|
هيئة الاتحاد الوطني في الكتابات الأجنبية
عبدالنبي العكري
الحوار المتمدن-العدد: 1106 - 2005 / 2 / 11 - 12:02
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية
حظيت هيئة الاتحاد الوطني باهتمام المؤرخين والكتاب الغربيين وخصوصا البريطانيين، ويعود ذلك لعدة أسباب أهمها:
1- أن دولة البحرين، في تلك المرحلة ، كانت بحكم المحمية البريطانية، وتربطها معاهدات واتفاقيات مع بريطانيا العظمى، حيث ذهبت بريطانيا الى ابعد من ذلك بكثير فقد شكلت قاعدة الجفير البحرية وقاعدة المحرق الجوية ركيزتين مهمتين في الاستراتيجية البريطانية لحماية امن الخليج، ونقط ترابط مع قواعد بريطانيا في منطقة المحيط الهندي.
2- أضحت البحرين منذ 1938 مقر المقيم السياسي البريطاني في الخليج والذي يدير منها شؤون المحميات البريطانية الأخرى في الخليج، والعلاقات مع الدول المطلة على الخليج وإيران والعراق والسعودية. وأكثر من ذلك فبريطانيا من خلال المعتمد البريطاني، ومستشار الحاكم البريطاني، تشارلز بلجريف كانت تتدخل في أدق تفاصيل الوضع الداخلي مما جعلها طرفا في الصراعات الداخلية والصراع الإقليمي على البحرين خصوصا دعوى إيران بتبعية البحرين لها.
3- رغم إمكانياتها المحدودة فقد استطاعت الهيئة أن تقيم علاقات مع الصحافة البريطانية، ومع حزب العمال المعارض حينها، وشخصيات نقابية بريطانية كما انه من الطبيعي أن يهتم الاكاديميون والكتاب والصحفيون البريطانيون بما يجري في البحرين خصوصا النضال الذي قادته الهيئة في فترة صراع قوي بين بريطانيا وحلفائها (فرنسا وإسرائيل)، ثم الولايات المتحدة من ناحية وحركة القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر من ناحية أخرى، حيث ترابط نضال الهيئة بالنضال القومي والموقف المتميز لمصر وعبد الناصر في دعم الهيئة في مواجهة الإنجليز.
4- أن حدثا كحدث الهيئة بقى صداه وأثاره تتردد حتى بعد القضاء عليها فالكتابات هنا لا تقتصر على ما كتب عن الهيئة في زمانها بل ما كتب عنها لاحقا وهو الأهم والأكثر تفصيلا وهذه بعضها.
أولاً: ذكر د.كونستانتين ماتفيف في كتابه (البحرين، التوجه نحو الديمقراطية) الصادر في لندن عام 1997 (1)
" يشير الدارسون الى انه في الوقت الذي كانت فيه التحولات الاقتصادية الاجتماعية تفعل فعلها، فقد ظهرت في المجتمع قوى احتجاج جديدة، فقد بدا العمال السنة القادمين من المدن بالاتحاد مع العمال الشيعة القادمين من القرى في جبهة سياسية معارضة للنظام. وفي ظل غياب منظمة رسمية تضمهم، فقد تحركوا بوحدة في ظل شبكات غير رسمية وفي ظل التنظيمات السرية لاحقا. وما حركة الخمسينات الا احد تجلياتها.
ورغم المؤشرات بأنه يمكن للسنة والشيعة تحقيق أهدافهم المشتركة بالعمل معا فلم تكن هذه الوحدة سهلة التحقيق، فالعلاقات غير الودية السابقة بين أتباع المذهبين قد ترتب عليها صدامات دموية أحيانا كما حدث في سبتمبر 1953 عندما قاد احد أفراد أسرة آل خليفة هجوما على مسيرة عاشوراء وترتب على ذلك صدامات طائفية، وتبعها سلسلة من الصدامات الأصغر في مناطق مختلفة من البحرين بما في ذلك في مصفاة النفط وتبع ذلك اعتقالات في أوساط الجانبين والحكم على بعضهم بالسجن.
"في أطار البحرين، فان التنوير يعني رفض السياسات الطائفية ومعارضة الحكم الاستعماري والنظام القبلي، وتبني قضية الطبقة العاملة، وقد جرى طرح هذا البرنامج من خلال الندوات في الأندية الثقافية والرياضية والصحافة الأسبوعية" (2).
وتقديري انه ليس صحيحا في أن لا البريطانيين ولا ال خليفة نظموا هذه الصدامات الطائفية خلال 53-1954 ولكنها كانت مفيدة لحكام البحرين والإنجليز. وقد عهد قادة السنة والشيعة ذوي الرؤية البعيدة الى إنهاء العنف الطائفي.
" وقد دعا زعماء الشيعة والسنة لمناقشة الموضوع والتخطيط لإنهاء النزاع الطائفي، وقد عقدت ثلاثة اجتماعات في نادي البحرين والنادي الأهلي وبيت عبد العزيز الشملان ولم يترتب عليها أي نتيجة".
ومن خلال هذه اللقاءات برزت شبكة مكونة من خمسة أشخاص قرروا تجاوز ذلك وتشكيل لجنة الشباب السني للاتصال بالقادة الشيعة لعمل مشترك من اجل المصالحة وقد ضمت عبد الله الزين ويوسف الساعي وعبد الرحمن عبد الغفار وعبد العزيز الشملان وعلي الوزان وعبد الرحمن الباكر". وليس من بين هؤلاء من يتمنون الى العائلات التقليدية النافذة.
عقد الاجتماع المشترك الأول في بيت الحاج حسن العرادي في راس رمان، حيث حضره ممثلون عن الشيعة بعضهم من التجار والذين عبروا عن شكاواهم بغياب الوجهاء السنة.
وقد عملت القوى الوطنية بداية لتهدئة الأوضاع خلال 53-1954، ولكن الاضطرابات استمرت في حين بقيت الحكومة متفرجة، وتدخلت أحيانا دون نجاح. وقد بدأ الشيعة بانتقاد ليس الحكومة فقط بل المستشار الإنجليزي أيضا واتهموه بتعسير الصراعات الطائفية.
وفيما كانت الحلقة من الوطنيين السنة والذين أضحوا سبعة، تنظم نفسها في أطار سياسي أوسع، عمد سائقو التاكسي والباصات الى شن إضراب في سبتمبر 1954 احتجاجا على فرض الحكومة للتامين على سياراتهم لدى شركات التامين الأجنبية وبكلفة عالية، وحيث شارك في الإضراب السنة والشيعة فقد وفر ذلك فرصة للمعارضة لإثبات قدرات التنظيم الجديد. وبقيادة الباكر والشملان فقد أقيم صندوق التعويضات التعاوني، بإدارة تمثل فيها التجار والسائقين. وقد انظم زعماء وطنيين من الطائفتين ليشكلوا هيئة الاتحاد الوطني، وطالبت الهيئة الحكومة بالتشريع وأجراء انتخابات برلمانية، وسن قانون جنائي ومدني وإنشاء محكمة التمييز ومدها بقضاة مدربين، والسماح للطبقة العاملة بإقامة تنظميها العمالي. وقد طلب من عضوي الهيئة وهما ابراهيم بن موسى وبوديب إضافة الى زعماء آخرين تقديم هذه المطالب الى الحاكم، وحينما عرف هذه المطالب رفض مقابلتهم (3).
أدى رفض الحاكم الى زيادة المرارة بين المعارضة والحكومة، فقرر بعض قادة المعارضة عدم خوض المعركة على جبهتين، والتركيز على الحكومة وعدم التعرض للإنجليز، وطالبوا الحاكم بالاعتراف بالهيئة التنفيذية العليا. واستمرت المحادثات بين الهيئة والحاكم حتى 1956. ففي مارس 1956 وصل وزير الخارجية البريطانية سلوين لويد الى مطار البحرين بالمحرق وتعرض موكبه لاعتداء، وهو حادث أدى الى مزيد من الاضطرابات التي قمعت، لكن المفاوضات استؤنفت بعد أسبوعين واعترف الحاكم بالهيئة بشرط تغيير أسها الى هيئة الاتحاد الوطني ومغادره زعيمها البلاد لفترة قصيرة وحقها في التعبير عن رأيها. كان هذا انتصارا للشعب وللحاكم أيضا لان الاتفاق أدى الى سلام. ولكن هذه النعمة قد ذهبت بها تطورات في العالم العربي، تمثلت بالعدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي ضد مصر في 29 أكتوبر، بعد تأميم قناة السويس، وقد احتلت إسرائيل سيناء واحتلت جيوش البلدان الثلاثة قناة السويس. وتفاعل الحدث في البحرين في صورة اضطرابات عنيفة. وفي 2 نوفمبر احرق المتظاهرون ممتلكات بريطانية وأوربية وحكومية. وقد قمع الإنجليز والشرطة المحلية هذه الاضطرابات وجرى اعتقال الكثير من المتظاهرين.
يعكس هذا الحدث ليس فقط العلاقات العربية بل أيضا التوتر بين الحكومة والمعارضة بسبب المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان ومساواة الطوائف وفي سبيل تحقيق كل منهما لأهدافه فانه يلجا للايدولوجيا ومهارات التنظيم. ومن اجل منع صعود تنظيم سياسي ذا قاعدة عريضة، فان الحكومة تعارض مبدأ إقامة أحزاب سياسية والجمعيات والاتحادات العمالية، والأندية غير الطائفية" (4).
لم يكن هناك أمل بإصلاحات في ظل المستشار شارلز بلجريف. إما بالنسبة لبريطانيا فقد اعتبرت بعض المطالب السياسية معقولة وانه من الصحة الدخل في مناقشات حولها من اجل إرضاء وجهة النظر المعتدلة وان يكون موقف الحكومة معقول، حيث ذكر المسؤلون البريطانيون بأنه في "حين أظهرنا بعض العطف مع بعض أهدافهم أولئك الذين يريدون إصلاح النظام الحكومي في البحرين، فأننا أوضحنا بجلاء دعمنا الكامل للحاكم في ذات الوقت ذاته والضغط عليه لتبني تلك التغييرات".
ثانيا: هنري ماب، (اتركها خير لك)، لندن 1994
قدم هنري ماب الى البحرين في 1951، ليعمل في شركة نفط البحرين (بابكو) ليعين كرئيس تحرير (Bahrain Islander) والتي صدرت منذ العام 1946، وكانت تصدر كل أسبوعين وحجمها من 10-14 صفحة.
هنري ماب، شخص عصامي، منحدر من أسرة فقيرة، وعمل هو صبي واشتغل بعدة مهن مثل البناء وعمل بحارا في سفن شحن في أعالي البحار، واشتغل بالصحافة العالمية أخيرا وكان منتسبا الى حزب العمال وضمن جناحه اليساري.
غادر ماب لندن، عندما احتلت أخبار قرار البرلمان الإيراني بتأميم شركة النفط الا نجلو- إيرانية، وبالتالي فتح الطريق أمام حكومة مصدق لتأميم الشركة، لقد ترتب على ذلك أزمة عالمية، وكان أحد تبعاتها قيام وكالة الاستخبارات الامريكية بتدير انقلاب بقيادة كيرمت روزفلت للإطاحة بحكومة مصدق وإعادة الشاه الى عرشه. ومن ناحية أخرى برزت أهمية نفط دول الخليج العربية، في ظل أزمة النفط الإيرانية وبالتالي اضطرار شركات النفط لاسترضائهم. احد النتائج المباشرة لذلك هو التخلي عن السعر الثابت الزهيد لبرميل النفط من قبل الشركات الى حكام الخليج، وتبني ما يعرف مناصفة الإرباح مابين الشركات والحكام. كما عمدت شركات النفط الى التوسع في الطاقة الإنتاجية لدول الخليج العربية ومنها البحرين وكذلك زيادة الطاقة الإنتاجية لمصانع تكرير النفط وتحديثها.
من هنا فان الظروف التي وصل في ظلها ماب الى البحرين كانت تنذر بتطورات مهمة أثارتها حركة مصدق على الضفة الشرقية للخليج والحركة القومية العربية على الضفة الغربية والتي كان يقودها عبد الناصر في القاهرة. لقد كانت الإحداث في البحرين و الخليج والمنطقة العربية تتفاعل مع بعضها، وكان ماب شاهدا عليها. لقد ساعدته خلفيته السياسية في صفوف يسار حزب العمال، وحياته العملية الشاقة في أن يكون لديه الحس والتعاطف مع نضال شعب البحرين الذي كانت تقوده الهيئة، والتفاعل مع شعب البحرين ومثقفيه وقياداته الوطنية والعمالية، على خلاف غالبية الإنجليز العاملين في بابكو في عزلتهم في العوالي وتعاليهم عن الناس. كتاب ماب عبارة عن سيرة حياته، لكن الجزء الأكبر منه هو حياته في البحرين خلال الخمسينات وزياراته اللاحقة لها بعد تقاعده في بريطانيا، متابعاته لما يجرى في البحرين.
مقتطفات مما جاء من كتاب (اتركها خير لك).
"تمخض عن الاحتكاكات الطائفية نتائج سلبية على مختلف المستويات في الخدمة العامة والصناعة والتجارة، حيث وقع اللوم على الحكام السنة والحكومة في سعيها للإبقاء على توازن طائفي بدلا من معاملة الجميع كبحرينيين. اقتراح البعض قيام برلمان منتخب يمثل الجميع فيما جادل البعض أن مثل هذا المجلس سيكون نصفه من الأميين".
جاءت فرصة المعارضين (الهيئة) لأسماع صوتها الى الخارج عندما قام وفد من ستة برلمانيين من حزبي المحافظين والعمال بزيارة البحرين في يناير 1953. لم يكن الوفد في زيارة رسمية للبحرين ولكن بدعوة المليونير النائب اللبناني اميل البستاني. وكان الوفد مكوناً من جوت فريمان (عمالي) وسيتفن مكادين (محافظ) والسيدة باربرا كاستل (من يسار حزب العمال).
قبل وصول الوفد كتبت الى باربرا كاستل عن نوعية الناس الذين ستلتقي معهم واقترحت عليها مقابلتين مع أصدقاء الباكر. وقد وعدت أن تعمل ما بوسعها. ولحسن الحظ فقد كانت البحرين محطة استراحة بعد زيارة صعبة استغرقت أسبوعين لمخيمات اللاجئين في لبنان ولقاء الرسميين والمعارضين والنواب والصحفيين في لبنان وسوريا والأردن والعراق. وجاءت زيارتهم الى الكويت لتريحهم عن المزيد من البحث في أمور الخليج، لذى فان توقفهم لمدة 24 ساعة في البحرين أتاح لهم عشاءا مع حاكم البحرين ولقاءً مع رسميين وإداريين في شركة كالتكس وزيارة تفقدية لمصنع تكرير النفط والتبضع في المنامة.
لم يحظى رجال الباكر باللقاء الموعود لكنهم وباقتراح مني اعدوا مذكرة تم تقديهما الى الوفد، تضمنت منع الحكومة للاتحاد النقابي، وبالتالي عزفت على وتر حساس لدى العمال".
ويعرض كتاب ماب في كتابه مناقشاته مع مثقفين بحرينيين مثل علي التاجر وحسن الجشي حول قضايا متعددة في مقدمتها القضية الفلسطينية".
ويعرض ماب الى ظروف إجباره على ترك العمل في بابكو بسبب صلاته بقيادات الهيئة وتعاطفه مع قضية شعب البحرين، وذلك بسحب صلاحيته في نشرة بحرين ايلندر
العودة الى البحرين.
انضم ماب الى جمعية الصداقة البريطانية البحرينية، وكان كالطير خارج السرب من البرلمانين ورجال الاعمال ممن لهم مصالح في البحرين، في حين انه الوحيد المهموم بمصلحة شعب البحرين، وهذا ما أدى في النهاية الى طرده من الجمعية في أجراء اخرق يخالف الأعراف الديمقراطية العريقة.
عاد ماب الى البحرين في خضم حرب الخليج الاميركية الأولى ضد العراق في فبراير 1991 ونزل في فندق برستول المتواضع في شارع الشيخ عيسى بالمنامة، حيث تجول في بلد يعرفه جيدا وسعى الى لقاء الأصدقاء القدامى.
يثني ماب على السيد عبد الهادي مرهون ( النائب حاليا) مسئول العلاقات العامة في غرفة تجارة وصناعة البحرين وتعاونه معه خصوصا بعد أن عرف علاقاته السابقة مع قيادات الهيئة. وبعد تبادل الحديث معه ساعده على الاتصال بالأستاذ حسن الجشي ( احد قيادات الهيئة ورئيس المجلس الوطني). ولقد تحادث ماب مع الجشي بالتلفون لكنه امتنع عن اللقاء معه متذرعا بان الماضي انتهى، وقد أصيب ماب من جراء ذلك. عندها قرر ماب قراءه كتاب بلجريف (سيره شخصية) وكتاب عبد الرحمن الباكر (من البحرين الى سانت هيلانه) لمعرفة أسباب صدود عدد من أصدقائه القدامى.
ثالثاً: كتاب (مذكراتي) الذي كتبه المستشار البريطاني، تشارلز بلكريف،
عن ذكرياته في البحرين منذ ان وطأت اقدامه ارض البحرين عام 1927 ، حتى اطاحت به الحركة الوطنية ممثلة في هيئة الاتحاد الوطني عام 1956، حيث تضمن فصولاً حول مرحلة هيئة الاتحاد الوطني ووجهة نظر هذا المستشار في احداث تلك الفترة
نقتطف هنا بعض الفقرات التي وردت في الترجمة التي قام بها الاستاذ مهدي عبدالله
اضراب ضد نظام التأمين الاجباري!!
الأطفال يحاربون السيارات بالمسامير!!
في نهاية يونيو 1954 وقعت احتكاكات وإضرابات عمالية وإضطرابات مدنية بمعمل التكرير (مصفاة النفط التابع لشركة بابكو بسترة. وتطورات الخلافات بين المتنازعين حتّى وصلت إلى المحكمة بعد مقتل أحد الأشخاص. ثم ازدادت الأمور تعقيداً عندما أصدرت المحكمة قراراً بسجن المتهمين.
بعد هذا الإضراب، حدث تطور سياسي هام. فقد تشكلت لجنة أهلية قدمت عدداً من المطالب كان من بينها اجراء إصلاحات بالمحاكم، وإصدار قانون قضائي. وقبل تقديمها لهذه المطالب عينت الحكومة جيوفري بيس مستشاراً قضائياً بالمحكمة. وهذا الرجل بريطاني الجنسية وله خبرة قانونية ومعرفة بالشرق اوسط، وقد شغل ذلك المنصب وأدى أعمالاً كثيرة نافعة للبحرين، واستمر حتّى عام 1958 حيث خلفه السيد ديفيد همفريز.
شخصياً تعاطفت مع مطلب القانون القضائي، فمن خلال خبرتي الطويلة بالمحكمة لمست حاجة البلاد الشديدة إليه. وحاولت في سنوات سابقة تطبيق القانون القضائي السوداني وتعديله بما يلائم احتياجات البحرين، لكن لم يتم تبنيه وتطبيقه رسمياً.
وفي السنوات التالية أصدر الخبراء القانونيون "بالمكتب البريطاني الخارجي" قانوناً جزائياً لتطبيقه في محاكم امارات الخليج العربي، وقد وافقت عليه الحكومة بعد إجراء العديد من التعديلات.
وفعلاً تم العمل بهذا القانون في محاكم البحرين قبل تطبيقه بمحاكم الوكالة البريطانية. وللأسف كنت في الإجازة عند مناقشة ذلك الموضوع حيث ووجه القانون بمعارضة فورية من قبل المواطنين الذين تعودوا على رفض أية فكرة أو شئ جديد.
اللجنة المشكَّلة ـ عارضت بعض بنود القانون، وكان من الممكن احتواء معارضتها الظاهرية باعادة صياغة فقرتين من القانون أو شطبهما، لكن السبب الفعلي لذلك هو كتابة القانون وإعداده في لندن مما أثار تحفظها وريبتها.
في نهاية الأمر تم تأجيل الاعلان عن القانون وتطبيقه إلى أجل غير محدد.
الإضراب التالي لم يكن لأسباب سياسية. فلعدة سنوات كنت اخطط لتنفيذ نظام للتأمين الإجباري للمركبات ضد الطرف الثالث وذلك بسبب ازدياد العربات السائدة على الشوارع سنوياً وارتفاع معدل وقوع الحوادث المروية بدرجة كبيرة.
وفي معظم الحالات لا يملك السائقون المتورطون في الحوادث مبالغ أو وسائل لتعويض المتضررين، ورغم حبس السائقين المخطئين عقاباً لهم إلاّ أنها تعتبر مواساة "صغيرة" أو غير كافية لمن وقع عليهم الضرر أو لأقارب الأشخاص الذين راحوا ضحية الحوادث.
صُغتُ قانوناً محلياً خاصاً بذلك، صدّق عليه الشيخ سلمان تم تعميمه ونشره. ولم تحدث ردود فعل إلاّ بعد مرور بضعة أشهر عندما اشعرنا أصحاب السيارات بضرورة استخراج بوليصات تأمين على سياراتهم قبل تاريخ محدد، وعندما بدأت المشاكل وأضرب سائقو الباصات والتاكسيات. لقد قاموا بتقليد اسلوب سواق التاكسي في بيروت الذين تعودوا على إعلان الإضراب.
وقد تسبب إجتماعهم في وقوع وشوشة وإضطراب شبه كامل لحركة المرور وأوعزوا لمجموعة من الأطفال الصغار، صبيانا وبنات بملء الشوارع بأغطية زجاجات "الكوكا كولا" المثبت في كل منها مسمار مدبب موجه رأسه إلى اعلى، مما جعل إطارات مئات السيارات المارة تنثقب وتتفشش (تتبنجر) بينما يراقب الأطفال النتيجة من أماكن وممرات مظلمة يستطيعون عبرها الهرب بسرعة.
ربما يعتقد البعض أنه لأمر مضحك وغير معقول أن يحدث عمل هؤلاء الصبيان بلبلة خطيرة، لكن رجال الشرطة واجهوا صعوبة شديدة في اصطيادهم، وعلى الرغم من المعاملة "المناسبة" التي تعرض لها عدد من الأولاد الذين قبض عليهم، إلاّ أنهم لم يتوقفوا عن عبثهم.
أحد الأسباب الرئيسية للإضراب كانت مبالغ التأمين المرتفعة التي فرضتها شركات التأمين البريطانية وغيرها.
وعندما اعطت الحكومة ترخيصاً لقيام شركة تأمين وطنية لمنافسة الشركات الأجنبية، رفع غالبية السائقين معارضتهم وانتهى الاضراب.
بالرغم من ذلك اسفرت هذه التجربة عن تعلّم الاطفال "للعبة المسمار" وراحوا يطبقونها ويستمتعون بها كلما وقعت مشكلة في البحرين، وأحياناً يمارسونها لمجرد التسلية.
في أواخر عام 1954، إنبثقت إلى الوجود لجنة مكونة من ثمانية أعضاء، وأطلقت على نفسها إسم "الهيئة التنفيذية العليا". المواطنون تساءلوا: أعلى من ماذا؟ إدعت اللجنة بأنها تمثل شعب البحرين، وهو أمر بالتأكيد غير صحيح.
فالشيخ سلمان لم يعترف أبداً بهذه اللجنة، ونظر إليها البحرينيون الذين يشعرون بالمسؤولية بالكثير من الإرتياب والحذر. ولكنها في الحقيقة، نواة لحزب سياسي، الأول من نوعه في الخليج.
فيما بعد أصبح اسمها يعرف، من قبل الجميع "بالهيئة"، ولاقت التأييد بحماس من قبل المتعلمين الشباب بالمدن الذين يزعمون بأنهم مثقفون بناء على الدراسة السطحية التي تلقوها في المدارس الإبتدائية والثانوية وعلى قدرتهم على الترديد ـ بطريقة خاطئة في معظم الأحيان ـ الشعارات والخطب الملهبة للعواطف التي يسمعونها من الاذاعات العربية أو يقرأونها في الصحف الصادرة من مصر وسوريا غالباً.
قدمت اللجنة عريضة إلى الشيخ سلمان تتضمن مطالب معينة.
في شهر ديسمبر، أصدر الشيخ بياناً أعلن فيه أن الحكومة إتخذت الإجراءات لتغطية العديد من الأمور التي ذكرت في العريضة، لكن الهيئة ـ في تلك الاثناء ـ نظمت إضراباً. حاولتُ تأمين جميع الخدمات الاساسية أما بالنسبة لشركة النفط، المؤسسة الرئيسية المستهدفة لكي يؤثر عليها الإضراب، فسارت عملياتها بأقل عدد ممكن من الموظفين.
هذه المرة استغرق الإضراب حوالي الاسبوع لأن الحكومة رفضت مناقشة المطالب التي تقدمت بها الهيئة حتّى يعود المضربون إلى أعمالهم. توجهت بنفسي عدة مرات إلى القرى خلال فترة الإضراب لمعاينة الأمور ورؤية حقيقة ما يحدث.
العمال يرغبون في استئناف العمل، لكنهم خُوّفوا وحُذروا من قبل بعض الشخصيات في العاصمة في إحدى القرى، سألتُ الرجال: لماذا أنتم مضربون؟ فردوا نحون لا نعلم السبب، لكنهم أخبرونا إننا إذا واصلنا الإضراب، فسوف نحصل على أجور أعلى.
لكن الأجور لم تكن أحد المواضيع التي تضمنتها العريضة. أحد الشباب، الأفضل تعلماً من البقية، الحامل في الجيب العلوي لثوبه ثلاثة أقلام باركر قال لي: "نحن نطالب بحقوقنا". وعندما سألته: أي حقوق؟، ظهر عليه الإرتباك والبلاهة لمدة دقيقة، ثم رد بتكشيرة غاضبة: "أنا لا أعلم ما هي هذه الحقوق، لكن ربما يكون بوسعك إخبارنا بالمطالب التي يفترض فينا ان نعرفها".
عندما قمت بشرح التغييرات الشاملة التي ينفذها الشيخ والحكومة، لكن الشاب وأصدقاؤه لم يبدوا أي إهتمام.
في الأيام الأخيرة من السنة، شكل الشيخ لجنة من كبار الشخصيات البحرينية من الطائفتين السنيّة والشيعية، لدراسة وجهات النظر الشعبية حول خدمات التعليم والصحة العامة، لكن بعض الأعضاء إستقالوا عقب الإجتماع الأول، وحاولت الهيئة مقاطعة هذه الجهود.
بالرغم من ذلك حصلنا على فائدة من تلك التجربة، حيث عين سمو الأمير لجنتين دائمتين لمتابعة أُمور التعليم والصحة، أعضاؤها من كبار رجالات البلد ويرأسها أحد أفراد العائلة الحاكمة.
في ذات الوقت، أصبح موقفي الشخصي يتجه نحو الصعوبة والتعقيد شيئاً فشيئاً. لقد تعاطفت مع بعض مطالب الهيئة وأيدتُ جزءاً من زفرات الفئة المثقفة. لكنني لم أثق في الرجال الذين يقودونها لأنني أعرف أنهم لم يتحركوا بدوافع المصلحة العامة وحب الغير.
لقد أصبت بخيبة أمل كبيرة حينما تبين لي ان الكثير من المشاريع والخدمات التي عملت مخلصاً لتحقيقها في هذا البلد كالتعليم، والأمن، والصحة، أصبحت الآن مواضيع للهجوم بواسطة اشخاص استفادوا منها.
هكذا انتهى عام 1954 الملئ بالمتاعب والصعوبات لكل من الشيخ سلمان وللرجال الذين يعملون تحت خدمته.
الفصل الحادي والعشرون
يريدون الجري قبل ان يتعلموا المشي!!
خلال عام 1955 ازداد الوضع السياسي سوءاً وأصبحت إجتماعات الهيئة أكثر حدّة وضراوة. وعاش التجار وأصحاب الدكاكين تحت تهديد الإنذارات والرسائل المجهولة. لقد اهتموا بحماية مصالحهم التجارية وأملاكهم وعدم لحاق الضرر بها من جراء الإضرابات وأعمال التخريب والقلاقل أكثر من إهتمامهم بالاصلاحات السياسية، ولذلك عملوا على سير البلاد بصورة طبيعية لكنهم بعد ذلك تعاطفوا مع الهيئة وساهموا بالتبرعات المالية "للأغراض الخيرية" لها.
في نفس الفترة أخذت مصر تشترك مرة أخرى بدور فعال في تصعيد الموقف في البحرين. وشنت إذاعة صوت العرب حملات عنيفة ضدي شخصياً وضد "الإمبريالية البريطانية" في الخليج، لكن كان على القاهرة إتخاذ الحذر، فلم تكن تثير المشاكل في محمية أو مستعمرة بريطانية، بل في إمارة عربية يحكمها أمير عربي ولم يكن مجديا معاداتها لحكام الخليج مهما بلغت كراهية حكومتها لبريطانيا.
هذه الحقيقة لم تمنع الصحف المصرية والسورية من مهاجمتي ومساندة الهيئة، والتأييد الذي لقيته الهيئة من مصر التي يحظى رئيسها جمال عبد الناصر بإستقطاب شعبي أكثر من أي زعيم آخر في العالم العربي، من قبل المثقفين والفئات المتعلمة أعطى دفعة قوية لها.
وزاد من حماس وطموحات أعضائها الذين غاب عن أذهانهم أن نظم الحكم بالدول الغربية وأشكال الديموقراطية فيها استغرقت مئات السنين لكي تظهر إلى الوجود، ولم يضعوا بعين الإعتبار ان اجراء ثورة دستورية في إمارة صغيرة أفرادها محدودو التعليم سوف يؤدي إلى حدوث الفوضى والتشوش الكامل. ولم يعترفوا بالمجالس واللجان التي شكلتها الحكومة كخطوة نحو المزيد من الحكم الديمقراطي، فقد أرادوا الجري قبل أن يتعلموا المشي!!.
معظم المطالب التي نادت بها الهيئة، كانت الحكومة قد اقترحتها على الشيخ سلمان وأقرها قبل تأسيسها. فقد صادق سموه على القانون القضائي، وعلى قانون العمل وعين خبيراً شرعياً للمحاكم، وأعلن عن بدء تنفيذ بعض الإصلاحات والبرامج الجديدة. وعند الإعلان الرسمي عن هذه الخطط تجاهلت الهيئة مطالبها القديمة وقدمت مطالب أخرى أصبحت مع مرور الأشهر أكثر لا معقولية وأبعد عن الواقع.
في ربيع 1955 بدأت الحكومة تناقش تطبيق قانون للعمل الذي شجعتُ ودعوت إلى وجود منذ سنوات رغم أن القانون النهائي تخطى إقتراحاتي وتصوراتي السابقة له. فقد كنت أعتقد أن الوقت لا زال مبكراً على إنشاء جمعيات مهنية بل يمكن السماح بقيامها في مرحلة لاحقة.
وعرضت الحكومة البريطانية اعارتنا خبيراً عمالياً بارزاً للمساعدة في إعداد القانون. وشكلت لجنة إستشارية عمالية لصياغة المسودة تكونت من ثلاثة ممثلين عن الحكومة، وثلاثة مرشحين من أصحاب العمل والشركات والمؤسسات الخاصة، وثلاثة أعضاء آخرين منتخبين بواسطة العمال.
بعد ذلك حل خبير عمالي ثانٍ بدلاً من الخبير الأول وبدأت اللجنة أولى جلساتها في أبريل 1955 واستطاعت في أكتوبر 1956 الإنتهاء من وضع مسودة القانون وقدمتها إلى الحكومة التي وافقت عليه بعد إجراء بعض التعديلات.
لقد كان القانون إنجازاً هاماً، لكنه للأسف قوبل بمعارضة الهيئة التي أرادت قيام إتحاد عمالي واحد يشمل جميع العمال في البحرين ويعطي سلطة قوية للمجموعة التي تديره، على افتراض ان أعضاء الهيئة هم الذين سيديرون الإتحاد. وبدأتْ في تصعيد الحملة ضدي.
عندما عزمتُ على السفر لقضاء الإجازة في يونيو من نفس العام، شعرتُ بالقلق الشديد ازاء ما يمكن أن يحدث أثناء فترة غيابي، ففي اليوم الذي سبق مغادرتي، كتبت في مفكرتي: "انني أستعد الآن للسفر وهناك شرارات كثيرة في الأفق ربما تشتعل وتسبب حريقاً هائلاً".
لكن، على عكس ما توقعت، لم تحدث أية مشاكل رئيسية خلال ذلك الصيف. ففصل الشتاء البارد هو الوقت المناسب لاثارتها، وفي الطقس الحار عندما يكون الجو رطباً غير محتمل يخلد معظم الناس إلى الهدوء وتقل الجرائم وينكمش النشاط السياسي.
الفصل الثاني والعشرون
عندما سقط انور السادات في الوحل!!
اذاعة البحرين تم افتتاحها في اغسطس 1955
لولا براعة سائقي الخاص لوقعت كارثة
رجعنا إلى البحرين مع نهاية سبتمبر بعد قضاء إجازة طويلة إستغرقت ثلاثة أشهر كاملة جدّدنا خلالها نشاطنا وحيويتنا، لكنني أيقنت بعد وصولي بفترة وجيزة بأنني بحاجة إلى طاقة هائلة لكي أتعامل مع الوضع السياسي في البلاد.
ظاهرياً، كانت الأمور تبدو هادئة، فمختلف المشاريع تسير على ما يرام ومنها مشروع توليد الكهرباء إلى القرى الذي شارف على الانتهاء. وأصبح المستشفى الجديد للأمراض الصدرية والسل الرئوي (ت. بي) جاهزاً للافتتاح ويحتوي على 50 سريراً، كما أن العمل في الرصيف البحري الممتد إلى مياه البحر العميقة يجرى على قدم وساق، أما مستشفى النساء، الذي لا زال قيد الانشاء، فكنت متخوفاً من تكاليفه والعدد الكبير لموظفيه نظراً لضخامة حجمه، لكن الأوضاع المالية للامارة جيدة بصورة تبعث على الطمأنينة، ولا زال بإمكان الحكومة استثمار ثلث (3/1) ايرادات النفط في البرامج الانتاجية وأسهم الحكومة البريطانية.
لكن البحرين كانت تمر بمرحلة من التوتر والقلاقل أكثر من ذي قبل.
احدى شركات المقاولات البريطانية التي تعمل بصورة مشتركة مع شركة محلية أصابتها ظروف مالية صعبة. فنشبت خلافات ومعارك بالأيدي بين موظفيها وعمالها البحرينيين من جهة والأوروبيين من جهة أخرى، تلاها سلسلة من الاضرابات.
ومن الواضح أن قيام شركة أنجلو ـ بحرينية مشتركة ليس هناك ضمان لسلامتها وخلوها من المشاكل العمالية.
في تلك الأثناء سرت أنباء عن اتصالات بين الهيئة وموظفي دار الاعتماد البريطاني للخروج من المأزق الذي تمر به البلاد، ورغم انّه ينبغي التكتم على ما يدور في الاجتماعات، إلاّ أن المواضيع المطروحة كانت معروفة لدى الجميع ويناقشونها بحرية في سوق المنامة. وهذا التصرف أثار دهشة واستياء كبار رجالات البلد.
قبل سفري لقضاء الإجازة عين الشيخ سلمان إبني جيمس (المعروف باسم حمد) مديراً للعلاقات العامة لحكومة البحرين، وقبل ذلك عمل بدائرة العلاقات العامة لشركة بابكو لمدة سنتين.
هذا المنصب شمل التنظيم والاشراف على إذاعة البحرين التي بدأت تبث برامجها في شهر أغسطس 1955. لم تكن الاذاعة مشروعاً سهلاً، فكل مسؤول له فكرة مختلفة عن وظائفها وأغراضها المستقبلية، فالسلطات البريطانية تريدها على غرار إذاعة الـ بي. بي. سي في سنوات الحرب، لكن وجهة نظر الحكومة هي التي انتصرت وحققت الإذاعة نفعاً عظيماً للموظفين وللحكومة وأصبحت الآن المؤسسة الأكثر شعبية بالبلاد.
في 24 ديمسبر 1955 (عشية الكريسماس)، مر بالبحرين أنور السادات المسؤول الأول عن الاعلام بمصر، في طريقه لزيارة الكويت، استقبلته جماهير حاشدة تجمعت بالمطار انتظاراً لوصوله. كان الجو ممطراً والمدرج ممتلئاً بالوحل. وعند هبوط المقلة له، اندفعت الجماهير وحملته عالياً على أكتافها نحو مبنى المطار.
أحد الأشخاص إنزلق وسقط على الأرض، ولسوء الحظ كان ذلك الشخص هو الذي يحمل المسؤول المصري. بعد ذلك، شاهدنا أنور السادات غاضباً جداً وملابسه مغمورة بالوحل الملوث بالزيت.
الترتيبات كانت معدة لتناول الضيف طعام الغداء مع الشيخ سلمان بقصر الرفاع، وكانت السيارة بإنتظاره في المطار وتم الاعتذار له ومرافقته حتّى بابها.
وعند وصوله إلى القصر طلب تزويده بماء ساخن وصابون لتنظيف ملابسه، فأرشده أحد الخدم إلى غرفة حيث تم له ذلك. بعد مأدبة الغداء عاد أنور السادات إلى المطار للحاق بالطائرة ولم يتسن له الوقت للقاء الجماهير.
بالمناسبة اشتهر هذا الرجل بالهجوم المتواصل والقدح المستمر على "المستعمرين الامبرياليين" والمستشار "الشرير" (الذي هو أنا).
صادق الشيخ على إنشاء مجلسين احدهما للصحة العامة والثاني للتعليم، وتم الاتفاق على أن يكون نصف أعضاء كل مجلس معينين من قبل الحكومة، والنصف الآخر يجرى انتخابه، على أن يرأس أحد أفراد العائلة الحاكمة.
أجريت الانتخابات في شهر فبراير 1956، وتقدم لها مرشحون تدعمهم الهيئة ضد ثلاثة مرشحين مستقلين معتدلين لا يحبون الضجيج والتزمير كما فعل منافسوهم في حملاتهم الانتخابية التي استخدموا فيها مكبرات الصوت واستعانوا بالشاحنات ليجوبوا المدن والقرى للدعاية وكسب الأصوات، وبالطبع أسفرت الانتخابات المضحكة عن فوز مرشحي الهيئة بأغلبية ساحقة.
في يوم الجمعة الثاني من مارس 1956 وَرَدَ عبر الإذاعة نبأ قيام الملك حسين، عاهل الأردن بعزل الجنرال جلوب باشا بصورة مفاجئة، فأثار ذلك النبأ صدى واسعاً في البحرين وكان حديث جميع الأوساط. وفي ذات اليوم وصل إلى البلاد وزير الخارجية البريطاني سيلوين لويد في طريقه من لندن إلى باكستان، فاستقبله بالمطار الشيخ سلمان بمصاحبة المعتمد السياسي بالبحرين السير برنارد بروز، لكن الجماهير أساءت إستقبال الضيف وأهانته. وتعقدت الأمور أثر ذلك وسخن الجو السياسي، وأصدرت الهيئة بياناً باللغتين العربية والانجليزية، اعتذرت فيه عما بدر من تصرفات المواطنين أثناء زيارة الوزير البريطاني، وفي نفس الوقت طالبت بعزلي، رغم أنها لم تذكر أي سبب معقول، لا في هذه المرة، ولا في المرات السابقة أو التالية، يبرر طلبها.
في تلك الأثناء كانت دار الاعتماد البريطاني تتفاوض مع أحد رجال الهيئة لاقناعه بمغادرة البحرين لفترة خمسة أشهر حتّى تستتب الأوضاع في البلاد وتعود المياه إلى مجاريها لحين الوصول إلى حل وسط. وشُكّلتْ مجالس حكومية استشارية فنصحت بوجوب جلوس الشخص موضع الهجوم الرئيسي للهيئة (وهو أنا) للتباحث مع أربعة من أعضائها على مائدة واحدة.
في البداية لم يكن الأعضاء الأربعة راغبين في المجئ إلى مكتبي لأنهم لا يريدون أن يعرف الناس باجتماعهم بي، لكنني رفضت الجلوس معهم في أي مكان آخر حيث أنني أكره الإجتماعات السرية. في نهاية الأمر وافقوا على الحضور، وكان الإجتماع ودياً للغاية. لم أصدقهم حينماً أخبروني بأنهم لا يتمنون مغادرتي للبلاد. وقد أطلعتهم على اعلان أصدره الشيخ يسمح فيه بتكوين اللجان للعمل لصالح شعب البحرين، فأعرب الأعضاء عن استعدادهم لتغيير اسم الهيئة والبدء من جديد.
وفي الحقيقة لم تكن هناك أبداً في السابق معارضة حكومية لقيام المواطنين بتشكيل اللجان شريطة أخذ ترخيص مسبق من الشيخ كإجراء تنظيمي ليوافق سموه عليها. أيضاً تطرق الحديث إلى مجلس التعليم والصعوبات التي تقف عقبة في انعقاد اجتماعاته بسبب الكراهية المتبادلة بين الأعضاء المعينين والأعضاء المنتخبين.
بعد ذلك إزدادت الأمور سوءاً وساد البلاد اضراب لمدة أسبوع، وكثرت الاضطرابات في المدينة والفوضى وأعمال الشغب ففرض حظر التجول ليلاً، وتوقفت المواصلات وأصبحت الحياة شبه مشلولة بالمنامة.
خارج العاصمة كان كل شئ هادئاً والحياة سارة عادية بين أفراد البحرية الملكية وموظفي دار الاعتماد البريطاني القاطنين بالجفير. في احدى الأمسيات كنا مدعوين إلى حفلة هناك وكان من المستحيل مغادرة المنامة. لكنني لاحظت التململ على وجوه الضيوف الموجودين ببيتي واحساسهم كأنهم حيوانات مسجونة في قفص، فوافقت على أن يذهب أربعة منهم بمرافقة زوجتي مارجوري في سيارة يقودها الشرطي التابع لي.
لقد كنا أيضاً بحاجة ملحة إلى الكيروسين الذي نستخدمه في الطبخ وتسخين الماء وعرضت "البحرية" تزويدنا به، لذلك أصبح ذهابنا إلى الجفير أمراً ضرورياً.
وصل المدعوون إلى الجهة القاصدين إليها بدون صعوبة، وبعد قضاء ساعات قفلوا راجعين، وفجأة، في طريق عودتهم على الشارع القريب من القلعة، اعترضهم بعض المشاغبين من قطاع الطرق، ولولا براعة وذكاء الشرطي عبد الله مبارك لحدث بالتأكيد مكروه لا يحمد عقباه، فقد ثبّت جهاز التعشيق (الجير) في وضع اتجاه الخلف وداس على مكبس "البترول" بسرعة 50 ميلاً في الساعة وسار إلى الوراء على طول الشارع نحو القلعة، ولحسن الحظ كانت حركة المرور متوقفة، وحينما وصل إلى القلعة تمت حماية السيارة وإيصال الضيوف بسلام إلى مبنى "المستشارية" وهو الاسم الذي يطلق على منزلي ومكتبي مخفورة بسيارتي جيب تابعتين للشرطة. تلك كانت الحادثة المحزنة الوحيدة التي وقعت لنا خلال أيام الاضراب.
الفصل الثالث والعشرون
الرحيل!!
العدوان على مصر والمظاهرات في البحرين!!
في فبراير 1956 عين الشيخ سلمان مجلساً إدارياً للبلاد من العائلة الحاكمة برئاسة عمّه الشيخ عبد الله بن عيسى آل خليفة البالغ خمسة وسبعين عاماً. وفي أبريل توقفت الهيئة التنفيذية العليا عن ممارسة نشاطاتها وولدت مؤسسة جديدة اسمها "هيئة الاتحاد الوطني" عدد أعضائها سبعة أفراد جميعهم كانوا بالإدارة السابقة.
وازدادت المطالبة بالاستغناء عن "المستشار" ومغادرته للبحرين. كنت حينها في الحادية والستين ومضى على خدمتي مع الشيخ ووالده الشيخ حمد ثلاثون سنة متواصلة، وقد تناقشت منذ فترة مع زوجتي مارجوري حول هذا الموضوع، واتفق رأينا على وجوب الرحيل، وأبلغت الشيخ بأن الوقت قد حان لإحالتي على التقاعد وأعربتُ عن رغبتي الشخصية في إعفائي من الخدمة، فوافق سمّوه على أن أغادر البحرين في خريف 1957.
الآن أصبح لي المتسع من الوقت لكي أتوجه إلى جزيرة جدة وأخلد إلى الراحة خلال عطلات نهاية الاسبوع بعيداً عن إزعاج أجهزة الهاتف، ورجال الصحافة أو أي أشخاص مثيرين للمشاكل، فأخذت أذهب إلى هناك مساء كل يوم خميس ولا أعود إلى بيتي ومكتبي إلاّ فجر السبت. حينها يكون منظر شارع البديع الجميل في غاية البهجة والشاعرية. وتبدأ خيوط شمس الصباح الرقيقة بالانعكاس على الحشائش الخضراء تحت اشجار النخيل الباسقة التي تتدلى منها عناقيد الرطب الحمراء والذهبية والصفراء المنقطة من أسفل بالسواد الدال على نضجها والتي تذكرني بالتنورات التي ترتديها راقصات البالية. هذه الاجواء جعلتني اشعر بالانتعاش بعد قضاء حياة بسيطة "متكاسلة" في الهواء الطلق خلال عطلات أسبوعية طويلة نسبياً.
وجاءت أحداث قناة السويس (العدوان الثلاثي على مصر)، في اكتوبر 1956 فخرجت المظاهرات الشعبية المؤيدة للجمهورية المصرية والمطالبة بخروج "المحتلين منها" والغاضبة على الدول التي تحالفت ضدها.
وهاجم المتظاهرون الشركات البريطانية العاملة في البحرين والحقوا الاضرار بها وأتلفوا مبانيها وأحرقوا البعض الآخر، ونقلت الجاليات الاوروبية المقيمة داخل المنامة من منازلها إلى عوالي والجفير.
ونظم اضراب عام في الأول من نوفمبر احتجاجاً على "العدوان" فَشُلّتْ الحياة وانقطعت المواصلات بين مدن وقرى البحرين، لكننا استعددنا لذلك بإنشاء مساحة مرصوفة تهبط عليها الطائرات قبل مدينة عوالي نستطيع عبرها توصيل الخدمات بواسطة "باص" جوي من مطار المحرّق إلى هناك.
واستمرت احداث الشغب والفوضى فأمر الشيخ بإلقاء القبض على خمسة من زعماء الهيئة في 5/11/ 1956 وتمت محاكمتهم بمركز شرطة البديع في 21 و22 نوفمبر بعد تعيين هيئة قضائية خاصة مكونة من الشيخ عبد الله بن عيسى آل خليفة، القاضي بمحكمة الاستئناف والشيخ دعيج بن حمد آل خليفة، القاضيان بالمحكمة العليا.
وحكمت المحكمة بسجن ثلاثة من المتهمين لمدة 14 سنة والاثنين الآخرين لمدة 10 سنوات بعد ثبات ادانتهم بالتهم الموجهة لهم. وتم تسفير الثلاثة الذين نالوا المدة الاطول إلى جزيرة "سانت هيلانة" بالمحيط الاطلسي وهي إحدى المستعمرات البريطانية، عن طريق البحر بواسطة فرقاطة تحمل نفس الاسم. وبالمناسبة هذه الجزيرة نفي إليها نابليون بونابرت قبل اكثر من مائة عام وقضى فيها آخر سنوات عمره. بعدها عادت الأمور إلى طبيعتها بالبحرين واستتبت الاوضاع.
الفصل الرابع والعشرون
بعد الاشهر الحرجة التي مررنا بها في عام 1956، هدأ مقياس الضغط "البارومتر" السياسي بالبحرين واستقرت الاوضاع، ومع حلول ربيع عام 1957 صار كل شئ علي ما يرام. واستمرت عمليات التنمية الادارية بنجاح واطراد، ومارس المجلس الذي عيّنه الشيخ مهامه على أكمل وجه، وأًعيد تنظيم مجلسي الصحة والتعليم وتطعيمهما بعناصر مؤهلة ذات كفاءة واصبحا يلعبان دوراً مفيداً لصالح البلد.
أما وضعي الشخصي فقد أصبح أسهل بكثير من ذي قبل، ولم تعد هناك مطالبات بالاستغناء عني، لكني عقدت العزم على التقاعد ولا مجال للتراجع، وخططت مع زوجتي على المغادرة في نهاية العام رغم ان الشيخ سلمان حثني على تأجيل الموعد، ورفض تعيين مستشار آخر بعد ذهابي، وبدا لي أنني سأكون المستشار الأول والأخير لحكومة البحرين. وأجرى سمّوه بعض التعديلات في الدوائر فأعلن ترقية ج. و. ر. سميث الذي كان يشغل منصب مدير الجمارك إلى سكرتير الحكومة، وقرر الشيخ التعامل مباشرة مع الكثير من أُمور الدولة بمساعدة نجليه الأكبرين. ونظراً للبعد النسبي لتاريخ سفرنا فقد علمتُ على ترتيب الأمور على مهل.
لكن… فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان، فأصبت بعارض مرضي ألمّ بي ونقلت إلى المستشفى في 10 ابريل وقضيت هناك ليلة واحدة، أبلغني على أثرها الطبيب الجراح بأن من الضروري أن أسافر بصورة مستعجلة إلى لندن لإجراء الفحوصات مع احتمال اضطراري لاجراء عملية جراحية. هذا الخبر الغير متوقع قطعيا كان وقعه كالصاعقة علي وعلى أسرتي، لكن لا مناص من إطاعة الطبيب.
الأسبوع التالي كان أشق وأصعب الأيام التي عانيتها طوال حياتي. وفي الأيام القليلة اللاحقة أخذت أصفّي المواضيع المعلّقة قدر الامكان وأجهز نفسي للسفر، لكن ذلك أمر شبه مستحيل بسبب كثرة المترددين على المنزل من أصدقائي البحرينيين للإطمئنان على صحتي. وأخذت أفرز جميع أوراقي وأمتعة العائلة الكثيرة التي جمعناها وتراكمت لدينا على امتداد 31 سنة، واختيار ما نريد أخذه معنا. وطبعا لا بد من توديع معارفنا وزملائنا، وبالنسبة للأوروبيين لا توجد مشكلة لأن عددهم أقل جدا ومن المحتمل أن أراهم مرة ثانية، لكن فراق البحرينيين كان أمراً يبعث على الانقباض والضيق.
عندما ذهبت لرؤية الشيخ للمرة الأخيرة كان مشهداً مؤثراً للغاية لكلينا، وأعربت له عن إمتناني واعتزازي بخدمته الطويلة ومعرفته عن قرب لعدة سنين والعمل المشترك لما فيه خير البلاد. كانت لحظات صعبة جدا ولم أدرِ ما إذا كنا سنتقابل مرة أخرى أم لا.
تفكيك محتويات منزلنا الواسع، العامر باللوحات والكتب والتحف الصينية والأغراض الاخرى التي إقتنيناها على مدار نصف العمر يحتاج إلى عدة أسابيع، لكننا أنجزنا المهمة في غضون بضعة أيام بمساعدة أربعة من أصدقائنا الذين تبرعوا لقضاء تلك الأيام معنا لحزم الحقائب والأمتعة والكرتونات الكثيرة التي شحناها عن طريق البحر، ولحسن الحظ عندما وصلت الشحنة إلى لندن بعد أشهر لم تتعرض إلى الكسر إلاّ قطعة واحدة من التحف.
جميع الناس، حتّى الذين كانوا يعارضونني في السابق، غمروني بلطفهم الكبير أكثر مما تخيلت، وأجزم بأنهم كانوا صادقين، عندما تطرقوا إلى موضوع سفري، بالإعراب عن رغبتهم بعدم رحيلي.
غادرنا البحرين (أنا وزوجتي وإبنتنا بالتبني) في الصباح الباكر من يوم 18 ابريل 1957. ورغم الموعد الغير مناسب للسفر إلاّ أن المئات من البحرينيين والأوروبيين كانوا في وداعنا بالمطار. كان موقفاً حزيناً بالنسبة لنا، وعندما عبرت الطائرة فوق أرجاء البحرين نظرت من النافذة إلى أسفل متسائلاً ما إذا كنت سأحظى مرة أخرى برؤية جزر هذه الامارة التي عشت فيها سنوات كثيرة سعيدة من عمري.
وكنت أشاهد بصورة غير واضحة، بسبب عدم إنجلاء النور، منظر جسر الشيخ حمد الذي يربط بين مدينتي المنامة والمحرق الذي استغرق مني 11 سنة كاملة لإنشائه، وكنت أملح من بعيد الشوارع الواسعة المستقيمة، والأرصفة البحرية الجديدة، والمدارس التي كانت في بعض الفترات مصدراً للمشاكل، وإلى المستشفيات وإلى الأنوار المنبعثة من المدن والقرى التي تصلها الطاقة الكهربائية من المبنى الجديد لمحطة الكهرباء.
شاهدت أيضاً منزلنا محاطاً بالأشجار العالية التي زرعتها، وعلى مسافة لا بأس بها، رأيت قصر الشيخ سلمان الأبيض اللون، وشعرت بحزن عميق لفراقه وفراق البحرين.
وصلنا إلى لندن في نفس الليلة بفضل جهود شركة الخطوط الجوية البريطانية B.O.A.C التي ساعدتنا في إنهاء إجراءات الجمارك بسرعة لكي نستطيع تناول عشاء متأخر بالعاصمة. صبيحة اليوم التالي ذهبت إلى "مستشفى لندن"، فأعطاني الطبيب يوماً للراحة وللتمكن من رؤية المنزل الذي اشتريناه في كينسينجتون في ديسمبر الماضي لأول مرة حث كنا رتبنا عملية الشراء عن طريق الهاتف من البحرين، وقد جاء المنزل حسبا لمواصفات التي أردناها تماماً. بعد ذلك توجهت عائداً إلى المستشفى حيث رقدت لمدة شهرين تقريباً، أجريت لي خلالها عملية جراحية دقيقة جدا كللت والحمد لله بالنجاح التام. هذه هي المرة الاولى التي أعالج فيها داخل أروقة المستشفى منذ إصابتي بحمى التيفوئيد بمصر عام 1917 عندما كنت أعمل في الجيش البريطاني.
أثناء إقامتي "بمستشفى لندن" التي إستمرت شهرين، سنح لي الوقت الكافي للتأمل في السنوات الطويلة التي قضيتها بالبحرين. فباستثناء الأعوام الأخيرة، عشت حياة سعيدة ومن الصعب علي أن أتخيل حقيقة أنني لن أعود مرة ثانية إلى عملي هناك. لم اشعر بأنه مضت علينا 31 سنة كاملة منذ وصولنا ـ أنا وما رجوري ـ إلى المنامة لأول مرة في مارس 1926 ونحن لا زلنا في شعر العسل. لا زالت تفاصيل الأيام الأولى والسنوات المبكرة لمجيئنا حية في ذاكرتي، وما أكثر التغيرات التي طرأت على هذا البلد منذ ذلك الحين!!
إن التعبير الشائع الذي يقول بأن الشرق لا يتغير أبداً خاطئ ولا يعبّر عن الواقع، فليست هناك منطقة بالعالم تجري فيها التغيّرات بسرعة أكبر مما هي عليه في الشرق. لقد عاينت تطور وتقدم البحرين وتحولها من إمارة عربية صغيرة مغمورة إلى مركز تجاري وسياسي هام، وكان لي دور كبير في ذلك التحول.
وشاهدت الشعب البحريني ينتقل من مجتمع بسيط يعتمد على الزراعة وصيد البحر إلى مجتمع يعتمد بصفة رئيسية على صناعة حديثة وعظيمة إلاّ وهي إنتاج وتكرير النفط. فخلال فترة وجودي بالبلاد إرتفعت إيرادات الدولة السنوية تدريجياً من 100.000 (مئة ألف) جنيه إسترليني تقريباً إلى ما يقارب خمسة ملايين ونصف جنيه. كما شهدت نمو الوعي السياسي لدى المواطنين و"الاوجاع" المتزايدة للديمقراطية.
قبل ثلاثين سنة، عندما لم يزد عدد المتعلمين من السكان عن العشرات، القلة منهم كانت تسافر للخارج بسبب إهتمام البحرينيين كلية بشؤونهم المحلية، وعدم تقبلهم أو ترحيبهم بالنفوذ الاجنبي عليهم.
فالبريطانيون الذين يسيطرون على الخليج فرضوا إحترامهم ليس بسبب سياسة "قوة السفن المزودة بالمدافع" التي أصبحت وسيلة غير مواكبة للعصر الحديث في الاقناع، وإنما بواسطة الرجال الممثلين لهم بالمنطقة الذين يفهمون طبيعة العرب ويتّبعون سياسة واضحة المعالم، المعيشة كانت رخيصة وأذواق الناس بسيطة، طريقة حياتهم لم تتبدل إلاّ قليلاً منذ القرن الماضي، الملابس والعادات الغربية غير معروفة لديهم. علاقاتهم التجارية كانت مع الهند حيث يبيعون اللؤلؤ بأسواقها ويستوردون المواد الغذائية من هناك، ولم يكن عندهم إهتمام بالأمور الجارية في المشرق.
لكن البحرين أصبحت اليوم مكسوة "بقشرة" غربية بدرجات متفاوتة، ففي المدن تنطلق الأصوات العالية المدوية من أجهزة المذياع الموجود في كل بيت ومقهى شعبي. وهناك اليوم ست دور للسينما بالعاصمة، المنامة، جميعها تزدحم بالرواد كل ليلة. ويشاهد المواطنون البرامج الأمريكية المدبلجة في محطات تلفزيون المملكة العربية السعودية التي يمكن إلتقاطها بالبحرين، ويوجد ما يزيد عن 700 سيارة ومركبة تتزاحم على الطرقات.
وتنتشر مجموعات من المنازل الأوروبية الطراز ذات الطابق الواحد بكثرة ملحوظة، واللوحات الاعلامية للمشروبات الغازية تملأ الشوارع وتفسد جمالها. وأصبح الزي العربي والثوب البحريني موضة قديمة بين الشباب، وصارت النساء والفتيات يرتدين الملابس الأوروبية تحت عباءاتهن السوداء. وفي فصل الصيف، يسافر البحرينيون المقتدرون إلى دول أوروبا ولبنان بعد أن "إكتشفوا" بأن صحتهم لا تسمح لهم بقضاء الأشهر الحارة في بلدهم الذي ولدوا وترعرعوا فيه!!.
رغم ذلك، تسير الحياة في القرى، بصورة مشابهة لما كانت عليه منذ ثلاثين سنة، لكن أبناءها اليوم أفضل صحة ولم يعدوا يصابون بالملاريا، يعيشون في بيوت أفضل من السابق، ومستوى معيشتهم أعلى بكثير عما كان عليه آنذاك. معظم أطفالهم يذهبون إلى المدرسة، كما تتوفر لديهم المستوصفات الطبية، منازلهم مزودة بالكهرباء والماء ويتنقلون بواسطة الباصات وسيارات الأجرة (التاكسيات) والدراجات بدلاً من إستخدام الحمير. لا تفرض ضرائب على المواطنين. ولا توجد بطالة بينهم، وهناك فرص للشباب الأذكياء لكي يتدرجوا في سلّم المناصب سواء كانوا يعملون بالدوائر الحكومية أو شركة نفط البحرين (بابكو) ويصلوا إلى مراكز مرموقة في المستقبل. لكني لا زلت أشك بأنهم أسعد حالاً وأكثر إرتياحاً عما كانوا عليه قبل ذلك.
التعليم. السفر. والإذاعة ثلاثة عوامل جعلت الفئة المثقفة في الخليج العربي تتأثر بالأفكار السياسية الخارجية التي سيطرت على عقولها وعواطفها رغم عدم إستيعابها الكامل لتلك الأفكار والمبادئ. وحيث أن معظم الحملات الاعلامية المبثوثة من الإذاعات العربية تهاجم بريطانيا، فقد تغير شعور العرب والبحرينيين تجاه الانجليز وأصبحوا يمقتونهم. المثقفون في الخليج نسبتهم قليلة جداً قياساً إلى عدد السكان. لكنهم الآن أشخاص مهمون في المجتمع، وهم ينتمون إلى فئة المدرسين والموظفين ذوي الياقات البيضاء من شباب المدن، أما البقية فهي لا مبالية وغير مهتمة بالسياسة. المثقفون البحرينيون مشوشون فكرياً وغير واضحي النظرة، فرغم أنهم يهاجمون بريطانيا إلاّ أنهم معجبون بنظامها الدستوري العريق ويعتقدون بأنه لو كانت إمارات الخليج من مستعمراتها، فسوف تستمتع شعوبها بمزايا معينّة، لكن مبادئ القومية العربية تستحوذ على ألبابهم وتُشبع تطلعاتهم وآمالهم بالوحدة العربية القوية عوضاً عن كونهم اجزاء صغيرة متباعدة. في نفس الوقت، أنا لا أعتقد بأن الكثيرين منهم سوف يرحبون ويؤيدون فكرة توجيههم والإشراف عليهم من قبل حكومة القاهرة.
الشبان البحرينيون الذين كانوا طلاباً بالمدارس أو بالجامعات العربية والأجنبية، جميعهم درسوا على نفقة الحكومة، لكنهم يعتبرون أنفسهم اليوم، بسبب دراستهم العالية، أنهم أكثر جدارة وأهلية. لا يعترفون أو لا يقدرون، بأنه رغم ما قيل وكتب تجنياً واضراراً بحق البحرين، أن بلدهم مؤسسات ديمقراطية وتمثيلاً شعبياً أكبر مما هو عليه في أي دولة أو إمارة خليجية أخرى.
عندما أذكر لأصدقائي البحرينيين هذه الحقيقة فإنهم يردون: يجب ألاّ نقارن البحرين وتطورها السياسي بإمارات الخليج، ينبغي أن نقارن بينها وبين الدول الأوروبية كالمملكة المتحدة!! بإعتقادي أن طموحهم كبير، أكبر من الواقع.
لعدة سنوات كانت تدرى إنتخابات للعديد من المجالس واللجان العامة، وفي بعض الحالات يكون جميع أعضاء اللجان منتخبين، وفي بعضها الآخر يتم تعيين نصفهم والنصف الآخر يتم إختياره عن طريق الإنتخاب بواسطة الشعب، ولو أن الناخبين يكونون عادة أثناء عقد الإنتخابات غير متحمسين أو مكترثين بها.
وفي مدينة المنامة وضواحيها، يسمح لربات البيوت من النساء بالتصويت في إنتخابات البلدية، وهو تقليد يتفوق على ممارسات العديد من الدول التقدمية الشرقية. أما المجالس واللجان التي أنشأتها الحكومة لمعالجة نواحي التعليم، والصحة، والشؤون القروية، والأوقاف، وأموال القاصرين، مع البلديات المنتشرة في المدن والقرى، فهي تضم أعضاء من قطاع عريض من السكان إضافة إلى وجود ممثل لكل قرية (مختار).
لكن شباب اليوم غير صبور وضيق الصدر. فأفراده ينظرون إلى تلك المجالس واللجان التي تؤدي خدمات نافعة على أنها باهتة وغير مجدية لأن العمل الذي تؤديه ليس براقاً ومثيراً للإنتباه.
والرجال الذين قادوا الحركة السياسية التي شغلت وأقلقت البحرين لمدة سنتين وتسببوا في خلق الفوضى والإضطرابات عام 1956، كانوا مجموعة من القوميين العرب الغير مثقفين المفتقرين إلى الخبرة والحنكة السياسية. لقد إعتمدوا بصفة رئيسية على التأثير العاطفي وإهمال الحقيقة والواقع دون تحكيم العقل والمنطق ودون أي إعتبار للنتائج المترتبة. يدركون بأنهم غير راضين عن الأوضاع الحالية لكنهم يجهلون ماذا يرديون ويتمنون تحقيقه. لقد حُشيت عقولهم بالأفكار الهدامة وأقنعوا أنفسهم بمهاجمة الحكومة.
نعم، لقد كانوا متشوشين ومترددين وغير واثقين من أنفسهم وليست لديهم سياسة محددة، فهم يغيّرون من وجهة نظرهم من حين لآخر، ولا يبدون أسباباً واضحة ومقنعة يستندون إليها في مطالبهم. ففي سنتين فقط، أصدروا 78 بياناً رسمياً عدد كبير منها مناقض كلية للآخر، كتاباتهم تبعث على الغرابة، فما ينادون به شئ، وما يطبقونه شئ مختلف. لقد كانوا خاضعين لضغط المجموعات داخل "هيئتهم"، وفي أحيان كثيرة تضطر قيادتهم إلى تغيير آرائها بهدف إرضاء جماعة أو أخرى.
بعد حلّ الهيئة في عام 1956، كتب أحد أعضائها إلي قائلاً إنه لم يكن يوافق على العديد من التصرفات التي قامت بها، واعتقدت في البداية بأن هذا الرجل مماطل وغير صادق، لكنني عندما عرفت بأنه هدد بالإستقالة عدة مرات لأن الهيئة تعمل ضد مصالح جماعته، أيقنت أنه يعبّر عن حقيقة رأيه.
عندما يزور أعضاء الهيئة ومؤيدوها القاهرة، كما تعودوا دائماً، فإنهم يصفون أنفسهم "بحركة المقاومة" البحرينية، لكن عند سؤالهم: المقاومة ضد من؟ فإنهم يجدون صعوبة في الرد على هذا السؤال! وبمناسبة الحديث عن القوميين العرب… أتذكر أنني إلتقيت بعبد الناصر عندما توقف في مطار البحرين لمدة ساعة واحدة في طريقه لزيارة الهند ولم يكن قدومه إلى البلاد متوقعاً أو معلناً عنه، وحيث أن الشيخ سلمان لم يستلم إشعاراً رسمياً بذلك، فلم يتوجه لإستقباله.
أحداث عامي 1955 و1956 عادت بالبحرين إلى الوراء!!
الانسحاب البريطاني هروب من المسؤولية!!
يسألني الناس باستمرار: ما هو الحل بالنسبة لمستقبل إمارات الخليج العربية؟ . العديد من الآراء طرحت حول هذا الموضوع، البعض أيّد إنسحاباً بريطانياً سريعاً بإنهاء المعاهدات والالتزامات التي تربطها معها والتي تنصل على حمايتها من الاعتداء الخارجي، وإعطاء هذه الدول الفرصة لتتحمل النتائج بنفسها. هذا الرأي في اعتقادي يعتبر هروباً من المسؤولية كما يسئ لسمعة بريطانيا (أو بقايا سمعتها) في الشرق الأوسط إن هي أقدمت على هذه الخطوة بجانب أنه سيتسبب في خلق متاعب كثيرة ومشاكل خطيرة للامارات إضافة إلى المصاعب التي تواجهها الآن.
أشخاص آخرون دعوا إلى حث بريطانيا على تهيئة المناخ السياسي لا نتهاج دول المنطقة أشكالاً أكثر ديمقراطية، ومعظم هؤلاء الأشخاص رجال ناضجون ممن عاصروا سنوات طويلة من نمط الحكم الموجود بالخليج.
برأيي أن وجهة النظر هذه من الصعب تحقيقها وذلك استناداً إلى تجربتي التي امتدت 31 عاماً متواصلة في البحرين. إن الديمقراطية عملية تنموية دقيقة يتم تطويرها بالتدريج بصورة متأنية ومن غير تسرع.
فالبلاد كانت في بداية مسيرتها الديمقراطية لولا الاحداث السياسية التي عصفت بها في عام 1955 و1956 والتي أرجعت البحرين سنوات إلى الوراء بدلاً من أن تعجل بنموها. وتقدّم بريطانيا دائماً النصح والاستشارة لدول الخليج، لكن عندما لا تسير الأمور على ما يرام، فإن اللوم والانتقاد يوجه إليها.
وبالنسبة للبحرين اهتزت ثقة الشعب بالسياسة البريطانية وأتوقع تقديم أنماط جديدة للحكم تكون أكثر ليبرالية في السنوات القليلة القادمة وبطريقة تدريجية، لكن يا محاولة لتسريع العملية سواء من قبل الجهات الرسمية والأهلية أو بواسطة الضغط السياسي الخارجي، سينتج عنها كارثة، وللاسف فإن الموقف الحالي في الشرق الأوسط يسير نحو التغيير بصورة سريعة جداً لدرجة أصبح معها المثل العربي القائل "العجلة من الشيطان" غير مطابق للواقع.
مجموعة ثالثة من المهتمين بالموضوع تؤمن بأن بريطانيا ينبغي أن تساند الأنظمة الخليجية مهما كان شكل الحكم في إماراتها. والذين يميلون إلى هذا الرأي يفترضون أن معارضة الانجليز والحكومات الخليجية مصدرها الشيوعية لكن الحقيقة التي لا مراء فيها أن شعب البحرين لا يتعاطف مع المذهب الشيوعي ونفس الشئ يمكن أن يقال عن دول الخليج الاخرى بالرغم من وجود بعض العناصر الماركسية العربية في الكويت والتي قدمت إليها من الدول المجاورة كالعراق عندما أصبحت الكويت موطن الثروات بفضل التدفق الهائل للنفط في أراضيها. إن نمو الطبقة الوسطى وزيادة الازدهار الاقتصادي الذي امتد إلى جميع المستويات إضافة إلى التحسن الملحوظ في مستوى المعيشة هي بعض العوامل التي تجعلني أعتقد بعدم كسب الشيوعية لقاعدة جماهيرية بين صفوف المواطنين العرب في الخليج مستقبلاً.
وحركة القومية العربية في البحرين لم تكن تستلهم مبادئها من الماركسية، بل هي تعبير عن رفض وسخط المثقفين ضد الانظمة الإستعمارية وهي مشابهة للحركة التي قامت عام 1938 وتم القضاء عليها.
** ورقة مقدمة بتاريخ 23/12/2004 في ورشة بجمعية العمل الوطني بمناسبة ذكرى محاكمات أعضاء هيئة الاتحاد الوطني في 23/12/1965
#عبدالنبي_العكري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاستبداد العربي المديد لماذا؟
-
الديمقراطية المعاقة في الخليج
-
التنظيمات اليسارية في الخليج
-
الأنظمة الاستبدادية ترفض الانضمام للمحكمة...
-
أمريكا دولة خارجة على القانون الدولي
-
الجمعيات والمؤسسات الأهلية والخروج من دوامة الصراعات
المزيد.....
-
رصد طائرات مسيرة مجهولة تحلق فوق 3 قواعد جوية أمريكية في بري
...
-
جوزيب بوريل يحذر بأن لبنان -بات على شفير الانهيار-
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
لحظة هروب الجنود والمسافرين من محطة قطارات في تل أبيب إثر هج
...
-
لحظة إصابة مبنى في بيتاح تكفا شرق تل أبيب بصاروخ قادم من لبن
...
-
قلق غربي بعد قرار إيران تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة
-
كيف تؤثر القهوة على أمعائك؟
-
أحلام الطفل عزام.. عندما تسرق الحرب الطفولة بين صواريخ اليمن
...
-
شاهد.. أطول وأقصر امرأتين في العالم تجتمعان في لندن بضيافة -
...
-
-عملية شنيعة-.. نتانياهو يعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي في
...
المزيد.....
-
واقع الصحافة الملتزمة، و مصير الإعلام الجاد ... !!!
/ محمد الحنفي
-
احداث نوفمبر محرم 1979 في السعودية
/ منشورات الحزب الشيوعي في السعودية
-
محنة اليسار البحريني
/ حميد خنجي
-
شيئ من تاريخ الحركة الشيوعية واليسارية في البحرين والخليج ال
...
/ فاضل الحليبي
-
الاسلاميين في اليمن ... براغماتية سياسية وجمود ايدولوجي ..؟
/ فؤاد الصلاحي
-
مراجعات في أزمة اليسار في البحرين
/ كمال الذيب
-
اليسار الجديد وثورات الربيع العربي ..مقاربة منهجية..؟
/ فؤاد الصلاحي
-
الشباب البحريني وأفق المشاركة السياسية
/ خليل بوهزّاع
-
إعادة بناء منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي(1)
/ حمزه القزاز
-
أنصار الله من هم ,,وماهي أهدافه وعقيدتهم
/ محمد النعماني
المزيد.....
|