أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - خميس بن محمد عرفاوي - تقديم كتاب -كتابات ومعارك من أجل تونس عادلة ومستقلة-















المزيد.....



تقديم كتاب -كتابات ومعارك من أجل تونس عادلة ومستقلة-


خميس بن محمد عرفاوي
(Arfaoui Khemais)


الحوار المتمدن-العدد: 6271 - 2019 / 6 / 25 - 04:21
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


صدر هذا الكتاب في أواخر السنة المنصرمة (2018) وتولت نشره "مؤسسة روزا ليكسمبورغ" مشكورة. وهو يحتوي على 255 صفحة من الحجم المتوسط وعلى غلافه وضعت صورتا المؤلف جون بول فينيدوري ورفيق دربه محمد علي الحامي مؤسس جامعة عموم العملة التونسيّة. والكتاب ليس نصا مسترسلا بل هو مجموعة نصوص (مقالات ورسائل وتقارير الخ) منشورة في مجلة "الثورة البروليتارية" (La Révolution prolétarienne) جمعها السيد الحبيب رمضان ووضع لها العنوان المذكور أعلاه، وقدم لها الأستاذ الحبيب القزدغلي.
يشتمل الكتاب على أربعة أجزاء: المقدمة ولمحة عن فينيدوري والنصوص والفهرس. ألّف فينيدوري هذه النصوص على امتداد فترة طويلة من الزمن أي من سنة 1928 إلى سنة 1959 وبلغ عددها 49 مقالا أي بمعدل مقال ونصف كل سنة. وقد ارتأى الحبيب رمضان نشرها حسب التسلسل الزمني وإن كان انتظامها غير متواصل في الزمن فبعضها صدر في أعداد متتاليّة من المجلة والبعض الآخر متباعد. وقد سجلنا أن أطول مدة انقطعت فيها المقالات عن تونس تمتد من أفريل 1939 إلى فيفري 1950 وهي فترة انقطعت خلالها المجلة من 1939 إلى 1947 وتوقفت نهائيا في سنة 1987.
من هو فينيدورى؟ هو مواطن فرنسي أصيل جزيرة كرسيكا ولد سنة 1890 وتوفي سنة 1987. درس المحاسبة واشتغل في مهنة الطباعة ثم مستخدما في بلديّة تونس سنة 1922(2). مارس النشاط النقابي وناضل في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي و في صلب الجامعة الشيوعيّة في تونس التّي أصبح كاتبها ووكيل جريدتها الناطقة بالفرنسيّة "المستقبل الاجتماعي" (L’Avenir social) بعد لوزون (1882-1976). وتعرّض من جراء نشاطه المعادي للاستعمار الفرنسي للطّرد من العمل في البلديّة وللمحاكمة عديد المرّات وسلطت عليه عدّة أحكام بالسجن(3). تضامن مع جامعة عموم العملة التونسيّة وحوكم في قضيّة 1925 بالنفي لمدة عشر سنوات. ومنذ انتقاله إلى فرنسا التحق بمجموعة "الثورة البروليتاريّة" التي كانت تتبنّى النزعة النقابيّة الثوريّة (أو الفوضويّة النقابيّة)، وهي تيار يدافع عن فكرة استقلاليّة الحركة النقابيّة عن كافة الأحزاب بما فيها حزب الطبقة العاملة(4).
ألف فينيدوري، عندما كان معتقلا بالسجن المدني بتونس سنة 1925 مذكرة تحمل عنوان: معارك عماليّة جامعة عموم العملة التونسيّة والامبرياليون الفرنسيين، وتولى نشرها سنة 1981 في كتاب: "معارك عماليّة جامعة عموم العملة التونسيّة والامبرياليون الفرنسيون خلال العشرينات. نصوص ووثائق روبير لوزون"(5). قمنا بتعريبه ونشره سنة 2016.
ومن نافل القول أنّ قيمة كتاب "كتابات ومعارك" تكمن في كون مؤلفه عاصر الأحداث التي كتب حولها وأنّ ميزة كتابته هي الانسجام والتماسك. فهو مستقر في منطلقاته بصفته مناضلا شيوعيا ينتمي إلى التيار النقابي الثوري، ومعارض بشكل جذري للاستعمار ومنحاز لقضايا الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة ومتعلق بالبلاد التونسيّة. استعمل في مقالاته لغة واضحة ومباشرة. وكان سلاحه الأساسي هو النقد. والكثير من مقالاته كتبها في تونس وهذا يعني أنه ينقل المعلومة على عين المكان وهو يعتمد في الكثير من الأحيان على الصحف وعلى شبكة من العلاقات التي تربطه بتونسيين يتنقلون بين تونس وفرنسا. ومهما يكن من أمر فهو مهتم بالوضع في تونس عن كثب ويمكن حوصلة كتاباته في المسائل التالية: الاستعمار الفرنسي، الحياة النقابية، الحياة السياسية.
سنقدم الكتاب ببعض الإسهاب وسنبدأ باستعراض بعض القضايا والإشكاليات التي تطرحها المقالات ساعين إلى الوقوف عند الجديد من الأخبار وعند تلك التي يمكن أن تهم القارئ التونسي.
I. الاستعمار الفرنسي
اعتنى فينيدوري في عدد هام من مقالاته بالاستعمار الفرنسي في تونس موجها انتقادات حادة إلى سياسته الاجتماعيّة ومنظومته الفاشيّة التي ركزها هناك معربا عن تضامنه القوي مع الشعب التونسي.
1- بؤس الشعب التونسي في ظل الاستعمار
عاش الشعب التونسي فترات قاتمة في بداية الثلاثينات بسبب الأزمة الاقتصادية. فقد نقل فينيدوري عن أحد الصحفيين أن الحياة في تونس أصبحت في ذاك الوقت صعبة جدا. ففي أسفل المجتمع يسود الفقر المدقع. آلاف البشر لا يجدون ما يأكلون فيلجئون إلى الأعشاب، وأصبح الناس في الرّيف شاحبي الوجه ويلبسون الأسمال. أما في المدن فالعمال لا تزال مرتبتهم دون مرتبة العمال الفرنسيين. وفضلا عن ذلك فهم لا يحظون بمكانة المواطنة ولا يتمتعون بالحق النقابي ويتقاضون أجورا ضعيفة. ويشتغل عمال المناجم بأم العرائس والرديف بالقطعة مقابل أجور زهيدة بينما يعملون طيلة ساعات غير محددة: من الثامنة صباحا حتى ساعات الليل. ورغم الإقرار ب48 ساعة عمل في الأسبوع سنة 1936 فقد تواصلت معاناة العمال. لم يكن وضعهم محكوما بالتحسن. فقد ظلّوا في بداية الخمسينات يتقاضون أجورا زهيدة، خاصة في القطاع الفلاحي. ولجأ الأعراف إلى عدة حيل لتخفيض الأجر. وفي المقابل ارتفعت الأسعار من جرّاء التضخم المالي ولم يتحسن مستوى التغذية وفي الوقت نفسه اشتد التضييق على العمل النقابي. فرغم الاعتراف بالحق في الإضراب كانت تجري دائما مناوشات دمويّة بسبب لجوء المعمرين لتكسير الإضرابات وما يصحبه من تدخل قوات الأمن ومن قتلى. يقول فينيدوري في هذا الصدد: "حتى الإضرابات الجزئيّة يصحبها دائما قمع وحشي...السجون مملوءة دائما بالنقابيين والعمال الذين حكم عليهم بمناسبة إضراب أو بسبب المشاركة في اجتماع نقابي".
2- الفاشيّة الكولونياليّة

يذكّرنا فينيدوري بتنكر فرنسا لوعودها أثناء الحرب العالميّة الأولى وتنكرها لتضحيات الشعب التونسي الذي مات 60 ألف من أبنائه من أجل فرنسا، ويصف السياسة الفرنسيّة في تونس بالفاشية. فهي تسلط عقوبات قاسيّة لا تتناسب مع الأفعال مثلما فعلت مع قادة جامعة عموم العملة التونسيّة ومع مجموعة من المناضلين سنة 1935 أبعدوا لمجرد سعيهم إلى الاقتراب من الباي، ومطالبته بالتدخل من أجل إطلاق سراح القادة المبعدين بالتراب العسكري بالجنوب(6). يقول فينيدوري إنّ التونسيين كانوا موجودين تحت رحمة المقيم العام ولم يكن لهم الحق في التعبير وفي الاجتماع وفي المحاكمة".
فرنسا الفاشية، لم يسلم منها الفرنسيون أنفسهم. فهذا المحامي والصحفي الاشتراكي الفرنسي دوران أنجليفيال (Duran Angliviel) ينادي "أنقذوا تونس، أيادينا مكبلة بالأغلال ولا نستطيع أن نتكلم أو نكتب. لا نستطيع أن ندافع عن أنفسنا. احذروا الفاشيّة الكولونيالية". ويذكر فينيدوري أنّ السّلطة، في فرنسا ذاتها،ضيقت الخناق على حريّة التعبير والصحافة من خلال تجريم كل من تخول له نفسه المس بوحدة التراب القومي أو وحدة الإمبراطوريّة الفرنسية. وقد سلط هذا الإجراء على لوزون مؤسس الجامعة الشيوعيّة في تونس لمجرد نشره مقالا شرح فيه سبب عدم تصدّي التّونسيين للخطر الإيطالي معتبرا أنّ الطريقة الأسلم لتجنب سقوط الإمبراطورية الفرنسيّة بين أياد غير مرغوب فيها تكمن في تحريرها وبالتالي في تحرير تونس.
الاستعمار الفرنسي ليس فاشيا فقط بالنسبة إلى فينيدوري بل هو قاتل أيضا. فكم من محطة أزهقت فيها أرواح التونسيين؟ يذكرنا فينيدوري ببعضها: أحداث الجلاز سنة 1911 وأثناء الحرب الكبرى وأثناء إضرابات و1924 وتحركات 1933 و1934 وفي المتلوي والمضيلة والجريصة سنة 1937 وفي أحداث أفريل 1938 وأحداث 1947 (ببرج التومي وصفاقس) وخلال أحداث 1950 (ببرج السدريّة والنفيضة) وفي سنة 1952. وفي الواقع فإن القائمة لم تتوقف واستمرت حتى بعد 1956 أثناء أحداث بنزرت سنة 1961.
لم يتردد فينيدوري في التنديد بمجزرة 9 أفريل 1938 خلافا للأحزاب الموجودة في تونس آنذاك. لقد كانت المرّة السّادسة الّتي اُستُعمل فيها السلاح ضد المتظاهرين في عهد حكومات الجبهة الشعبية. ولم يؤاخذ فينيدوري الوطنيين وإنما اعتبر أنّ السلط الاستعماريّة تتحمل وحدها المسؤوليّة في الأحداث لأنها تجاهلت مطالب التونسيين رغم اعتدالها وعمقت لديهم حالة الإحباط واليأس. فهي التي ارتكبت سلسلة من الاستفزازات مثل الاعتقالات والطرد من العمل (علي بلهوان) وغلق المعهد الصادقي. وفي هذا السياق يؤكّد فينيدوري إن عدد القتلى لا يمكن ضبطه ولكن المناضلين في تونس يتحدثون عن 100 قتيل إلى جانب 5000 إلى 6000 موقوف. وعلّلت آنذاك الحكومة ما ارتكبته من تجاوزات بالتقاء حزب الدستور والفاشيّة الايطاليّة، وهو ادعاء كاذب حسب فينيدوري، والهدف منه حشد جميع الفرنسيين وراءها. وقد تواصل الظلم أثناء المحاكمة ولم تكن الأحكام القضائيّة عادلة ولا متناسبة مع التّهم.
3- التضامن مع الشعب التونسي

يعتقد فينيدوري أنّ الاستعمار أفسد الطبقة العاملة في البلدان الأوروبيّة حيث تراجعت لديها مشاعر التضامن مع شعوب المستعمرات. ويتجلى ذلك في ضعف الحضور أثناء الأعمال التضامنيّة التي تقوم بها المنظمات المعنيّة بالموضوع. وهو يذكر هذا المعطى في عديد المواقع من الكتاب. ورغم تحميل العمال القسط الأكبر من المسؤوليّة بسبب البطالة فإنّه يحمّل قيادات أحزاب اليسار مسؤوليّة أكبر من خلال عدم مسؤوليتهم عن إنجاح مثل تلك الأعمال التضامنيّة وعدم المشاركة فيها. بل إن مواقف الحزب الشيوعي الفرنسي من الاستعمار في أواسط الثلاثينات أصبحت باهتة خلافا للسابق. وهو ما يفسره فينيدوري بالتقارب الروسي الفرنسي سنة 1934.
ولا يستأمن فينيدوري الاستعمار بل يحذّر رفاقه الباريسيين بقوله إن الدور سيأتي عليهم وسيتفرغ لهم النظام بعد أن يردع سكان المستعمرات. والحل كامن وفق نظره في التضامن مع العمال التونسيين بل والاعتراف لهم بالفضل لأنه بفضل استغلالهم يتمتع العمال الفرنسيون بمنحة بطالة لا يتحصل عليها العمال التونسيون. وفي هذا الصدد يقول فينيدوري إنّ الرأسماليين اشتروا تواطئ العمال في بلدان المركز بتحسين ظروف حياتهم وإيهامهم بأنهم من نوع أرقى.
ولا يجامل فينيدوري فقد نقد سياسة الأحزاب اليساريّة في موقفها من مطالب الوطنيين في الثلاثينات فهو يقول: "لا يختلف موقف الحزب الشيوعي في قضايا الحريات الديمقراطيّة بالمغرب عن مواقف الشركات الكبرى فهو يتجه في الحركة النقابيّة نحو الحفاظ على الهيمنة الفرنسيّة في المستعمرات. أما الحزب الاشتراكي فلقد كان دائما استعماريا وتتغير مواقفه حسب موقعه في السلطة. فعندما يكون في المعارضة يطالب الحزب الاشتراكي بتحسين أوضاع المستعمرات بينما يسلك نفس سياسة اليمين في المجال الاستعماري عندما يكون في السلطة". ويرى فينيدوري إن قيادة الكنفدراليّة العامة للشغل (الس ج ت) تطبق سياسة الحكومة في علاقة بالمستعمرات، فهي تتجاهل مطالب الوطنيين وتلعب دور المكبل لنضالات العمال والوطنيين. وفي هذا السياق أدان فينيدوري موقف الس ج ت من أحداث 9 أفريل وهو نفس موقف الحكومة.
II. المسألة النقابية
فينيدوري يعرف بمعاداته للاستعمار من موقع انتمائه إلى الطبقة العاملة وإلى حركتها النقابيّة التي لم يدخر جهدا في استنهاضها والدفاع عنها.
1. تمجيد الحركة النقابيّة التونسيّة
منذ الاحتلال الفرنسي لتونس ناضل العمال التونسيون بلا هوادة. فهم الذين أسّسوا النقابة التونسيّة ابتداء من الجامعة العام للعملة التونسيّة (الس ج ت ت) التي لا ينقطع فينيدوري عن ذكرها وقد عايشها وشارك في نضال قادتها وشاركهم السجن والنفي. وأول ما بدأ به مقالاته هو نعي رفيقه محمد علي الحامي الذي قال عنه إنّه المناضل الثوري التونسي الذي كان يحلم بأن يهب حياته عربونا للوطن، ولكنه مات في حادث سيارة. وما يلفت النظر حول موت محمد علي هو تضارب أقوال فينيدوري الذي يقول إنه مات في حادث سيارة بالحجاز مع ابن ميلاد الّذي يقول إنّه ألقي به من على ظهر سفينة في البحر الأحمر. وهو أمر يحتاج إلى التمحيص. ويختم فينيدوري مقاله بدعوة رفاقه في الس ج ت ت أن لا ينسوا محمد علي. وفعلا فهذا القائد غرس زرعا لم يتوقف أبدا عن النمو ورغم الانتكاسات فإنه انتهى بتشييد صرح الاتحاد العام التونسي للشغل. وفينيدوري من الذين استماتوا في الدفاع عن المنظمة الناشئة وعن رجالاتها مثل الطاهر الحداد ولوزون. ولكن هناك من تألّب عليها وعلى قائدها مثل محي الدّين القليبي (1897- 1954) (7) وأحمد بن ميلاد(8).
يصر فينيدوري أنّ أول نقابة تونسيّة تأسست على أيدي عمال ميناء تونس وليس على أيدي أي كان آخر سواء كان مثقفا أو حزبا سياسيا. وهذه حقيقة تاريخيّة تؤكّد أنّ المنظمات النقابيّة تنشأ من رحم الحركة العماليّة ولا من قبل المثقفين. وبديهي أن الحركة النقابيّة التونسيّة استقطبت فئات أخرى بحكم أن الطبقة العاملة هي الأكثر قدرة على التنظيم وتنهل من تراث نقابي عالمي جسدته في تونس في بداية القرن 20 الس ج ت رغم أن هذه الأخيرة لم تكن أمميّة إلا بالقول وغادرها العمال التونسيون لأنها سلكت سياسة قائمة على التمييز بين العمال الفرنسيين والعمال التونسيين الذين لم يستفيدوا من انتمائهم إليها وأجهضت النقابات الفرنسيّة نضالاتهم من أجل المساواة في الأجور.
ورغم الحياة القصيرة للجامعة الأولى فقد قدمت تضحيات جسيمة: ثلاثة قتلى في أحداث بنزرت والكثير من الخطايا والحكم بالنفي لمدد متفاوتة على 6 من قيادتها دون اعتبار المضايقات.
يشيد فينيدوري بحيويّة الطبقة العاملة التونسيّة ويتخلى عن جنسيته دفاعا عنها حينما يقول إنّ البروليتاريا في المستعمرات هي الأكثر استغلالا من بين البروليتاريين وليس لها من حل للخروج من وضع القنانة سوى الاعتماد على الأحزاب أكانت وطنيّة أم شيوعيّة.
يطلعنا فينيدوري أن الجامعة لم يكن لديها من دعاة سوى محمد علي ومختار العياري في مواجهة كل تلك المهام المطروحة على الجامعة. وقد قال بوبكر عزيز مؤلف "كما تكون النقابات يكون النقابيون"(9) عن مختار العياري أنّه لم يحضر إلى جانب محمد علي يوم 18 جانفي 1925، وهو يوم حاسم في حياة الجامعة باعتباره تاريخ الإعلان عن تأسيسها، سوى المسؤولين أصيلي الجنوب التونسي وهم محمود الكبادي ومحمد الغنوشي والبشير الفالح وعلي القروي. وقال إنّ مختار العياري تغيّب وشوهد صبيحة ذلك اليوم صحبة فينيدوري. والحال أنّه كان في مهمة نقابيّة بصفاقس حسب فينيدوري بالذات(10). ويطلعنا هذا الأخير أيضا أنّ الجامعة كانت تحظى بدعم التونسيين فكانت تتحصل على أموال متأتية من تبرعات العمال ومن تجار الأسواق. وهذا شيء مهم يظهر أنّها لم تكن معزولة عن الأوساط الشعبية.
وحسب فينيدوري فإنّ الاتحاد العام التونسي للشغل امتداد لس ج ت ت بل هي نفس التنظيم. لقد كتب يقول: "الطبقة العاملة التونسيّة استرجعت منظمتها...ولماذا أنزعج أنا النقابي الثوري عندما يكون مناضلوها وطنيين طالما أنهم يسيرون على درب التحرر العمالي؟" في هذا الكلام رد على مقولة "في القوميّة تكمن بذور الحرب والفاشية".
الاتحاد في نظر فينيدوري مثل الس ج ت ت عبرا عن تطلعهما إلى حريّة شعب بأكمله ولكن أيضا عن تطلع للقضاء على استغلال الإنسان للإنسان. ولم يناضل محمد علي وحشاد ضد الاستعمار فحسب بل كان نضالهما في عمقه إنسانيا. هكذا يثمّن فينيدوري نضال الرجلين ويعطي لنضالهما بعدا يتجاوز الحقل الاجتماعي.
2. خيانة الس ج ت

انخرط العمال التونسيون في الس ج ت بنسبة 100% في بعض القطاعات مثل النقل والبريد. لقد كانوا نقابيين متحمسين. كانوا الأوائل في المطالب والنضال ودفع معلوم الانخراط رغم أجورهم المتدنيّة. طالبوا بالعدول عن تقسيم العمال حسب الأصناف لانتخاب مكتب النقابة وبتطبيق الاقتراع العام ولكن دون جدوى. وطالبوا أيضا القيادة بتبني مبدأ "نفس الأجر لنفس العمل" (A travail égal salaire égal). ومن ناحية أخرى لم تسع السج ت بجد من أجل تنظيم عمال المناجم والضيعات. خيانة الس ج ت جعلت اعتماد العمال على الأحزاب أمرا لا مفر منه. لكن لماذا غادر العمال التونسيون مجددا الس ج ت سنة 1944؟
مجلة الثورة البروليتاريّة كانت محجوبة عندما تأسس الاتحاد العام التونسي للشغل ولم يقل فينيدوري رأيه في ذلك. ولكن لوزون تدارك الأمر بعد حوالي 40 سنة عندما قال:
"توافد بعد حرب 39 منخرطون جدد في العالم بأسره كما حدث غداة حرب 1914-1918. ولم تشذّ البلاد التونسيّة عن ذلك ويتخلّف العمال التونسيون عن الالتحاق بنقابات الكنفدراليّة العامة للشغل، النّقابات الوحيدة الموجودة آنذاك. ولكن في تونس كما في فرنسا على حدّ سواء سرعان ما سيطر الشيوعيون على النقابات وكلّهم عزم على تطبيق "نظام موسكو" هناك وأينما كانوا. اتّضح أنّ العمال التونسيين أبعد نظرا وأكثر تمرّدا على التبعيّة من رفاقهم الفرنسيين فأغلبيّة العمال التونسيين رفضت الخضوع للوصاية الشيوعيّة منذ سنة 1944 أي ثلاث سنوات قبل تأسيس القوة العاملة بفرنسا.
بدأت الحركة بتكوين نقابات مستقلّة كما حدث سنة 1924، وانطلقت المبادرة من جديد من عمّال الميناء ولكن هذه المرّة من ميناء صفاقس وليس من ميناء تونس. (...) لقد كان حشّاد أوّل من رفض الخضوع للهيمنة الستالينيّة وغادر تبعا لذلك اتّحاد نقابات الس. ج. ت. في تونس جارّا وراءه الأغلبيّة الساحقة من العمال الأهليين بصفاقس. وسرعان ما وسّع رقعة الحركة إلى كامل البلاد وجمع كافة نقابات العمال التونسيين الذين كانوا ينشدون الاستقلاليّة عن موسكو وعن باريس في آن واحد في مركزيّة نقابيّة جديدة هي الاتّحاد العام التونسي للشغل"(11)
هكذا يتجلى موقف النقابيين الثوريين من تأسيس نقابة مستقلة عن الس ج ت باعتبار تأثير الحزب الشيوعي فيها رغم اعترافهم وموافقتهم على ارتباط الاتحاد بالحزب الدستوري الجديد. لكن ابتداء من 1956 غير فينيدوري رأيه في تبعيّة الاتحاد للحكومة وهي تبعيّة أخذت عدة مستويات وانعكست سلبا على الديمقراطيّة داخله وأفرزت تدخلا سافرا في شؤونه وتقسيمه. ففي نظره ستكون المنظمة أقوى لو اتجهت إلى أن تكون حكما بين الأحزاب نظرا إلى أنها تضم منخرطين من جميع الاتجاهات.
III. المسألة السياسية

يتعاطف فينيدوري مع الحركة الوطنيّة التونسيّة وخاصة مع الحزب الدستوري الجديد. لم يقل عنه قبل 1956 إلا الكلام الجميل وأبرز برنامجه ( المصادق عليه في سنة 1933) الذي يتصدره مطلب برلمان تونسي منتخب بواسطة الاقتراع العام والفصل بين السلط الخ. وهو برنامج معروف ويندرج ضمن المطالبة بالاستقلال الذاتي. ويرى لوزون أنّ مطالب هذا البرنامج منقولة عن البرامج الباهتة للأحزاب الجمهوريّة إذ تتصدرها المطالبة بمنح دستور وهي مطالب أوليّة لا تتناسب مع السياسة التي تنتهجها فرنسا والقائمة على التقتيل والسجن والإبعاد.
يقول فيندوري في هذا الصدد: ليس للشعب التونسي من اختيار غير الثورة. ودون الاستقلال لا يمكن لشعب أن يخرج من العبوديّة وليس هناك من تقدم ممكن للعامل دون الحرية. هكذا يربط بين المطالب الوطنيّة والمطالب الاجتماعية. وصب جام سخطه على اليد الحمراء وعين بالاسم أعضاءها وأكد أنهم معروفون لدى الدوائر الفرنسيّة والتونسيّة ولكن تغافل الجميع عن فتح الملف. ووجه فينيدوري أيضا نفس الإدانة للقمع الوحشي الذي طال كافة الجهات بالبلاد التونسيّة بعد 1952. ونقرأ له نصوصه حول الصراع بين شقي بورقيبة وبن يوسف. فهو يوافق في البداية الطرحين ويقول إن الثورة تحرق المراحل ولكن يجب الحفاظ على الوحدة فالاستقلال التام ضروري ولا مناص منه. ولكنه سينقلب على بن يوسف الذي سعى إلى عرقلة الاستقلال رغم أنه ساهم في الإسراع به. فهو أساء للثورة في شمال إفريقيا لأنه أجبر حزب الدستور على التحالف مع القوات الفرنسيّة لقمع متمردي الجنوب ولأنه حول وجهة الأسلحة التي كانت موجهة للجزائر.
وكم كانت بهجة فينيدوري بالاستقلال السياسي عظيمة. لقد وقف على فرحة الشعب بالحدث وكان حينها مقيما في تونس وشاهد الاحتفالات العارمة وخروج الناس من ديارهم للتعبير عن فرحهم. كما أنّه واكب قصف الطائرات الفرنسيّة لساقية سيدي يوسف واعتداءات الجيش الفرنسي المتكرّرة على الجيش التونسي وعلى سكان المناطق الحدوديّة. وواكب أيضا صعوبات المرحلة في تونس وخاصة الصعوبات الاقتصاديّة مثل تراجع الاستثمارات وتفاقم البطالة رغم محاولات التشغيل الهش وانتشار البؤس خاصة في صفوف عمال الأرض. وكتب أيضا عن محاكمة اليوسفيين ومحاكمة الذين جمعوا ثروات بطرق غير شرعيّة وما تعرضوا له من مصادرات وعن جواهر الأسرة الحاكمة. ولم يغب عن فينيدوري توجه النظام نحو الحكم الفردي والمحاكمات غير العادلة مثل محاكمة الطاهر بن عمار وما طرأ من تحولات على مستوى الحزب الحاكم في اتجاه تشديد المركزة وتمكن بورقيبة من إحكام قبضته على جميع مظاهر الحياة.
خاتمة
تعتبر نصوص فينيدوري المنشورة في كتاب "كتابات ومعارك من أجل تونس عادلة ومستقلة" مصدرا مهما من مصادر تاريخ تونس المعاصر من حيث المعلومات التي يتضمنها حول الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة في تونس ولكنه أيضا مصدر لمعرفة موقف ممثل مجموعة يساريّة فرنسيّة تنتمي إلى التيار الشيوعي. وعلى امتداد كافة النصوص نلمس نفس الروح لدى الكاتب الذي بقي وفيا لمبادئه الأولى التي أرستها الأمميّة الشيوعيّة الثالثة ومنها الموقف من الاستعمار ومن مسألة التضامن مع شعوب المستعمرات. وبقي وفيا أيضا لتونس ولطبقتها العاملة ولشعبها. وهو بذلك تونسي بالتبني بل إنه تونسي عن جدارة.
ومن الواضح أنّ نشر المقالات يمثل لمسة وفاء لمناضل أممي أحب تونس ودافع عنها بجسده وقلمه. ومن البديهي أن الكتاب سيمكن القارئ التونسي من مزيد التعرف على الأعماق الاجتماعيّة للحركة الوطنيّة ممثلة في الطبقات والشرائح الكادحة التي مثلت إحدى القواعد الأساسيّة للحركة والتي تحملت الكثير من المشاق وتجشمت التضحيات في سبيل التحرر من الاستعمار المباشر. فالمقالات تنخرط في قراءة للحركة الوطنيّة تركز على البعد الاجتماعي وتختلف عن القراءات الانتقائيّة والإيديولوجية.
وإن واصل فينيدوري متابعة الوضع في تونس بعد 1956 وكشف عن احتكار السلطة من طرف الحزب الحر الدستوري التونسي ثم الحزب الاشتراكي الدستوري وتكريس الحكم الفردي من طرف بورقيبة فإنه لم يتبيّن ما حدث آنذاك في تونس من انتقال الاستعمار المباشر إلى استعمار جديد. وهذه المسألة موكولة في الحقيقة لأجيال المناضلين الذين جاؤوا بعده.
وفي الأخير نقول شكرا للسيد الحبيب رمضان الذي تكلّف عناء جمع النصوص وتأطيرها وهو الذي جاء إلى حقل التوثيق التاريخي ليس من باب المهنة بل من باب حب التاريخ والتعلق بالشخصيات الفاعلة فيه ولكنها بقيت مغمورة.
الهوامش

- Finidori (J-P), Ecrits et combats Pour une Tunisie juste et indépendante, réunis par Habib Romdhane, préface de Habib Kazdaghli, Tunis, 2018.
2- انظر، اللمحة المتعلّقة بفينيدوري في:
La Révolution prolétarienne, Archive pour septembre 2007, http://revolutionproletarienne.wordpress.com/2007/09/
3 - La législation sur le délit politique en Tunisie pendant la période coloniale (1881-1926): source et teneur (RHM n° 106- février 2002).
4- Kota, Filip, Deux lignes opposées dans le mouvement syndical mondial, traduit de l’albanais, Paris, nouveau bureau d’éditions, 1977, p. 13
5- Finidori (J-P), Batailles ouvrières, la C.G.T. tunisienne et les impérialistes français des années 20 textes-documents de R. Louzon, 1981.
6- أبعدت السلطة الاستعمارية دفعة جديدة من المناضلين إلى التراب العسكري بالجنوب تتكون من ستة دستوريين ينتمون إلى الحزب الدستوري الجديد ودستوريين ينتميان إلى الحزب الدستوري القديم وشيوعي واحد وذلك إثر الأحداث التي جدت أثناء يوم 27 رمضان بجامع الزيتونة والتي رأت فيها السلط أعمال عنف موجّهة ضدّ الباي. انظر: عرفاوي، خميس، القضاء والسياسة في تونس زمن الاستعمار الفرنسي (1881-1956)، تونس، صامد للنشر والتوزيع، 2005، ص 241.
7- القليبي، محي الدّين، "حركة العمال في تونس بدايتها وتطوّراتها والحوادث التّي نشأت عنها بمناسبة الاعتصابات الأخيرة" في: القسنطيني، الكراي، حقيقة العلاقة بين الحزب الحر الدستوري التونسي وجامعة عموم العملة التونسيّة (1924-1925) ملحق مخطوط محي الدّين القليبي، منشورات جامعة منوبة، 2012، ص 109 وما بعدها.
8 - أحمد بن ميلاد (1902- 1994) انخرط في الفرع الفرنسي للأممية الشيوعية سنة 1920 وأطرد منه سنة 1924 ثم التحق بالحزب الحر الدستوري التونسي. درس الطب بعد 1924 واشتغل طبيبا. ألّف:
ben Miled (A), M’hamed Ali et la naissance du mouvement ouvrier tunisien, Tunis, Editions Salambô, 1984.
9- Azaiez, Boubaker Ltaief, Tels syndicats tels syndicalistes ou les péripéties du mouvement syndical tunisien 1 ère partie 1900- 1970, Tunis 1980, p. 41.
10 - Finidori (J-P), Batailles ouvrières, Op. cit. p. 17.
11- فينيدوري، جون بول، معارك عماليّة جامعة عموم العملة التونسية والامبرياليون الفرنسيون خلال العشرينات. نصوص ووثائق روبير لوزون، تعريب خميس عرفاوي، تونس، دار سحر للنشر، 2015، ص 147.



#خميس_بن_محمد_عرفاوي (هاشتاغ)       Arfaoui_Khemais#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
- عودة الديني أم توظيف الدين؟ المستفيدون والمتضررون
- اليسار الجديد في تونس في مرآة الثورة البلشفية
- نَفْحةٌ من الاقتراع التفضيلي في القانون الانتخابي التونسي
- ماذا يبقى من الثورة التونسيّة؟ دراسة آنية واستشرافية


المزيد.....




- سموتريتش يهاجم نتنياهو ويصف المقترح المصري لهدنة في غزة بـ-ا ...
- اكتشاف آثار جانبية خطيرة لعلاجات يعتمدها مرضى الخرف
- الصين تدعو للتعاون النشط مع روسيا في قضية الهجوم الإرهابي عل ...
- البنتاغون يرفض التعليق على سحب دبابات -أبرامز- من ميدان القت ...
- الإفراج عن أشهر -قاتلة- في بريطانيا
- -وعدته بممارسة الجنس-.. معلمة تعترف بقتل عشيقها -الخائن- ودف ...
- مسؤول: الولايات المتحدة خسرت 3 طائرات مسيرة بالقرب من اليمن ...
- السعودية.. مقطع فيديو يوثق لحظة انفجار -قدر ضغط- في منزل وتس ...
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة نفط بريطانية وإسقاط مسيرة أمير ...
- 4 شهداء و30 مصابا في غارة إسرائيلية على منزل بمخيم النصيرات ...


المزيد.....

- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب
- سلافوي جيجيك، مهرج بلاط الرأسمالية / دلير زنكنة
- أبناء -ناصر- يلقنون البروفيسور الصهيوني درسا في جامعة ادنبره / سمير الأمير
- فريدريك إنجلس والعلوم الحديثة / دلير زنكنة


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - خميس بن محمد عرفاوي - تقديم كتاب -كتابات ومعارك من أجل تونس عادلة ومستقلة-