وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 3919 - 2012 / 11 / 22 - 15:36
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كتبت هذه المقالة استكمالا لمقالتي السابقة (اكذوبة فصل الدين عن الدولة )والمنشورة في موقع (الحوار المتمدن )بتاريخ 10 – 11 – 2012 م وعلى الرابط : http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=331799
.واستكمل في هذه المقالة مابينته سابقا عن التشابك والتلازم بين الدين والسلطة والمال والاقتصاد والسياسة . وساستعرض في المقال موقف البروتستانتية من السلطة ,وموقفها من المال والربا .
موقف البروتستانتية من السلطة
كتب الرسول بولس في رسالته الى المؤمنين في كنيسة رومية 13 – (1- 7 ): ( وقد سبق ان طعن كاتب المقال في صحة نسبة هذا النص الى بولس في مقالتي المعنونة (موقف المسيحية من السلطة ) والمنشورة بتاريخ 7 – 6 – 2011 م . وتجدونها على موقعي الفرعي وعلى الرابط : http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=262230
يقول بولس :
( ليخضع كل انسان للسلطات التي بايديها الامر ,فلا سلطة الا من عند الله ... فمن قاوم السلطة ,قاوم النظام الذي اراده الله ) .
كتب الباحث والكاتب بو علي ياسين في كتابه (الثالوث المحرم – دراسة في الدين والجنس والصراع الطبقي ).ط1 – 1996 م – صادر عن دار الكنوز الادبية :
(مارتن لوثر (1483 – 1546 ) وتوماس مونتسر (1490 – 1525 ) رجلا دين ,جمعهما ( الاصلاح الديني ) (والمصطلح لبوعلي ياسين ) ضد الكنيسة الكاثوليكية والبابا في روما .لكنهما في النضال الديني فرقهما العامل الاجتماعي والطبقي . فكان مارتن لوثر ممثلا (للاصلاح الديني ) البرجوازي – السلطوي ,بينما ظهر توماس مونتسر كداعية الى الاصلاح الديني الشعبي .
من الطريف ان لوثر يدعو الفلاحين الى الطاعة والخضوع لاسيادهم استنادا الى هذا النص من رسالة بولس الى كنيسة رومية ,الاصحاح الثالث عشر ,بينما يؤكد مونتسر استنادا الى نفس الرسالة ونفس الاصحاح على حق الشعب في المقاومة ,وعلى سلطة الشعب (بما يشبه لاهوت التحرير ) . لكن لوثر يضع الثقل على الايتين الاولى والثانية ( 1 ) لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة . لانه ليس سلطان الا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله . ( 2 ) حتى ان من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله , والمقاومون سياخذون لانفسهم دينونة .اما مونتسر فيرى التشديدعلى الايتين اللاحقتين ( 3 ) فان الحكام ليسوا خوفا للاعمال الصالحة بل للشريرة .افتريد ان لاتخاف السلطة ؟ افعل الصلاح فيكون لك مدح منه ( 4 ) لانه خادم الله للصلاح . ولكن ان فعلت الشر فخف لانه لايحمل السيف عبثا اذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر . بناء على هاتين الايتين اقام الله السلطة من اجل رفع السيف في وجه فاعلي الشر . واذا ما انعكس الامر ,فان السيف يؤخذ منها ويعطى للشعب الساخط للقضاء على الكافرين ,كما عبر عن ذلك مونتسر في رسالته الى الامير فريدريش بتاريخ 5 تشرين اول (اكتوبر ) 1523 م .
مع ذلك (والكلام لبوعلي ياسين ) بالنسبة لعصرنا الحاضر لانستطيع بالتاكيد ان نزعم ان الراسماليين ودعاتهم غير مدركين لتلك الوظيفة السياسية للدين .يقول بول لافارغ :
(الوظيفة الاجتماعية لمستغل ( بكسر الغين ) العمل تتطلب ان يدعو البرجوازي الى الدين المسيحي ,حيث يعظ بالخضوع والخشوع امام الله ,الذي يجعل البعض سيدا والبعض خادما ,كما تتطلب ان يتمم تعاليم المسيحية بالمباديء ( الازلية ) للديمقراطية ومصلحته الكبرى تكمن في ان يستنفد العمال الماجورون طاقتهم العقلية في مماحكات حول حقائق الدين وفي نقاشات حول العدالة والحرية ,والاخلاق والوطن وما شاكلها من المفاهيم الاخرى ,حتى لاتبقى لديهم دقيقة واحدة للتفكير في وضعهم المزري وفي تحسين هذا الوضع .
يتضح مما تقدم انه ليس من مصلحة الطبقات المالكة دراسة الدين موضوعيا . ليس من مصلحتها تنوير اشد الناس ايمانا , لانها هي اقل الناس ايمانا ,وكيف يكون مؤمنا من ياكل لحم اخيه حيا ؟
لقد اصبح النفاق والرياء طبعا متاصلا فيها ( اي البرجوازية ) )..
الحق الحق اقول لكم , في خاتمة هذا النص , ما الذي يمنع ان نعطي للنص الديني طابعا ثوريا كما فعل مونتسر لاسقاط الانظمة القمعية الديكتاتورية والشمولية في الاستغلال الامثل للدور المزدوج للدين في مجتمعاتنا ,خصوصا وان البسطاء من الناس لايؤثر فيهم الا الخطاب الديني وسلطة الفقيه ؟ ما الذي يمنع من انتاج فكر جديد يربط الماركسية او المادية التاريخية بالعلوم الانسانية ؟ وبقراءة جديدة للدين ليكون محرضا ضد السلطات المستبدة ,وهذه معادلة دقيقة على الا يتحول الحزب الثوري الى حزب ديني .هذه العلاقة الدقيقة بين الديني وبين ماهو طبقي وسياسي ينبغي العمل على حلها استنادا الى الواقع وليس الى قوالب ايديولوجية جاهزة تكون صالحة لكل زمان اومكان كما يتوهم دعاتها .هذا الامر سينتج لاهوت تحرير طبقي ..مساواتي ..تحرري ,قادر على تغيير مجتمعاتنا ,لا ان نقف موقف العداء للدين بصورة مطلقة .
موقف البروتستانتية من المال والربا
في ظروف نشؤ الراسمالية وتطورها في اوربا ,ظهرت الحاجة الى تغيير القيم الانجيلية ازاء الانسان والمال .وقد ادى موقف البروتستانت من الربا ومن القيم الاقتصادية الراسمالية في التنافس الحر الى الوقوف بالضد من موقف المسيح من المال ومن الانسان ,باتجاه تعزيز فردانية الانسان وصولا الى الفردانية المطلقة للانسان في مرحلة لاحقة .وتعزيز اهمية العامل الاقتصادي في تنمية شخصية الانسان ,استنادا الى النظرية السياسية والاقتصادية الليبرالية الغربية عن الانسان باعتباره كينونة اقتصادية وليس كينونة انسانية (راجع سلسلة مقالاتنا حول النظرية السياسية والاقتصادية الليبرالية ),مقالتنا (النظرية السياسية والاقتصادية الليبرالية )والمنشورة بتاريخ 13- 6 – 2012 وعلى الرابط :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=311672
لقد حرمت الشريعة اليهودية ممارسة الربا بين اليهود ولكنها اباحته مع غير اليهود من الاجانب (الاغراب – الاغيار ).
جاء في سفر التثنية من التوراة من العهد القديم 23- 19 و20
(لاتقرض اخاك بربا , ربا فضة , او ربا طعام , او ربا شيء مما يقرض بربا ,للاجنبي تقرض بربا , ولكن لاخيك لاتقرض بربا , لكي يباركك الرب الهك في كل ماتمتد اليه يدك في الارض التي انت داخل اليها لتمتلكها ).
اما في المسيحية ,فتعاليم السيد المسيح تحرم اكتناز الاموال وتحرم الربا كذلك .فقد خاطب السيد المسيح الرجل الثري حسب انجيل متى 19 – 21 قائلا له : (ان اردت ان تكون كاملا فاذهب وبع املاكك واعط الفقراء ,فيكون لك كنز في السماء وتعال فاتبعني ). وقال بعد ذلك لتلاميذه في العدد ( 24 ): (ان مرور جمل من ثقب ابرة ايسر من دخول غني الى ملكوت الله ). وجاءت اية تحريم الاكتناز بحسب انجيل متى 6 – 19 (لاتكنزوا لكم كنوزا على الارض ...).
وقال السيد المسيح في الانجيل بحسب لوقا 6 – 30 :
(كل من سالك فاعطه , ومن اخذ الذي لك فلا تطالبه ) . وفي لوقا 6 – 34 و 35 : (وان اقرضتم الذين ترجون ان تستردوا منهم ,فاي فضل لكم ؟ فان الخطاة ايضا يقرضون الخطاة لكي يستردوا منهم المثل .بل احبوا اعداءكم ,واحسنوا واقرضوا لاترجون شيئا ,فيكون اجركم عظيما .. ) . وقال السيد المسيح في اية له في سفر اعمال الرسل لم ترد في الاناجيل الاربعة :
(مغبوط هو العطاء اكثر من الاخذ) .ومعلوم ان العطاء عندالمسيح هو العطاء بلا عوض ,اي بدون مقابل , اي العطاء المجاني .وهذا يثبت من بين جوانب اخرى كثيرة كتبت عنها وكتب عنها غيري خطا مقولة (ماجئت لانقض الناموس ).فالمسيح قد نقض الناموس اليهودي بالكامل ,وتعاليمه تعتبر ثورة على الدين اليهودي وليست حركة اصلاحية كما يتوهم البعض ,راجع(فراس السواح – الوجه الاخر للمسيح ) ,الاب سهيل قاشا (عقدة بابل ),الاب الدكتور يوسف توما كراس (المسيح ) المخصص لدورات اللاهوت المعاصر للمرحلة الثالثة ( كلية بابل الحبرية للدراسات اللاهوتية )
في مقالته المعنونة ( الاخلاق البروتستانتية وروح الراسمالية ) والمنشور بتاريخ 25 مايو 2010 في موقع (ايلاف ) وعلى الرابط التالي : http://www.elaph.com/Web/opinion/2010/5/562699.html
يقدم د . ابراهيم الحيدري (له مني كل الود والتقدير والاحترام ) شرحا لتاثير البروتستانتية على تطور الراسمالية من خلال كتاب العالم ماكس فيبر (الاخلاق البروتستانتية وروح الراسمالية ) الذي صدر عام 1922.بين فيبر ان النظام الراسمالي الذي تطور خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر في اوربا يعود في روحه الى الذهنية البروتستانتية التي انتجت قيما ومعايير عقلانية جديدة شجعت على العمل الحر والتنسك والادخار , وخلقت مناخا فكريا ساعد على تطور الراسمالية .
لاحظ فيبر ان الدول التي تسود فيها الكاثوليكية هي اقل تطورا من الناحية الاقتصادية والصناعية عن مثيلاتها البروتستانتية .
لقد كان الراسماليون الاوائل الى جانب اهتمامهم بجمع المال ,مقتصدين الى حد بعيد (نساكا ) بحيث اعتبروا ان اي استهلاك يخرج عما هو ضروري كانه تبذير .وقد شاع المثل القائل ,بان كل فلس يحصل عليه المرء يجب ان يوظف في التجارة , وان كل مايوظفه المرء يجب ان يتحول الى نقود ,وان تستخدم هذه النقود من اجل الحصول على نقود اكثر .وهذا مادعاه كارل ماركس (تراكما من اجل ارادة تراكم الثروة ) . وبهذا لم يختلف كارل ماركس عن ماكس فيبر في وصف خصوصية واضحة المعالم للراسماليين الاوائل الا قليلا كما يؤكد ذلك الدكتور الحيدري .لقد كان الصراع العنيف بين الدولة القومية والكنيسة ذا اثر كبير في تغيير الذهنية الاقتصادية للعصور الوسطى . وكانت حركة التغيير والانقلاب الثوري و (الخروج ) الديني التي قادها مارتن لوثر ضد الكنيسة الكاثوليكية وضد الرهبنة والكهنوت , قد دعمت من قبل الحركة القومية في المانيا وانجلترا وغيرها من الاماكن والبلدان ,وكذلك من الطبقة الوسطى الناشئة ,مثلما دعمت من قبل الملوك والامراء الذين كانوا يتطلعون الى التخلص من سيطرة الكنيسة وهيمنتها وفسادها . الا ان تعاليم جون يوهانس كالفن (1509 – 1564 )كان لها تاثيرا اقوى من تعاليم مارتن لوثر ,حيث اضاف كالفن قيما دينية واقتصادية جديدة ,ناسخا بذلك القيم المسيحية الانجيلية .
يقول كالفن ) من اجل الله ينبغي عليكم ان تعملوا حتى تصبحوا اغنياء ) . لقد دعا كالفن الى ان يساهم الجميع في الحياة الاقتصادية الى جانب التنسك والادخار .وقد اضاف كالفن مبدا جديدا هاما في التطور الاقتصادي الراسمالي وهو اباحته للربا على القروض والذي حرمته المسيحية والمسيح والانجيل .وبذلك ساهمت البروتستانتية في الترويج للبنوك وللاوراق المالية والمضاربات والسندات والاسهم .
لقد ربط ماكس فيبر بين ( الذهنية البروتستانتية )وبين (العقلانية الاوربية ),التي جعل منها ماكس فيبر شرطا مهما في نشؤ الراسمالية .فالتخطيط العقلاني المنظم للسلوك داخل هذا العالم ,الذي اطلق عليه فيبر (عقلانية السيطرة على العالم ),ميز بين العقلانية كتخطيط منظم داخل هذ العالم , وبين التخطيط المنظم للسلوك خارج هذا العالم ,الذي يتمثل بالزهد التاملي في ظل نظام الكهنوت الكاثوليكي .
بهذا السلوك العقلاني استطاعت اوربا حسب ماكس فيبر ان تصل الى ماوصلت اليه من تقدم وما احرزته من خصوصية وفرادة ميزتها عن جميع الحضارات .وبهذه العقلانية التي تريد السيطرة على العالم نظر فيبر الى اوربا والى العالم.
ومامحاولاته لدراسة الحضارات والاديان العالمية الا محاولات لاثبات رايه في خصوصية وفرادة العقلانية الاوربية تاريخيا .
ان البروتستانتية حسب فيبر قد شجعت على العمل الحر والتنسك والادخار وتراكم الثروة ,وهو ما ادى الى زيادة فردانية الانسان الاوربي واعتماده على نفسه وعلى تفكيره وعمله وابداعه الشخصي .ان نظرة العالم ماكس فيبر الى دور البروتستانتية في تطور الراسمالية لاتمثل القول الفصل .فقد سبق ان استعرضت في سلسلة مقالات ,كتاب العالم ليفي شتراوس (العرق والتاريخ) ,انظر مقالي المعنون ( شتراوس والاعراق والتاريخ ) والمنشور بتاريخ 28 – 8 – 2012وعلى الرابط : http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=321726
.وبين شتراوس الاسباب التي ادت الى ظهور وتطور الحضارة الغربية الاوربية والامريكية .
في استعراضنا السريع للتشابك بين الدين والدولة والسياسة والمال والاقتصاد , تبين لنا اكذوبة مقولة الفصل بين الدين والدولة او بين الدين والسياسة . ويبقى الدين حمال اوجه كالسياسة تماما وهدفه اي الدين تبرير سياسة الدولة ورجالاتها وتبرير سياسةالدولة الاقتصادية والقمعية والاستعمارية .
واستعرضنا كذلك دور البروتستانتية واخلاقها في تطور الاخلاق والقيم الراسمالية ,مما انتج مسيحية ابتعدت عن اصلها الانجيلي وانتجت قيما راسمالية , استكملتها لاحقا بالكنائس المسيحية – الصهيونية والتي اعطت الشرعية الدينية لقيام دولة اسرائيل ,كما ظهر في البروتستانتية التاثيرات اليهودية والصهيونية والماسونية وخصوصا اسفار العهد القديم والتي اخترقت بواسطتها الصهيونية واليهودية والماسونية الكنائس المسيحية .
على المودة نلتقيكم ...
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟