوم القطيعة المعرفية جرى تداوله في مجالين اساسيين هما العلم والفلسفة، ففي مجال العلم ارتبط المفهوم بالفيلسوف باشلار وعنى به : ( ان العلم لا ينمو ويتقدم دائما عن طريق النمو والاتصال في حركة مستمرة وممتدة من الماضي الى الحاضر، ومن القديم الى الجديد، مثلما تنمو الشجرة متتابعة وبلا توقف من خلال الزمن المتصل، وانما ينمو العلم ويتقدم عن طريق القطيعة والانفصال، بمعنى ان العلم يتشكل ويستند في مراحله على كتلة من المفاهيم الاساسية في تولد المعرفة وانتاج العلم، وبعد ان تصل هذه المفاهيم الى حد الاستنفاد كاملا تحدث ازمة في حركة وبنية العلم والفكر العلمي، الازمة لا تعالج في نظر باشلار الا من خلال ابتكار مفاهيم جديدة، تكون مغايرة للمفاهيم السابقة ومنفصلة عنها بطريقة تنعدم حاجة العودة اليها) . (5)
واراد باشلار بتأسيسه هذا المصطلح (القطيعة المعرفية)، ان يشيع المعرفة العلمية بفصلها عن المعرفة العمومية الشائعة، وكان يقول: (في البداية كانت الاخطاء لا الحقائق، ثم تجيء المعرفة العلمية لفرز الحقيقة من الخطأ او لاستخلاصها من رحم الاخطاء المحيقة بها) (5) ويتفق عبد الله بولا مع خلف الله فيما ورد من تعريف مفهوم القطيعة المعرفية عند باشلار والجابري ( كتب خلف “يستخدم مفهوم الاندفاع والاستمرارية كجزء من شبكة المفاهيم التي تحاول إضفاء المعقولية على تاريخ الفكر والعلوم، أما المشاريع التجديدية سواء اتى التصريح بها من قبل السلفيين او غيرهم لا تدخل في نطاق المعرفة، وإنما تتحرك في حقل الأيديولوجيا" و يواصل " ففي تقديري أولا من عبارة المشاريع التجديدية سواء التصريح بها من قبل السلفيين أو غيرهم لا تستقيم أصلا فالمرء لا يملك أن يكون سلفيا "مرجعيته الماضي" وتجديديا في ذات الوقت، في هذا المقام تصح مقولة إما هذا أو تلك، وهي لا تستقيم حتى وإن كان السلف نفسه مجددا في زمانه وصالحا، فالزمان غير الزمان والمشكلات غير المشكلات في كل الأحوال. وفي حالة الانتشار الكبير لفكرة أو عقيدة ما وخروجها الواسع عن أرض ميلادها، ينضاف إلى جملة المتغيرات بعد اختلاف المكان أيضا مما قد لا يكون للسلف عهد به). (6).
وظهر الجانب التطبيقي لمفهوم القطيعة المعرفية عند الجابري حين درس العلاقة بين ابن رشد وابن سينا في داخل الفلسفة الاسلامية، متخذا من محاولة الفيلسوف الفرنسي التوسير في تطبيق هذا المفهوم بين ماركس وهيغل في داخل الفلسفة الاوربية نموذجا.(5) ونزعة الجابري في تأويل ابن رشد نزعة مغالية واستعلائية، وقد بلغت هذه النزعة ذروتها في الحديث عن نزعة عقلانية مغربية موهومة امتاز بها المغرب عن المشرق الذي ظل محافظا على نزعة (اشراقية افلاطونية)، بقي المغرب بمنجاة منها، بينما ظلت مهيمنة على الفكر في المشرق ولربما كان ذلك حتى اليوم. (5)
ويزعم الجابري انه لا يدعو الى قطيعة مع التراث بل الى قطيعة مع علاقتنا بالتراث، فيقول: (نحن لا ندعو الى القطيعة مع التراث، القطيعة بمعناها اللغوي الدارج، كلا، ان ما ندعو اليه، هو التخلي عن الفهم التراثي للتراث، وعلى راسها اسلوب القياس النحوي الفقهي الكلامي في صورته الالية اللا علمية) . (5)
وعلى هذا الاساس اعتبر الدكتور الجابري، الاستراتيجية الرشدية هي وحدها الكفيلة بتحرير العقل العربي من تشنجات المعقول الديني وردات اللامعقول العقلي. وكما ان ابن سينا عمل على تكريس لاعقلانية صميمة في الفكر العربي الاسلامي تحت غطاء عقلانية موهومة. (5) وتتلخص رؤية الجابري في القطيعة المعرفية مع التراث، بأن يعاد تفسيره وفهمه بأدوات ومناهج النقد في الحاضر المعاش، من نقد حديث، حداثي وما بعد حداثي، ان لا يركن الناقد/المثقف في اصطحاب الماضي ليفهم التراث، الذي بالطبع وليد ظروف ليس لها مكان من الاعراب في الواقع الحاضر، سريع التحول عبر فعل الصيرورة. لم تعد هنالك ثوابت مطلقة يتعلق بها انسان القرن الواحد والعشرين.
القطيعة مع الاستبداد: وبعيدا عن الصراع الفكري بين المغرب و المشرق العربيين، ايهما أكثر عقلانية، ننتقل إلى القارة السوداء حيث دار سجال ثقافي في نهايات القرن السابق (حوارية لاهاي- نوفمبر 1997) بين عبد الله أحمد البشير (عبد الله بولا) و حيدر إبراهيم علي، تطرق فيه بولا بشيء من الاستفاضة لموضوع القطيعة المعرفية، ومدى حوجه شعوب العالم "المستلبة " لها، لتكون بمثابة رافعة، او مدخل للحداثة و تحقيق دولة العدالة السياسية/الاجتماعية على ارض الواقع بعيدا عن شعارات الأيدولوجيا.
مما جاء في "الحوارية كتب خلف (“كان باشلار يبحث أصلا عن معنى، أو تأصيل معرفي لتاريخ العلوم الطبيعية، وكانت تقوده في بحث فكرة أساسية هي فكرة "الانقطاعات" أو نفي التواصل المزعوم بين الأفك ار المتباعدة، أصلا، في صياغتها التاريخية والفكرية. ثم تقدم لاحقا بمفهوم "المعوقات الإبستمولوجية" وذلك في كتابه "تكوين العقل العلمي"، ثم أضاف باشلار بعد ذلك إلى عدته الفكرية مفهوم "الإشكالية" ثم القطيعة و "القطيعة الإبستمولوجية" ثم نسج من كل ذلك شبكة مفهومية مترابطة، هدفها إطفاء العقلانية على مسيرة العلوم الطبيعية.) (6-ص188)
وأورد خلف في نفس السياق ومن باب زيادة الإيضاح، تعريف الجابري التالي للقطيعة المعرفية ("القطيعة المعرفية لا تتناول موضوع المعرفة، القطيعة المعرفية تتناول الفعل العقلي والفعل العقلي نشاط يتم بطريقة ما وبواسطة أدوات هي المفاهيم، وداخل حقل معرفي معين، قد يظل موضوع المعرفة هو هو، ولكن طريقة معالجته والأدوات الذهنية التي تعتمدها هذه المعالجة والإشكالية التي توجهها والحقل المعرفي الذي تتم داخله ، كل ذلك قد يختلف و يتغير، وعندما يكون الاختلاف عميقا وجذريا، أي عندما يبلغ اللا رجوع، النقطة التي لا يمكن الرجوع منها إلى الطريقة السابقة، نقول هنالك قطيعة إبستمولوجية). (6-ص189)
ويواصل عبد الله بولا في تحديد أهمية القطيعة المعرفية (إن مفاهيم العقبات المعرفية والقطيعة المعرفية عند باشلار مفاهيم خصبة جدا، وقد كان لها دور عظيم، لا في تكوين العقل العلمي الحديث فحسب، بل في حركة الحداثة على إطلاقها في الفكر والفن والأدب وعلم النفس. وقد كان لقراءاتي لعرضه الثاقب الممتع المثقف لمفهوم " العقبات المعرفية" بالذات فضل عظيم في تكوين مفهوم ما أسميته ب "منهج النظر الإشكالي" في تجربتي الخاصة. وهو المفهوم الذي يمكن تلخيصه في أن الأحكام المسبقة، واليقينيات غير المدروسة، والافتراضات الجزافية، والمسلمات" العامية" السهلة البسيطة، وانطباعات وخواطر الوهلة الأولى، وحتى الدوغمائيات "العلمية"، نفسها تشكل عقبات أمام العقلانية وامام تحرير العقل وحريته، وبكلمة واحدة أمام المعرفة "الصحيحة) (6-ص189)
والحالة في البلدان الصغيرة المتخلفة هي الأحوج إلى مفهوم القطيعة ومثقفوها بحق هم أكثر الناس إلحاحا على إنجاز القطيعة، أما إن القطيعة المعرفية لم تصبح بعد، مظهرا عام وصفة شاملة للحركات الفكرية في هذه البلدان وإنها محصورة في دوائر الإنتاج الحديث وفي الأوساط العالمة فهذا حق. (6-ص194)
وهذا المدخل يقودنا الي قضية "التراث" ومدى التعلق على استاره، حتى يستطيع كل "سلفي" ان يفرض الطرح الذي يتفق معه الى درجة "اليقين" وعندها يسقط "مشروع الحوار" لان فئة محدده اجتماعيا وتاريخيا تمتلك حقوق الملكية الفكرية للحقيقة. وعبد الله بولا يوسع مفهوم السلفية ليشمل حتى دعاة المادية الجدلية (أفهم أن خلف يعني بالسلفيين هنا دعاة الحركات الإسلامية المعاصرة، بيد أنني امدد المفهوم لكل أنماط السلفية: الإسلاموية والهندوسية والبوذية و"الماركسية" حتى. السلفي هو كل من يعتقد بوجود نموذج ماضوي كامل ومعصوم من الخطأ وصالح بذاته لكل زمان ومكان. واوافق خلف على هذا الأساس أن دعاوي السلفيين الإسلامويين "التجديدية ايدلوجيا" أي وعي زائف، وليس بالضرورة أن يكون زيفه مقصودا ومتعمدا بمعنى الغش والتضليل، فإن كان هذا يصدق على بعض منها). (6-ص 195) وقد يتبادر الى ذهن القارئ التساؤل القلق: هل تندرج الأيدولوجيا أيا كان مصدرها ضمن النتاج المعرفي؟ أم انها تغرد خارج السرب من أجل شرعية مفتعلة لحزب سياسي يبحث له عن موطئ قدم للحصول على جزء من "الكيكة".
وتاريخيا مصطلح “أيدولوجيا“ له حمولة سالبه (بعد مضي وقت قصير منذ أن تسلم نابليون بونابرت السلطة في فرنسا (1804)، وقف دي تراسي، وغيره من الفلاسفة والاقتصاديين، موقف المعارضة منه، وذلك؛ نتيجة خيبة أملهم في الإمبراطور الجديد، فكان أن نعتهم نابليون – تقليلًا من شأنهم – بالأيديولوجيين؛ قاصدًا أنهم يتبنون أفكارًا وهمية غير قابلة للتحقق، وفاقدون للقدرة على النشاط المفيد؛ فصار لكلمة أيديولوجيا معنى الذم، وبهذا المعنى استخدمها ماركس في كتابه “الأيديولوجيا الألمانية”.) (7)
وفي هذا السياق يربط بولا بين الايدولوجيا واغتراب الذات (ومسألة الأيديولوجيا السلفية معقدة بالطبع، مثل كل فعل إنساني. بيد ان من أهم عناصرها عندي" خداع الذات أو اغترابها" وفي حال الدعاوي منها التي تقوم على الغش المحرم (مثل غش شيخ حسن) أما عبارة "أو غيرهم" ففيها نظر. فلا مراء في أن دعاوي تجديدية عديدة "علمانية" واشتراكي وإصلاحية يمكن أن تكون محضر ايدلوجيا أيضا. فقد قامت أكثر الديكتاتوريات في العالم على دعاوي مثل" الإصلاح" و"المساواة "ونصرة الكادحين" و"سلطة الطبقة العاملة" أما أن المشاريع التجديدية على إطلاقها "أيدلوجيا " وإنها لا تدخل في نطاق المعرفة، فلا. ) (6-ص 195-196)
والحداثة هي نقيض القديم والتقليدي. فهي ليست مذهبا سياسيا او تربويا او نظاما ثقافيا واجتماعيا فحسب، بل هي حركة نهوض وتطوير وابداع هدفها تغيير انماط التفكير والعمل والسلوك، وهي حركة تنويرية عقلانية مستمرة هدفها تبديل النظرة الجامدة الى الاشياء والكون والحياة الى نظرة أكثر تفاؤلا وحيوية.
وللتفرقة -نظريا على الأقل- بين الطرح الحقيقي والمزيف في مجال المعرفة، يواصل بولا (أعلم أنه سؤالا محرجا يترتب على اعتراضي هذا، هو: ما السبيل للتمييز بين مشاريع التجديد الحقيقية التي تؤسس المعرفة الجديدة وتؤسس بذلك القطيعة المعرفية مع البنية التي أصبحت عائقا، وبين المشاريع "التجديدية" الزائفة (الأيدلوجية المحض)؟ فأجيب أن دعاوي التجديد تنبني على مادة اختبارية معرفية (مفاهيم، ومقولات، وتحليلات برامج وشواهد تجريبية، ملموسة ميدانية (ممارسات)، وشواهد برهانية ألخ ، مما يسميه أدورنو ب"العناصر التكوينية" وتحليل هذه "العناصر التكوينية" هو الذي يحدد فيما يتصل بموضوعنا، إذا ما كانت هنالك قطيعة معرفية أم لا؟ وهل الدعوة المعينة، موضوع التحليل، تقوم على "علم" أم على محض "أيديولوجيا"؟ فإذا غابت عن عدة الداعي الفكرية عناصر قطيعة حقيقية مع البنية المراد تجديدها، أمكن التحليل النقدي كشف صفة الأيدلوجيا، عناصر الغش والتخييل والتوهم فيها، من فحص عناصرها المكونة، ولا سبيل آخر بالطبع لكشف فساد الدعاوي الباطلة التي تتزين بثياب "الحق" على المستوى النظري سوى التحليل، تحليل العناصر التكوينية.) (6-ص196)
وفي خضم سيطرة الرأسمالية الليبرالية العابرة للقارات، يستبعد عبد الله بولا، الانتصار النهائي للعقل العلمي في الظروف السائدة. (في تقديري أن الانتصار الحاسم للعقل العلمي بعيد جدا، في كل مكان. ولذا فقد سميت صورة انتصاره الظاهر، "الهزيمة المبدئية للعقل قبل العلمي" لأن الهزيمة الكلية الحاسمة للعقل قبل العلمي، لا تتم في تقديري في ظل الرأسمالية. ليس لأنها تقوم على مبادئ في تقسيم العمل واقتسام الثروة والسلطة تجافي مبادئ العقلانية العلمية العميقة فحسب، بل لأنها في المستوى "الفكري" تقوم على محض الخداع الأيديولوجي والتغريب. وهو خداع يرتدي اليوم (وقبل اليوم) حللا مزركشة بظاهر العلم ومظاهر الديمقراطية، ليست من القطيعة مع العقل قبل العلمي في شيء. وهي في الحالات التي يخلو لها فيها الجو تماما تستغني حتى عن هذه الزركشة وترتد إلى أصناف من الوحشية الصريحة في مستوى الفكر الحقوقي والأخلاقي وحتى الأبستمولوجي. (6-ص201)
ومن ثم فإن القطيعة عندي (بولا) هي أقرب إلى مفهوم التراكم والاحتشاد المفضيين إلى القفزة النوعية في جدل المعرفة والواقع (وجدل الطبيعة). ولذا فقد تحدثت في هذه المقالات مرارا عن القطيعة المعرفية في مستويين، مستوى الفكر الاجتماعي والسياسي الذي يمكن (أقول يمكن) أن تكون القطيعة فيه حاسمة أحيانا لا "اتصال" لها بما سبق، ومستوى الإبداع الجمالي الذي تكون القطيعة فيه أكثر تعقيدا واستشكالا. فليس في مجال الإبداع الجمالي قطيعة بالمعنى الذي يقول به باشلار في مجال العلوم الطبيعية. (6-ص200)
وبعد مرور حوالي ربع قرن على (حوارية لاهاي) تصدق توقعات عبد الله بولا بعد ان فشل الساسة والمثقفين في تحقيق برنامج الحد الأدنى او "الحد المعقول" القابل للتطبيق، ليضمن حقوق الأغلبية الساحقة، المفقرة والمهمشة سياسيا، اجتماعيا واقتصاديا. جماهير شعبنا (في السودان) التي حزمت أمرها على استكمال القطيعة مع تركة ماضي الاستعلاء، الطريق إلى الأبد، والقطيعة في المستوى الفكري الاجتماعي كما اتصورها "سيرورة" وليست ضربة واحدة قاضية، كما هي في إبستمولوجيا العلوم الطبيعية. هي في المستويين الاجتماعي والسياسي اللحظة الحاسمة التي تفقد فيها منظومة فكرية أو عقائدية قدرتها على السيطرة على أفئدة البشر وعقولهم، ولا يعود أمام حملتها من وسيلة للبقاء سوى العنف المحض أو الغش، و"القطائع خشم بيوت". وأحسب أننا الآن بإزاء قطيعة مع فكرة الدولة الاستبدادية. (6-ص184) وقد يعزى الصراع السياسي / الاجتماعي/ الثقافي في السودان الى تركم مرارات قديمة /حديثة أشار اليها بولا بوضوح (فقد قام مفهوم المواطنة عندنا على تقسيم أبناء الوطن إلى أحرار وعبيد إلى سادة وأتباع وإلى "أبناء عائلات كريمة" و"رجرجة" و"سوقة" وإلى مؤمنين وكفره، وهذه ليست نظريات كبرى فحسب، وإنما هي أيضا كبائر في حق الأغلبية الساحقة من أبناء الوطن. وقد كنا نحن في الشمال العربي الإسلامي بحاجة حقيقية إلى قطيعة مع أنماط تفكيرنا القديم المغلوطة، لا القديمة على إطلاقها، لنخرج من الطريق المسدود الذي كاد أن يحول الوطن إلى ساحة حرب لا تنتهي إلا لتبدأ بصورة أشد أورَا وأعظم فتكا، حرب ما فتأت تهدد بتفتيت الوطن وتفريقه شعبا وطوائف.) (6-ص182).
في توطئة بعنوان: سيسيف وإزراء السودان - ازمه الرؤية قبل ازمه الحكم – يعزي منصور خالد ادمان الفشل لدى المثقفين السودانيين الى غياب التواصل الفكري بين القائمين على العمل العام، وليس القطيعة مع الماضي التليد (في ذلك المقام وبين صحاب منهم من تهجر عن السودان ومنهم من بقي فيه راضين بما قسم الله له ما توفرت للكتابة. كان يقيني يومذاك والسودان يستعر في لظى الشتات بان الوقت قد حان في أن ينصرف بعضنا ممن أتيح لهم شرف العمل العام في مرافئ السلطة العليا. وخبروا مع ذلك مناهج البحث والتحليل والاستقصاء. إلى التسجيل والتصدير حتى يكون بين الناس تواصل فكري قائم على الحقيقة لا التخرص وعلى الشمول لا الاجتزاء وعلى العقلانية لا الغوغائية. وكنت على يقين ايضا وما زلت بأن أزمة السودان السياسية على مستوى الممارسات تعزي في جانب كبير منها للقطيعة البائنة بين الفكر والعمل. بل تعزى لغياب الفكر غيابا كاملا في بعض الممارسات العامة، ولا سبيل التواصل الفكري الا بالحوار العقلاني لا الغوغائية، فبالحوار العقلاني وحده يخاطب المفكرون العقل الواعي اما الغوغائية فهي في أحسن حالاتها استثارة العقل الباطن، وفي كل حالاتها استجاشة للغرائز الدنيا، وما بمثل هذا تبنى الامم ولا بمثل هذا يصنع التاريخ.) (8- ص14)
خاتمة:
الحركة الثقافية السودانية منذ بداياتها في عشرينات القرن السابق غلب عليها النشاط السياسي على حساب الفكري، وهنالك من يفترض عدم وصولها إلى درجة النضج الفكري "العقلاني" حتى تتبنى قطيعة معرفية، لأنها لم تعد جاهزة لتقديم البديل الذي يجسد قفزة او طفرة الى رحاب الحداثة.
وبالعودة الى الظروف الموضوعية من الواقع التي ادت الى تطور الغرب الاوربي، نجد أن القطيعة المعرفية تمثلت في العديد من المجالات، على مستوى الفلسفة والعلوم الطبيعية، على سبيل المثال - ظهور الاورجانون الجديد 1620، مع فرانسيس بيكون، كان بمثابة قطيعة نهائية مع فلسفة ارسطو التي سادت حوالي الفي سنة، كذلك انتهى المنطق الصوري الاستنباطي ليحل مكانة المنطق التجريبي الاستقرائي. وفي مجال الحداثة تمت القطيعة بين الكنيسة والعلم اي بين المطلق والمتغير. الارض لم تعد هي مركز الكون مع ظهور اكتشافات كوبرنيكوس وصار الانسان الفرد هو المركز. اين نحن من هذه القفزات النوعية والقطيعة المعرفية من اجل مستقبل أكثر إنسانية، يتم فيه تحجيم الاستبداد أيا كان مصدرة.
وإذا جاز لنا ان نطرح التساؤل الأخير: هل عملية الادراك نتيجة تراكم المعرفة "عملية بنيوية حتمية" ام انها "اعتباطية"، لا تخضع لعلاقة جدلية بين المعرفة والذات العارفة؟ عندها يصبح موضوع تطور الوعي الحتمي مشكوك فيه. وهنا يظهر ايضا عامل الزمن في تفسير معاني المفردات، "المصطلحات"، والعلاقة بين الدال والمدلول، حيث أصبح كل شيء نسبي.
المراجع: 1. إيمان السيد الوكيل – نقاشات حول القطيعة المعرفية – 7 يناير 2021 2. القطيعة المعرفية عند باشلار - النور – الحزب الشيوعي السوري – 20 أغسطس 2018 3. نظريات تطور العلم – القطيعة المعرفية - https://cte.univ-setif2.dz/moodle/mod/book/tool/--print--/index.php?id=11067#ch2391 4. أنس الشعره – إبستمولوجية باشلار – الأوان من أجل ثقافة علمية – 4 سبتمبر 2020 5. زعيم الخير الله – الجابري ومفهوم القطيعة المعرفية – صحيفة المثقف – 24 سبتمبر 2017 6. نجاة محمد علي - عبد الله بولا - حوارية لاهاي – مرافعة في حق المثقفين السودانيين – مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي – 2023 7. أحمد برقاوي - الأيديولوجيا وأصفادها -- مجلة الجديد – 1 مايو 2022 - ص 1، 3 8. منصــور خالــد - النخبة الســودانية وإدمــان الفشــل- بيروت - دار الســاقي للنشر والتوزيــع - الجــزء الأول- 1993- ص 14
#عبد_الله_ميرغني_محمد_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحداثة: مقاربة العقل الرعوي
-
مألات مشروع الحداثة في السودان المعاصر : الواقع و التحديات
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
-
المثقف العضوي و الثورة
-
الحداثة: تقاطع المطلق و المتغير
المزيد.....
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
-
شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه
...
-
الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع
...
-
حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق
...
-
بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا
...
-
وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل
...
-
الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا
...
-
وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني
...
-
تأثير الشخير على سلوك المراهقين
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|