ورقة من إعداد: علي ربيعة
في بداية الحديث عن المشروع الاصلاحي للملك تم التبشير بنظام الملكية الدستورية و هو نظام للحكم يتجاوز بكثير ما وفره دستور 1973 من مشاركة شعبية و حريات سياسية و مدنية و ما أكدت عليه مطالب الحركة الدستورية في التسعينات.
و قد عبرت الحركة الدستورية آنذاك و جميع قوى المعارضة عن تفاؤلها بالدخول في مشروع الملكية الدستورية و اعتبرته نقلة نوعية حضارية في شكل النظام السياسي الذي يؤسس للتعددية السياسية و تداول السلطة.
لكن و بدلا من إرساء دعائم هذا المشروع الحضاري الذي يواكب التطورات السياسية المطروحة في الساحة الدولية و يلبي طموحات و آمال المواطنين تم خفض سقف المشروع الاصلاحي بطرح الميثاق الوطني كمدخل لإجراء التعديلات الدستورية الخاصة بنظام المجلسين و تحويل الإمارة الى ملكية .
في الخامس عشر من شهر فبراير 2002 فوجئ المجتمع بصدور دستور جديد يتعارض و ما نص عليه الميثاق الوطني الذي أكد على دستور 1973 و يتجاهل مجمل التعهدات و التطمينات التي أصدرتها القيادة السياسية و هي جزء لا يتجزأ من التعديلات الدستورية.
جاء الدستور الجديد بتركيبة المجلسين و أعطى السلطة التنفيذية حق الهيمنة على السلطة التشريعية عن طريق مجلس الشورى المعين كما تم إلحاق ديوان الرقابة على المال العام بالسلطة التنفيذية.
لقد مثلت هذه التعديلات انتكاسة حقيقة للمشروع الإصلاحي و جاءت هذه الإصلاحات السياسية المحدودة لتعمل على تمزيق الوحدة الوطنية و تعمل على تكريس الواقع السياسي الذي كان سائدا أثناء الفراغ الدستوري - أي في الفترة ما بعد حل المجلس الوطني في أغسطس 75 و صدور الدستور الجديد - و هو استمرار هيمنة الدولة على المجتمع تحت يافطة الدستور و العملية الانتخابية و المجلس الوطني.
و للتعبير عن هذا المشهد السياسي و تصوير حجم التراجع عن المشروع الإصلاحي الحقيقي أمكن الاستشهاد بما كتبته الدكتورة الشهيرة أوتا ماينيل و هي هندية الأصل و أحد الكتاب الذين يراقبون أوضاعنا عن كثب على اعتبار أن التجربة البحرينية اذا ما كتب لها النجاح سيتم تسويقها الى دول عربية أخرى. في ورقتها البحثية القيمة التي صدرت تحت عنوان الانتفاضة البحرينية وعملية الإصلاح السياسي في البحرين تقول الدكتورة ماينيل ما يلي :- " بعد شهور قليلة – أي بعد العملية الاصلاحية - خفتت الفرحة الآملة وسط تصاعد وانتشار شعور بعدم جدية نية تنفيذ الإصلاحات من قبل الملك. فقد ظل معدل البطالة – الذي قدره بعض المراقبين الغربيين من 25% إلى 45%- على حاله، وكذلك لم يتم أخذ مطالبة الكثير من البحرينيين بإصلاح وتغيير سياسة تسيير سوق العمل بعين الاعتبار. ولذا فقد ظلت هناك ثلة قليلة تستغل ثغرات قوانين العمل لإدخال العمالة الآسيوية الرخيصة إلى البلاد من خلال ما عرف باسم " التأشيرة المجانية" أو FREE VISA . وفي هذا السياق أيضا تجب الإشارة إلى مشكلة الفساد داخل النخبة والتي لم تكن موضوعاً أو هدفاً للإصلاحات المتبناة، الأمر الذي أثار استياءً شعبياً متزايداً. وهكذا فقد خرجت مظاهرات عديدة للمطالبة بفرص عمل. كذلك فقد انتقدت المعارضة عدم وجو شفافية كافية في عملية اتخاذ القرار السياسي وكذلك استمرار العوائق أمام حرية إبداء الرأي في وسائل الإعلام. إلى جانب ذلك فقد استمر الوضع فيما يختص باستبعاد الشيعة من تقلد المناصب في وزارة الداخلية أو الجيش على ما هو عليه.
و هنا ينتهي تعليق هذا المراقب من خارج البحرين لكن هذا التحليل الموضوعي للأزمة يعكس الواقع الملموس وسلبيات العملية الاصلاحية و يتوافق مع مرئيات الجمعيات المقاطعة التي حاولت جاهدة التصدي لها منذ صدور دستور 2002 . هذا باستثناء الأزمة الدستورية التي تمثل أصعب و أعقد التحديات أمام الجمعيات المقاطعة .
في الحادي و الثلاثين من شهر مايو 2003 أعلن جلالة الملك انتهاء العقد الأول من الفصل التشريعي الأول للمجلس الوطني و من خلال هذه التجربة القصيرة للمجلس تبين لكافة القوى السياسية المقاطعة منها و المشاركة نواقص دستور 2002 و ضعف المؤسسة التشريعية التي جاء بها هذا الدستور. لكن التقييم الأكثر تأثيرا على مستقبل العمل السياسي هو حكم المواطن العادي على هذه التجربة التي أوصلته الى قناعة تامة بعدم التعويل على هذا المجلس في معالجة قضاياه السياسية و مشاكله الاجتماعية. أما على صعيد المعارضة فان أداء الجمعيات السياسية المقاطعة لم يكن بأحسن حال من أداء المجلس الوطني سواء فيما يتعلق بالقضية الدستورية التي قادت الى المقاطعة أو فيما يتعلق بملفات البطالة و السكن و تردي الوضع المعيشي, فضلا عن ملف التجنيس و التمييز و ذلك بسبب إصرار الحكومة على عدم التجاوب مع أي من القضايا المطروحة .
لقد شعر المواطن أن الجمعيات السياسية التي قادته الى المقاطعة بسبب انحراف العملية الإصلاحية عن سكتها الصحيحة ما لبثت أن خذلته بسبب مناوراتها مع الجمعيات الأخرى من أجل اقناعها بمرئياتها المبنية على مرجعية دستور 1973 .
على ضوء هذه الاخفاقات الدستورية و الاجتماعية أصيب قطاع واسع من المواطنين بالإحباط و أخذت الفجوة بين المواطنين و بين الجمعيات السياسية تتسع تدريجيا و لم تعد الجمعيات بقادرة على ضبط ايقاع الشارع السياسي و قيادة الجماهير كما كان الحال عليه أثناء مقاطعة الانتخابات و الإعلان عن تبني القضية الدستورية.
و لذا فان أي محلل سياسي لا يجد صعوبة في رسم احتمال انفلات الشارع السياسي في المستقبل اذا ما ظلت الأبواب موصدة في وجه التغيير الحقيقي و خاصة فيما يتعلق بالأمور المعيشية و الحياتية.
و حتى يكون بمقدور الجمعيات السياسية استعادة قيادتها للشارع السياسي و منعه من الانفلات فان عليها أن تقوم بعملية مراجعة لادائها السياسي و أن تعيد النظر في حساباتها و أجندتها السياسية و أن تعمل على تطبيق برنامجها السياسي بعيدا عن المساومات و التحالفات السياسية التي أضرت كثيرا بمستقبل العمل المطلبي.
و على ضوء هذه الصورة القاتمة للمشهد السياسي فأن ما حدث في سترة هو نتاج طبيعي لما آلت إليه تداعيات الأزمة السياسية و الاجتماعية. ما حدث في سترة ليس حادثا عرضيا كما يصوره البعض و انما يعبر في حقيقة الامر عن مخزون من مشاعر اليأس و الإحباط . كلنا ندين أعمال العنف و الإرهاب شأننا شأن الذين امتلأت صحافتنا المحلية بمقابلاتهم وتعليقاتهم المنددة والشاجبة للأعمال الإرهابية و لا نستثنى في ذلك جمعياتنا السياسية التي أدلت بدلوها.
لكن اللافت للنظر في هذا الحادث أمران :-
1) خلو هذا الشجب و الإدانة من أي ربط بين أعمال العنف و دوافعه الاقتصادية و الاجتماعية و تجنب الحديث عن ضرورة إجراء الدراسات و التحاليل الاجتماعية لمعرفة الأسباب و الدوافع وراء هذا العمل.
2) التركيز على مساحة الحرية التي وفرها المشروع الاصلاحي و أنه كان بإمكان الفاعلين استخدام هذه الحريات المتاحة للتعبير عن مشاكلهم بدلا من استخدام العنف.
و من أجل التعليق على الأمر الثاني فأنه لا يختلف اثنان في تقدير قيمة الحرية و أنه بدون الحريات السياسية و المدنية لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية.
و اذا كنت أتفق مع الرأي القائل بأن الديمقراطية مساحات تتسع لكل الطروحات و لكل الآراء و المرئيات فاني أختلف فيما تؤول اليه هذه الطروحات في نهاية المطاف. ذلك أن قنوات حرية الرأي و التعبير تصبح لا معنى لها اذا لم تصل الى قنوات التغيير.
و على عكس ما يصور لنا بعض كتابنا الذي رفعوا أيديهم الى السماء معبرين عن شكرهم لهبوب نسمة الحرية فأن الحوارات في الديمقراطيات العريقة ليست أبدا للاستهلاك المحلي و إنما هي وسيلة للوصول الى النشويات والتوافق السياسي .
و في هذا السياق يقول لاسكي "أن المجتمع الذي يستطيع أن يحاور لا يحتاج الى الاقتتال و أنه كلما زاد حجم الرغبة في ادارة الحوار كلما تلاشى خطر فقدان القدرة على صياغة التسويات التي تحافظ على الأمن الاجتماعي" .
و تأسيسا على هذا المبدأ فان الحرية السياسية بما في ذلك المشاركة الشعبية تصبح لا معنى لها في ظل ممارسة التمييز الفاضح في قوة الدفاع و الحرس و في بعض أقسام الداخلية و في القبول في الجامعات و البعثات و في طلبات الإسكان و قروض الإسكان. و هل هناك تمييزا أكثر بشاعة من منع الشيعة من استملاك العقار و السكن في منطقة الرفاع الشرقي و الغربي .
أن الحرية السياسية لا معنى لها في ظل عدم توفر الفرص المناسبة لجميع المواطنين و بدون تمييز من أجل إتاحة الفرصة لهم لتحقيق طموحاتهم في الحياة ما داموا يمتلكون القدرة و المقدرة على تحقيق ذلك . أن رفض أي مواطن كفؤ للوصول الى مقاليد السلطة معناه أن هذا المواطن لا يتمتع بالمساواة التي نص عليها دستور 73 و المواثيق الدولية و هذا تنكر لحريته و حقوقه السياسية.
و ما جدوى فتح المجال لممارسة حرية التعبير و إجراء الحوار طالما ظلت معاناة المواطنين من البطالة المزمنة و ارتفاع معدلاتها و غياب المساواة و عدالة توزيع الدخل تمثل امتدادا لما كان عليه الوضع قبل الانفراج السياسي. أن حرية الرأي و التعبير و المشاركة السياسية اذا لم يكن بمقدورها إحداث نقلة نوعية في علاقاتنا الاقتصادية و الاجتماعية بحكم نظام الامتيازات فان الفقر و الجوع و العوز سيحول الأحياء الفقيرة التي يقطنها آلاف المواطنين الى بؤر لزرع الحقد و الكراهية .
أن حادث سترة و ارتفاع معدل السطو و السرقة و الإجرام ما هي الا مؤشرات اجتماعية تدل على استشراء و استفحال هذه المشاكل الاجتماعية التي ستحول اليائسين و المحبطين الى قنابل متحركة لا نعرف متى و أين تنفجر.
أن انعدام المساواة أو التمييز يعبر عن الوضع الخاطئ الناتج من هيمنة الدولة على المجتمع و تحكم أصحاب الامتيازات في تحقيق رغباتهم و مصالحهم الخاصة و جعل ذلك معيارا لمصلحة الوطن . أن تصريحات البعض و منهم من يعتلي أعلى المناصب في مجلس النواب بأن عدم توظيف الشيعية في بعض وزارات الدولة مرده انعدام ولائهم للدولة كلام مردود عليه و لا يمكن أن يبرر سياسية التوظيف المبنية على الولاءات القبلية والعائلية و المحسوبية.
في ندوة مماثلة تم عقدها بواسطة مركز حقوق الانسان تطرق أحد المداخلين لمشروع استصدار قانون يمنع التمييز استنادا الى مواد الدستور بالاضافة الى تشكيل جهاز إداري للبت في هذه القضايا.
و مع أننا لا ننكر مبادئ المساواة و العدالة و تكافؤ الفرص التي نص عليها دستور 73 و أكد عليها الميثاق الوطني لكن هذه المبادئ سوف لن يكون بالإمكان تطبيقها على ارض الواقع طالما بقيت الامتيازات الخاصة التي تتحكم في مقدرات هذه الأمة.
فطالما لا ينص الدستور على تحرير الدولة من سيطرة أصحاب الامتيازات فأن هيمنة الدولة على المجتمع ستستمر الأمر الذي يترتب عليه استمرار التمييز بجميع أشكاله و ألوانه.
و في هذا السياق وجب الإشارة الى مناشدة جلالة الملك في رسالته التي بعث بها الى رئيس الوزراء بمناسبة افتتاح المجلس الوطني بمعالجة قضية التمييز و ما دام الملك قد وضع يده على هذا الداء فاني أرى من وجهة نظري المتواضعة ضرورة العمل لإحياء مشروع الملكية الدستورية الذي وعد به الملك في بداية الانفتاح السياسي. ذلك أن قضية التمييز لا يمكن معالجتها الا عن طريق الملكية الدستورية و ذلك للأسباب التالية:-
1. أن الملكية الدستورية في الديمقراطيات تؤكد على إرساء قاعدة الفصل التام بين الدولة و المجتمع و ذلك بانعتاق و تتحرر الدولة من سيطرة أصحاب الامتيازات كما هو معمول به في الديمقراطيات العريقة التي تحدث عنها جلالة الملك .
2. أن الفصل بين الدولة و المجتمع يؤدي الى تبني مبدأ التعددية السياسية و تداول السلطة و هذا بدوره يقود الى الغاء امتيازات و مصالح تلك الفئة أو الطبقة التي كانت تهيمن على الدولة
3. في نظام الملكية الدستورية يكلف الحزب الفائز في الانتخابات بتشكيل الحكومة التي تتم محاسبتها من قبل ممثلي الشعب .
4. في مثل هذا النظام يصبح بالإمكان تقلد الوظائف العامة بغض النظر عن الجنس أو الأصل أو المذهب أو العنصر و أن لا تكون هناك وظائف سيادية محصورة أو محتكرة من قبل أناس معينين.
5. في مقابل الحقوق التي يتمتع بها المواطن في النظام الملكي الدستوري هناك واجبات عليه أن يقوم بها و أهمها:-
1) الولاء للدولة التي ينتمي اليها و ليس للأفراد و أن على المواطن و ليس الأجنبي واجب الدفاع عن الوطن ضد جميع الأخطار التي يتعرض لها و المساهمة في حفظ أمنه و استقراره حتى و ان كلفه ذلك حياته.
2) احرام القوانين طالما أن هذه القوانين تعبر عن مصلحة أغلبية المواطنين و أنها قد صدرت عن طريق ممثليهم الحقيقيين في مجلس الشعب. و خلاف ذلك فأنه من حق المواطنين الاحتجاج و الاعتراض على تلك القوانين التي تتعارض و المصلحة العامة و المطالبة بتغييرها.
و بعد مرور ما يزيد على أربعين عاما على التجربة البرلمانية في دولة الكويت الشقيقة استدرك الكويتيون أهمية و ضرورة فصل الدولة عن المجتمع من أجل ارساء دعائم النظام الليبرالي القائم فعليا على مبدأ استقلال السلطات الثلاث و أن الشعب مصدر السلطات جميعا فقاموا بتحرير العريضة النخبوية التي تطالب بإدخال التعديلات اللازمة على الدستور لتنص على التعددية السياسية و تداول السلطة . و قد تم تسليم العريضة الى سمو الأمير في بداية شهر أغسطس الماضي .
يقول جون ستيوارت ميل " أن الحقوق السياسية تأتي عن طريق توفير الفرص المتساوية أمام جميع الأفراد ما داموا جديرين بها للمساهمة في الشئون السياسية و التأثير على سير سياسيات الحكومة.
في شهر فبراير القادم ينعقد المؤتمر الدستوري الذي من المؤمل ان تنبثق عنه الحركة الدستورية الجديدة التي ستتبنى مرجعية دستور 1973 و الميثاق الوطني و تعهدات القيادة السياسية في أن الدور التشريعي هو لمجلس النواب بينما مجلس الشورى هو للمشورة. فهل تدرك القوى السياسية في البحرين أهمية مشروع الملكية الدستورية فتضعه في أجندتها السياسية ضمن استراتيجية المستقبل .
16/10/2003
__________________________________________________
ورقة مقدمة لندوة "التمييز والامتيازات في البحرين.. القانون غير المكتوب"
مركز البحرين لحقوق الانسان