|
ورق عاشق / ديوان شعر لفاتحة مرشيد
عدنان الظاهر
الحوار المتمدن-العدد: 1884 - 2007 / 4 / 13 - 11:42
المحور:
الادب والفن
كتور عدنان الظاهر
ورقٌ عاشقٌ
ديوان شعر للطبيبة الشاعرة فاتحة مرشيد( الطبعة الأولى 2003 / الناشر : دار الثقافة ، الدار البيضاء ). يقع الديوان في 173 صفحة... قسّمت الشاعرة محتوياته إلى أربعة أجزاء وأعطت عنواناً خاصاً لكل واحدٍ من هذه الأجزاء : ورقٌ عاشق / هسيس الفراشات / رشفات / ألوان القلق. كما إنها وضعت في بداية كل جزء من هذه الأجزاء الأربعة مقتبساً لأحد الشعراء المعروفين. قد تساعدنا هذه المقتبسات في تلمّس طريقنا محاولين فهم وفك رموز محتويات الكتاب. المُقتَبس هو وجه الشاعر ـ كما أحسبُ ـ ومفتاح بوّابة عالمه الداخلي. في الكتاب العديد من الرسوم والتخطيطات التي يحمل بعضها شيئاً من شعر الشاعرة. التخطيطات ناجحة وتتناغم مع مضمون القصائد وإنْ جاءت بلون واحد هو الأخضر المصفّر أو الأصفر المخضَّر. قصائد الجزأين الأول والأخير لا تحمل عناوين َ بل تحمل أرقاما،ً بينما يحمل الجزءان الباقيان عناوينَ. القصائد قصيرة حتى أنَّ إحداها تتضمن أربع كلماتٍ فقط ( قصيدة جشع / الصفحة 148 ). وتتكون أخرى من خمس ( قصيدة معادلة / الصفحة 151 ). يتعسّر جدّاً التفريق بين نبرة أو ذبذبة أو نَفَس الشعر والشاعرة في عموم الكتاب. القصائد جميعاً جزء من كل تنصهر فيه الأجزاء كافّة. بإستثناءِ فارق كبير واحد يتعلّقُ بالجزء الأول الذي أعطته الشاعرة عنوان " وَرَقٌ عاشق " [ 81 صفحة وسبعة وثلاثون مقطعاًً ]. هنا لاحظت بقوة أن الدكتورة فاتحة تخاطب إمرأة أخرى { تخاطب نفسها } ولكن تخاطبها بلسان رجل. نعم، تتكلم بلسان رجل : رجل يخاطب إمرأةً. فما مغزى هذه المناجاة الذاتية ؟ ولِمَ إنشطرت المرأة والشاعرة والطبيبة إلى نصفين ، نصف مذكّر الجنس يواجه نصفاً آخرَ مغايرَ الجنس ؟؟ لكأنها تتكلم كرجلٍ أمام مرآة فلا ترى فيها إلاّ صورة الأُنثى ، صورتها الحقيقية التي وُلِدت فيها. لِمَ إختارت الشاعرة هذه الآلية في المخاطبة غير المألوفة ؟ الكل يعرف أنَّ أديبة فرنسية ( على ما إخال ) كانت تكتب وتنشر بإسم رجل... جورج ساند. لكني لا أرى أي وجه للشبه أو المقارنة بين هاتين الواقعتين سوى أنَّ الشيء بالشيء يُذكر. بدأت شكوكي تنمو وتكبر منذ قراءتي لهذا الجزء من الكتاب ( ورقٌ عاشق ). ثم إستدرجتني الشاعرة رويداً رويداً حتى أفصحت عن الأمر وبددت شكوكي بإقامتها الدليل الذي لا يقبل الدحض. فلنستمع إليها كيف توجّه الخطاب لأنثى ولكن بلسان كائن حي آخر ليس بأنثى. نقرأ المقطع التاسع في الصفحة 31 :
مُحتَرِفُ الهزيمةِ ما ضرّني يا إمرأة أنْ أُهزمَ فيكِ وثغرُكِ أعذبُ معركة.
في البداية فاعل محذوف تقديره " أنا محترفُ الهزيمة " ، أو أن تأخذ الجملةُ صيغة المنادى بياء النداء المحذوفة، فيكونُ المنادى منصوباً " يا مُحتَرِفَ الهزيمة "... ذكورة الفاعل هنا واضحة لا ريبَ فيها. نجد المثال الآخر في المقطع رقم 20 على الصفحة 60 : ظاميء... ألا فإنسكبي في مسامِ الروح ِ زُلالاً سأركعُ إجلالاً فأنا من بَلدٍ يُصلّي للقطرات
قالت الشاعرة كما هو واضح (( ظاميءٌ )) ولم تقلْ (( ظامئةٌ )).
هل في الشاعرة ظمأ للحب أو حرمانٌ منه ؟ الآن ؟ في الماضي ؟ أجلْ، الشاعرة تناجي وتناغي وتخاطب نفسها بكلمات غزلية تتمنى أن تسمعها من شخص آخر... من رجل وهذا حقها الطبيعي دون أدنى ريب. فإنْ لم تسمعها من فم الآخر، فما يمنعها من أنْ تُصغي إليها خارجةً من فمها، بل من أعماق روحها ومن سليقتها كإمرأة لها ما لباقي نساء العالمين من حقوق طبيعية. يقول الحكماء : إنْ لم يجدْ المرءُ شخصاً يتكلم معه، فسيجد نفسه يتكلم مع نفسه. إنه هو (( الثاني... الآخر )) الذي يود الكلام معه. لا إنفصام هنا على الإطلاق. فمن المعلوم أن [ أغلبَ ] الناس يأخذهم الطرب ساعةَ أن يكونوا في حمام. يرددون الأغاني ويُنشدون الأشعار. بل ويتكلم كل الناس مع أنفسهم ولكن بدون نُطْقٍ وتصويت. نطلق عادةً على هذا الضرب من الكلام مع الذات إسم (( التفكير )). نحن نفكّرُ مع أنفسنا. إننا في واقع الحال نتكلم مع أنفسنا ك [ شخص آخر ] يُصغي لنا ولما نقول إصغاءً تاماً. إنه ( مونولوج ) مع الذات. الجديد في أمر شاعرتنا إنها تكلّمت مع ذاتها أو ذواتها بصفتها رجلاً لا إمرأة.
ملاحظة : أهدت الشاعرة كتابها كما يلي : إلى لمياء الأُنثى . هل هذا الإهداء يخص الجزء الأول من الكتاب ( ورقٌ عاشق ) أم إنه يختص الكتاب جميعاً ؟؟
فاتحة والفراشات
الشاعرة تعشق الفراشات. مخلوقات خفيفة مسالمة لا تؤذي ولا تحطُّ إلاّ على أجمل الزهور. نشطة زاهية الألوان رشيقة في قطفها لرحيق أزاهير الحقول والحدائق. ثم الملمس الناعم والهش. ومن هنا أطلقت الشاعرة على هذا القسم الثاني من أجزاء الكتاب عنوان ( هسيس الفراشات ). حين قدّمت للجزء الأول ( ورقٌ عاشق ) بكلمة إستعارتها من ( خورخي لويس بورخيس ) إنما كان التوكيد فيها على " وردة "، وردة واحدة من بين كل الورود.... تٌستثنى من النسيان. إبتدأت بوردة لتأخذنا إلى صاحبة الوردة...إلى الفراشة. الوردة صديقة الفراشة.... مرضعتها.... والدتها سَكَنها ومحطة راحتها إذ تتجول بين أحلى الورود وأكثرها بهجةً. بين الإثنين إلفة عميقة وحب متبادل ومصالح مشتركة. الفراشة تُلقِّح الوردة بما تحمل لها معها من الطلع وحبوب اللقاح. فإذا كانت الوردة أمٌّ للفراشة تطعمها وتسقيها فهذه لتلك زوج وعشيق. نعمْ، بدأت شاعرتنا الرهيفة رهافة الفراشة والرقيقة رقّة أجنحتها والعاشقة لها ولجميل ألوانها... بدأت مع الورد ونحن نعرف ما هو الورد لكنها قدّمت لصديقاتها الفراشات بكلمة سوداوية مؤلمة فيها جُرح ولا بدَّ مع الجرح دم. أخذت الكلام من الشاعر الإسباني القتيل ( فيديريكو غارسيا لوركا ). قال لوركا :
لا أُريدُ إلاّ يداً واحدةً يداً مجروحةً إنْ كانَ لا أُريدُ إلاّ يداً واحدةً حتى لو أمضيتُ ألفَ ليلةٍ بلا منام.
يدُ من هذه ؟ ولماذا شرط الجرح ( أنْ تكونّ مجروحة ) ؟؟ أين موقع تأثير هذا الكلام في شاعرتنا ؟ أين يلتقي معها، في أي مكان ؟؟ نعرف رواية لوركا ( عرس الدم )، ونعرف محنته ومقتله بأيدي حرس الجنرال فرانكو الفاشي الأسود. نعرف ذلك ولكن لماذا جَبَهتنا شاعرة الفراشات بهذه اللوحة الغارقة بالسوداوية والسواد ؟؟
شاعرتنا تحب الألوان لذلك أعطت حتى القلقَ ألواناً في الجزء الرابع والأخير من الديوان، أسمته ( ألوان القلق ). رُبَّ محتَجٍّ يقول إنما قصدت الشاعرة أنواع القلق. سأقولُ له إنَّ الحق معي وليس معك. سيسألني كيف ؟ سأجيبه قائلاً فلنقرأ معاً مقدمة ( ألوان القلق ) التي إستعارتها من ( إيف بونفوا ). قال إقرأْ أنتَ وسأصغي أنا. طيّب، سأقرأ :
قد يكونُ الرسمُ شعراً ألا يحضرُ اللونُ ليطرحَ كلَّ عُمقهِ دفعةً واحدةً في خطابِ اللوحة ؟
قال صدقتَ، الحق كلُّ الحق معك. اللونُ اللونُ فاتنُ وساحرُ الشاعرة وقطبها المغناطيسي الآخر. هل أحتاجُ أن أُذكِّر القاريء الكريم بديوان نزار قباني الذي يحمل عنوان ( الرسم بالكلمات ) ؟؟ إذا ما زعمنا أننا فهمنا علاقة الوردة بالفراشة، فكيف نفهم علاقة اليد المجروحة بفراشات فاتحة ؟ أمامنا معادلة مثلّثة العناصر : وردة ـ فراشة ـ يد مجروحة. هل كان قصد الشاعرة الرقيقة وعاشقة اللون وصديقة الكائنات الصغيرة المسالمة أن تقول لنا إنِّ ألوان أجنحة الفراشة من دم الإنسان ؟! أو أنَّ قتل فراشةٍ يوازي جرح يد إنسان ؟! أو أنَّ اليد التي تؤذي الفراشة تُقطع على الفور ؟! أو أنَّ جزاء سارق الوردة أنْ تُقطعَ يده كما هو حال السارق في بعض الأقطار العربية ؟! يحضرني بعض ما قال الشعراء والمطربون في الورد واللون والدماء. في قصيدة " الصِبا والجمال " قال الأخطل الصغير بشارة الخوري التي غناها محمد عبد الوهاب :
قتلَ الوردُ نفسه حَسَداً منكِ وألقى دماه ُ في وجنتيكِ
والفراشاتُ ملّت الزهرَ لمّا حدّثتها الأنسامُ عن شفتيكِ
نجد هنا الكل : الورد والخد والفراشات والزهور والأنسام ثم الدم ، لون الورود الأحمر. ثم قال محمد عبد الوهاب في أغنية " يا ورد من يشتريك " : راح للنسيم وإشتكى // جرّحْ خدودو وبكا ... في معرض الكلام عن الورد الأحمر. كذلك غنّت للورد أسمهان وأم كلثوم.
فاتحة طبيبة أطفال. أطفالها ـ مرضاها فراشات. والفراشات أطفالها الذين تعالج. إنها لغارقة في عالم من الملائكة : أطفال وورود وفراشات. الداء الذي يُصيب الطفل هو اليد التي تقطع الوردة واليد التي تقتل الفراشة. في الجزء الثاني من الكتاب المسمّى ( هسيس الفراشات ) أفردت الطبيبة فاتحة قسماً خاصاً للفراشات أعطته عنوان ( فراشات نهاية الربيع ). يتكون هذا القسم من ثمانية مقاطع، إفتتحت كل مقطع بلفظة " فراشة ". سأجمع المقاطع معاً وأقوم بتركيز المقاطع والأسطر كي أضمن أكبر قَدْرٍ ممكن من قوة التأثير على ذائقة القاريء وقدراته على تحسس جماليات الشعر:
فراشةٌ أتعبها الترحالُ تحطُّ على كَتفِ الليلِ يهمُّ أن يسندَها.... تهربُ من مخالب السكّينة.
فراشةٌ باهتةٌ ألوانُها تحت نورٍ خافتٍ تستجدي أو تدري أنه بها يحترقُ نورا.
فراشةٌ تحيك [ الصواب : تحوك / عدنان ] الزمنَ المارقَ منديلا يؤججُ نارَ الحبيبِ في الموعدِ الأولِّ والأخيرِ.
فراشةٌ تُعيرُ الزهرَ ألوانها وتنتحرُ قبلَ طلوعِ الفجرِ.
فراشةٌ تهدي ألوانها لمن يرسمُ قدْرَها على لوحِ قلبهِ.
فراشةٌ تَحذرُ أن تحرقها الشموعُ فتبتعدُ وأخرى تهيمُ بنورِ القمرِ وتحترقُ من بعيد.
فراشةٌ حائرةٌ تحطٌّ.... تطيرُ تستحمٌّ في الرحيقِ تُغازلُ الشمسَ أم تحتمي بالظلِّ ؟
فراشةٌ في نهايةِ الربيعِ تبكي الزمنَ الضائعَ في الخوفِ من المصيفِ.
أسى وحزن الشاعرة هنا مخضوضبان بشيء غير قليل من لون التشاؤم الأسود ( الشاعرة تحب اللون الأسود ). وما عنوان هذه المقاطع الثمانيةإلا الدليل الساطع على صحة الإستنتاج. العنوان يقول (( فراشات نهاية الربيع )) !!. نهاية الربيع كارثة على الطبيعة وعلى الكثير من الناس. النهايات ظاهرة تفزع الشاعرة. ونهايات الأشياء والظواهر الطبيعية والكثير من العلاقات والأمور لمما يسبب خوفاً ظاهراً وجزعاً عميقاً لدى الشاعرة المتناهية الرقة. إني وجدتها تعاني من مشقّة إقامة نوعٍ من التوازن القلق والحَرِج ما بين كبرياء وحياء المرأة المحافظة من جهة، ووضوح وصراحة وتواضع الذين يمارسون الطب علماً ..... من الجهة الثانية. إنها لا تُفصح عمّا فيها ولا تكشف مسببات قلقها لكنها تعبّر عن ذلك بالرمز والإشارة والكناية والصورة. وإنها لقادرة على ممارسة هذا الضرب من أساليب التعبير برشاقة وأَنَفة مع مس خفيف للأقل من القليل من مشاعرها الشخصية الدفينة. إنها تخاف النهايات. ولكي تتهرب من جزع النهاية نراها تجنح بقوة إلى ملاقاة الضد : ضد النهاية. إنها تربط عادةً النهايةَ بالبداية مخرجاً أو علاجاً أو بلسماً لتطييب الخاطر ولرفع العبء عن كاهلها وللتنفيس عن متراكم الأحزان في أعماق النفس البشرية. في شعرها تجدُ علاجَها لا في طبّها. ثم إنها طبيبة أطفال وهي كبيرة. القصيدة التالية تُلقي بعض الضوء على ما أَردتُ أن أقول .
قصيدة " المنعطف / الصفحة 108 "
زمنُ الهوى ولّى وإنجلى عهدُ الأماني والمعاني فقدتْ حُبَّ المعاني تعبنا من الترميم فلنشربْ على أطلالنا أقداحَ خيبتنا ولنعترفْ أنا إبتدأنا دونَ زادِ وإنّا إغتربنا في عنادٍ وإنّا في عَتمةِ الدربِ يا حبيبي أَضعنا المصباح.
ولأني وقعتُ تحت تأثير جاذبية قصيدةٍ أُخرى، فلا أجدُ بُدّاً من مصاحبتها قراءةً ومنادمةً وإنتشاءً بأجوائها الآيروسية التي تُلهِبَ أخيلة الرجال والتي وجدتُ ما فيها يُضاهي تفاصيل قصة " ألف ليلة وليلة " رغم شدة تركيزها وقلّة كلماتها. إنها القصيدة الجامعة ـ المانعة، إنها قصيدة ( إغتراب المثنّى / الصفحات 95 ـ 97 ) : ـ
رجلٌ بجواري لستُ أعرفهُ كيفَ تسللَ لفراشي وكيفَ أتركهُ يُقاسمني في العَتمةِ أنفاسي ؟ أسألُ الجسدَ إنْ كان يذكُرهُ يوميءُ نهدٌ تئنُّ تجاعيدُ ويوشكُ ثغرٌ أنْ يبوحَ بسرٍّ قلبي رافضهُ يعترفُ دمعٌ فراشُ الحبِّ هذا والزمنُ جارفهُ.
سأترك القصيدة تتكلم عمّا فيها... لكي لا أسيء إلى طقوس أجوائها التعبدية. إنها تمثل لوحات ملوّنة كثيرة الحركة رشيقة الإنتقالات عابقة بالبوح الرصين الذي لا يبدو منه إلاّ النَزْر اليسير. نرى، أو نقرأ في اللوحة الأولى رجلاً غريباً يتسلل إلى مخدع إمرأة. ونقرأ أو نرى في اللوحة الثانية ممارسة حقيقية للحب بين هذا الرجل وهذه المرأة. ونشاهد ـ كما في المسرح أو الأفلام ـ في اللوحة الأخيرة فراشاً خالياً أو فراغاً رهيباً ومخيفاً. لا نرى في هذا الفراغ إلاّ الدموع واللوعة والخيبة وآلام الذكرى.... الذكرى التي تدمّر نفوس بعض الناس ولا سيّما شديدي الحساسية والمجبولين على رهافة الحس والعاطفة وعمق المشاعر. الزمن جرف الحب. لم يعدْ للحب مكان في هذا البيت أو في هذه الحجرة أو على هذا الفراش. إنسحب تاركاً الدموع وراءه. الدموع لا تأتي بحب جديد. الدموع ـ يُقال ـ تغسل الأحزان. تغسل الأحزان لا تمحوها. سبقنا الشاعر أبو نؤاس إلى القول في هذا الخصوص :
دعْ عنكَ لومي فإنَّ اللومَ إغراءُ وداوني بالتي كانت هي الداءُ
لا يداوي أمراض وأوجاع الحب إلاّ الحب. أفلمْ يقل نزار قباني :
كما تطردُ الغيومُ الغيوما الغرامُ الجديدُ ينفي القديما.
فاتحة والبحر
لا يُضاهي حب فاتحة للفراشات إلاّ غرامها بالبحر. لا غرابة في ذلك. إنها تسكن الدار البيضاء، أي أنها لا تفارق البحر ولا البحريصبر على فراقها. هنا نتساءل : ما الذي يُغري الشاعرة والطبيبة بالبحر ؟ أية عناصر بحرية تأخذ بناصية الشاعرة ؟ ما الذي يعنيه رمز البحر ووجوده الفعلي ؟ لنقرأ بعض ما كتبت في الجزء الرابع من ديوانها ( ألوان القلق ) {{ سأدمج المقاطع والسطور ما دام قصدي مركّزاً على كلمة البحر بالدرجة الأولى والأخيرة }} : ـ
على عتبة لوحةٍ يقفُ البحرُ قَلِقاً كإنتظار يجترُّ في صمتٍ ثرثرةَ الذاكرة ويقذفُ زَبَداً مُختصراً يخجلُ في كبرياءْ أنْ يستعيرَ رداءَ السماءْ أُعيرهُ في حياءٍ ردائي.
هل يصعب علينا أن نلمس عمق التجاوب بين البحر والشاعرة ؟ يخجلُ البحرُ أن يمدَّ يده للسماء... لفضاء لا سقفَ ولا حدودَ له... فتسارع الشاعرة الطبيبة الإنسانة لتمدَّ يدَ العون لصديقها وجارها البحر. يشعر ببرد وربما يكون البرد مصحوباً بقشعريرة فتتبرع الطبيبة بردائها... تكشف نفسها لكيما تُنقذَ مريضاً مكشوفاً للسماء. إنها الصديق الأوفى والجار الأقوى وإنها طبيب الملمّات الصعبة. إنها هنا تمثل الطرف العالي في العلاقة الثنائية. لا تخاف من البحر ولا البحر يرهبها كما يفعل مع سائر البشر. إنه الضعيف وهي العنصر الأقوى. نرى في المقطع الخامس أنفسنا أمام لوحة شديدة الكثافة رائعة التصوير. نرى فيها شخصين ( رجل وإمرأة بكل تأكيد ). كل شخص يمثل جزيرة. تفصل الشخصين تخومٌ من يم وأخرى من وهم. رغم تخوم اليم والوهم فإنَّ الجزيرتين على إتصال دائم من خلال تردد أمواج البحر فيما بينهما تنقل مثل سعاة البريد نجوى النفوس بخشوع كما في الهمس عند الصلاة. القصيدة :ـ
جُزرٌ متنائيةٌ بينهما تخومٌ من يمٍّ وأخرى من وهم تتبادلُ عَبرَ ذبذباتِ الموجِ رعشاتِ بوحٍ صامت.
موجات نزار قباني تتكلم ... على النقيض من أمواج فاتحة. أُذكِّر القاريء الكريم بما قال نزار (( الموجُ الأزرقُ في عينيكَ يناديني نحو الأعمق )). لكل لون مرئي طول موجة محددة. هنا جمع نزار قباني بين الأمرين : موجة اللون الأزرق في العين وموجة ماء البحر الأزرق. موجات فاتحة لا صوتَ لها. إنها تنقل رسائل صامتة مثل الكومبيوتر، ينقل رسائلنا إلى الطرف الآخر دون صوت... بالآلية التي تقترحها فاتحة، أي (( البوح الصامت )).
نقرأ في المقطع السادس : ـ
مثلَ البحرِ تحتَ المطرِ فؤادي يهيمُ بالقطراتِ وبهِ منها إمتلاءُ.
ونقرأُ في المقطع السابع والأخير : ـ
يغفو البحرُ مُبلّلاً بعَرَقي وأنا أطفو بين الحنين والحنين.
قلبُ الشاعرةِ بحرٌ لكنه يهوى قطيرات المطر. ماء المطر ينزل من السماء ويُصيب البرَّ والبحرَ معاً ... الخصيب والجديب.... الجبلَ والسهل والمنحدر. ما الذي يعنيه المطر بالنسبة لقلب الشاعرة ؟؟ إطفاء شعلة وحريق الظمأ.... الظمأ لماء يهبط عليها من السماوات العليا... يُطفئ عطش روحها البشري والإنساني.... هي ـ الطبيبة ـ تداوي الناسَ ولكن من يداويها ؟؟ (( طبيبٌ يُداوي الناسَ وهو عليلُ ))... ذلكم شعر أحفظه منذ زمان الطفولة. إنها تنتظر أو تتوقع معجزة تحطُّ عليها من السماء. السماء أكبر من الأرض ومن عليها، وكل مَنْ عليها فانٍ. البحر يغفو طافياً على حبيبات عرقها، لكنها، الشاعرة الرهيفة، تطفو لا على بحر ولا على أي ماءٍ ولكن، تطفو على أمواج ليست من مادة طبيعية وإنما على .... حنين... تطفو بين الحنين والحنين. قابلية الجسم على الطوفان فوق سطوح الماء هي عملية إنقاذ لهذا الجسم من خطر الغرق. فهل ـ تُرى ـ سينقذ الحنين شاعرتنا من خطر الغرق ومفارقة الحياة ؟؟ الطوفان بين شيئين يعني ثبات الحركة، مجال الحركة محدود وقد يكون مُقفَلاً. أي أنه لا يقدم حلاًّ لمشكلة ولا يُعينُ المُعاني من مصيبة.
ورقٌ عاشق
(( لا مُش أنا اللبكي )).
إستغرقَ هذا الجزء إحدى وثمانين صفحة من الكتاب، أي أنه أقل من نصفه بقليل. سبق وأن قلتُ في مطلع هذه الدراسة إنَّ الشاعرة في هذا الجزء من كتابها تخاطب إمرأةً أُخرى بإعتبارها الجنس الآخر. تتكلم الشاعرة بلسان رجل. فإذا تجاوزنا هذه الإشكالية وغضضنا الطرفَ عنها مقدمين إفتراضاً آخر فإننا سنجد أنفسنا أمام حقيقة مرارتها ليست بالقليلة. أعني أنَّ الشاعرة تناجي وتناغي وتتغزل بإمرأة أخرى من ذات جنسها. فمن هي هذه المرأة الثانية ، إبنتها ؟ أمها ؟ صديقتها ؟ لمياء الأنثى ؟؟ لا تتغزل المرأة عادةً بالأم أو الإبنة. إذن ... نرى أنفسنا ـ شئنا أم أبينا ـ أمام لمياء الأُنثى... لمياء التي أهدت الشاعرة كتابها إليها. نقرأ شيئاً من هذه المناجاة العَذْبة والغزل الناضح بالهوى المخفي حيناً والمكشوف أحيانا.
المقطع الخامس / الصفحة 21
أَحالمةَ العينينِ
أحلمُ بكبحِ جموحي نحو بؤبؤة الإغواءِ فيكِ
أتسللُ في بطنِ الظلامِ إلى نفسكِ المتكتِّمةِ عساني أُصادَفُ من بوحي إليكِ بتعذيبي.
ونقرأ في المقطع العاشر / الصفحة 32
ذهبتِ وإحتلَّ عطرُكِ المكانَ كيف أهربُ منهُ وملء أنفاسيَ أَنفاسُكِ ؟
ذهبتِ .... يسألني عنكِ دفءُ الأريكةِ ظلُّ الشمعدانِ وفنجانُ قهوةٍ ثَمِلٍ يُناجي شفتيكِ.
ما دلالة تكرار لفظتي " سيدتي " و " مولاتي " في هذا الديوان ؟
فلنقرأ آخر مقطع من الجزء الموسوم " ورقٌ عاشق " / المقطع رقم 37 على الصفحات 80 ـ 81 : ـ
أحنُّ
وقد تبدد سحرُكِ سيدتي إلى أيام التمائم تلفّني بخيوط عنكبوت [[ فأرفل غافياً ]] في مرابض خلوتي أستلِّذُ ضعفي وإرتيابي وأُسبّحُ بإسمكِ مولاتي
أحنُّ وقد تبددَ سِحرُكِ سيّدتي لموتي.
ملاحظة : وضعت " فأرفلُ غافياً " بين أقواس مزدوجة ثقيلة عن عمد.... ف [ غافياً ] يعود لرجل وليس لإمرأة. المرأة تقول : غافية وليس غافياً. ثم، المرأة لا تخاطب المرأة ب " سيدتي " أو " مولاتي " إلاّ إذا كانت عبدةً أو جارية مملوكة ولقد ولّى زمان الجواري والمملوكين والمملوكات والمماليك. يغلب على ظني ـ وقد قلتها سابقاً ـ أنَّ الشاعرة تخاطب نفسها ولكنْ... على لسان رجل. شطرت نفسها شطرين : شطر يمثِّل رجلاً يتذلل لشطر آخرَ يمثِّل إمرأة. لكنْ !! يبقى السؤال : لماذا ؟ لماذا هذا الإنشقاق أو الإنفصام الخطابي أو { شيزوفرينيا } المنولوج ؟
لا مُش أنا اللبكي
سحرتني الشاعرة والطبيبة فاتحة مُرشيد بهذا الإقتباس. إنه مُفتتح أُغنية لمحمد عبد الوهاب. ضمّنته المقطع رقم 13 / الصفحة 40 ، فماذا قالت قبل وبعد هذا التضمين ؟ :
يأتيني غيابُكِ مع نغمةِ عبد الوهاب أُرَددُ " لا مُش أنا اللّبكي " تتحداني دمعةٌ.
نستطيع أن نفكَّ شفرة هذا المقطع ـ أو هكذا يُخيّلُ لنا ـ إذا رجعنا القهقرى وقرأنا ما في الصفحتين السابقتين لهذا المقطع ( مقطع عبد الوهاب ). فماذا نجد في هاتين الصفحتين ؟
أمتطي النهارَ البطيءَ تستوقفني نغمةٌ عابرةٌ تُطاردني رؤيا أمرُّ على لقاءٍ ضمّنا تستدرجني قُبلةٌ للبكاءِ
ويأتي المساءُ ألتحفُ سوادَ عينيكِ وأحلمُ بالقمرْ.
هنا جاء التمهيد للمقطع التالي ولعبد الوهاب الموسيقي والمطرب والمُلحِّن. نقرأ هنا كلمة (( نغمة )) ثم (( يأتي المساءُ ))...ولعبد الوهاب أُغنية قديمة إسمها (( عندما يأتي المساء )). " لا مُش أنا اللّبكي " ... تقول فاتحة هذا الكلام وهي التي قالت لنا قبل قليل " تُطاردني رؤيا / أمرُّ على لقاءٍ ضمّنا / تستدرجني قُبلةٌ للبكاءِ ". تتكلم ههنا عن ذكرى جميلة مرّت، تبادلت فيها القُبل مع إنسانٍ آخر، فتمضّها هذي الذكرى حتى إنها تشرع بالبكاء. ذكرى قبلاتٍ مرّت تُبكيها. لكنها تنتفض... تتوازن.... تتماسك.... لا تعترف بضعفها أمام ذكرى قبلات مرّت. كبرياء المرأة شيء وضعفها أمام الهوى شيءٌ آخر. يبكي كثير من الناس في عزلتهم ووراء أبواب مٌغلقة. كبرياؤهم لا تسمح لهم أن يسفحوا الدموع أمام الناس. بلى، إنهم يبكون ولكنْ سرّاً وخلسةً. لكنهم ينفون في العَلَن ولباقي الناس إنهم يمارسون البكاء. الرؤوس العالية لا تنحني أمام جبروت الهوى وأمام أنظار الناس. لا... مُش أنا اللّبكي. سواي من يبكي ضعفاً وهواناً. هنا نلمس مرّةً أخرى جهد الشاعرة في إقامة التوازن القلق الحَرِج بين كبريائها المحافظ وطبيعتها البشرية الأنثوية... بين حياء المرأة الشرقية وقوّة ووضوح السيدة المثقفة التي تمرّست بأحد حقول العلم. نعم، إنه لكذلك.... توازن حرج ودقيق.
ختام
أشكر الدكتورة فاتحة مرشيد على هديتها لكتابها موضوع دراستي المتواضعة. وأتقدم لها بالعرفان بالجميل أنها أتاحت لي فُرصة نادرة في أن أتعرف على شاعرة متميّزة من شواعر المغرب، وهبتها من وقتي من أجل أن أتعرف عليها عن كثب وأن أتمتع بما قدّمت وما رسمت من صور نادرة وما وصفت من أجواء سحرتني حقّاً. كانت مقتصدة في ألفاظها، نعم، لكنها كانت قادرة أن تصل إلى ما تريد بأقل كلام ومن أقصر الطرق. أظنُ أن شاعرتنا قليلة الكلام ومنطوية بعض الشيء وتحب الألوان الغامقة وخاصة اللون الأسود كتور عدنان الظاهر
ورقٌ عاشقٌ
ديوان شعر للطبيبة الشاعرة فاتحة مرشيد( الطبعة الأولى 2003 / الناشر : دار الثقافة ، الدار البيضاء ). يقع الديوان في 173 صفحة... قسّمت الشاعرة محتوياته إلى أربعة أجزاء وأعطت عنواناً خاصاً لكل واحدٍ من هذه الأجزاء : ورقٌ عاشق / هسيس الفراشات / رشفات / ألوان القلق. كما إنها وضعت في بداية كل جزء من هذه الأجزاء الأربعة مقتبساً لأحد الشعراء المعروفين. قد تساعدنا هذه المقتبسات في تلمّس طريقنا محاولين فهم وفك رموز محتويات الكتاب. المُقتَبس هو وجه الشاعر ـ كما أحسبُ ـ ومفتاح بوّابة عالمه الداخلي. في الكتاب العديد من الرسوم والتخطيطات التي يحمل بعضها شيئاً من شعر الشاعرة. التخطيطات ناجحة وتتناغم مع مضمون القصائد وإنْ جاءت بلون واحد هو الأخضر المصفّر أو الأصفر المخضَّر. قصائد الجزأين الأول والأخير لا تحمل عناوين َ بل تحمل أرقاما،ً بينما يحمل الجزءان الباقيان عناوينَ. القصائد قصيرة حتى أنَّ إحداها تتضمن أربع كلماتٍ فقط ( قصيدة جشع / الصفحة 148 ). وتتكون أخرى من خمس ( قصيدة معادلة / الصفحة 151 ). يتعسّر جدّاً التفريق بين نبرة أو ذبذبة أو نَفَس الشعر والشاعرة في عموم الكتاب. القصائد جميعاً جزء من كل تنصهر فيه الأجزاء كافّة. بإستثناءِ فارق كبير واحد يتعلّقُ بالجزء الأول الذي أعطته الشاعرة عنوان " وَرَقٌ عاشق " [ 81 صفحة وسبعة وثلاثون مقطعاًً ]. هنا لاحظت بقوة أن الدكتورة فاتحة تخاطب إمرأة أخرى { تخاطب نفسها } ولكن تخاطبها بلسان رجل. نعم، تتكلم بلسان رجل : رجل يخاطب إمرأةً. فما مغزى هذه المناجاة الذاتية ؟ ولِمَ إنشطرت المرأة والشاعرة والطبيبة إلى نصفين ، نصف مذكّر الجنس يواجه نصفاً آخرَ مغايرَ الجنس ؟؟ لكأنها تتكلم كرجلٍ أمام مرآة فلا ترى فيها إلاّ صورة الأُنثى ، صورتها الحقيقية التي وُلِدت فيها. لِمَ إختارت الشاعرة هذه الآلية في المخاطبة غير المألوفة ؟ الكل يعرف أنَّ أديبة فرنسية ( على ما إخال ) كانت تكتب وتنشر بإسم رجل... جورج ساند. لكني لا أرى أي وجه للشبه أو المقارنة بين هاتين الواقعتين سوى أنَّ الشيء بالشيء يُذكر. بدأت شكوكي تنمو وتكبر منذ قراءتي لهذا الجزء من الكتاب ( ورقٌ عاشق ). ثم إستدرجتني الشاعرة رويداً رويداً حتى أفصحت عن الأمر وبددت شكوكي بإقامتها الدليل الذي لا يقبل الدحض. فلنستمع إليها كيف توجّه الخطاب لأنثى ولكن بلسان كائن حي آخر ليس بأنثى. نقرأ المقطع التاسع في الصفحة 31 :
مُحتَرِفُ الهزيمةِ ما ضرّني يا إمرأة أنْ أُهزمَ فيكِ وثغرُكِ أعذبُ معركة.
في البداية فاعل محذوف تقديره " أنا محترفُ الهزيمة " ، أو أن تأخذ الجملةُ صيغة المنادى بياء النداء المحذوفة، فيكونُ المنادى منصوباً " يا مُحتَرِفَ الهزيمة "... ذكورة الفاعل هنا واضحة لا ريبَ فيها. نجد المثال الآخر في المقطع رقم 20 على الصفحة 60 : ظاميء... ألا فإنسكبي في مسامِ الروح ِ زُلالاً سأركعُ إجلالاً فأنا من بَلدٍ يُصلّي للقطرات
قالت الشاعرة كما هو واضح (( ظاميءٌ )) ولم تقلْ (( ظامئةٌ )).
هل في الشاعرة ظمأ للحب أو حرمانٌ منه ؟ الآن ؟ في الماضي ؟ أجلْ، الشاعرة تناجي وتناغي وتخاطب نفسها بكلمات غزلية تتمنى أن تسمعها من شخص آخر... من رجل وهذا حقها الطبيعي دون أدنى ريب. فإنْ لم تسمعها من فم الآخر، فما يمنعها من أنْ تُصغي إليها خارجةً من فمها، بل من أعماق روحها ومن سليقتها كإمرأة لها ما لباقي نساء العالمين من حقوق طبيعية. يقول الحكماء : إنْ لم يجدْ المرءُ شخصاً يتكلم معه، فسيجد نفسه يتكلم مع نفسه. إنه هو (( الثاني... الآخر )) الذي يود الكلام معه. لا إنفصام هنا على الإطلاق. فمن المعلوم أن [ أغلبَ ] الناس يأخذهم الطرب ساعةَ أن يكونوا في حمام. يرددون الأغاني ويُنشدون الأشعار. بل ويتكلم كل الناس مع أنفسهم ولكن بدون نُطْقٍ وتصويت. نطلق عادةً على هذا الضرب من الكلام مع الذات إسم (( التفكير )). نحن نفكّرُ مع أنفسنا. إننا في واقع الحال نتكلم مع أنفسنا ك [ شخص آخر ] يُصغي لنا ولما نقول إصغاءً تاماً. إنه ( مونولوج ) مع الذات. الجديد في أمر شاعرتنا إنها تكلّمت مع ذاتها أو ذواتها بصفتها رجلاً لا إمرأة.
ملاحظة : أهدت الشاعرة كتابها كما يلي : إلى لمياء الأُنثى . هل هذا الإهداء يخص الجزء الأول من الكتاب ( ورقٌ عاشق ) أم إنه يختص الكتاب جميعاً ؟؟
فاتحة والفراشات
الشاعرة تعشق الفراشات. مخلوقات خفيفة مسالمة لا تؤذي ولا تحطُّ إلاّ على أجمل الزهور. نشطة زاهية الألوان رشيقة في قطفها لرحيق أزاهير الحقول والحدائق. ثم الملمس الناعم والهش. ومن هنا أطلقت الشاعرة على هذا القسم الثاني من أجزاء الكتاب عنوان ( هسيس الفراشات ). حين قدّمت للجزء الأول ( ورقٌ عاشق ) بكلمة إستعارتها من ( خورخي لويس بورخيس ) إنما كان التوكيد فيها على " وردة "، وردة واحدة من بين كل الورود.... تٌستثنى من النسيان. إبتدأت بوردة لتأخذنا إلى صاحبة الوردة...إلى الفراشة. الوردة صديقة الفراشة.... مرضعتها.... والدتها سَكَنها ومحطة راحتها إذ تتجول بين أحلى الورود وأكثرها بهجةً. بين الإثنين إلفة عميقة وحب متبادل ومصالح مشتركة. الفراشة تُلقِّح الوردة بما تحمل لها معها من الطلع وحبوب اللقاح. فإذا كانت الوردة أمٌّ للفراشة تطعمها وتسقيها فهذه لتلك زوج وعشيق. نعمْ، بدأت شاعرتنا الرهيفة رهافة الفراشة والرقيقة رقّة أجنحتها والعاشقة لها ولجميل ألوانها... بدأت مع الورد ونحن نعرف ما هو الورد لكنها قدّمت لصديقاتها الفراشات بكلمة سوداوية مؤلمة فيها جُرح ولا بدَّ مع الجرح دم. أخذت الكلام من الشاعر الإسباني القتيل ( فيديريكو غارسيا لوركا ). قال لوركا :
لا أُريدُ إلاّ يداً واحدةً يداً مجروحةً إنْ كانَ لا أُريدُ إلاّ يداً واحدةً حتى لو أمضيتُ ألفَ ليلةٍ بلا منام.
يدُ من هذه ؟ ولماذا شرط الجرح ( أنْ تكونّ مجروحة ) ؟؟ أين موقع تأثير هذا الكلام في شاعرتنا ؟ أين يلتقي معها، في أي مكان ؟؟ نعرف رواية لوركا ( عرس الدم )، ونعرف محنته ومقتله بأيدي حرس الجنرال فرانكو الفاشي الأسود. نعرف ذلك ولكن لماذا جَبَهتنا شاعرة الفراشات بهذه اللوحة الغارقة بالسوداوية والسواد ؟؟
شاعرتنا تحب الألوان لذلك أعطت حتى القلقَ ألواناً في الجزء الرابع والأخير من الديوان، أسمته ( ألوان القلق ). رُبَّ محتَجٍّ يقول إنما قصدت الشاعرة أنواع القلق. سأقولُ له إنَّ الحق معي وليس معك. سيسألني كيف ؟ سأجيبه قائلاً فلنقرأ معاً مقدمة ( ألوان القلق ) التي إستعارتها من ( إيف بونفوا ). قال إقرأْ أنتَ وسأصغي أنا. طيّب، سأقرأ :
قد يكونُ الرسمُ شعراً ألا يحضرُ اللونُ ليطرحَ كلَّ عُمقهِ دفعةً واحدةً في خطابِ اللوحة ؟
قال صدقتَ، الحق كلُّ الحق معك. اللونُ اللونُ فاتنُ وساحرُ الشاعرة وقطبها المغناطيسي الآخر. هل أحتاجُ أن أُذكِّر القاريء الكريم بديوان نزار قباني الذي يحمل عنوان ( الرسم بالكلمات ) ؟؟ إذا ما زعمنا أننا فهمنا علاقة الوردة بالفراشة، فكيف نفهم علاقة اليد المجروحة بفراشات فاتحة ؟ أمامنا معادلة مثلّثة العناصر : وردة ـ فراشة ـ يد مجروحة. هل كان قصد الشاعرة الرقيقة وعاشقة اللون وصديقة الكائنات الصغيرة المسالمة أن تقول لنا إنِّ ألوان أجنحة الفراشة من دم الإنسان ؟! أو أنَّ قتل فراشةٍ يوازي جرح يد إنسان ؟! أو أنَّ اليد التي تؤذي الفراشة تُقطع على الفور ؟! أو أنَّ جزاء سارق الوردة أنْ تُقطعَ يده كما هو حال السارق في بعض الأقطار العربية ؟! يحضرني بعض ما قال الشعراء والمطربون في الورد واللون والدماء. في قصيدة " الصِبا والجمال " قال الأخطل الصغير بشارة الخوري التي غناها محمد عبد الوهاب :
قتلَ الوردُ نفسه حَسَداً منكِ وألقى دماه ُ في وجنتيكِ
والفراشاتُ ملّت الزهرَ لمّا حدّثتها الأنسامُ عن شفتيكِ
نجد هنا الكل : الورد والخد والفراشات والزهور والأنسام ثم الدم ، لون الورود الأحمر. ثم قال محمد عبد الوهاب في أغنية " يا ورد من يشتريك " : راح للنسيم وإشتكى // جرّحْ خدودو وبكا ... في معرض الكلام عن الورد الأحمر. كذلك غنّت للورد أسمهان وأم كلثوم.
فاتحة طبيبة أطفال. أطفالها ـ مرضاها فراشات. والفراشات أطفالها الذين تعالج. إنها لغارقة في عالم من الملائكة : أطفال وورود وفراشات. الداء الذي يُصيب الطفل هو اليد التي تقطع الوردة واليد التي تقتل الفراشة. في الجزء الثاني من الكتاب المسمّى ( هسيس الفراشات ) أفردت الطبيبة فاتحة قسماً خاصاً للفراشات أعطته عنوان ( فراشات نهاية الربيع ). يتكون هذا القسم من ثمانية مقاطع، إفتتحت كل مقطع بلفظة " فراشة ". سأجمع المقاطع معاً وأقوم بتركيز المقاطع والأسطر كي أضمن أكبر قَدْرٍ ممكن من قوة التأثير على ذائقة القاريء وقدراته على تحسس جماليات الشعر:
فراشةٌ أتعبها الترحالُ تحطُّ على كَتفِ الليلِ يهمُّ أن يسندَها.... تهربُ من مخالب السكّينة.
فراشةٌ باهتةٌ ألوانُها تحت نورٍ خافتٍ تستجدي أو تدري أنه بها يحترقُ نورا.
فراشةٌ تحيك [ الصواب : تحوك / عدنان ] الزمنَ المارقَ منديلا يؤججُ نارَ الحبيبِ في الموعدِ الأولِّ والأخيرِ.
فراشةٌ تُعيرُ الزهرَ ألوانها وتنتحرُ قبلَ طلوعِ الفجرِ.
فراشةٌ تهدي ألوانها لمن يرسمُ قدْرَها على لوحِ قلبهِ.
فراشةٌ تَحذرُ أن تحرقها الشموعُ فتبتعدُ وأخرى تهيمُ بنورِ القمرِ وتحترقُ من بعيد.
فراشةٌ حائرةٌ تحطٌّ.... تطيرُ تستحمٌّ في الرحيقِ تُغازلُ الشمسَ أم تحتمي بالظلِّ ؟
فراشةٌ في نهايةِ الربيعِ تبكي الزمنَ الضائعَ في الخوفِ من المصيفِ.
أسى وحزن الشاعرة هنا مخضوضبان بشيء غير قليل من لون التشاؤم الأسود ( الشاعرة تحب اللون الأسود ). وما عنوان هذه المقاطع الثمانيةإلا الدليل الساطع على صحة الإستنتاج. العنوان يقول (( فراشات نهاية الربيع )) !!. نهاية الربيع كارثة على الطبيعة وعلى الكثير من الناس. النهايات ظاهرة تفزع الشاعرة. ونهايات الأشياء والظواهر الطبيعية والكثير من العلاقات والأمور لمما يسبب خوفاً ظاهراً وجزعاً عميقاً لدى الشاعرة المتناهية الرقة. إني وجدتها تعاني من مشقّة إقامة نوعٍ من التوازن القلق والحَرِج ما بين كبرياء وحياء المرأة المحافظة من جهة، ووضوح وصراحة وتواضع الذين يمارسون الطب علماً ..... من الجهة الثانية. إنها لا تُفصح عمّا فيها ولا تكشف مسببات قلقها لكنها تعبّر عن ذلك بالرمز والإشارة والكناية والصورة. وإنها لقادرة على ممارسة هذا الضرب من أساليب التعبير برشاقة وأَنَفة مع مس خفيف للأقل من القليل من مشاعرها الشخصية الدفينة. إنها تخاف النهايات. ولكي تتهرب من جزع النهاية نراها تجنح بقوة إلى ملاقاة الضد : ضد النهاية. إنها تربط عادةً النهايةَ بالبداية مخرجاً أو علاجاً أو بلسماً لتطييب الخاطر ولرفع العبء عن كاهلها وللتنفيس عن متراكم الأحزان في أعماق النفس البشرية. في شعرها تجدُ علاجَها لا في طبّها. ثم إنها طبيبة أطفال وهي كبيرة. القصيدة التالية تُلقي بعض الضوء على ما أَردتُ أن أقول .
قصيدة " المنعطف / الصفحة 108 "
زمنُ الهوى ولّى وإنجلى عهدُ الأماني والمعاني فقدتْ حُبَّ المعاني تعبنا من الترميم فلنشربْ على أطلالنا أقداحَ خيبتنا ولنعترفْ أنا إبتدأنا دونَ زادِ وإنّا إغتربنا في عنادٍ وإنّا في عَتمةِ الدربِ يا حبيبي أَضعنا المصباح.
ولأني وقعتُ تحت تأثير جاذبية قصيدةٍ أُخرى، فلا أجدُ بُدّاً من مصاحبتها قراءةً ومنادمةً وإنتشاءً بأجوائها الآيروسية التي تُلهِبَ أخيلة الرجال والتي وجدتُ ما فيها يُضاهي تفاصيل قصة " ألف ليلة وليلة " رغم شدة تركيزها وقلّة كلماتها. إنها القصيدة الجامعة ـ المانعة، إنها قصيدة ( إغتراب المثنّى / الصفحات 95 ـ 97 ) : ـ
رجلٌ بجواري لستُ أعرفهُ كيفَ تسللَ لفراشي وكيفَ أتركهُ يُقاسمني في العَتمةِ أنفاسي ؟ أسألُ الجسدَ إنْ كان يذكُرهُ يوميءُ نهدٌ تئنُّ تجاعيدُ ويوشكُ ثغرٌ أنْ يبوحَ بسرٍّ قلبي رافضهُ يعترفُ دمعٌ فراشُ الحبِّ هذا والزمنُ جارفهُ.
سأترك القصيدة تتكلم عمّا فيها... لكي لا أسيء إلى طقوس أجوائها التعبدية. إنها تمثل لوحات ملوّنة كثيرة الحركة رشيقة الإنتقالات عابقة بالبوح الرصين الذي لا يبدو منه إلاّ النَزْر اليسير. نرى، أو نقرأ في اللوحة الأولى رجلاً غريباً يتسلل إلى مخدع إمرأة. ونقرأ أو نرى في اللوحة الثانية ممارسة حقيقية للحب بين هذا الرجل وهذه المرأة. ونشاهد ـ كما في المسرح أو الأفلام ـ في اللوحة الأخيرة فراشاً خالياً أو فراغاً رهيباً ومخيفاً. لا نرى في هذا الفراغ إلاّ الدموع واللوعة والخيبة وآلام الذكرى.... الذكرى التي تدمّر نفوس بعض الناس ولا سيّما شديدي الحساسية والمجبولين على رهافة الحس والعاطفة وعمق المشاعر. الزمن جرف الحب. لم يعدْ للحب مكان في هذا البيت أو في هذه الحجرة أو على هذا الفراش. إنسحب تاركاً الدموع وراءه. الدموع لا تأتي بحب جديد. الدموع ـ يُقال ـ تغسل الأحزان. تغسل الأحزان لا تمحوها. سبقنا الشاعر أبو نؤاس إلى القول في هذا الخصوص :
دعْ عنكَ لومي فإنَّ اللومَ إغراءُ وداوني بالتي كانت هي الداءُ
لا يداوي أمراض وأوجاع الحب إلاّ الحب. أفلمْ يقل نزار قباني :
كما تطردُ الغيومُ الغيوما الغرامُ الجديدُ ينفي القديما.
فاتحة والبحر
لا يُضاهي حب فاتحة للفراشات إلاّ غرامها بالبحر. لا غرابة في ذلك. إنها تسكن الدار البيضاء، أي أنها لا تفارق البحر ولا البحريصبر على فراقها. هنا نتساءل : ما الذي يُغري الشاعرة والطبيبة بالبحر ؟ أية عناصر بحرية تأخذ بناصية الشاعرة ؟ ما الذي يعنيه رمز البحر ووجوده الفعلي ؟ لنقرأ بعض ما كتبت في الجزء الرابع من ديوانها ( ألوان القلق ) {{ سأدمج المقاطع والسطور ما دام قصدي مركّزاً على كلمة البحر بالدرجة الأولى والأخيرة }} : ـ
على عتبة لوحةٍ يقفُ البحرُ قَلِقاً كإنتظار يجترُّ في صمتٍ ثرثرةَ الذاكرة ويقذفُ زَبَداً مُختصراً يخجلُ في كبرياءْ أنْ يستعيرَ رداءَ السماءْ أُعيرهُ في حياءٍ ردائي.
هل يصعب علينا أن نلمس عمق التجاوب بين البحر والشاعرة ؟ يخجلُ البحرُ أن يمدَّ يده للسماء... لفضاء لا سقفَ ولا حدودَ له... فتسارع الشاعرة الطبيبة الإنسانة لتمدَّ يدَ العون لصديقها وجارها البحر. يشعر ببرد وربما يكون البرد مصحوباً بقشعريرة فتتبرع الطبيبة بردائها... تكشف نفسها لكيما تُنقذَ مريضاً مكشوفاً للسماء. إنها الصديق الأوفى والجار الأقوى وإنها طبيب الملمّات الصعبة. إنها هنا تمثل الطرف العالي في العلاقة الثنائية. لا تخاف من البحر ولا البحر يرهبها كما يفعل مع سائر البشر. إنه الضعيف وهي العنصر الأقوى. نرى في المقطع الخامس أنفسنا أمام لوحة شديدة الكثافة رائعة التصوير. نرى فيها شخصين ( رجل وإمرأة بكل تأكيد ). كل شخص يمثل جزيرة. تفصل الشخصين تخومٌ من يم وأخرى من وهم. رغم تخوم اليم والوهم فإنَّ الجزيرتين على إتصال دائم من خلال تردد أمواج البحر فيما بينهما تنقل مثل سعاة البريد نجوى النفوس بخشوع كما في الهمس عند الصلاة. القصيدة :ـ
جُزرٌ متنائيةٌ بينهما تخومٌ من يمٍّ وأخرى من وهم تتبادلُ عَبرَ ذبذباتِ الموجِ رعشاتِ بوحٍ صامت.
موجات نزار قباني تتكلم ... على النقيض من أمواج فاتحة. أُذكِّر القاريء الكريم بما قال نزار (( الموجُ الأزرقُ في عينيكَ يناديني نحو الأعمق )). لكل لون مرئي طول موجة محددة. هنا جمع نزار قباني بين الأمرين : موجة اللون الأزرق في العين وموجة ماء البحر الأزرق. موجات فاتحة لا صوتَ لها. إنها تنقل رسائل صامتة مثل الكومبيوتر، ينقل رسائلنا إلى الطرف الآخر دون صوت... بالآلية التي تقترحها فاتحة، أي (( البوح الصامت )).
نقرأ في المقطع السادس : ـ
مثلَ البحرِ تحتَ المطرِ فؤادي يهيمُ بالقطراتِ وبهِ منها إمتلاءُ.
ونقرأُ في المقطع السابع والأخير : ـ
يغفو البحرُ مُبلّلاً بعَرَقي وأنا أطفو بين الحنين والحنين.
قلبُ الشاعرةِ بحرٌ لكنه يهوى قطيرات المطر. ماء المطر ينزل من السماء ويُصيب البرَّ والبحرَ معاً ... الخصيب والجديب.... الجبلَ والسهل والمنحدر. ما الذي يعنيه المطر بالنسبة لقلب الشاعرة ؟؟ إطفاء شعلة وحريق الظمأ.... الظمأ لماء يهبط عليها من السماوات العليا... يُطفئ عطش روحها البشري والإنساني.... هي ـ الطبيبة ـ تداوي الناسَ ولكن من يداويها ؟؟ (( طبيبٌ يُداوي الناسَ وهو عليلُ ))... ذلكم شعر أحفظه منذ زمان الطفولة. إنها تنتظر أو تتوقع معجزة تحطُّ عليها من السماء. السماء أكبر من الأرض ومن عليها، وكل مَنْ عليها فانٍ. البحر يغفو طافياً على حبيبات عرقها، لكنها، الشاعرة الرهيفة، تطفو لا على بحر ولا على أي ماءٍ ولكن، تطفو على أمواج ليست من مادة طبيعية وإنما على .... حنين... تطفو بين الحنين والحنين. قابلية الجسم على الطوفان فوق سطوح الماء هي عملية إنقاذ لهذا الجسم من خطر الغرق. فهل ـ تُرى ـ سينقذ الحنين شاعرتنا من خطر الغرق ومفارقة الحياة ؟؟ الطوفان بين شيئين يعني ثبات الحركة، مجال الحركة محدود وقد يكون مُقفَلاً. أي أنه لا يقدم حلاًّ لمشكلة ولا يُعينُ المُعاني من مصيبة.
ورقٌ عاشق
(( لا مُش أنا اللبكي )).
إستغرقَ هذا الجزء إحدى وثمانين صفحة من الكتاب، أي أنه أقل من نصفه بقليل. سبق وأن قلتُ في مطلع هذه الدراسة إنَّ الشاعرة في هذا الجزء من كتابها تخاطب إمرأةً أُخرى بإعتبارها الجنس الآخر. تتكلم الشاعرة بلسان رجل. فإذا تجاوزنا هذه الإشكالية وغضضنا الطرفَ عنها مقدمين إفتراضاً آخر فإننا سنجد أنفسنا أمام حقيقة مرارتها ليست بالقليلة. أعني أنَّ الشاعرة تناجي وتناغي وتتغزل بإمرأة أخرى من ذات جنسها. فمن هي هذه المرأة الثانية ، إبنتها ؟ أمها ؟ صديقتها ؟ لمياء الأنثى ؟؟ لا تتغزل المرأة عادةً بالأم أو الإبنة. إذن ... نرى أنفسنا ـ شئنا أم أبينا ـ أمام لمياء الأُنثى... لمياء التي أهدت الشاعرة كتابها إليها. نقرأ شيئاً من هذه المناجاة العَذْبة والغزل الناضح بالهوى المخفي حيناً والمكشوف أحيانا.
المقطع الخامس / الصفحة 21
أَحالمةَ العينينِ
أحلمُ بكبحِ جموحي نحو بؤبؤة الإغواءِ فيكِ
أتسللُ في بطنِ الظلامِ إلى نفسكِ المتكتِّمةِ عساني أُصادَفُ من بوحي إليكِ بتعذيبي.
ونقرأ في المقطع العاشر / الصفحة 32
ذهبتِ وإحتلَّ عطرُكِ المكانَ كيف أهربُ منهُ وملء أنفاسيَ أَنفاسُكِ ؟
ذهبتِ .... يسألني عنكِ دفءُ الأريكةِ ظلُّ الشمعدانِ وفنجانُ قهوةٍ ثَمِلٍ يُناجي شفتيكِ.
ما دلالة تكرار لفظتي " سيدتي " و " مولاتي " في هذا الديوان ؟
فلنقرأ آخر مقطع من الجزء الموسوم " ورقٌ عاشق " / المقطع رقم 37 على الصفحات 80 ـ 81 : ـ
أحنُّ
وقد تبدد سحرُكِ سيدتي إلى أيام التمائم تلفّني بخيوط عنكبوت [[ فأرفل غافياً ]] في مرابض خلوتي أستلِّذُ ضعفي وإرتيابي وأُسبّحُ بإسمكِ مولاتي
أحنُّ وقد تبددَ سِحرُكِ سيّدتي لموتي.
ملاحظة : وضعت " فأرفلُ غافياً " بين أقواس مزدوجة ثقيلة عن عمد.... ف [ غافياً ] يعود لرجل وليس لإمرأة. المرأة تقول : غافية وليس غافياً. ثم، المرأة لا تخاطب المرأة ب " سيدتي " أو " مولاتي " إلاّ إذا كانت عبدةً أو جارية مملوكة ولقد ولّى زمان الجواري والمملوكين والمملوكات والمماليك. يغلب على ظني ـ وقد قلتها سابقاً ـ أنَّ الشاعرة تخاطب نفسها ولكنْ... على لسان رجل. شطرت نفسها شطرين : شطر يمثِّل رجلاً يتذلل لشطر آخرَ يمثِّل إمرأة. لكنْ !! يبقى السؤال : لماذا ؟ لماذا هذا الإنشقاق أو الإنفصام الخطابي أو { شيزوفرينيا } المنولوج ؟
لا مُش أنا اللبكي
سحرتني الشاعرة والطبيبة فاتحة مُرشيد بهذا الإقتباس. إنه مُفتتح أُغنية لمحمد عبد الوهاب. ضمّنته المقطع رقم 13 / الصفحة 40 ، فماذا قالت قبل وبعد هذا التضمين ؟ :
يأتيني غيابُكِ مع نغمةِ عبد الوهاب أُرَددُ " لا مُش أنا اللّبكي " تتحداني دمعةٌ.
نستطيع أن نفكَّ شفرة هذا المقطع ـ أو هكذا يُخيّلُ لنا ـ إذا رجعنا القهقرى وقرأنا ما في الصفحتين السابقتين لهذا المقطع ( مقطع عبد الوهاب ). فماذا نجد في هاتين الصفحتين ؟
أمتطي النهارَ البطيءَ تستوقفني نغمةٌ عابرةٌ تُطاردني رؤيا أمرُّ على لقاءٍ ضمّنا تستدرجني قُبلةٌ للبكاءِ
ويأتي المساءُ ألتحفُ سوادَ عينيكِ وأحلمُ بالقمرْ.
هنا جاء التمهيد للمقطع التالي ولعبد الوهاب الموسيقي والمطرب والمُلحِّن. نقرأ هنا كلمة (( نغمة )) ثم (( يأتي المساءُ ))...ولعبد الوهاب أُغنية قديمة إسمها (( عندما يأتي المساء )). " لا مُش أنا اللّبكي " ... تقول فاتحة هذا الكلام وهي التي قالت لنا قبل قليل " تُطاردني رؤيا / أمرُّ على لقاءٍ ضمّنا / تستدرجني قُبلةٌ للبكاءِ ". تتكلم ههنا عن ذكرى جميلة مرّت، تبادلت فيها القُبل مع إنسانٍ آخر، فتمضّها هذي الذكرى حتى إنها تشرع بالبكاء. ذكرى قبلاتٍ مرّت تُبكيها. لكنها تنتفض... تتوازن.... تتماسك.... لا تعترف بضعفها أمام ذكرى قبلات مرّت. كبرياء المرأة شيء وضعفها أمام الهوى شيءٌ آخر. يبكي كثير من الناس في عزلتهم ووراء أبواب مٌغلقة. كبرياؤهم لا تسمح لهم أن يسفحوا الدموع أمام الناس. بلى، إنهم يبكون ولكنْ سرّاً وخلسةً. لكنهم ينفون في العَلَن ولباقي الناس إنهم يمارسون البكاء. الرؤوس العالية لا تنحني أمام جبروت الهوى وأمام أنظار الناس. لا... مُش أنا اللّبكي. سواي من يبكي ضعفاً وهواناً. هنا نلمس مرّةً أخرى جهد الشاعرة في إقامة التوازن القلق الحَرِج بين كبريائها المحافظ وطبيعتها البشرية الأنثوية... بين حياء المرأة الشرقية وقوّة ووضوح السيدة المثقفة التي تمرّست بأحد حقول العلم. نعم، إنه لكذلك.... توازن حرج ودقيق.
ختام
أشكر الدكتورة فاتحة مرشيد على هديتها لكتابها موضوع دراستي المتواضعة. وأتقدم لها بالعرفان بالجميل أنها أتاحت لي فُرصة نادرة في أن أتعرف على شاعرة متميّزة من شواعر المغرب، وهبتها من وقتي من أجل أن أتعرف عليها عن كثب وأن أتمتع بما قدّمت وما رسمت من صور نادرة وما وصفت من أجواء سحرتني حقّاً. كانت مقتصدة في ألفاظها، نعم، لكنها كانت قادرة أن تصل إلى ما تريد بأقل كلام ومن أقصر الطرق. أظنُ أن شاعرتنا قليلة الكلام ومنطوية بعض الشيء وتحب الألوان الغامقة وخاصة اللون الأسود
#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المتنبي وبعض الثائرين
-
الصابئة المندائيون
-
الشعراء والأديان الأُخرى
-
مع أبي محسد المتنبيء في أوربا
-
أطياف الندى
-
السامري
-
تدوين لزمن ضائع للشاعر عباس خضر
-
كيف يحصل التلوث في الكون؟ - البيئة والكيمياء والسموم.. زواج
...
المزيد.....
-
مسلسل ليلى الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
فنانة مصرية تصدم الجمهور بعد عمليات تجميل غيرت ملامحها
-
شاهد.. جولة في منزل شارلي شابلن في ذكرى وفاة عبقري السينما ا
...
-
منعها الاحتلال من السفر لليبيا.. فلسطينية تتوّج بجائزة صحفية
...
-
ليلة رأس السنة.. التلفزيون الروسي يعرض نسخة مرممة للفيلم الك
...
-
حكاية امرأة عصفت بها الحياة
-
زكريا تامر.. حداد سوري صهر الكلمات بنار الثورة
-
أكتبُ إليكِ -قصيدة نثر-
-
تجنيد قهري
-
المنتدى الثقافي العربي ضيف الفنانة بان الحلي
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|