|
قد أخطأ الشيخ العبيكان
كامل النجار
الحوار المتمدن-العدد: 1544 - 2006 / 5 / 8 - 12:00
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الشيخ عبد المحسن العبيكان من رجالات الدين السعوديين الذين يُحسبون على التيار الإصلاحي وقد تعارك مع المتشددين من أمثال مفتي السعودية الشيخ آل الشيخ. ولكن الشيخ العبيكان كان، وحتى السنوات القليلة الماضية، من الذين يحرضون على الخروج على السلطة السياسية التي سمحت بإقامة القواعد الأمريكية في البلاد، وعلى حث الشباب على الجهاد في العراق وأفغانستان. وكان الشيخ العبيكان يفعل ذلك، لا بد، عن قناعة دينية لا تقبل الزعزعة، بأن السلطة السياسية في المملكة قد خرجت عن أصول الدين وأن الدين الإسلامي يُحث على الجهاد. ولكن فجأةً، وربما لتفادي عواقب غضب السلطة عليه غيّر الشيخ العبيكان موقفه من السلطة وتبرأ من كل فتاواه السابقة عندما ظهر على شاشات التلفزيون السعودي وقال: (إنني قد اخطأت في السابق حينما جعلت مسجدي نقطة للنشاط الديني المعارض ضد الحكومة السعودية، لكنني تراجعت، فلماذا لا يتراجع ويعترف من أخطأ مثلي من الدعاة) (الشرق الأوسط 15 مايو 2005). فالشيخ العبيكان، المستشار القضائي بوزارة العدل السعودية، والقاضي السابق، والمفتي، قد قضى كل سنوات عمره الماضية وهو يدعو إلى الخطأ، وهذا يؤكد لنا أن رجالات الدين المسلمين سواء الوهابيون منهم أو الأزهريون، يُخطئون كما نخطئ نحن عامة البشر غير الملتحين. وقد أخطأ الشيخ العبيكان مرة أخرى عندما رد على مقال للدكتور الأزهري الشيخ نهرو طنطاوي عن وجوب الاعتماد على القرآن فقط وتجاهل السنة في التشريع الإسلامي، وكان مقال الشيخ العبيكان والمنشور في "شفاف الشرق الأوسط" تحت عنوان " المسلم مأمور في القرآن باتباع السنة". وسوف أحاول هنا أن أبيّن للشيخ أنه أخطأ للمرة الثانية، فالمسلم غير مأمور باتباع السنة. يقول الشيخ العبيكان: (فقد قرأت الحوار الذي اجرته «الشرق الأوسط» مع د. نهرو طنطاوي والذي نشر في العدد (10012) يوم الخميس الموافق 27/4/2006 وقد استغربت كثيرا من جرأة الدكتور على إنكار السنة المطهرة، وزعمه ان المصدر الوحيد للتشريع الاسلامي هو القرآن فقط، وهذا القول ليس بجديد بل هو من جنس قول الخوارج الذين قالوا «حسبنا كتاب ربنا» وأنكروا سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولعظم خطرهم على الاسلام والمسلمين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، كما في الأحاديث الصحيحة) انتهى. والشيخ هنا رغم توبته واعترافه بالخطأ عندما كان يُحرض على العصيان ويحكم بتكفير الغير، يُحرض على قتل الشيخ نهرو طنطاوي بتشبيهه له بالخوارج. وأخطأ كذلك عندما زعم " أن النبي أمر بقتل الخوارج الذين قالوا (حسبنا كتاب ربنا)، كما في الأحاديث الصحيحة". وهو هنا يستشهد بأحاديث من السنة التي اعترض عليها الشيخ نهرو ودعا إلى تجاهلها، فأصبح كالذي يقول "داوني بالتي هي الداء". ثم أن الأحاديث التي زعم الشيخ العبيكان أنها أحاديث صحيحة لا يمكن أن تكون أحاديث صحيحة لعدة أسباب منها أن الخوارج لم يكونوا قد ظهروا في حياة النبي حتى يقول عنهم النبي هذه الأحاديث التي لا بد أنهم قد وُضعوها بعد موته، فهم قد ظهروا إلى حيز الوجود بعد وفاة النبي وفي أيام الخلاف بين معاوية وعلي بن أبي طالب. ولم يكن هناك في أيام النبي من يستطيع أن يُجهر بقول كقول الخوارج لأن المحيطين بالنبي كانوا يقتلون كل من تجرأ بكلمة يعتبرونها مسيئة للنبي أو للإسلام أو خارجة عن فهمهم للإسلام. ويقول الشيخ العبيكان كذلك: (ومن زعم انه يكتفي بالقرآن وينكر السنة فهو منكر للقرآن لأننا مأمورون في القرآن باتباع السنة ولا يصح إيمان من آمن بالقرآن حتى يؤمن بالسنة التي هي مفسرة للقرآن وموضحة له اضافة الى كونها مصدرا مستقلا، كما سيأتي بيانه) انتهى. ونقول للشيخ العبيكان ليس في القرآن ما يأمر الناس باتباع السنة، فالقرآن يقول: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون) (البقرة، 4 و 5). وما أنزل على النبي هو القرآن فقط وليس السنة. والذين يؤمنون بالقرآن هم المفلحون. وتأكيداً لهذا القول يقول القرآن للنبي محمد: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا) (النساء 163). وكل هؤلاء الأنبياء لم يكن عندهم أحاديث وسنة، والذي أوحيً إليهم لم يكن مختلفاً عن الذي أوحيً إلى محمد كما يقول القرآن. وإذا كانت السنة تفسر القرآن ولذلك يجب علينا الإيمان بها، فكذلك يجب علينا الإيمان بتفسير الزمخشري وتفسير ابن كثير وغيرهم للقرآن أو أن نلقي بكل كتب التفسير في الزبالة لأن السنة قد فسرت القرآن، الذي هو أصلاً قرآنٌ عربي مبين لا يحتاج تفسيراً. وقال شيخ العبيكان: ((أما بالنسبة الى السنة فقد جاء الأمر في القرآن بالرجوع اليها في اكثر من اربعين موضوعا كما قال تعالى (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا) (النساء: 69). وقال (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) (النساء: 59) وقال (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) (الأحزاب: 21)) انتهى. وواضح هنا أن القرآن كان يخاطب الذين عاصروا النبي ويحثهم على طاعته والامتثال إلى ما يأمرهم به النبي من غزوات وغيره. وليس من المعقول أن يأمر القرآن الناس بطاعة رجل بعد أن يموت ويزول من هذه الحياة الدنيا. ثم أن الآية الثانية تقول أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم، فهل نفهم من هذا أن الله يأمر الشيخ العبيكان بطاعة الملك عبد العزيز الذي كان ولي الأمر في السعودية قبل أن يموت؟ فالإنسان الذي يموت لا طاعة له في الأحياء، والنبي كان بشراً مثلنا كما ردد القرآن في أكثر من آية. والآية تقول كذلك إذا تنازعتم في شيء فردوه إلى الرسول فكيف نرد نزاعنا اليوم في مشكلة إيران والتسلح النووي مثلاً إلى النبي؟ فالنبي ليس بين أيدينا لنرد المشكلة إليه والأحاديث المنسوبة إليه لا تقول شيئاً عن التسلح النووي. وإذا كان القرآن، قبل السنة، يأمر بطاعة أولي الأمر، وأباح الشيخ العبيكان لنفسه أن يتجاهل أمر القرآن بطاعتهم ويحث من في مسجده على الخروج عليهم، ألا يحق للمسلمين تجاهل السنة المزعومة التي لا يمكن بحال من الأحوال إثبات أنها ترجع إلى النبي؟ ويستمر شيخ العبيكان فيقول: (وقال (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) (الحشر: 7) وقال (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) (آل عمران: 31) فأمر الله لنا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وجعله سنته حكما لفض النزاعات بل وترتيب الأجر العظيم على طاعته يستلزم حفظ الله لهذه السنة النبوية حتى يتهيأ للعباد الرجوع اليها عند النزاع كما أمر الله، والطاعة لأمر الله الذي أمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم) انتهى. الآيتان المذكورتان هنا واضحتان وضوح الشمس، وهما يتحدثان عن ما أتاكم الرسول من الأوامر والنواهي القرآنية التي أرسله الله بها، ولا نعلم كيف استنتج الشيخ الغبيكان من الآيتين أن الله قصد أن يحفظ لنا سنة النبي لنرجع إليها؟ فالشيخ العبيكان هنا كالذي يحاول أن يستخرج دماً من الحجر، إن لم يكن من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه. فالقرآن يأمر الرسول أن يقول (ما أنا إلا بشر مثلكم يوحي إليّ) والوحي هو القرآن، وعندما يقول القرآن (ما أتاكم الرسول فخذوه) يقصد ما أتاكم به أو أمركم به من القرآن، وليس السنة. وفي محاولته إثبات أن السنة مصدرٌ من مصادر التشريع يقول الشيخ العبيكان: (ولو بقينا على حجية القرآن وحده دون السنة لما عرفنا كثيرا من الأحكام الشرعية، فمن اين لنا عدد الصلوات الخمس المفروضة وعدد ركعاتها، بل وصفة الصلاة نفسها، وكيف نعرف صفة الحج والعمرة؟ وهكذا) انتهى. والمقبول عقلياً أنك إذا أرسلت رسولاً إلى قومٍ لم يكن قد جاءهم رسول قبل ذلك بنفس الرسالة، فلديك أحد خيارين: إما أن تأمر الرسول أن يبين لهم بالطرق العملية التي تريدها أنت، كيف يؤدون المطلوب منهم، وإما أن تترك الخيار للرسول ليختار لهم كيف يؤدون ما تطلبه منهم. فهل عدد الصلوات وعدد ركعاتها والأذان وطريقة أداء الحج سنة أم فرض من الله ؟ فلو كانت كل هذه الأشياء فرضاً من الله، فإن الله لا يغير رأيه بل يقرر مسبقاً ما يريد ثم يفرضه على عباده. فهل حدث هذا في حال الصلاة والصوم والحج؟ لم يحدث هذا إطلاقاً وإنما تدرج فيه النبي على مدى سنوات وقد تعلّم بعضه من اليهود وبعضه من النصارى. فلو أخذنا الصلاة أولاً، نجد أنها ركن من أركان الإسلام الخمسة ولا يتم الإسلام بدونها، ولكن مع ذلك لم يبدأ النبي بالصلاة إلا في العام العاشر بمكة ( وفرضت الصلاة بمكة ليلة الإسراء بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ) (شذرات الذهب للدمشقي، ج1، ص 14). وعندما ابتدأت كانت صلاتين فقط وفي كل صلاة ركعتان (ذكر المزني أن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس وصلاة قبل طلوعها، ويشهد لهذا القول قول سبحانه : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر:55] وقال يحيى بن سلام مثله. وقد ذكر البخارى من رواية مَعمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ففرضت أربعاً) (السيرة النبوة لابن هشام، ج2، ص 109). ويقول ابن الجوزي: (وفي هذه السنة: (السنة الأولى من الهجرة) زيد في صلاة الحضر - وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين - وذلك بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر في ربيع الآخر لمضي اثنتي عشرة ليلة.) (المنتظم في التاريخ، ج3، ص 15). ونجد أن بعض الصلوات مثل صلاة الضحي لم يكن عدد ركعاتها معروفاً فكان النبي يصليها ركعتين وأربعة وستة وثمانية ركعات (حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أسد بن عاصم، حدثنا الحصين بن حفص، عن سُفيان، عن عمر بن ذر، عن مجاهد، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، صلَّى الضحى ركعتين، وأربعاً، وستاً وثمانياً ) (زاد المعاد لابن قيم الجوزية، ج1، ص 153). وهل كانت صلاة الصبح سراً أم جهراً؟ (في صفة القراءة المستحبة فيهما، ذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء إلى أن المستحب فيهما هو الإسرار، وذهب قوم إلى أن المستحب فيهما هو الجهر، وخير قوم في ذلك بين الإسرار والجهر. والسبب في ذلك تعارض مفهوم الآثار، وذلك أن حديث عائشة المتقدم المفهوم من ظاهره "أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ فيهما سرا" ولولا ذلك لم تشك عائشة هل قرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟ وظاهر ما روى أبو هريرة أنه كان يقرأ فيهما بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} أن قراءته عليه الصلاة والسلام فيهما جهرا" ولولا ذلك ما علم أبو هريرة ما كان يقرأ فيهما، فمن ذهب مذهب الترجيح بين هذين الأثرين قال: إما باختيار الجهر إن رحج حديث أبي هريرة، وإما باختيار الإسرار إن رجح حديث عائشة، ومن ذهب مذهب الجمع قال بالتخيير) (بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد القرطبي، ج1، ص 148).
ومع كل هذا الاختلاف في كيفية الصلاة نسأل أنفسنا: هل أمر الله النبي أن يشرح للمسلمين الصلاة بكل هذا التذبذب وعدم التركيز على وتيرة واحدة، أم أن النبي فعل ذلك من تلقاء نفسه وبدون وحي من الله؟ فإذا كان الأول هو الجواب يكون الله غير قادر على اتخاذ القرار الصحيح ويضطر إلى تغيير رأيه عدة مرات، وإذا كان الثاني هو الجواب فإذاً السنة ما هي إلا محاولات من النبي لإيجاد أحسن حل وسط يكون مقبولاً للمسلمين. وبالتالي فهي ليست شيئاً موحي من الله إلى النبي ولا يجب على المسلمين استنباط الأحكام الشرعية منها، خاصةً إذا تعارضت السنة مع صريح القرآن كما في رجم الزانية والزاني التي نسخت السنة فيها القرآن.
ولم يكتف شيوخ الإسلام بالرجوع إلى ما قال أو فعل النبي بل تمسكوا بما قال الصحابة و التابعون، فقال شيخ العبيكان: (وساق بإسناده عن عبد الله بن مسعود إنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى، فبلغ ذلك إمرأة من بني اسد يقال لها ام يعقوب كانت تقرأ القرآن فأتته، فقالت له: ما حديث بلغني عنك انك لعنت الواشمات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى. فقالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدت هذا. قال فقال عبد الله: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ثم قال (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) انتهى. ورد عبد الله بن مسعود على المرأة التي قرأت القرآن ليس رداً مقنعاً فهي كانت تتحدث عن الحديث المنسوب إلى الرسول، وعبد الله بن مسعود رد عليها بأن قال إن الله قال ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. وقد غاب عن الشيخ العبيكان وعن عبد الله بن مسعود أن الناس هنا لا يجادلون في ما أتى به الرسول، وهو القرآن، إنما يجادلون في صحة ما زعم الفقهاء ورواة الحديث أن النبي قاله أو فعله. فلو صح بدون أدنى شك أن النبي قال حديثاً بعينه أو فعل فعلاً بعينه لقبلنا أن يقولوا ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، ولكن هل من الممكن أن نجزم بصحة أي حديث وصلنا؟ الجواب هنا حتماً بالنفي. والشيوخ لا يهمهم أن متن الحديث يتعارض مع أحاديث أخري، فهم مثلاً يقولون بالحديث السابق (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله) فالرسول لعنهن لأنهن غيرّن خلق الله، لكنهم في نفس الوقت يقولون بحديث الختان الذي هو من أكثر الأشياء تغييراً لخلق الله. فالواشمة تريد أن تزيد إلى حسنها بينما الختان يُنقص ما أعطاه الله المرأة والرجل. فكيف يلعن الرسول الواشمة ويُحث على الختان؟ و الأحاديث والسنة التي يعتمد عليها الفقهاء تقول إن مسلم قال عن أبي هريرة إنه قال، قال رسول الله: "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبي". فهذا الحديث يدل على أن الله نفسه يعرف أن الذاكرة لا يمكن الاعتماد عليها ولذا كتب ما قرره في كتاب عنده. والقرآن يقول "اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم" فإذاً كتابة الشيء لا بد منها إن أردنا له الحفظ من الضياع. ولكن مع ذلك تخبرنا الأحاديث التي يعتمد أهل السنة عليها أن النبي منع أصحابه أن يكتبوا عنه غير القرآن، ففي حديث ابن سعيد عن النبي أنه قال: "لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه" خرّجه مسلم. وفي حديث له آخر يقول ابن سعيد: "حرصنا أن يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فأبى" . وروى أبو نصرة قال: قيل لأبي سعيد: أنكتب حديثكم هذا؟ قال: لِمَ تجعلونه قرآناً؟ ولكن احفظوا كما حفظنا. وقال خالد الحذاء: ما كتبت شيئاً قط إلا حديثاً واحداً، فلما حفظته محوته. وهناك من الفقهاء من امتنع عن كتابة الحديث منهم الشعبي ويونس بن عبيد وخالد الحذاء وابن عون والزهري (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، سورة طه، الآية 51). ومنهم من كان يكتب فإذا حفظه محاه منهم محمد بن سيرين وعاصم بن حمزة وهشام بن حسان الذي قال: ما كتبت حديثاً قط إلا حديث الأعماق فلما حفظته محوته. وكان الفقيه محمد بن عبد الرحمن أبو ذئب الذي ولد عام 365 هجرية يحفظ حديثه ولم يكن له كتاب ولا شئ ينظر فيه ولا له حديث مثبت في شئ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، ج3، ص 103). فهذا رجل ولد بعد ثلاثمائة وخمسين عاماً بعد وفاة النبي وكان يؤمن أن الحديث لا يُكتب. فإذا كانت الأحاديث والسنة وحياً يوحيه الله إلى النبي، لماذا منع النبي أصحابه من كتابة الأحاديث وهو كان يعلم أن الإنسان ينسى والله قال له في القرآن " سنقرئك فلا تنسى"؟ وقد سها مرةً وصلى خمسة ركعات. فهل من المعقول أن يفرط الله في الوحي الذي أوحاه إلى نبيه ويمنعه من كتابته؟ وإذا كانت أحاديث النبي وأفعاله وحياً فكيف أوحي الله إلى نبيه أن يقول لأهل المدينة أن لا يلقحوا نخلهم؟ فقد روى مسلم فى ((صحيحه)): عن طلحةَ بن عُبيد الله رضى الله عنه، قال: ((مررتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نخلٍ، فرأى قوماً يُلَقِّحُونَ، فقال: ((ما يصنعُ هؤلاء)) ؟ قالوا: يأخُذون من الذكر فيجعلونه فى الأُنثى. قال:((ما أَظُنُّ ذلك يُغنى شيئاً))، فبلغهم، فتركوه، فلم يَصْلُحْ، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((إنما هُوَ ظََنٌ، فإن كان يُغنى شيئاً، فاصنَعوهُ، فإنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وإنَّ الظَنَّ يُخطِئٌ ويُصيبُ، ولكنْ ما قلتُ لكم عنِ الله عَزَّ وجَلَّ، فلن أكذِبَ على الله) (الطب النبوي لابن القيم الجوزية، ص 401). وهذا الحديث يوضح أن أفعال وأقوال النبي ما هي إلا ظن وأقوال بشر مثلنا يخطئ ويصيب، وعليه هي ليست مصدراً للتشريع. والنبي في هذا الحديث يقول "ولكن ما قلت لكم عن الله عز وجل فلن أكذب على الله" ألا يوحي هذا القول بأن ما يقوله في أحاديثه ليس عن الله عز وجل؟. ويقال إن أول من دون الحديث كان الزهري الذي توفي عام 124 هجرية عندما أمره الخليفة عمر بن عبد العزيز بذلك. وعمر بن عبد العزيز توفي عام 101 هجرية وحكم عامين فقط. فلا بد أنه أمر الزهري بكتابة الحديث حوالي عام مائة بعد الهجرة أي بعد حوالي تسعين عاماً بعد وفاة الرسول. والزهري لم يجمع إلا القليل من الأحاديث. ثم جاء البخاري (ولد عام 194 وتوفي عام 256 هجرية) وجمع الأحاديث في صحيحه فلا بد أنه جمعها بعد حوالي مائتين عاماً من وفاة النبي. ثم جاء أهل الحديث بعد ذلك وقسموا الأحاديث إلى متواتر سمعه أكثر من شخص من النبي ويتفق أهل الحديث جميعهم على أنه راجع إلى النبي، ثم حديث حسن ثم حديث ضعيف وما إلى ذلك. وقد اختلفوا في عدد الأحاديث المتواترة، فقال بعضهم انه ليس هناك أصلا حديث متواتر مقطوع بصدقه، وقال بعضهم انه يوجد حديث متواتر واحد وهو حديث (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ). ورأى بعضهم أن الحديث المتواتر ثلاثة فقط، وارتفع بعضهم بالأحاديث المتواترة إلى خمسة وبعضهم إلى سبعة، وقال السيوطي إنها مائة حديث فقط. فإذاً كل الأحاديث الباقية هي أحاديث آحاد، أي ادعى شخص واحد أنه سمعها من النبي، ومثل هذه الأحاديث، وهي بمئات الآلاف، لا تُعتمد في التشريع فهل هناك من سند للشيوخ ليقولوا لنا إن الذي يعتمد على القرآن فقط يكون من الخوارج، كما قال الشيخ العبيكان؟ والغريب أن الشيوخ يزيدون على قول الغزالي الذي قال "إن قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب" فهم لا يخطر ببالهم أن قولهم يمكن أن يكون خطأً. فقد روويّ عن أحمد بن حنبل أنه قال لما بلغ بن أبى ذئب أن مالكا لم يأخذ بحديث البيعين بالخيار قال يستتاب وإلا ضربت عنقه. ومالك لم يرد الحديث ولكن تأوله على غير ذلك) (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، ج3، ص 104). فالذي يحكم بردة الإمام مالك بن أنس لن يتورع عن الحكم بردة المسلم العادي. ولا نعلم لماذا يتجاهل الشيوخ قول الله: (ونزلنا عليك الكتاب بياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (النحل 89). وكذلك قوله ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء) (الأنعام 38). فالكتاب لا يحتاج أحاديث تزيد إليه أو تشرحه، وقد قال ابن القيم الجوزية: (قال ابن إسحاق: ثم خطب رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فقال: ((إن الحمد للّه أَحمَدُهُ وأَسْتَعِينُه، نَعوذُ باللّه مِنْ شرور أنْفُسِنا، وسَيِّئاتِ أعْمالِنا مَنْ يَهْدِه اللّه، فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل، فلا هادِيَ له، وأشْهَدُ أن لا إله إلاَّ اللَّهُ وَحْدَه لا شَريكَ له، إنَّ أحسَن الحَديث كِتابُ اللّه، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَيَّنَه اللّه في قلبه، وأدخله في الإِسلام بعد الكفر، فاختارَه على ما سواه مِنْ أحاديث النَّاس، إنَّه أَحْسَنُ الحديثِ وأبْلغُه) (ج1، ص 169). فهذا هو النبي نفسه، إن صح الحديث، يقول إن القرآن هو أحسن الحديث. فالشيخ العبيكان قد أخطأ مرة أخرى.
#كامل_النجار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مؤتمر مكة يُثبت أن الإسلام يدور حول الجنس
-
احتضار عيد العمال
-
الترابي ليس مرتداً
-
العرب…الإسلام…والإرهاب
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|