أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - لبيب سلطان - الاسس الخمسة لبناء الدول القوية والمجتمعات الناجحة















المزيد.....



الاسس الخمسة لبناء الدول القوية والمجتمعات الناجحة


لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل

(Labib Sultan)


الحوار المتمدن-العدد: 7880 - 2024 / 2 / 7 - 02:29
المحور: العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
    


اهداء وتكريس
كتبت هذه المقالة تكريسا واهداء للذكرى العشرين ،التي تصادف اليوم ،على رحيل المفكر العراقي الحر واستاذ الفلسفة، الدكتور علي كريم سعيد . جمعتني حسن الصدفة في منتصف الثمانينات والتقيت معه ومع الاخ المرحوم الدكتور سلمان شمسة ، النبي الاخلاقي والعصامي ، في مدينة وهران الجزائرية، حيث انتقلت وقتها للعمل في جامعتها التكنولوجية الحديثة الافتتاح بمساهمات دولية ضخمة لتكون لكل افريقيا. ان مواضيع هذه المقالة كانت مدار حوارات دامت بيننا الثلاثة لقرابة 3 سنوات . كنت مترددا بداية بعلاقتي مع الدكتور علي كريم كوني سمعت انه بعثي يساري وارتجفت عندما سمعت كلمة بعثي ، فهي سواء عندي يساري او يميني ترجفني استنكارا ، ولكنه قال لي انه صديق اخي في المانيا واتصلت به وعرفت انه مفكر حر وقاتل النظام الصدامي كالدكتور سلمان شمسة مع الانصار الشيوعيين في شمال العراق. وكان اساس حوارنا يدور باغلبه في البحث والنقاش حول عوامل القوة في بناء الدول والمجتمعات، فهو كان الشغل الشاغل عند د. علي كريم وهو يعد ويجمع موادا لكتاب اعتبره خلاصة حياته ، ولليوم لم ير النور، أراده ليكون تكملة لأعمال الدكتور الجابري النقدية ، واتى رحيله المفاجئ قبل شهرين فقط من سقوط النظام وكان ينوي اصداره بعد السقوط كما قال لي من هولندا. كان د.علي يستخدم ويشير دوما لمثال اسباب قوة اسرائيل وتحديدا لماذا اختار بن غوريون ثلاثة اسس لها العلمانية والنظام الديمقراطي والتحول الى الغرب والاقتصاد الحر بعد الانقلاب على السوفيت، رغم انه اقنعهم مع غولدا مائيير ان الكيبوتسات نموذج مصغر للاشتراكية ستقيمه اسرائيل المستقبلية وسط واحة التخلف العربي ذو النظم الرجعية الموالية للغرب،ولكنه بعد التأسيس اختار الغرب واسس حضارته ، واختياره كونها تبني دولا قوية تتطور اقتصاديا..فهي تمثل عوامل البناء والقوة كما جاء في مذكرات بن غوريون في ..وحسب علمي فالكتاب يتناول بالتفصيل هذه القضايا وأامل ان تكون مسودة الكتاب لازالت باقية مع عائلة الفقيد..كما اخبرني باسابيع قبل رحيله .ان هذه المقالة هي مااعتبره تلخيصا لاغلب النتائج،وليس اتفاقنا عليها كلها، لحوارنا نحن الثلاثة قبل قرابة 40 عاما ، واكرسها اليوم لذكراهم العطرة.
1. مقدمة عن اسباب تقدم الغرب وقوة دوله وتحضر مجتمعاته
ان معرفة اسس الحضارة الغربية هي واحدة من أهم القضايا التي لابد لمجتمعاتنا فهمها جيدا لمعرفة اسباب تقدم وتماسك مجتمعاتها وقوة دولها وازدهاراقتصادها ،وعلى عكس مايتم ترويجه في منطقتنا العربية من التيارات السلفية المؤدلجة دينيا وقوميا وماركسيا سوفياتيا، فهذه الحضارة تحمل في اسسها عوامل القوة لبناء الدول وتطوير المجتمعات حضاريا، القوة في نموذج الحكم الديمقراطي ومساواة المواطنة والحريات والاقتصاد الانتاجي المتطور ، والقوة في في جعل احترام حقوق وحريات مواطنها اساسا لتحكمهم وثبتتها بقوانين ودساتيرها الملزمة قضائيا واجتماعيا على الحاكم وعلى السلطات، وهي تأخذ برأيه وتطلعاته وحاجاته ولاتميز بين مواطنيها بجنس اوفكر اودين اوعقيدة فكل ابناءها مواطنون ومتساوون في الحقوق والحريات ، وتحول واجب السلطات من حكمه الى خدماته والاصغاء له كي تبررسبب انتخابه لها ، ومن هنا قوة وتماسك هذه الدول بحيادية مؤسساتها تجاه مواطنيها وقلب علاقة السلطان بالمواطن وفق قاعدة ان المواطن هو الأعلى وتحويل السطان لخدماته وليس للتسلط عليه .
ان الأسس النظرية لهذه الحضارة تم تطويرها على مدى قرون وتم اثبات فرضياتها في الواقع ولها يعود الفضل في تحويل اميركا ودول اوربا من دول نامية فقيرة حتى القرن 19 الى اقوى الدول واكثرها تطورا في العالم ، وساهمت بنقلة مثلها بالقضاء على الفقر والجوع خارجها في دول مثل الهند وكوريا وماليزيا واندونيسيا والصين وتركيا والبرازيل وغيرها عشرات وحولتها حتى الى دول صناعية متقدمة ، فهي جميعها اخذت بنفس هذه الاسس ، ونجحت في تطبيقها وفق ظروفها ، فهي الحضارة التي وقفت وراء انجازات العالم ، وأهمها انهاء الجوع والفقر ، بل تخطته لبناء دول ديمقراطية قوية متماسكة تتطور وتزدهر باستمرار، خصوصا خلال الخمسين سنة الاخيرة، اما تلك التي تخلفت وتأخرت عن الركب، مثل دولنا العربية، فكان تخلفها لسبب بسيط ، هو انها سارت بدون قوانين وعلم واسس هذه الحضارة التي تطورت وجربت على مدى 300 عام ، منذ عصر النهضة الاوربية ، واخذت ، بل بالاحرى، وقعت في شباك الايديولوجيات والديكتاتوريات المؤدلجة بشعارات ( دينية او قومية اوماركسية)، وليس بأدوات واسس بناء الدول والمجتمعات، ولو اخذت كما في كوريا وماليزيا والهنج وحتى تركيا واسرائيل لرأيتها في عداد الدول القوية الناجحة والمتماسكة، ولرأيت صورتها غير هي ماعليه اليوم من تخلف وتراجع ودمار وانهيار شبه كامل لدولنا.
ويمكن القول ان دولنا وشعوبنا وقعت ضحية ما يمكن دعوته " الدمار الايديولوجي " كما وقعت به حتى دولا اوربية بداية القرن ، مثل المانيا النازية وروسيا السوفياتية ، ومن هذه التجارب، ومن تجارب مجتمعاتنا نفسها، وتجارب نجاح مجتمعات مشابهة ، يمكن التلخيص ان هناك اسسا واسبابا وقوانين بتطور وتحضر المجتمعات واقامة نظم حكمها وادارة مجتمعاتها وبناء اقتصادها ويجعلها دولا مزدهرة وقوية، وهذه الحضارة تعود باسسها لمفكري عصر النهضة الاوربية وتراكمت تجاربها ودروسها في خضم معارك اجتماعية استطاعت الشعوب فرضها بفرض ارادتها ،وتم تنويرها من مفكريها ، ونجحت في الصعود درجة بعد درجة ، على سُلّم الحضارة والبناء والتطور ، وانتجت نظريات وتجارب هامة واسسا موضوعية لبناء هذا السلم وطريق صعوده للبلدان والشعوب خارج اوربا، فهي التي كانت في الاساس وراء نجاح الكثير من الدول التي استطاع مفكريها وروادها من فهمها ومنهم لشعوبهم كيف يتم بناء السُلّم وكيف يمكن تسلكه وتصعد عليه للاعلى خطوة خطوة ، ولغياب او تغييب دور هذه النخبة في مجتمعاتنا، وللاسف ، فهم ايضا كما شعوبنا وقعوا ضحايا الادلجة السطحية الشعبوية ، ومنه فقدت مجتمعاتنا بُناة هذا السلم ومرشديها البناة ، ومنه اصبحت ضحية للجهلة والمتعصبين والغلاة، واصبح امرها كسفينة تائهة في البحر في خضم الامواج ، قباطنتها جهلة وانصاف متعلمين بل واميين ، وهو وصفا واقعيا لحال اغلب مجتمعاتنا ودولنا العربية اليوم .

ان دراسة اسس وتجارب الحضارة الاوربية هو لغرض معرفة سبب قوتها وعلمية طروحاتها ، فهي تعود لاسس نظرية علمية وعملية تم اثباتها في التجربة ، وتراكمت تجاربها ودروسها على مدى مئتي عام على الاقل، منذ اولى طروحات مفكري عصر النهضة والتنوير الاوربية ، بدأً بالعلمانية بتحرير العقل من النص المقدس وانتهاءً بنجاجحها في فصل الدين عن الدولة ( وعموما ادلجة اية مقولة دينية او فكرية كما سناقشه لاحقا) ،وبتحرير العقل ، تم طرح شكل ووظائف كل درجة من درجات هذا السلم الصاعد ، المتدرج التطور ، وامتد لاصلاح نظم الحكم والاخذ بالديمقراطية والمواطنة المتساوية وحرية الفكر، تلاها التحول لتطوير الاقتصاد من خلال نظريات ونماذج تظهر كيفية تنمية الثروات في استثمار الاموال في الانتاج بدل ادخارها ، واخرها وليس اخيرها تطوير برامج للعدالة الاجتماعية وحماية المجتمع من الفقر والعوز، كل ذلك تم بمراحل واسس ونظريات قامت على طروحات فكرية تم برهنة صحتها بتطبيقها في الواقع ، ومنه تم اتباعها كعلم مجرب ومنه نجاحاتها المتوالية.
ان نفس هذه الاسس أنشأت دولا قوية متقدمة بعد ان كانت فقيرة ( اوربا في القرن 18 واميركا في القرن 19 كانت كحال الدول النامية اليوم، وحتى دولا كانت شبه زراعية دوما تتعرض لمجاعات مثل الهند والصين واندونيسيا وكوريا والبرازيل حتى منتصف القرن العشرين وتحولت الى دول صناعية واقتصاد مزدهر وقوي) .ان وراء كل نقلة الى القوة والتطور في دول العالم وقفت، بلاشك اسس وقوانين الحضارة الغربية ورائها، ومعرفتها هو في الواقع معرفة أسس واسباب "القوة " و" النجاح" في بناء الدول والمجتمعات والتي تتطور دوما سياسيا وحضاريا وثقافيا واقتصاديا.
ان شعوبنا العربية هي اشد ماتكون الى معرفة وتطبيق الاسس والمبادئ التي طرحتها هذه الحضارة واثبتت جدواها في بناء الدول وتطوير اقتصادها ونظم حكمها ، ولابد لها كبقية الدول والمجتمعات ان تفهمها وتتبناها للخروج من كهف التخلف هذا والتدهور المستمر. وواقعنا يطرح العكس ، حيث لليوم ترى مؤدلجينا في العالم العربي، باختلاف انماطهم ومشاربهم وخلفياتهم ، لايشغلهم شغل غير معاداتها ، لسبب واضح ، بما تمليه عليهم ايديولوجياتهم التي تنطلق من اسس الدين والقومية وطروحات سوفياتية من الحرب الباردة ، سيطرت على مجتمعاتنا واقامت الحواجز وادت بها الى الانعزال والتقوقع ومنه صعود الفكر السلفي ليسيطر ، فبغياب العلم والحريات ، تسيطر السلفيات والايديولوجيات ، ويحل الانعزال بدل الانفتاح ، وبهما تم تدمير دولنا التي وقعت ضحية لنظم ايديولوجية وديكتاتوريات قمعية ونماذج اقتصادية متخلفة ، ومنه نرى نتائجها في بلداننا ، دولا فاشلة ، ومجتمعات منقسمة متشرذمة، واقتصاد منهار.
ان هذه المقدمة كانت ضرورية لتقييم أهم خلل في واقع دولنا ومجتمعاتنا ، وهو انها انقادت الى الدعوات الايديولوجية التي سادت وتتابعت موجة بعد اخرى، تارة طرحت القومجية والوحدة هي الحل ، واخرى ان الاشتراكية هي الحل ، واخرها كان الاسلام هو الحل ، وليس اي منها يمثل وصفة حل ، بل في الواقع هي وصفات ديكتاتوريات وتخلف اقتصادي، مقولات شعبوية تدغدغ العواطف والمشاعر فقط ولا تعرف مناهج البناء والتطوير التي سارت عليها اغلب دول العالم الناجحة اليوم مستفيدة من اسس الحضارة الغربية .
ان الدعوة لفهم اسس حضارة الغرب هو لمعرفة اسباب قوتها والاستفادة من فهمها كطريق مجربة علميا وعمليا عسى ان تتمكن من الخروج من نفقها المظلم المنعزل المتهالك التي وضعتها فيه موجات الايديولوجيات المتتابعة عليها ، واخر القول ان الخروج من النفق الى للنور هو وضع الايديولوجيات الجاهزات الفاشلات جانبا وتحرير العقل ليرى طريقه الى النور.
2. في أهم اسس حضارة الغرب والعالم المعاصر

1. العلمانية الفكرية ( ملخصها وضع العقل والعلم فوق المقولة الايديولوجية )
هناك تعبيرا دقيقا يصف الحضارة الغربية انها حضارة عقلية تقوم على مبادئ العلم ، أي لن يؤخذ بكل ما يأتي به العقل والفلسفة وحتى التعاليم السماوية من طروحات بانها صحيحة ومقدسة، بل فقط تلك التي يتم اثبات صحة مقولاتها في التطبيق في الواقع، كي تعتبرعلما صحيحا بنظريات ومبادئ يؤخذ بها ( وهنا الفرق بين الطروحات الايديولوجية والعلمية). فمهما بدت الافكار والطروحات مغرية ويسندها واضعوها الى اسس فلسفية عقلية او سماوية، كالتي نجدها في الطروحات الشعبوية والايديولوجيات مثلا، لدغدغة مشاعر الجمهور دون فحص لمدى امكانية تطبيقها والنجاح فيها ، وهو شرط اساس في فلسفة الحضارة الغربية ليتم الاخذ بها (وهو تاريخيا يدعى المذهب التجريبي للفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم ( 1711-1776) وتصبح علما صحيحا ومفيدا). ان مفاهيم كالمجتمع الالهي في الفكر الديني، أو اللا طبقية في طروحات الماركسية ، عظمة الامة وارجاع مجدها الامبراطوري في الفكر القومي، جميعها تغري المشاعر وتناغيها ولكن تطبيقها في الواقع لم يثبت نجاحه، بل اثبت العكس ، انها كانت سببا في مآسي اقتصادية واجتماعية عاشتها الدول والشعوب التي تبنتها دون تمحيص واثبات علمي لطرق تنفيذها ، بل غالبا اقامت نظما ديكتاتوري شمولية، مغلفة بشعارات الهية او علمية اشتراكية او قومية امبراطورية، واليوم بتنا نعرف ان الافكار الايديولوجية هي ادوات للتحريض الشعبوي،وليست ادوات للبناء والتطوير، وتؤدي لامحالة للديكتاتورية، حتى اصبح المصطلحان الايديولوجيا والديكتاتورية صنوان لايتفارقان.
ان طروحات العلم الحقيقي السياسية والاجتماعية والاقتصادية تتم صياغتها بعقل متحرر من قيود الادلجة، ويتم اقرارها بعد اثباتها في التجربة والتطبيق الناجح في الواقع الاجتماعي. شكل هذا المنهج، منهج العلمانية الفكرية بتحرير العقل ووضعه فوق الايديولوجيا مع مذهب التجريبية ، أهم اسس تطور العلم والمعرفة الموضوعية ، وتم بهما الترابط المتلازم للفكر والممارسة ، واصبحت اهم اسس الحضارة الغربية. وللعلمانية الفكرية يرجع الفضل لوعي اهمية الحريات لتطور الفكر والعلم وللمطالبة بحرية الفكر والرأي ، ومع التجريبية وجعلت العقل والعلم يأتيان بطروحات تطبيقية شكلت الاساس لتطوير المجتمعات الاوربية ، بما فيها الوصول للثورة الصناعية والنظم الديمقراطية. ومنه ارست هذه الحضارة احدى اسسها وثقافتها ، انها تبحث وتسير وراء افكار تطبيقية ناجحة ، ولا تسير وراء افكارا مغرية وواعدة الهية اوعلمية اشتراكية اوقومية . واقعا لا أحد ضد العدل الالهي، ولا العدل الاجتماعي الاشتراكي، ولا ضد الفخر والمجد القومي ، بل ربطتها الحضارة الغربية بمقياس وشرط هو نجاح الياتها لتوفير الخبز والحريات والعدالة والمساواة بين المواطنين ،جميعها بحزمة واحدة، وليس لاحدها على حساب الاخر ، وهو أمر فشلت في توفيره كافة الايديولوجيات، بينما نجحت فيه الحضارة الغربية ، من خلال ربط المقولة بتطبيقها الناجح المجرب ، وليس ببريقها النصي. لا تقديس للمقولات بل التطبيق الناجح لها هو معيار قبولها واعتبارها علما مفيدا ومنه سميت حضارة العقل الحر، وليست حضارة النصوص المؤدلجة المقدسة ، فكل اطروحة خاضعة للتجربة والتقييم دون تقديس ، فان نجحت اخذ بها، وان فشلت تركت واخذ بخير منها مما قد طبق ونجح .لايمكن بناء حضارة ولا تطورا ولا نجاحا دون عقل متحرر من المقدسات من المقولات، وهذا الاساس يدعى "العلمانية الفكرية".

2. العلمانية السياسية ( فصل الدولة عن الايديولوجيات )
ان فصل الدولة عن تبني اية ايديولوجيا هو واحدا من أهم اسس حضارة الغرب اليوم ويشكل اهم اركان مفهوم الدولة الوطنية في الحضارة الغربية والسبب وراء قوة دولها ايضا وتماسك مجتمعاتها ، انه " مبدأ فصل الدولة عن الايديولوجيات" وجعلها دولة لجميع المواطنين، وتبعد مؤسساتها عن تبني اي نوع من التؤدلج والتحزب الضيق المتعصب، واساسه هو تطبيقا لمبدأ مساواة جميع لمواطنين ومعاملتهم على اسس وقوانين واحدة من قبل اجهزتها ومؤسساتها، واصبحت واجباتها لتقديم الخدمات للمواطنين وليس حكمهم سلطويا كما كان سابقا مفهوم الدولة وممارسة السلطة للحكم ، فالسلطات الثلاث اليوم تخضع لقوانين الدولة التي تمنع ادلجة مؤسساتها وتقف بمسافة واحدة من مواطنيها دون تمييز في الفكر والعقيدة والجنس والاصل واللون والمذهب الديني اوالقومية . الدولة الحديثة لاتتبنى غير الوطنية وخدمة جميع مواطنيها سواسية ، ولايجوز لها الانحياز او تبني عقيدة فكرية على حساب اخرى . هذا الفصل (العلمانية السياسية ) هو واحدا من أهم الانجازات لهذه الحضارة وبهاغيرت واجبات السلطات ووظائفها من التسلط الى تقديم الخدمات وقيدتها من استخدام اجهزة ومؤسسات الدولة من الانحياز لهذا الحزب او ذاك ، او تلك الفئة على اخرى ، كما هو شائع في بلداننا العربية مثلا. ومنعت في قوانين التوظيف العمومي من دخول التحزب الى اجهزتها وجعلته محرما على الموظف العمومي في الحكومة التميز او الانحياز ، فالمنصب العمومي مقيد بالعمل وفق قوانين الدولة والحفاظ على مصالحها والمساواة للمواطنين ولن تسمح لفئة فكرية او دينية ان تجد لها طريقا للمؤسسات وتجييرها واساءة استغلال السلطة لصالحها ولاتباعها. الدولة فوق الايديولوجيات ـ هذه هي العلمانية السياسية. لقد تكرس هذا المبدأ حديثا نسبيا ، بعد الحرب العالمية الثانية ، خصوصا بعد تجارب النازية والستالينية والفرانكوية والموسولينية واصبح اليوم واحدا من اهم اسس بناء الدول الوطنية الناجحة . ومن نتائجه الهامة ، سواء فازت احزاب اليمين او احزاب اليسار في اية انتخابات فكلاهما لايستطيع ادخال ادلجتها لمؤسسات الدولة ، بل تنفذ برامج وخططا اوعدت بها الناخب ، ظاهرة جديدة طغت وتطورت بعد الحرب الثانية ، بعد دروس سيطرة الايديولوجيات ومصائبها ، ومنها تم تثبيت مبدأ الفصل بين الدولة والايديولوجيات كأحد اهم اركان الدول الناجحة والمستقرة. انه ليصح القول "الغرب لاتقوده الايديولوجيات " بل تقوده مصالحها الوطنية ومواطنيها واهمها تطوير الاقتصاد ومايجلب لمجتمعاتها من وسائل الثروة والقوة والنفوذ.
3. حضارة النظم الديمقراطية والحريات
هناك عبارة ثالثة بليغة تصف محقة حضارة الغرب بثلاث كلمات " حضارة الديمقراطيات والحقوق والحريات" ، والتركيز تخصيصا على الفردية كأساس وجذر للحقوق والحريات الاجتماعية، وليس العكس، كما تقيمه جميع الايديولوحيات التي ترفع دوما شعارمصلحة الجماعة، وتنفي او تنتقص من حقوق الافراد تمهيدا لتبرير القمع باسم الجماعة ( دينية ،قومية، طبقية )، احد اهم اسس قيام الديكتاتوريات الحاكمة .
ان اعتبار الحرية الفردية اساسا لها فلسفتها العميقة، وعدا انها تكريما واحتراما للذات الانسانية ان تمارس ما أعطته لها الطبيعة من عقل وذات وشخصية، فهي من الناحية الاجتماعية وضعت المعادلة بشكلها الصحيح : تلبية حقوق الفرد ستؤدي لتلبية حقوق وحريات كل الجماعة ، وليس العكس ، عندها تصبح اداة لقمع الفرد بأسم الجماعة. من نفي فلسفة هذا المبدأ تحديد نشأ مبدأ "المساواة في المواطنة " وجميع افراد المجتمع يعاملون سواسية من الدولة باختلاف اصولهم واعراقهم واديانهم وطوائفهم ومعتقداتهم السياسية . فلكل مواطن حقوق وحريات ومنها اصبحت للجميع ، سلسلة كاملة من الحريات تكفل الحق الاجتماعي بما فيها حرية الرأي والصحافة والنشر. ومنها كفل للجماعة تكوين الاحزاب والجمعيات واقامة مراكز البحث والتجمعات الثقافية والاجتماعية، فجميع هذه الحريات هي في اصولها ترجع لاقرار الحقوق الفردية، وثبتت في الدساتير قوانينا عليا لاتستطيع اية سلطة منتخبة او مالكة او حاكمة التجاوز عليها، أو مخالفتها، ومنها نشأ استقلال القضاء وجعلته هذه الحضارة حاجزا امام السلطات لوقف استغلال نفوذها والانقضاض على حقوق وحريات الافراد ومنها على المجتمع ، وباقرار الحريات وقنونتها تضائل واختفى القمع السلطوي او الاجتماعي في الحضارة الغربية ، بينما صاحب فكر مصلحة الجماعة دوما القمع في نظم الايديولوجيات واقيمت الديكتاتوريات بأسم وغطاء مصالح الجماعة أيا كانت ( مصالح المؤمنين ، مصالح الطبقة العاملة القائدة، مصالح الامة العربية المجيدة) ، ففي عرفها الجماعي كل من لايخضع لمصلحة الجماعة يعامل مرتدا عن الدين وخائن لمصالح الطبقة العاملة والامة المجيدة. ولعل القارئ يدرك من خلال التحليل ان الممهدات لاقامة وتطوير نظم الديمقراطية والحقوق والحريات وقفت وراءه العلمانيتان الفكرية والسياسية ، الأولى نادت بتحرير العقل ، وهو يتطلب توفير الحريات ، فلا تحرير له دون الحريات الفكرية والسياسية،والاخيرة، ادت لتطوير نظم الديمقراطية بفضل العلمانية السياسية بابعاد الدولة واجهزتها عن خطر الادلجة، وعندما تم أدلجة الدولة وتحزب مؤسساتها ، اختفت الديمقراطية وحلت محلها الديكتاتورية وظهر رؤساء قادة افذاذ حكموا مدى العمر، وليس لفترة انتخابات دورية.

4. حضارة الاستثمار والنمو الاقتصادي الدائم
العبارة البليغة الرابعة تقول ان قوة حضارة الغرب ترجع لقوته الاقتصادية ، وجذورها في الواقع ترجع لنجاح العلمانية الفكرية،فتحرير العقل من الخرافات والمقولات الميتافيزياوية ، سمح لعصر العلوم بالتطور بالتطور، وخاصة التطبيقية التي ادخلت اوربا الى الثورة الصناعية منذ منتصف القرن 18 واخذ الانتاج بالازدياد بفضل العلم الذي طور وسائل الانتاج ومنها ازدادت الثروات. ان التحول للانتاج الصناعي تطلب تطوير معارف لازمة للادارة المالية والتمويل والانتاج والتسويق والنظم المصرفية والاستثمار ( وكان الحصول على المواد الاولية وتسويق المنتجات هو الذي وقف وراء ماسمي فيما بعد الاستعمار ، فهي لم تكن غزوات غربية للسطو البدويي او التوسعات الجنكيزخانية ).
ان مادفع التصنيع في اوربا لم يكن نتاجا لتطور العلم التطبيقي وحده ، بل يرجعه الكثيرون لاكتشافها وتطويرها لقوانين اقتصادية لتمويل المشاريع الصناعية بالرأسمال للاستثمار وادارة الانتاج والتسويق منذ نهاية القرن 18، وهي القوانين التي وضعها الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث (1723 -1790) التي ربطت اساس النمو وزيادة ثروات الامم باستثمار اموالها المدخرة في الانتاج الصناعي، ولكي تستمر دورة الاستثمار ومنع توجيه المال للادخار او المتاجرة بالعقارات اكتشف ادوات تجبر الرأسمالي على تدوير الرأسمال من خلال التنافس في السوق الحر ( وهنا اهمية اكتشافه العتيد بتقديمه نظرية السوق الحر والمنافسة الحرة ) فهما الدافع لاعادة تدوير الارباح واعادة ستخدامها في زيادة الكم وتحسين النوع وخفض الاسعار للصمود في المنافسة، وعداها سيتم العودة للادخار والتراجع عن اقتصاد النمو الدائم الى الاقتصاد الثابت. اصبحت هذه الفرضيات نظريات لعلم الاقتصاد بعدما تم اثبات نجاحها عمليا وفي واقع المجتمعات الصناعية الناشئة، وشكلت أهم اسس الاقتصاد الحديث الدائم النمو ،الذي يدعوه الماركسيون "الأقتصاد الرأسمالي " قياسا الى نموذج " ألأقتصاد ألأشتراكي " الذي تمت صياغته وفق بعض طروحات ماركس لآلية نقل الملكية الى عامة بهدف ازالة الطبقية ، وهو حلا لم يثبت لليوم نجاحه لانه افتقد المنافسة والربحية في السوق الحر التي تشكل اهم اسس دفع الاستثمارات لتطوير الاقتصاد ، فالمصالح المادية الربحية هي اهم الحوافز التي تدفع الانسان للمجازفة في الاستثمار ( خوفا من الخسارة )، وللابداع في الابتكار والتطوير ، كلاهما ينطلق من المصلحة الذاتية. الربح هو الذي يدفع للاستثمار، والتنافس في سوق حر هو الذي يدفع لتدوير الارباح ، ومنه ينمو الاقتصاد ، فالاستثمار واعادة تدوير الارباح هي وقود النمو الاقتصادي . ترجم النموذج الاشتراكي وفق مقولة ماركس بتحويل ملكية وسائل الانتاج الى عامة في الواقع الى نموذج السوق ذو الادارة المركزية ( كالذي تم اتباعه في الاتحاد السوفياتي و البلدان الاشتراكية )، ومنه خلقت طبقة حكومية بيروقراطية لادارته ، وبغياب التنافس في سوق حر ، والمبادرة الذاتية لم ينجح في التطبيق ، فهو عكس نموذج سميث الذي اعتبرالحافز المادي للربح والتنافس هو الذي يحرك ويدفع للمغامرة وللاستثمار. والواقع ان تطبيق منهج ماركس الفلسفي لمجتمع اللاطبقية ( أو بشكل ادق تقليص الفوارق الطبقية) ممكن دون تحويل الملكية وادارة الاقتصاد من بيروقراطية حكومية ، حزبية ، وغالبا ماتكون فاسدة ، فهي تمكن السلطات من السيطرة على معيشة السكان ومنها السيطرة السياسية عليهم، فمن يداهنها فقط يصعد في السلم البيرقراطي. ان تقليص الفوارق الطبقية التي حلم بها ماركس اثبت انه ممكنا بدون نقل الملكية وفقدان الاقتصاد كفائته ، بطرق وبرامج اجتماعية ديمقراطية تحقق الهدف ، تقليص الفوارق الطبقية ، وهذه تعتبر واحدة من انجازات الحضارة الاوربية ايضا وسيتم تناولها تحت .
ان النقلة الهامة في اكتشاف " المال للاستثمار في الانتاج ولا مال يدخر" واعادة تدويرارباحه ( مجبرا للصمود في التنافس الحر ) مفهوم السوق الحر لادم سميث قد خلق نموذج "ألأقتصاد الدائم النمو" ومنه بقي الاقتصاد لهذه الامم يتطور ويتعاظم ووصل اليوم الانتاج لدرجة خرافية لم تحلم بها البشرية، وتطورت علوم الاقتصاد والمعارف الادارية وبها وبالاستثمارانتقلت الى دولا صناعية دولا كانت زراعية مثل كوريا والهند وعشرات غيرها من البلدان، فهم فهموا درس اوربا " لاخير في مال يدخر"، بل باستثمار مال الدولة والسكان في الانتاج.
ان الحضارة الغربية جعلت من النمو الاقتصدي أهم سُنَّةً واساسا لعمل وتقييم اداء حكوماتها ومجتمعاتها وجعلت تطوير الاقتصاد أهم القضايا لتطورها وتقييم حكوماتها من خلال ادائها ألأقتصادي ( وليس لخطابها الايديولوجي ) فهي تنتخب من يطور اقصادها ويشجع ويدعم الاستثمارالداخلي ولجلب الاستثمارات من الخارج. ومنه زادت ثروات دولها زيادة خرافية باعادة تدوير الارباح كرأسمال للاستثمار بشكل دائم ، ومنه وخلق فرص عمل جديدة بالاستثمار في كل بقعة توجد فيها فرصة للاستثمار من اجل الربح. انه نموذج الاقتصاد التنافسي الدائم التداور والنمو هو الذي طورته اوربا قبل قبل غيرها من الامم ، ومنه قوتها الاقتصادية.
5. حضارة الاشتراكية الاجتماعية
العبارة الخامسة التي تصف الحضارة الاوربية انها "حضارة الضمان وبرامج العدالة الاجتماعية" والاخيرة يعود الفضل فيها لافكار ماركس وطروحاته الفلسفية في تضمين مفهوم "المساواة" الشعار الثالث الذي نادت بها الثورة الفرنسية ( وترجمت الى المساواة امام القانون وفي ممارسة الحريات والمساواة بصوت واحد في الانتخابات) للمساواة الاقتصادية وتقليص الفوارق الطبقية كلما سار المجتمع في زيادة نموه الاقتصادي تزداد ثروة الامم ومنها تزداد الموارد لتمويل برامج متقدمة لتقليص الفقر والفوارق الطبقية.
وتجد اليوم الحكومات المركزية والمحلية تتبارى ببذخها في تطوير برامج الضمان الاجتماعي والصحي والخدمي للمسنين والعجزة والعاطلين عن العمل والنساء المعيلات وتنمية القوى البشرية والتعليم وبرامج للاجئين والمقطوعين وسكان الارياف والمناطق الاقل تطورا، تمولها الحكومات من استقطاع ضرائب على ارباح الشركات والرأسماليين ( استقطاع القيمة الفائضة التي قال بها ماركس تأخذها الحكومات لتمويل هذه البرامج ، ومنه قلصت عدد موظفيها الى اقل من 3% من مجموع العاملين قياسا الى معدلات تصل 95 % من العاملين في الدول ذات الاقتصاد المركزي الذي تديره الحكومات ) . هذه البرامج فاقت حتى خيال اكثر الحالمين بها حتى في القرن العشرين وهي ماضية في التوسع والتطور، وتشكل اليوم سمة بارزة وواحدة من أهم اسس هذه الحضارة وهو ضمانها لمواطنيها تحت اي ظروف واية عوائق ومصاعب يتعرضون لها في حياتهم. ونفس هذه الحضارة الضامنة حافظت على ثقافة العمل والانتاج والابداع رغم كثافة الثروات وبذخ البرامج الاجتماعية ، فالعمل اصبح ثقافة اجتماعية متأصلة في مجتمعاتها التي لاتعرف الكسل أوالعيش على الريع والمساعدات أوحتى على التوظيف في الحكومة ، فالعمل والانتاج والابداع ليس سبيلا للعيش وتحسين ظروفه فقط، ، بل واصبح ثقافة وحاجة نفسية لاثبات الذات وليس لسد رمق العيش الذي لم يعد قضية ذات بال اليوم بزيادة ثروات الدول وغناء برامجها الاجتماعية. وتجد الكثير من الكهول يتطوعون للقيام بالاعمال الخيرية والبيئية بالمجان، انها ثقافة متأصلة ، ثقافة العمل والانتاج وان تكون مفيدا. ان تمجيد ومكافأة العقل والعمل هما أهم اسس الحضارة الغربية ومنه كافأت هذه الامم نفسها بتطورها الاقتصادي من عملها في واقع الحياة ، وليس بمكافأة على الحاضر من جنات موعودة للكسالى والاتكالية ، سواء الجنات الموعودة الالهية اوالاشتراكية السوفياتية. الغرب لايقول انه يملك جنة بل يقول ان الجنة فيه متاحة لمن يعمل ويجتهد ، والعمل االيوم هو اكثر من مصدر للعيش بل هو ثقافة الوجود وتبريره في ثقافتها واثباتا للذات حتى بتوفر الخبز والوفرة والثروة.ولا مكان للحصول على المكتسبات المادية دون عمل ( أي عالحاضر). يجب فهم الغرب من فلسفته التطورية الدائمة وليس من الايديولوجيات التي تبشر بالجنات الموعودات ولاتراها في الواقع المعاش كون الجنة تقام بالعمل والابداع والتمتع بحرية الخيار وليست بمقولات طوباوية.


3. كلمة لابد منها عن الاصول الاممية للحضارة الغربية
هناك عبارة بليغة تقول ان الحضارة الغربية عالمية واممية التكوين والجذور فهي نتاج انساني عام ساهمت به كل الشعوب تقريبا ، وخصوصا شعوب البحر المتوسط والشرق الاوسط ، وليس كما يدعي أو يعتقد البعض انها اوربية أو شمالية مستندين ان بلورتها وتجربتها تمت في اوربا منذ ثلاثة او اربعة قرون. ان علم الحضارات يقول ان كل حضارة سائدة هي نتاج لكل الحضارات السابقة عليها ولاتوجد حضارة ولدت من الصفر في مكان او يوما ما على مدى التاريخ.. ان الحضارة الاوربية الحالية تعود في جذورها لمساهمات وانجازات حتى على مدى عدة الاف من السنين خلقت الظروف لتبلور اسس الحضارة الحالية ، من التراكمات التاريخية لتجارب وانجازات شعوب عديدة بدءا اختراع الالفباء والارقام والجبر والهندسة والفلسفة من شعوب البحر المتوسط القديمة من الفراعنة والكلدان العراقيين والاغريق والرومان والفرس والعرب والهنود والصينيين ولهذا تجد اليوم فهما وتقبلا لهذه الحضارة كون مفاهيمها ابتدأت واقعا منها . لنأخذ مثلا العلمانية الفكرية ، أو ليس المعتزلة اول طارحيها مطالبين بوضع العقل فوق النص حتى وان كان الهيا ، وهي دعوة رشدية في الاندلس ، ومنها الى البندقية وعصر التنوير الاوربي. ساهمت شعوب المتوسط في تطويرها في حقبات مختلفة من تاريخها. تطورت الحضارة وفقا لظروف اممها وحيثما توقفت انتقل تطويرها لامة اخرى ، وهكذا كالشعلة التي لاتتوقف، ولايعني اخر من حمل هذه الشعلة هو صانعها ، بل هو مكملا لطريق تنقلها الانساني، ويتم تطويرها لاحقا كما تم في اوربا . فالحضارة المعاصرة ليست انجاز الامة الاوربية الشمالية ، ولا هي تدعي ذلك ، بل مكملا لم اقبلها وساهم ببلورتها وتلخيصها وطرحها كمبادئ اصلاح على يد مفكري عصر النهضة والتنوير بعد تنقلها كافكار فلاسفة من اثينا والاسكندرية والبصرة وبغداد والاندلس ، تحلوا بالجرأة على طرحها وساعدت الظروف على تبنيها اجتماعيا وسلطويا وتطبيقها وثبت نجاحها في التجربة والتطبيق. ان اسس ومفاهيم هذه الحضارة اممي ، ساهمت بها شعوب كثيرة ، قديمة وحديثة ، فالحضارة لم تبدأ من لندن وتنتهي في نيويورك ، كما كتب ديورانت في مقدمته لقصة الحضارة ، بل هي كانت محطات وستبقى تتنقل حيث هناك قوما يؤمنون بالعقل والعلم وتكامل المعرفة والمنافع البشرية . ان اممية جذور الحضارة وتطورها ستساهم في الوصول لعصر نهاية الايديولوجيات المغلقة المتعصبة ، ونحن نشهد بداياته اليوم.
ان مانسميه حضارة الغرب الاصح تسميتها حضارة العالم اليوم، بغربه وشرقه ، فهي صهرت العالم المعاصر بعصر يمكن تسميته عصر العلم والاقتصاد المزدهر وسيادة النظم الديمقراطية والحريات شرقا وغربا، شمالا وجنوبا .
تعتبرالحضارة الحالية نتاج مشترك ساهم بتكوينها ونشأتها كلا الشرق والغرب. ابتدأت تاريخيا من الشرق الذي هيأ لها أهم الادوات من معرفة وتجارب وصلت الشمال والغرب عند القرن 16 ليصيغها بشكلها الحالي ، وكان اكثر جرأة في تطوير وتطبيق العلمانيتين، فأوربا كانت هي المكان الذي تلائمت الظروف لتتبلور وتجتمع مفاهيمها ، وهذا فضلها . اذ ان فضلها هو ليس خلق هذه الحضارة من الصفر، بل في تلخيص وبلورة مبادئها وافكارها والجرأة على تطبيق الافكار التي نتجت منها ، وكما لكل امة فضل على الانسانية، فأوربا لها هذا الفضل المتأخر وهي ، وكما تقول كتبها المدرسية ، ممتنة ايضا لما زودته بها من معارف وفلسفة اثينا والاسكندرية وبغداد والاندلس ، بلدان الشرق القديم وبقية الامم.
4. لماذا تناصب الايديولوجيات في العالم العربي العداء للحضارة الاوربية
تسيطرعلى شعوبنا الايديولوجيات الشعبوية بدل الفكر السياسي القائم على الوعي المعرفي بالمصالح، وربما هذا هو أهم اسباب تخلفنا وتراجعنا عن بقية العالم،حيث تسيطر دعوات الايديولوجيات الاحادية الجانب ، القومية او الطبقية او الدينية ، على مجتمعاتنا ومنه سيطرت المقولات بدل العلم والمصالح . ولهذه الايديولوجيات وان اختلفت طروحاتها في شكل الدولة ( دينية ، قومية ، بروليتارية ) ولكنها تلتقي بقضية واحدة وومنهجا مشتركا واحدا : معاداة حضارة الغرب وزرع روح الكراهية ضدها، بحجج واهية منها محاربة الاستعمار ، وكل منها ينطلق من مقولاته الشعبوية التي لاتمتلك غير لغة ومقولات العداء والتجييش. الاسلاموية ترى الغرب ضد الدين الحنيف وانه صليبي وضد الاسلام يتخفى باسم الليبرالية والحريات ليقضي على الدين ، والقومجية تتهمه بالتآمر على الامة العربية وتجزئتها لاضعافها واعاقة اقامة الوحدة العربية وليس منهجها الديكتاتوري الفاشل في اقامتها ( وياليت استفادوا من تجربة الاتحاد الاوربي الذي ربما سيستمر قرنا ليكون فعلا دولة اوربا) ، اما التيار الماركسي فهو فرع سوفياتي يصارع الغرب امبراطوريا ويطرح حضارته انها مزيفة وكاذبة ، حضارة عدو امبريالي ، والديمقراطية الحقيقية والحريات ليست الا عند السوفيت والدول الاشتراكية ( وهي بالاساس نظم ديكتاتورية شمولية بامتياز). وعدا مايمليه فكر الايديولوجيات من عداء لهذه الحضارة ، فهي تشترك ايضا باطروحة ان سبب تخلفنا وتدهورنا وتراجعنا هو الغرب ، وهو امر غريب فعلا، ان ترفض التقدم والبناء وادواته التي اصبحت معروفة في العالم، وهي ملخصة بعصارتها في الاسس الخمسة اعلاه ، بل والانكى ان تجد دولا ومدن عربية تطورت بسببها من البداوة الى احتلال مراكز عالمية في النمو والانفتاح طالت منطقة الخليج مثلا ، وتاخرت دولا متحضرة مثل مصر والعراق وسوريا ولبنان بسبب غلاة الايديولوجيا ومحاربة هذه الحضارة تحت باب معاداة الامبريالية.
ان الدعوة اليوم لفهم هذه الحضارة واسسها ومبادئها ، ولو حتى متأخرة ، ولكنها تبقى فاعلة ، فكما في 30 عاما انتقلت دبي من البداوة الى الحضارة ، بامكان دول لها امكانيات اكبر بكثير ،بشرية وموارد وطاقات ، لتنتقل خلال عقد او عقدين او ثلاثة الى مصاف دول راقية ، تماما كما تحولت كوريا الزراعية في الستينات الى مصاف الدولة العاشرة في العالم صناعيا .
انها الدعوة للانفتاح الفكري وفهم العالم ، ومعرفة اسباب تقدمه وجذورها ومفاهيمها ، دعوة لفتح الباب والخروج من الانغلاق والتعصب والتخلف الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تعالجه هذه الحضارة باسسها الخمسة اعلاه ، وفهمها بدل شتمها وتشويهها ( انها ضد الدين وضد الامة العربية وانها رأسمالية استعمارية استغلالية فاحذروها) .
ان اليسار الحقيقي هو الذي يساير التقدم والعلم والبناء والانفتاح على الحضارات، ويقدم لمجتمعه برامج وثقافة وتعليما وتفهيما ، وليس ترديد مقولات مؤدلجة معادية وتبث روح الكراهية لحضارة ساهمت ببنائها وتطويرها شعوبا ومفكرين وفلاسفة من كافة دروب التاريخ، قديما وحديثا ، ليس بغلق الطرق بمقولات ونصوص مؤدلجة ، فهو اليمين الذي يضع النص فوق العقل، والنص هنا دينيا او وضعيا ، ويحجز مجتمعاته عن اسس تحرير العقل ، والتعرف على اسس ومفاهيم الحضارة والتعرف على انجازات الامم في توطين مفاهيم الحضارة الاوربية ، التي اصبحت اسسها وقوانينها ومبادئها تسود العالم ومنه ترى نجاحات من اقاصيها الى اقاصيها، الا شعوبنا المحجوزة في قفص هذه الايديولوجيات.
ان استمر هذا الانغلاق فقطار الحضارة لن يصل لمنطقتنا لتنظم شعوبنا لبقية الامم ، وستبقى دولنا تعيش وتعتاش على ترديد التراتيل للايديولوجيات الثلاثة : الغرب الكافر والرأسمالية هي سبب تخلف الامة العربية. لا يا سادة انتم سبب تخلف الامة العربية.
حان الوقت للاصلاح والنهوض وفهم اسس بناء الدول القوية والمجتمعات الناجحة على اسس حقوقية واقتصادية علمية مجربة، انها اسس الحضارة الاوربية بالامس والعالم المعاصر اليوم ، لابد للعلم ان يرجع ليسود ولا بد للاصلاح المدني ان يبدأ كي نبدأ الخروج من كهف التخلف الملئ بقرقعة الايديولوجيات الشعبوية .



#لبيب_سلطان (هاشتاغ)       Labib_Sultan#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مطالعة اضافية في سبل اصلاح اليسارالعربي
- أليسار الاجتماعي واليسار الماركسي عالميا وعربيا
- مناقشة لمقترح السيسي في حل الدولتين
- ‏ نقد الخطاب السياسي العربي
- حول علاقة الفلسفة بالعلم واللاهوت والايديولوجيا
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
- حماس وحزب الله لايمثلون قضية الشعب الفلسطيني بل قضية اية الل ...
- العولمة السياسية وتحديات القرن 21
- قراءة (1) في تحديات القرن الحادي والعشرين
- في نقد الماركسية العربية
- حلول العلم والايديولوجيا للتخلف العربي 2
- المنهج العلمي والايديولوجي لحلول التخلف العربي
- فهم نظرية تعدد الاقطاب وانعكاسها على العالم العربي
- معركة اليمين واليسار في الهجرة الى الشمال
- فهم اليمين واليسار في عالمنا المعاصر
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
- فهم تجربة الصين وأهميتها للعالم العربي (فهم العالم المعاصر ـ ...
- فهم الرأسمالية وعلاقتها بالليبرالية ( فهم العالم المعاصر 2)
- في فهم العالم المعاصر1 علاقة الايديولوجات بالاقتصاد ونظم الح ...
- لائحة اتهام 3


المزيد.....




- صدور العدد 82 من جريدة المناضل-ة/الافتتاحية والمحتويات: لا غ ...
- طلاب وأطفال في غزة يوجهون رسائل شكر للمتظاهرين المؤيدين للفل ...
- إندبندنت: حزب العمال يعيد نائبة طردت لاتهامها إسرائيل بالإبا ...
- كيف ترى بعض الفصائل الفلسطينية احتمالية نشر قوات بريطانية لإ ...
- حماية البيئة بإضاءة شوارع بتطبيق هاتف عند الحاجة وقلق البعض ...
- شاهد كيف رد ساندرز على مزاعم نتنياهو حول مظاهرات جامعات أمري ...
- نشرة صدى العمال تعقد ندوة لمناقشة أوضاع الطبقة العاملة في ال ...
- مشادات بين متظاهرين في جامعة كاليفورنيا خلال الاحتجاجات المن ...
- إصدار جديد لجريدة المناضل-ة: تحرر النساء والثورة الاشتراكية ...
- ??کخراوکردن و ي?کگرتووکردني خ?باتي چيناي?تي کر?کاران ئ?رکي ه ...


المزيد.....

- مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة / عبد الرحمان النوضة
- الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية ... / وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
- عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ ... / محمد الحنفي
- الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية / مصطفى الدروبي
- جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني ... / محمد الخويلدي
- اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956 / خميس بن محمد عرفاوي
- من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963.......... / كريم الزكي
- مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة- / حسان خالد شاتيلا
- التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية / فلاح علي
- الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى ... / حسان عاكف


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - لبيب سلطان - الاسس الخمسة لبناء الدول القوية والمجتمعات الناجحة