|
نوستالجيا سوداء .
نيجيرفان منير أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 6592 - 2020 / 6 / 13 - 04:03
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
غوصك في هذا الزمن هو ليس إلا عمليةً لبذرك خلسةً ، عندما تركض هارباً من المواقف لتنجو منها تغافلك اللحظة لترمي بذرة الذكرى في ذاكرتك الخصبة ، هكذا تكبر فيك مع مرور الوقت وحوشٌ تقتات على ذاكرتك واحاسيسك ، تُصبح مثل اشباحٍ تسكنك وتحكمك بإستعباد بطُعمِ الوهم الباقي من حدثٍ سابقٍ بعيد . إن المرء حينها يكتسب مع تقدمِ عمره عاداتٍ كثيرة ، منها إرادية ومنها لاإرادية ، الإرادية هي ما يفعلها هذا الشخص حسب رغبته التي يحبذها ، واللاإراديّة هي ما يخضع لها المرء دون رغبته حتى إذا مال لها صارت له أكثر لذة مما يفعله بإرادته ذاتها ، وكلاهما يصيران طقوساً لديه لإستمرارية ممارستهما ، إن ما يفعله المرء بإرادته هيِّنٌ جداً ، لأنه بالتالي رغبة وتنفذ ، أما ما يكون بغير إرادة فهو إستبداد النفس لنفسها بما أطبعته السنين عليها من فعلٍ ورؤى ، إن اغلبها يكون الضمير أكثر عاملٍ فعّال فيها ، أو الحنين ، نوال الحنين الذي أتآكل كل ليلةٍ بين انيابه ، لكن طقوسي خاصة ، عاداتي وإراديَّتي ولاإراديَّتي مختلفة عن الجميع ، ارى نفسي فقط من يخضع لها ، يتجلى كل ذلك عندما اعود محمّلاً بالتعب إلى بيتي الأشبه بالجحر ، أعودُ والتعب يطوف على كتفي ، يتساقط من رأسي ويتسرب من أُذني ، منه ما يكون مثل الجليد يترسب ويكبر فوق مِنكباي ، لا أحد يتمتع برؤيته سواي ، لأنني أحمله واحافظ عليه كعضوٍ فيني ، حينها لا اتوقف للإستراحة بتاتاً بل اباشر بإنهاء كامل أعمالي المنزلية كأيِّ وحيدٍ ، وأجلس على سريري بعدما أنهي أعمالي ثم أشغِّل أغنية أكنسُ بها روحي مما اتسخت به طوال اليوم ، للحظات يبدأ طقسي بالظهور أو عادتي التي أمرّ بها كُلَّ يومٍ ، تبتدئ بتغيُّرٍ جسدي اتحول فيهِ لقطعتين ، إذ ينفصل هيكلي الخارجي عن محتواه الداخلي حيث يخلّف الأمر فراغاً ، اوجس ذاك الفراغ الذي يحصل ، تتقلص اعضاءي الداخلية وتنسلخ عن عظامي وجلدي ، ويظهر الحنين مثلما يظهر الشفق في الليالي القطبية ، يدور في الفراغ حول جوفي المنفصل عن هيكله الخارجي ، تُصمُّ اذناي فجأة ، حتى تنعدم الإستجابة والتناغم بين القسمين في جسدي الكامل ، إن حاولت أن اغني ، يكون الشجو الداخلي أسرع من الخارجي ، شفاهي تردد وتهتف ، وداخلي يصدح بطريقةٍ أسرع ، أسرّع الغناء من شفتيَّ ، يتسارع غناءي الداخلي أكثر ، كأنما الذي يُقال في الخارج يضيع في الفراغ بين القسمين ، وأصير كلّي قلبٌ ينبض ، شراييني تبرز وجهي يحمر وأحيانا يرافق الأمر صداع ، الشقيقة المعتادة ، أصمت لعدم جدوى محاولات الموازات بين قسميَّ ، يستكين داخلي أيضاً ، وينبلج في الفراغِ بين جسدي وباطنه صوتٌ تزاد قوته مع الوقت ، ويدور الحنين حوله حتى يتبدد ويكشفه لي مثلما يزول الضباب عن مجسم ، يسيطر عليَّ الصوت ويخضعني له ، انصت لداخلي بجرحٍ عميق ، يردد بوقار تام .
"سمعت هالشباب يمّة الحرية ع الباب يمة طلعوا يهتفولها . شافوا البواريد يمة ، قالو اخوتنا هنين . ومش رح يضربونا . ضربونا يمة بالرصاص الحي . متنا . بإيد إخوتنا . بإسم امن الوطن . واحنا مين احنا"
سرعان ما يتلاشى الصوت ، ويعود الصفاء لذاكرتي وباطني ، آنذاك أُدرك أن الصوت يعود ليومٍ سابق في إحدى السنين التي أنطبعت فيني ، عندما كنا ذوي قلوبٍ صافية نحب بعضنا ولنا هدفٌ سامي ، أستغل الصفاء لأفرّ بعيداً عن الطقس ، يعود التشويش إلي ، انظر إلى الحائط ، ليس بحائط . يتحوّل كلّه لشاشةٍ ، ارى نفسي ، ارى صورتي كلها ، امشي نشيطاً في احد المساءات، اتذكر الحدث وانا اشاهد نفسي ، كنت ذاهباً إلى عملي في تركيا ، اتابع مع توافق الذاكرة بالرؤية ، اراني اذهب إلى عملي كأيِّ إنسانٍ ، اجتمع حين وصولي بربّ العمل ، ثم نلتهي بجارنا الذي يأخذ من وقتنا بعض الشيء ، ونحن نشاهده كيف يهين عامله اللاجىء بينما ربُّ عملي يضحك حبوراً من كلِّ قلبه ، انبريت عنهما واتجهت صوبَ بيتي ، مرحاً بالحفاظ على كرامتي ، حزيناً على صاحبي ، كنتُ تارة امشي فاتحاً يدي للريح وحيداً في الشارع بعدما خيَّم الليل علينا ، تحت الإنارة البرتقالية ، أعرض صدري لريح العالم أجمع ، وتارة أركض وأقفز لألمس غصن شجرة في الطريق ، وأُخرى أدور حول نفسي حتى أخفف من عناء المشي وأسلّي نفسي ، إلى أن ادخل زقاقاً أحني فيه رأسي إلى طرفٍ وامد يدي لألمس بسبباتي عرض الحائط على طول الطريق . بينما كنت اصدح من الداخل مكسوراً يعصفُ بيّ الضمير ، أعيدي لي حريتي ، أعيدي لي كرامتي ، أعيدي لي هويتي .
أتملّص من الذكرى وأُشيح بوجهي للبزق المعلّق على الحائط الآخر لغرفتي ، يصير زنده فوهةُ بندقيّة وقصعته مثل بلَّورة المشعوذات الخياليات ، تسوَّدّ البلورة ، وتميل الفوهة نحوي ، أختبئ تحت غطائي حينما افزع من الظن انني لازلت في حدثٍ مررت به ذات يوم ، عندما أشرع أحد المسلحين سلاحهُ عليّ ووضعه في رأسي حقداً ونقمةً من عرقي ، لكنني نجوت ولم امُت صدفةً . أجدني لا أنجح بالأختباء ، ارى النمر المرسوم على غطائي ، يتحرك ، ويفتح فمه زائراً في وجهي ، اخرج رأسي من تحت الغطاء وانظر إلى الطاولة ، ارى القفازان الصوفيان عليها يمثلان مشهداً لي كيف يجمعان دماغَ طفلٍ من تحت الأنقاض ، ارمي القفازان في الدِرج ، بعدما أكون قد عَجزت ونفذت طاقتي ، رويداً رويداً يعود كلَّ شيء كما كان ، يلتحم كِلا قسميّ جسدي ، ويتقهقر الحنين كأفعى إلى جحره ، وتصبح كل اعضاءي متصلةً ببعضها على أفضل ما يرام ، تدور رحى الذاكرى على الأسباب والحالة ، لا اجد إلّا أنها الأوهام المتشكّلة من حقيقةٍ قد حصلت ، بهتت الحقيقة وصارت ماضٍ وظل مشهدها وشعور تلك اللحظة يقبض أعصابي ويتجذّر في دماغي ، أشبهُ بوسمٍ على نفسي يعرّفني بيّ ، يزعق السؤال في وجهي ، هل نحن حقيقة مثل الحقائق التي نحملها أم اننا وهمٌ ونعيش مع الأوهام التي فقدت حدثها ، نحن حقيقةً تحمل الأوهام ، ذات الحدث وذات الزيف . قد لا يهم إن استطعنا أن نحافظ على شكلنا وحياتنا الأصليّة إلّا اننا فقدنا رونقنا وهو ملمس ذواتنا الملس ممّا أبقى وجودنا مجرّد وهم ، هكذا أكظِمُ فمه .
ترتفع وتيرة الصداع لديّ ، اغمض عيناي لتهدأ النوبة وانام . ما حيلتي انا المُعسّف وانا البريء انا المريض وانا المشخّص لنفسي .
#Nêçîrvan_الصيَّاد
#نيجيرفان_منير_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نتنياهو: الحوثيون سيتعلمون ما تعلمته -حماس- و-حزب الله- ونظا
...
-
موكب بابا نويل يوزع الحلوى والبهجة في رومانيا
-
مناطيد صغيرة تزين سماء أثينا عشية عيد الميلاد.. هكذا بدت -لي
...
-
أرتال إدارة الأمن وقوات الشرطة السورية تنتشر في المدن السوري
...
-
خليجي 26: البحرين تتخطى العراق وتبلغ نصف النهائي والسعودية ت
...
-
بفعل فاعل؟.. فيديوهات تثير الجدل بشأن سقوط طائرة أذربيجان
-
نتنياهو يشعل شمعة الحانوكا ويتوعد الحوثيين
-
عبدالله بن زايد يؤكد على وحدة سوريا ودعم تطلعات شعبها
-
صحيفة: أسماء الأسد مريضة بشدة وفرصتها للنجاة 50 في المئة
-
العثور على جثة بين عجلات طائرة أميركية
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|