|
مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية
كارل ماركس
(Karl Marx)
الحوار المتمدن-العدد: 7211 - 2022 / 4 / 5 - 21:29
المحور:
الارشيف الماركسي
ترجمة: محمد مستجير مصطفى
فهرس تقديم 3 تنويه 5 مقدمة 6 المخطوط الأول 9 المخطوط الثاني 49 المخطوط الثالث 54 ملحق 98
تقديم "مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية" هي مسودة أول بحث اقتصادي يقوم به كارل ماركس. وموضوع هذا المؤلف غير الكامل والذي وصلنا ناقصًا هو نقد الاقتصاد السياسي البورجوازي والنظام الاقتصادي البرجوازي. ويشمل العنوان الذي وضعه معهد الماركسية اللينينية "مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية" ثلاثة مخطوطات. المخطوط الأول منها – وهو أولها أيضًا من الناحية الزمنية – ذو طابع تحضيري. تتبادل فيه ملحوظات ماركس واستخلاصاته مع فقرات مأخوذة عن الاقتصاديين البورجوازيين والبورجوازيين الصغار. أما الثاني فلم تتبق منه سوى الصفحات الأربع الأخيرة. ويتألف المخطوط الثاني تتناول موضوعات، مثل الملكية الخاصة والعمل والملكية الخاصة والشيوعية وقوة النقود في المجتمع البورجوازي. كما خصص جانب كبير من المخطوط الثالث لتحليل نقدي للجدل الهيجلي وفلسفة هيجل ككل. وتركز المخطوطات الثلاثة على "اغتراب العمل" أو "أنسلاب العامل" في المجتمع الرأسمالي. وقد كانت مقولة "الاغتراب" مقولة بارزة في فلسفة هيجل وبشكل خاص في نقد فيورباخ الفلسفي للدين. غير أن هيجل كان يتحدث عن انسلاب وعي الذات، وفيورباخ عن انسلاب الإنسان المجرد غير التاريخي وغير الطبقي. أما ماركس فيتحدث عن "اغتراب" العامل أو "انسلابه". وهو يضفي مضمونًا اقتصاديًا وطبقيًا وتاريخيًا جديدًا تمامًا على مفهوم "الاغتراب". ويعني ماركس "بالاغتراب" أو "الانسلاب" العمل الذي يقوم به العامل مجبرًا للرأسمالي، وتملك الرأسمالي لناتج عمل العامل، وانفصال العامل عن وسائل الإنتاج التي تواجهه – وهي في حيازة الرأسمالي - كقوة غريبة مستعبدة. وهنا يقترب ماركس من عرض السمات المميزة للاستغلال الرأسمالي. أن ماركس وهو ينتقد الاقتصاديين البورجوازيين من زاوية الاشتراكية يكشف عن "التناقض العدائي المتبادل" بين العمل ورأس المال ويؤكده. ويوضح أنه كلما زاد ما ينتجه العامل من ثروة ازداد هو بؤسًا، وأن عملية التطور الاقتصادي للمجتمع الرأسمالي ذاتها تقود حتمًا إلى الثورة، وتثير مسألة تحرر العمال التي أوضح أنها "تحوي التحرر الإنساني الكلي". ويبرز ماركس وهو يتحدث عن "اغتراب العمل" كحقيقة اقتصادية أنه أنما يشير إلى الحياة الواقعية الموضوعية، وأن الصراع لتصفية هذا "الاغتراب" هو صراع ثوري عملي من أجل أعادة صياغة شيوعية للمجتمع، ويلاحظ الأهمية الهائلة للإنتاج المادي – "الإنتاج الصناعي العادي" – في تاريخ الإنسان، وتأثيره على الدين والقانون والأخلاق والعلم والفن الخ.. وعلى عكس هيجل وفيورباخ يتحول ماركس إلى الدراسة المادية المحددة للإنسان، ويؤكد دوره الإيجابي في الطبيعة والمجتمع. ولا يزال ماركس في "مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية" تحت تأثير فيورباخ القوي، هذا التأثير الذي يبرز بشكل خاص في تقديره البالغ لفيورباخ. وفي استخدامه لمفهومات فيورباخية مثل "الإنسان – الكائن النوعي" و"الطبيعية" و"الإنسانية" الخ.. في أثبات بعض نقاط النظرة الجديدة للعالم – التي كان يطورها عندئذ – وإن كان يضفي على هذه التعبيرات مضمونًا جديدًا. ولا يقتصر ماركس في مخطوطاته الثلاثة على استخدام تعبيرات فيورباخ. بل هو يستخدم كذلك التعبيرات الهيجلية. ولكن رغم تأثير فيورباخ الكبير فأن ماركس قد بدأ في هذا المؤلف المبكر يضع أساس النظرة المادية الثورية إلى العالم التي سرعان ما طورها في "العائلة المقدسة" وبشكل خاص في "الأيديولوجية الألمانية". وقد أضفنا كملحق لهذا الكتاب مقال أنجلز "تخطيط لنقد الاقتصاد السياسي" الذي بدأ كتابته في أواخر عام 1843 وأكمله في بداية عام 1844. وفي هذا المقال درس انجلز "الظواهر الرئيسية للنظام الاقتصادي العاصر من وجهة نظر اشتراكية، وأستخلص أنها نتائج ضرورية لحكم الملكية الخاصة" (لينين). وقد بدأ أنجلز في هذا المقال – وهو أول مقال له في مجال العلم الاجتماعي ومن ثم لا يزال غير ناضج بالدرجة الكافية – نقدًا للاقتصاد السياسي البورجوازي وللمجتمع الرأسمالي من زاوية الجماهير المستعبدة المستغلة. وتناول أنجلز بإسهاب في نقده للاقتصاديين والبورجوازيين نظرية مالتس البغيضة عن السكان، وأثبت الحماقة الكاملة لهذه "النظرية"، وأكد بشكل خاص الدور الذي يلعبه التقدم العلمي في تطوير القوى الإنتاجية للمجتمع.
تنويه وصلتنا "مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية" بقلم كارل ماركس في شكل مخطوطات ثلاثة لكل منها ترقيمه الخاص (بأرقام رومانية). ولم يبق من المخطوط الثاني إلا الصفحات الأربع الأخيرة (40 – 43). وكل صفحة من الصفحات السبع والعشرين الأولى من المخطوط الأول مقسمة إلى ثلاثة عواميد يفصل بينها خطان رأسيان فوق كل عامود منها عنوان مكتوب مسبقًا: الأجور، ربح رأس المال، الريع. ومن الصفحة (17) لا نجد كتابة إلا في العامود المعنون الريع. ومن الصفحة (22) وحتى نهاية المخطوط الأول يكتب ماركس عبر العواميد الثلاثة دون اعتبار للعناوين. وقد قدمنا نص هذه الصفحات الست (من ص 22 – ص 27) في الكتاب الحالي تحت عنوان وضعه الناشر هو "العمل المغترب". ويحوي المخطوط الثالث 43 صفحة كبيرة مقسمة إلى عامودين ورقمها ماركس بنفسه. وفي نهاية المخطوط الثالث (ص 39 – ص 40) توجد "المقدمة" التي نعرضها في الكتاب الحالي في البداية قبل نص المخطوط الأول. وقد تقدم معهد الماركسية اللينينية – الذي نشير إليه باسم "الناشر" – عنوان الكتاب ماركس وعناوين مختلف أجزاء المخطوطات – موضوعة بين أقواس مربعة – ونشرت أجزاء المخطوطات بالتتابع الذي وضعه بها ماركس فيما عدا "المقدمة" التي نشرت في البداية و"نقد جدل هيجل وفلسفته ككل" الذي نشر في النهاية وفما للإشارة التي قدمها ماركس في "المقدمة".
مقدمة أشرت من قبل في "الحوليات الألمانية الفرنسية" ([1]) إلى نقد علم الحقوق والعلم السياسي في شكل نقد لفلسفة الحقوق عند هيجل، وفي مجرى الأعداد للنشر أتضح أن خلط النقد الموجه ضد الفلسفة النظرية (Speculation) وحدها مع نقد مختلف المواضيع ذاتها أمر غير مناسب كلية. يعوق تطور الحجج، ويجعل الفهم عسيرًا. وفضلاً عن ذاك فأن ثورة وتنوع المواضيع التي ينبغي معالجتها لم يكن يمكن تركيزها في مؤلف واحد بأسلوب الحكم والمأثورات المقتضبة للغاية، في حين أن عرضنا مقتضبًا من هذا النوع يمكن – من جانبه – أن يترك انطباعًا بالمذهبة (Systematizing) المتعسفة. ولهذا فسأصدر نقد القانون، والأخلاق. والسياسة الخ.. في سلسلة من الكتيبات المنفصلة المستقلة، وأحاول في النهاية أن أعرضها في مؤلف خاص ككل مترابط موضحًا العلاقة المتبادلة بين الأجزاء المنفصلة، وأخيرًا سأقدم نقدًا للعرض النظري لهذه المواد. ولهذا السبب فأنني لن أتعرض للعلاقة بين الاقتصاد السياسي والدولة والقانون والأخلاق والحياة المدنية الخ... في المؤلف الحالي إلا بمقدار ما يتعرض الاقتصاد السياسي ذاته بشكل خاص فهذه المواضيع. ولا يكاد يكون من الضروري أن أؤكد للقارئ الذي يعرف الاقتصاد السياسي أنني وصلت إلى نتائج عن طريق تحليل تجريبي تمامًا يقوم على دراسة نقدية دؤوبة للاقتصاد السياسي. ((ففي حين أن الكاتب غير المطلع الذي يحاول أن يخفي جهلة الكامل، وفقره الفكري بإلقاء "العبارة الطوبوية" على رأس الناقد الإيجابي، أو عبارات مثل "النقد النقدي الخالص القاطع كلية" ومثل "المجتمع الذي ليس مجرد مجتمع قانون، بل اجتماعي، اجتماعي تمامًا" و"الجمهور الكتلي المتراص" و"الناطقون المتكلمون باسم الجمهور الكتلي ([2]) فأنه لا يزال على هذا الكاتب أن يقدم الدليل الأول على أن لديه إلى جانب شئونه العائلية اللاهوتية شيئًا يسهم به في مناقشة الأمور الدنيوية)) ([3]) . وغنى عن البيان أنني استخدمت إلى جانب أعمال الاشتراكين الفرنسيين والانجليز الأعمال الاشتراكية الألمانية. غير أن الأعمال الألمانية الأصيلة الوحيدة ذات الأهمية في هذا العلم – إلى جانب كتابات وايتلينج – هي مقالات هيس التي نشرت في "أينوندزوانزنج باجن" ([4]) ومقال أنجلز “Umrisse zu einer kritik der Nationalokonomie” ([5]) في مجلة "الحوليات الألمانية الفرنسية" حيث قمت بالمثل – وبطريقة عامة للغاية – بعرض العناصر الأساسية لمؤلفي هذا. ((والنقد الإيجابي ككل – ومن ثم النقد الألماني الإيجابي للاقتصاد السياسي – فضلاً عن أنه مدين لهؤلاء الكتاب الذي أولوا اهتمامًا نقديًا للاقتصاد السياسي فأنه يدين بأساسه الحق لاكتشافات فيورباخ الذي يبدو أن الحسد الدنيء للبعض والحقد الحقيقي للآخرين قد أثار! مؤامرة من الصمت ضد مؤلفيه "فلسفة المستقبل ([6]) " و"قضايا عن أصلاح الفلسفة ([7]) " المنشورين في مجموعة “Anecdotis” ([8]) رغم استخدامهما استخدامًا ضمنيًا)). إن النقد الإيجابي الإنساني الطبيعي إنما يبدأ مع فيورباخ، وبقدر قلة ما تثيره من ضجة يزيد تأكيد تأثير كتابات فيورباخ وعمقه واستمراره ودوامه، وهي الكتابات الوحيدة منذ "فينومينولوجيا" هيجل و "منطقة" التي تحوي ثورة نظرية حقيقية. وعلى عكس النقاد اللاهوتيين ([9]) في أيامنا رأيت أن الفصل الختامي للكتاب الحالي – تصفية الحسابات مع الجدل الهيجلي والفلسفة الهيجلية ككل – ضروري ضرورة مطلقة، ومهمة لم تؤد بعد. وهذا الافتقار إلى الكمال ليس صدفة، لأنه حتى اللاهوتي النقدي يظل لاهوتيًا. ومن هنا فهو أما أن يبدأ من بعض الافتراضات المسبقة للفلسفة وكأنها قاطعة جازمة وأما أنه إذا ثارت لديه بعض الشكوك في هذه الافتراضات الفلسفية المسبقة خلال عملية النقد، أو نتيجة لاكتشافات الآخرين، فإنه يتخلى عنها دون تبرير وفي جبن، ويتجرد عنها، كاشفًَا عن تبعيته الذليلة لهذه الافتراضات المسبقة، ونفوره من هذه التبعية، بطريقة سلبية غير واعية سوفسطانية فحسب. ((وفي هذا الصدد فأن اللاهوتي النقدي أما أن يردد على الدوام التأكيدات عن نقاء نقده، أو يحاول أن يصور الأمر وكأن كل ما بقى للنقد لكي يواجهه الآن هو شكل آخر غير ناضج للنقد خارج ذاته – مثل نقد القرن الثامن عشر – وتخلف الجماهير، وذلك لكي يحرف أنتباه المراقب فضلاً عن أنتباهه هو عن المهمة الضرورية، مهمة تسوية الحسابات بين النقد وبين نقطة مولده – الجدل الهيجلي والفلسفة الألمانية ككل – عن هذا الارتفاع الضروري للنقد الحديث فوق حدوده وبجاحته. بيد أنه في النهاية فحيثما تتم اكتشافات (مثل اكتشافات فيورباخ) عن طبيعة افتراضاته الفلسفية المسبقة، فإن اللاهوتي النقدي يصور الأمر جزئيًا وكأنه هو الذي قام بها، وهو يصل إلى هذا المظهر بأن يأخذ نتائج هذه الاكتشافات ثم – ودون أن يكون قادرًا على تطويرها – يلقي بها في شغل شعارات في وجه الكتاب الذين لا يزالون أسرى الفلسفة، بل أنه ينجح جزئيًا في أن يكتسب أحساسًا بتفوقه عن مثل هذه الاكتشافات، بأن يؤكد خفية ضد مثل هذا النقد – بصورة مستترة خبيثة متشككة – عناصر من الجدل الهيجلي لا يزال يجدها مفتقدة في نقد هذا الجدل (الذي لم يقدم له بعد بطريقة نقدية لاستخدامه) – دون أن يكون قد حاول الوصول بمثل هذه العناصر على علاقتها الصحيحة أو يكون قادرًا على أن يفعل ذلك، مؤكدًا – مثلاً – مقولة البرهان الوسيط ضد مقولة الحقيقة الإيجابية المنبعثة من ذاتها الخ... بالطريقة التي تميز جدل هيجل. لأنه بالنسبة وللاهوتي النقدي يبدو من الطبيعي تمامًا أن الفلسفة ينبغي أن تصنع كل شيء حتى يستطيع هو أن يثرثر عن النقاء والحسم والنقد النقدي تمامًا، وهو يتخيل نفسه القاهر الحقيقي للفلسفة أينما شعر بأن "لحظة" ([10]) من هيجل مفتقده عند فيورباخ – لأنه مهما كانت درجة ممارسته للوثنية الروحية "لوعي الذات" و"الروح" فإن اللاهوتي النقدي لا يتجاوز الشعور إلى الوعي)) ([11]) . وعند النظرة المتفحصة لا يبدو النقد اللاهوتي في التحليل الأخير – وأن كان تقدميًا حقًا عند نشأة الحركة – أكثر من تتويج ونتيجة للترانسندنتالية الفلسفية القديمة والهيجلية خاصة وقد حولت إلى كاريكاتير لاهوتي. وسأوضح في فرصة أخرى ([12]) هذا المثال الشيق للانتقام التاريخي، لعدالة التاريخ الذي يعهد الآن اللاهوت – وكان القرحة الدائمة للفلسفة – بدور جديد هو أن يصور في ذاته التحلل السلبي للفلسفة – أي عملية تفسخها. ((وسيبين عرضي نفسه إلى أي حد – من الناحية الأخرى – لا تزال اكتشافات فيورباخ عن طبيعة الفلسفة تتطلب – لإثباتها على الأقل – تسوية نقدية للحسابات مع الجدل الفلسفي)),
المخطوط الأول الأجور تتحدد الأجور من خلال الصراع العدائي بين الرأسمالي والعامل... والنصر بالضرورة حليف الرأسمالي. فالرأسمالي يستطيع أن يعيش بغير العامل أطول مما يستطيع العامل أن يعيش بغير الرأسمالي. والاتحاد بين الرأسماليين شيء مألوف وفعال، أما الاتحاد بين العمال فمحظور ونتائجه أليمه لهم ([13]) . وفضلاً عن ذلك فأن مالك الأرض والرأسمالي يستطيعان أن يزيدا دخولهما بثمار الصناعة. أما العامل فليس لديه ريع أرض أو فائدة رأسمال يضيفها على دخله الصناعي. ومن هنا تأتي حدة المنافسة بين العمال.. وهكذا فإن الانفصال بين رأس المال وملكية الأرض والعمل انفصال حتمي وأساسي وضار بالنسبة للعمال وحدهم – فرأس المال وملكية الأرض ليسا في حاجة إلى أن يظلا محددين في هذا التجريد كما هو شأن عمل العمال. وهكذا فأن الانفصال بين رأس المال وريع الأرض والعمل محتوم بالنسبة للعامل. ومعدل الأجر الأدنى والضروري هو فحسب ذلك المعدل الذي يوفر العيش للعامل فترة عمله وما يلزمه لكي يعول عائلة ولكي لا يندثر جنس العمال. والأجر العادي – في نظر سميث – هو أدنى أجر يوفر الحاجات الإنسانية المشتركة (أي حياة السائمة) ([14]) . والطلب على الناس يحكم بالضرورة إنتاج الناس كما يحكم أي سلعة أخرى. فإذا زاد العرض كثيرًا عن الطلب أنحدر قسم من العمال إلى التسول أو التضور جوعًا. وهكذا فإن وجود العامل يصبح في نفس ظرف وجود كل سلعة أخرى. لقد أصبح العامل سلعة.. ويكون من حسن حظه أن يجد مشتريًا. ويعتمد الطلب الذي تتوقف عليه حياة العامل على هوى الأغنياء والرأسماليين. وإذا تجاوزت كمية العرض الطلب فإن أحد مكونات الثمن – الفائدة أو ريع الأرض أو الأجور – يحصل على أقل من معدله ([15]) . ومن هنا يسحب جزء من هذه العناصر من هذا الاستخدام. وبذلك ينجذب سعر السوق نحو السعر الطبيعي كمركز جذب. ولكن (أ) حيثما تكون هناك درجة كبيرة من تقسيم العمل يكون من الأصعب على العامل أن يوجه عمله إلى مسارات أخرى (ب) ونتيجة لعلاقة التبعية مع الرأسمالي فأنه أول من يعاني. وهكذا ففي عملية انجذاب سعر السوق نحو الثمن الطبيعي فأن العامل هو الذي يخسر أكثر من الجميع وبالضرورة. وقدرة الرأسمالي على توجيه رأسماله إلى طريق آخر هي بالتحديد التي تفرض الحرمان على العامل الذي ينحصر في فرع عمل خاص، أو تجبره على الخضوع لأي طلب لهذا الرأسمالي. إن الذبذبات العارضة والمفاجئة في سعر السوق تصيب الريع أقل ما تصيب ذلك الجزء من الثمن الذي يتحول إلى ربح وأجور، لكنها تصيب أقل مما تصيب الأجور. وفي أغلب الحالات فمقابل كل أجر يرتفع يظل أجر آخر ثابتًا وينخفض أجر ثالث. والعامل لا يكسب بالضرورة حين يكسب الرأسمالي، لكنه يخسر بالضرورة حين يخسر هذا الأخير. وهكذا لا يكسب العامل إذا أبقى الرأسمالي سعر السوق فوق الثمن الطبيعي بفضل سر صناعي أو تجاري أو بحكم الاحتكار أو وضع ملكيته الملائم. وغلاوة على هذا: فإن أثمان العمل أكثر ثباتًا من أثمان المؤن، وكثيرًا ما تتناسب معها تناسبًا عكسيًا. ففي سنوات ارتفاع الأسعار تنخفض الأجور بحكم انخفاض الطلب. ولكنها ترتفع بحكم ارتفاع أثمان المؤن – وهكذا تتوازن. وعلى أي حال يبقى جزء من العمال دون خبز. وفي سني انخفاض الأسعار ترتفع الأجور بحكم ارتفاع الطلب، ولكنها تنخفض بحكم انخفاض أثمان المؤن – وهكذا تتوازن ([16]) . وهناك جانب أخر في غير صالح العامل: فالاختلافات بين أثمان عمل مختلف أنواع العمال أوسع من الاختلافات بين أرباح مختلف الفروع التي يوظف فيها رأس المال. ففي العمل يبدو كل التنوع الطبيعي والروحي والاجتماعي لنشاط الفرد، ويلقي جزاء متنوعًا، في حين يكشف رأس المال الميت دائمًا عن نفس الوجه، وهو لا يبالي بالنشاط الفردي الواقعي. وينبغي أن نلاحظ عمومًا أنه في تلك الحالات التي يعاني فيها العامل والرأسمال على السواء فأن العامل يعاني في وجوده ذاته، أما الرأسمالي فيعاني في ربح ثروته الميتة. وليس على العامل أن يصارع فحسب من أجل وسائل معيشته المادية: بل أن عليه أن يصارع لكي يحصل على عمل، أي على الإمكانية، الوسيلة لأداء نشاطه. ولنأخذ الظروف الأساسية الثلاثة التي يمكن أن يجد فيها المجتمع نفسه، وندرس وضع العامل فيها ([17]) : 1- إذا تدهورت ثروة المجتمع فإن العامل هو الذي يعاني أكثر من الجميع: لأنه رغم أن الطبقة العاملة لا يمكن أن تكسب قدر ما يستطيع الملاك في حالة ازدهار المجتمع فلا أحد يعاني بقسوة من تدهوره قدر الطبقة العاملة ([18]) . 2- ولنأخذ الآن مجتمعًا تتزايد فيه الثروة. إن هذا الظرف هو الظرف الوحيد المواتي للعامل. فهنا تعمل المنافسة بين الرأسماليين، ويتجاوز الطلب على العمال العرض، ولكن: في المقام الأول تؤدي زيادة الأجور إلى العمل الزائد بين العمال. فكلما زاد ما يريدون أن يحصلوا عليه أصبح عليهم بدرجة أكبر أن يضحوا بوقتهم، وأن يقوموا بعمل عبودي في خدمة شهوة المال ويخسرون كل حريتهم تمامًا، وبذلك يقصرون أعمارهم. وهذا التقصير في طول العمر ظرف موات للطبقة العاملة ككل، إذ نتيجة له يصبح ورود عمل جديد دائمًا أمرًا ضروريًا. أن على هذه الطبقة أن تضحي دائمًا بجزء منها حتى لا يلحق بها الدمار كلية. وفضلاً عن هذا: متى يجد المجتمع نفسه في حالة من الثروة المتزايدة؟ حين تنمو رؤوس الأموال والدخول في بلد ما. ولكن هذا غير ممكن إلا: (أ) نتيجة لتراكم كثير من العمل، لأن رأس المال عمل متراكم، ونتيجة بالتالي لحقيقة أن منتجات العامل تؤخذ بصورة متزايدة من يده، وأن عمله الخاص يواجهه بدرجة متزايدة كملكية لشخص آخر، وأن وسائل وجوده ونشاطه تزداد تركيزًا في أيدي الرأسمالي. (ب) يزيد تراكم رأس المال من تقسيم العمل، ويزيد تقسيم العمل من عدد العمال. وبالعكس فأن عدد العمال يزيد تقسيم العمل، كما أن تقسيم العمل يزيد من تراكم رؤوس الأموال. وبحكم تقسيم العمل في ناحية وتراكم رؤوس الأموال في الناحية الأخرى تزداد تبعية العامل للعمل، ولعمل آلي أحادي الجانب للغاية. وتمامًا كما أنه يهبط هكذا روحيًا وبدنيًا إلى مصاف الآلة، ويتحول من إنسان إلى نشاط مجرد ومعدة، فأنه كذلك يزداد تبعية لكل تذبذب في سعر السوق، ولاستخدام رؤوس الأموال، ولمزاج الأغنياء. وبالمثل فأن الزيادة في طبقة الناس الذين يعتمدون كلية على العمل تضاعف المنافسة بينهم وبذلك تخفض ثمنهم. ويصل وضع العامل هذا إلى ذروته في نظام المصنع. (ت) في مجتمع متزايد الازدهار فإن شديدي الغني وحدهم هم الذين يستطيعون أن يعيشوا على فائدة النقود. أما أي شخص أخر فينبغي أن يدين عملاً برأسماله، أو يغامر به في التجارة. ونتيجة لذلك تصبح المنافسة بين رؤوس الأموال أكثر حدة، ويزيد تركز رؤوس الأموال، ويدمر الرأسماليون الكبار الصغار، ويهبط قسم من الرأسماليين السابقين إلى صفوف الطبقة العاملة التي تعاني من جديد بسبب هذا الوارد قدرًا من الانخفاض في الأجور، وتهبط على حالة أكبر من التبعية لبضعة من الرأسماليين الكبار. وإذ يتناقص عدد الرأسماليين فأن المنافسة بينهم لا تكاد تقوم بالنسبة للعمال، وإذ يتزايد عدد العمال فأن منافستهم فيما بينهم تصبح أكثر حدة وعنيفة غير طبيعية. وبالتالي فأن منافستهم فيما بينهم تصبح أكثر حدة وعنيفة غير طبيعية. وبالتالي فأن قسمًا من الطبقة العاملة يهبط إلى مصاف التسول أو التضور جوعًا، بنفس الضرورة التي يهبط بها قسم من الرأسماليين المتوسطين إلى صفوف الطبقة العاملة. ومن هنا فحتى في ظروف المجتمع الأكثر مواتاة للعمال فأن النتيجة الحتمية بالنسبة للعمال هي العمل الزائد والموت قبل الأوان والانحدار إلى مصاف الآلة، إلى مجرد عبد لرأس المال الذي يكدس في وجهه بشكل خطر مزيدًا من المنافسة، والتضور والتسول بالنسبة لقسم من العمال. أن ارتفاع الأجور يثير لدى العامل جنون الرأسمالي بالثروة، وهو ما لا يستطيع تحقيقه إلا بالتضحية بذهنه وبدنه، وارتفاع الأجور يفترض ويستتبع تراكم رأس المال، وبذلك يضع ناتج العمل في مواجهة العامل كشيء تتزايد غربته عنه، وبالمثل فأن تقسيم العمل يجعله أكثر أحادية وتبعية، إذ يجلب معه المنافسة لا مع الناس فحسب، بل مع الآلات. فما دام العامل قد هبط إلى مستوى الآلة فأن من الممكن أن يواجه الآلة كمنافس. وأخيرًا حيث يؤدي تجمع رأس المال إلى ازدياد كمية الصناعة ومن ثم عدد العمال فأنه يؤدي إلى أن يقوم نفس القدر من الصناعة ومن ثم عدد العمال فأنه يؤدي إلى أن يقوم نفس القدر من الصناعة بصنع قدر أكبر من الناتج مما يؤدي إلى فائض الإنتاج، وبالتالي فأما أن ينتهي بإلقاء قسم كبير من العمال خارج العمل أو بتخفيض أجورهم إلى أتعس حد أدنى. وتلك هي نتائج ظروف المجتمع الأكثر مواتاة للعامل، أي ظروف الثروة النامية المتزايدة. غير أنه في النهاية لابد أن تبلغ حالة النمو هذه ذروتها آجلاً أو عاجلاً. فماذا يكون وضع العامل عندئذ؟ "([19]) وفي بلد بلغ أقصى درجات ثروته تكون كل من الأجور وفائدة رأس المال منخفضة للغاية. فستكون المنافسة بين العمال للحصول على عمل كبيرة إلى حد يهبط بالأجور إلى النقطة التي تكفي معيشة العدد المعين من العمال، وإذ يكون تعداد البلاد كبيرًا بالفعل، بأن هذا العدد لا يمكن زيادته" ويكون على الزائد أن يموت. وهكذا ففي حالة تدهور المجتمع – ازدياد بؤس العامل، وفي حالة تقدمه – البؤس بتعقيداته، وفي مجتمع في حالة تطور كامل – البؤس الساكن. ولما كان مجتمع يعاني الجزء الأكبر منه لا يمكن – في نظر آدم سميث – أن يكون مجتمعًا سعيدًا ([20]) .. وكانت أكثر حالات المجتمع ثراء تؤدي إلى معاناة الأغلبية هذه – ولما كان النظام الاقتصادي ([21]) (والمجتمع القائم على المصلحة الخاصة بشكل عام) يؤديان إلى حالة الثراء هذه فأنه يترتب على ذلك أن هدف النظام الاقتصادي هو شقاء المجتمع. وفيما يتعلق بالعلاقة بين العامل والرأسمالي ينبغي أن نضيف أن الرأسمالي يحصل على أكثر من تعويض عن رفع الأجور عن طريق تخفيض كمية وقت العمل، وأن زيادة الأجور وزيادة الفائدة على رأس المال تعملان بالنسبة لأثمان السلع كأنهما الربح البسيط والربح المركب على التوالي. ولنضع أنفسنا "الآن كلية عند وجهة نظر عالم الاقتصاد السياسي ونتابعه في مقارنة المطالب النظرية والعملية للعمال. أنه يخبرنا أنه في الأصل ومن الناحية النظرية فأن كل ناتج العمل ([22]) ينتمي للعامل. لكنه في نفس الوقت يخبرنا أن ما يحصل عليه العامل في الحقيقة الواقعية هو الجزء الأصغر الذي لا يمكن الاستغناء عنه تمامًا من الناتج – أي ما هو ضروري فحسب لوجوده – لا كإنسان وإنما كعامل – وما يكفي التكاثر... لا تكاثر الإنسانية بل تكاثر طبقة عبيد من العمال. ويخبرنا رجل الاقتصاد السياسي أن كل شيء يشترى بالعمل، وأن رأس المال ليس أكثر من عمل متراكم، لكنه في نفس الوقت يخبرنا أن العامل أبعد من أن يستطيع شراء كل شيء، بل أنه يجب أن يبيع نفسه وشخصيته الإنسانية. وفيء حين يصل ريع مالك الأرض الكسول عادة إلى ثلث ناتج الأرض، وربح الرأسمالي الدؤوب إلى حوالي ضعف الفائدة على النقود، فأن "الشيء الأكثر" الذي يحصل عليه العامل نفسه في أفضل الأوقات من الضآلة بحيث أن أثنين من أطفاله الأربعة يتضوران ويموتان. وفي حين يقول رجل الاقتصاد السياسي أن الإنسان لا يستطيع أن يزيد من قيمة منتجات الطبيعة إلا عن طريق العمل، وفي حين أن العمل هو الملكية الإنسانية النشطة ([23]) . فأن نفس الأقتصاد السياسي يقول لنا أن مالك الأرض والرأسمالي – وهمًا بوصفهما مالك أرض ورأسماليًا ليسا أكثر من الهين متميزين كسولين – هما في كل مكان أرفى من العامل، وهما اللذان يضعان له القانون. وفي حين يقول رجال الاقتصاد السياسي أن العمل هو الثمن الوحيد الدائم للأشياء فليس ثمة شيء أكثر عرضية من ثمن العمل وأكثر تعرضًا للتقلبات. وفي حين يزيد تقسيم العمل القوة الإنتاجية للعمل، ويزيد ثروة المجتمع ورفاهيته، فأنه يفقر العمال ويهبط به إلى مستوى الآلة. وفي حين يجلب العمل تراكم رؤوس الأموال ومعه ازدياد ازدهار المجتمع فأنه يجعل العامل أكثر تعية للرأسمالي، ويقوده إلى منافسة تكتسب حدة جديدة، ويلقي به في عجلة فائض الإنتاج المندفعة بما يليها من كساد يوازنها. وفي حين أن مصلحة العامل – لدى رجال الاقتصاد السياسي – لا تقف أبدًا معارضة لمصلحة المجتمع، فإن المجتمع يقف دائمًا وبالضرورة في معارضة مصلحة العامل. ووفقًا لرجال الاقتصاد السياسي لا تتعارض مصلحة العامل أبدًا مع مصلحة المجتمع: (1) لأن الزيادة في الأجور تعوض – وزيادة – عن طريق تخفيض كمية وقت العمل إلى جانب النتاج الأخرى التي عرضناها فيما سبق و(2) لأنه بالنسبة للمجتمع فأن مجموع النتائج الإجمالي هو الناتج الصافي، وليس لعبارة "الناتج الصافي" أية دلالة إلا بالنسبة للشخص المفرد. غير أن كون العمل ذاته – وليس في الظروف الراهنة فحسب وإنما بشكل عام بقدر ما تكون غايته هي مجرد زيادة الثروة – أقول أن كون العمل نفسه ضارًا ومؤذيًا أمر ينتج من تدليل رجل الاقتصاد السياسي دون أن يدري. *** ومن الناحية النظرية فأن ريع الأرض وفائدة رأس المال اقتطاعات من الأجور، أما في الحقيقة الواقعة فأن الأجور اقتطاعات تسمح الأرض ورأس المال بأن تذهب للعامل، وتنازل يقدمه ناتج العمل للعمال، أي للعمل. وحين يكون المجتمع في حالة تدهور فأن العامل يعاني بحدة بالغة، وترجع الحدة البالغة لعبته إلى وضعه كعامل، لكن العبء ذاته يرجع إلى وضع المجتمع. ولكن حين يكون المجتمع في حالة تقدم فأن دمار العمال وفقره هما نتاج عمله، ونتاج الثروة التي ينتجها هو. ومن هنا فأن البؤس ينشأ عن جوهر العمل المعاصر ذاته. أما المجتمع في أقصى حالات الثراء، وهو مثل أعلى لكنه يمكن تحقيقه إلى هذا الحد أو ذاك وهو على الأقل هدف الاقتصاد السياسي وهدف المجتمع المدني، فهو يعني للعمال البؤس الساكن. وغنى عن البيان أن الاقتصاد السياسي لا ينظر إلى البروليتاري – أي الرجل الذي يعيش فحسب – لعدم امتلاكه لرأسمال أو ريع – بواسطة العمل، والعمل المجرد الأحادي الجانب، إلا كعامل. ومن هنا يستطيع الاقتصاد السياسي أن يطرح القضية القائمة أن البروليتاري – مثله مثل أي حصان – ينبغي أن يحصل على ما يمكنه من العمل. وهو لا يلقي له اعتبارًا حين لا يعمل، أي ككائن إنساني، وإنما يترك هذه الاعتبارات للقانون الجنائي والأطباء والدين وجداول الإحصاءات والسياسة وشماي الإصلاحية. ولنرتفع الآن عن مستوى الاقتصاد السياسي ونحاول أن نجيب على سؤالين على أساس العرض السابق الذي نكاد أن نكون قد قدمناه بعبارات رجال الاقتصاد السياسي ذاتها: 1- ماذا يعني هذا الهبوط بالجانب الأكبر من البشرية إلى العمل المجرد بالنسبة لتطور البشرية؟ 2- ما الأخطاء التي يرتكبها الإصلاحيون بالقطعة الذين يريدون أما أن يزيدون الأجور وبهذه الطريقة يحسنون وضع الطبقة العاملة أو يعتبروا المساواة في الأجور (كما يفعل برودون) هدف الثورة الاجتماعية؟ وفي الاقتصاد السياسي لا يحدث العمل إلى في شكل نشاط للحصول على أجر. *** · "ونستطيع أن نؤكد أن تلك المهن التي تفترض مقدمًا مواهب خاصة أو تدريبًا أطول قد أصبحت في مجموعها أ:ثر عائدًا، في حين أن الجزاء المتناسب للنشاط الميكانيكي الرتيب الذي يمكن تدريب أي شخص عليه بسهولة وسرعة قد هبط مع ازدياد المنافسة وكان مقيضًا له بالحتم أن يهبط. وهذا النوع من العمل بالتحديد هو حتى الآن – في ظل الوضع الحالي لتنظيم العمل – أكثره شيوعًا. وهكذا فإذا كان عامل من الفئة الأولى يحصل الآن على سبعة أضعاف ما كان يحصل عليه – مثلاً – من خمسين عامًا، في حين أن دخل العامل من الفئة الثانية ظل دون تغيير فأن دخلهما بالطبع يكون قد أرتفع في المتوسط أكثر أربع مرات مما مضى، ولكن إذا كانت الفئة الأولى لا تضم إلا ألف عامل في بلد معين في حين تضم الفئة الثانية مليون عامل فأن 999000 عامل لا يكونون أحسن حالاً إذا كانت أسعار ضروريات الحياة قد ارتفعت. ويحاول البعض بهذه الحسابات السطحية للمتوسطات أن يخدعوا أنفسهم بشأن أكثر طبقات السكان عددًا. وفضلاً عن هذا فأن حجم الأجر ليس أكثر من عنصر واحد في تقدير دخل العامل، لأنه من الضروري لقياس هذا الدخل أن يوضع في الاعتبار ضمان استمرار العمل – ومن الواضح أنه ليست هناك أمكانية لذلك في فوضى المنافسة الحرة المزعومة بتقلباتها وفترات ركودها التي لا تنقطع. وأخيرًا فأن ساعات العمل المألوفة في الماضي والحاضر لابد أن توضع في الاعتبار. وقد ارتفعت هذه الساعات بالنسبة لعمال نسيج القطن الانجليز الذين ارتفعت ساعات عملهم نتيجة لجنون المنظمين إلى الربح إلى ما بين اثنتي عشرة ساعة وست عشرة ساعة يوميًا خلال الخمسة والعشرين عامًا الأخيرة أو نحوها، أي بالتحديد في الفترة التي بدأ فيها استخدام الآلات التي توفر العمر. ومثل هذه الزيادة في بلد واحد، وفي فرع واحد من فروع الصناعة، تؤكد ذاتها حتمًا إلى هذا الحد أو ذاك في غيرها من الأماكن، لأن حق استغلال الأثرياء غير المحدود للفقراء مازال معترفًا به في كل مكان (فيلهيلم شولز "حركة الإنتاج" ص 65). "ولكن حتى إذا كان في القول بأن متوسط دخل كل طبقة في المجتمع قد زاد من الصحة قدر ما فيه من الزيف فأن الفوارق النسبية في الدخول قد تصبح رغم هذا أكبر، ومن ثم يبرز التباين بين الثروة والفقر بحده أكبر، لأنه بسبب أن الإنتاج الكلي يزيد – وبنفس مقدار زيادته – تتضاعف كذلك الاحتياجات والرغبات والمطالب. وهكذا يمكن أن يزيد الفقر النسبي. في حين يقل الفقر المطلق. فالسامودي ([24]) الذي يعيش على زيت السمك والسمك الزنج ليس فقيرًا، فللكل في مجتمعه المنعزل نفس الاحتياجات، ولكن في دولة تشق طريقها إلى الأمام، وتمكنت – في مجرى عقد مثلاً – من أن تزيد أنتاجها الكلي بالنسبة للسكان بمقدار الثلث فأن العامل الذي يحصل في نهاية السنوات العشر على نفس ما كان يحصل عليه في بدايتها لم يبق على حاله وإنما هو قد أفتقر بمقدار الثلث" (نفس المصدر ص 65 – 66). لكن الاقتصاد السياسي لا يعرف العامل إلا كحيوان يعمل – أي كوحش يقتصر على أدنى الاحتياجات الجسدية. "ولكن يطور شعب ما حرية روحية أكبر لابد أن يحطم عبوديته لاحتياجاته الجسدية – لابد أن يكف عن أن يكون عبدًا لجسده. ومن هنا فلابد في المقام الأول أن يكون تحت تصرفه الوقت اللازم للنشاط الروحي الإبداعي وللمتعة الروحية. وتوفر التطورات في نظام العمل هذا الوقت، فالحق أنه بالقوة المحركة الجديدة والآلات المحسنة فأن عاملاً واحدًا في مصانع القطن الآن كثيرًا ما يؤدي عملاً كان يتطلب فيما سبق مائة عامل أو حتى من 250 إلى 350 عاملاً. ويمكن أن نلاحظ نتائج مماثلة في كل فروع الإنتاج لأن القوى الطبيعية الخارجية تجبر على أن تشترك بصورة متزايدة في العمل الإنساني. وإذا كان إشباع كمية من الاحتياجات المادية يتطلب فيما مضى أنفاق قدر معين من الوقت والجهد البشري ثم خفض هذا القدر فيما بعد إلى النصف فأن مدى النشاط والمتعة الروحيتين قد أتسع بنفس القدر دون أي خسارة في الرفاهية المادية... ولكن مرة أخرى فأن الطريقة التي تقسم بها الغنيمة التي كسبناها من كرونوس ([25]) العجوز ذاته في مملكته الخاصة مازال يقررها إلقاء الفرد على يد الصدفة الظالمة العمياء... ففي فرنسا قدر أنه في المرحلة الحالية من تطور الإنتاج فأن متوسط فترة عمل يبلغ خمس ساعات يوميًا لكل شخص قادر على العمل يكفي لإشباع كل الاحتياجات المادية للمجتمع... وبرغم الوقت الذي وفره تحسين الآلات فأن أمد العمل العبودي الذي يؤديه قسم كبير من السكان في المصانع قد ازداد (نفس المصدر ص 67 – 68). "ويستند الانتقال من العمل اليدوي المركب إلى تقسيم هذا العمل الأخير إلى عملياته البسيطة، غير أنه في البداية لا يمكن أن تنقل إلى الآلة إلا بعض العمليات المتكررة بشكل مطرد في حين يتحمل الناس البعض الآخر. وبحكم طبيعة الأشياء وما تؤكده التجربة فأن من الواضح أن نشاطًا رتيبًا لا ينتهي من هذا النوع ضار بالذهن وبالجسد معًا. وهكذا فأن هذا الربط بين الآلة وبين مجرد تقسم العمل بين عدد أكبر من الأيدي لا بد حتمًا أن يكشف عن كل مساوئ هذا الأخير. وتبدو حتمًا أن يكشف عن كل مساوئ هذا الأخير. وتبدو هذه المضار – فيما تبدو فيه – في ازدياد معدل وفيات عمال المصانع... ولم يعط بعد القدر الكافي من العناية... لهذا الفارق الكبير بين أن يعمل الناس من خلال الآلات وبين أن يعملوا كالآلات" (المصدر نفسه ص 69). "غير أنه في حياة الناس المقبلة فأن قوى الطبيعة الميتة التي تعمل في الآلات ستكون عبيدًا وخدمًا لنا" (نفس المصدر ص 74). "وتستخدم صناعة الغزل الانجليزية 196818 امرأة في حين لا تستخدم سوى 158818 رجلاً. وفي مصانع القطن في لانكشاير يوجد مقابل كل 100 عامل 103 عاملات، وفي أسكتلندة يصل هذا العدد إلى 209 عاملات. وفي مصانع الكتان في ليدز يوجد مقابل كل مائة عامل 147 عاملة، ويصل عددهن في درودن وفي ساحل أسكتلندة الشرقي إلى 280 عاملة. وفي مصانع الحرير الانجليزية... توجد كثير من العاملات. ويسود العمال الرجال في مصانع الصوف حيث يتطلب العمل قوة بدنية أكبر. وفي عام 1833 كان ما لا يقل عن 38927 امرأة يعملن إلى جانب 18593 رجلاً في مصانع القطن في أمريكا الشمالية. وهكذا فنتيجة للتغيرات في نظام العمل أصبح نطاق أوسع من العمالة المربحة من نصيب النساء.. فالنساء الآن يشغلن مركزًا اقتصاديا أكثر استقلالاًَ.. ويتقارب الجنسان أكثر في ظروفهما الاجتماعية" (نفس المصدر ص 71 – 72). "وكان يعمل في مصانع الغزل الانجليزية التي تعمل بالبخار وبالماء عام 1835: 20558 طفلاً بين الثامنة والثانية عشرة، و35867 بين الثانية عشرة والثالثة عشرة، وأخيرًا 108208 بين الثالثة عشرة والثامنة عشرة.. صحيح أن المزيد من تقدم الميكنة بأبعادها العمل الرتيب أكثر فأكثر عن الأيدي البشرية يتجه إلى التصفية التدريجية لهذا الشر الاجتماعي. ولكن في وجه هذا التقدم السريع يقف الظرف الذي يمكن الرأسمالي من أن يتملك – بأسهل وأرخص الطرق – طاقات الطبقات الدنيا حتى الأطفال لكي تستخدم وتستهلك بدلاً من المساعدات الميكانيكية" (نفس المصدر ص 70 – 71). "نداء لورد بروجهام للعمال – "أصبحوا رأسماليين".. فالشر هو أن الملايين لا يستطيعون أن يكسبوا إلا قدرًا ضئيلاً لأنفسهم بالعمل المضني الذي يمزق الجسد ويشلهم معنويًا وفكريًا، بل أنهم يضطرون إلى أن يعتبروا تعاسة التوصل إلى مثل هذا العمل نوعًا من حسن الطالع" (نفس المصدر ص 60). "وهكذا فأن غير المالكين – لكي يستطيعوا أن يعيشوا – مجبرون على أن يضعوا أنفسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في خدمة الملاك – أي يضعون أنفسهم في وضع التبعية لهم" (بيكوير "نظرية جديدة للاقتصاد الاجتماعي الخ..." ص 409) ([26]) . "للخدام – الأجرة، وللعمال الأجر، وللمستخدمين – المهايا أو الرواتب" (نفس المصدر ص 409 – 410). "أن يؤجر المرء العمل"، "أن يقرض مواد العمل بفائدة"، "أن يجعل الآخرين يعملون لديه" (نفس المصدر ص 441). "أن مثل هذا النظام الاقتصادي يحكم على الناس بمهن دنيئة وضيعة مدمرة مريرة حتى لتبدو الهمجية بالمقارنة بها ظرفًا رائعًا" (نفس المصدر ص 417 – 418) "بغاء الطبقة غير المالكة بكل أشكاله" "(نفس المصدر ص 421 وما بعدها) "جامعو الخرق". ويعلن لودون في كتابه "حل مشكلة السكان الخ..." باريس 1842 - ([27]) أن عدد البغايا في انجلترا يتراوح بين ستين ألفًا وسبعين ألفًا. وأن عدد ذوات الفضيلة المشكوك فيها يبلغ نفس القدر (ص 228). "ومتوسط حياة هذه المخلوقات التعسة في الشوارع بعد أن يبدأن مهنة الرذيلة حوالي ست أو سبع سنوات. والإبقاء على متين أو سبعين ألف بغي يتطلب أن تكون في الممالك الثلاث على الأقل ما بين ثمانية آلاف أو تسعة آلاف امرأة يسلمن أنفسهن لهذه المهنة الدنيئة كل عام، أو حوالي أربع وعشرين ضحية كل يوم – أي بمعدل واحدة كل ساعة. ومن هنا فإذا كانت هذه النسبة صحيحة في سطح كوكبنا كله، فلا بد أن يكون هناك على الدوام مليون ونصف مليون امرأة تعسة من هذا النوع" (نفس المصدر ص 229). "وتعداد البائسين يزداد مع بؤسهم، وعند الحد الأقصى من الحرمات تتزاحم الكائنات الإنسانية باعداد كبيرة متنازعة فيما بينها حق المعاناة... ففي عام 1821 إلى 7764010 نسمة – أي بزيادة قدرها 14% في عشر سنوات. وفي لينستر – أغنى المقاطعات – لم يزد السكان إلا بنسبة 8% في حين وصلت نسبة الزيادة في كونوت – أكثر المقاطعات بؤسًا – إلى 21% (مأخوذ عن التحقيقات التي نشرت في انجلترا عن أيرلندا – فينا 1840)" (بوريه "عن بؤس الخ." المجلد الأول ص 36 – 37) ([28]) . "والاقتصاد السياسي ينظر إلى العمل تجريديًا كشيء"، "العمل سلعة" فإذا كان الثمن مرتفعًا فالطلب إذن كبير على السلعة، وإذا كان الثمن منخفضًا فإن العرض هو الكبير. "وثمن العمل كسلعة لابد أن يهبط ويهبط". وهذا أمر تفرضه جزئيًا المنافسة بين الرأسماليين والعمال، وجزئيًا المنافسة فيما بين العمال، "والسكان العاملون – بائعو العمل – ينتهون بالضرورة إلى قبول أدنى جزء من الناتج.. فهل نظرية العمل كسلعة شيء أخر غير نظرية للعبودية المقنعة؟" (نفس المصدر ص 43) "فلماذا إذن لا يرون في العمل سوى قسمة تبادليه؟" (نفس المصدر ص 44) "أن الورش الكبيرة تفضل أن تشتري عمل النساء والأطفال لأنه يكلفها أقل من عمل الرجال" (نفس المصدر) "فالعامل ليس بأي حال في وضع البائع الحر تجاه من يستخدمه.. فالرأسمالي دائمًا حر في أن يستخدم العمل، والعامل دائمًا مجبر على أن يبيعه. وقيمة العمل تتحطم كلية إذا لم يبع في كل لحظة. فالعمل لا يمكن أن يتراكم أو حتى أن يدخر على عكس السلع الحقيقية. فالعمل هو الحياة، وإذا لم يتم تبادل الحياة كل يوم مقابل الطعام فإنها تعاني وسرعان ما تهلك. فالقول بأن الحياة الإنسانية سلعة يعني إذن أن على المرء أن يعترف بالعبودية" (نفس المصدر ص 49 – 50) "فإذا كان العمل إذن سعلة فأنه سلعة لها أتعس الخصائص، ولكن حتى حسب مبادئ الاقتصاد السياسي فإنه ليس سلعة لأنه ليس النتيجة الحرة لصفقة حرة. والنظام الاقتصادي الحالي يهبط في نفس الوقت بثمن العمل وأجره، إنه يحسن العامل ويحط من الإنسان، (نفس المصدر ص 52 – 53) "لقد أصبحت الصناعة حربًا، والتجارة مقامرة" (نفس المصدر ص 193). "وحتى الوقت الحالي كانت الصناعة في حالة حرب – حرب غزو": "لقد بددت حياة الناس الذين يشكلون جيشها بنفس لامبالاة كبارة الفاتحين. لقد كان هدفها هو تملك الثروة لا سعادة الناس" (بوريه المصدر المذكور ص 20) "وهذه المصالح (أي المصالح الاقتصادية) إذا ما تركت لذاتها بحرية... لابد بالضرورة أن تتنازع، وليس لها من حكم سوى الحرب، وقرارات الحرب تحكم بالهزيمة والموت على البعض لكي تعطي النصر للبعض الآخر.. ويبحث العلم عن النظام والتوازن في هذا النزاع بين القوى المتعارضة: فالرحب الدائمة هي – في نظره – الوسيلة الوحيدة لإقرار السلام، وتسمى هذه الحرب بالمنافسة" (نفس المصدر ص 23). "وتتطلب الحرب الصناعية – لكي تشن بنجاح – جيوشًا كبيرة تستطيع أن تحشدها في نقطة واحدة وأن تفتك بها فتكًا ذريعًا. ولا يتحمل جنود هذا الجيش الجهد المفروض عليهم عن تفان أو أحساس بالواجب وإنما للإفلات من ضرورة الجوع القاسية. وهم لا يشعرون تجاه رؤسائهم بتعلق أو عرفان، كما لا يرتبط هؤلاء الرؤساء بأتباعهم بشعور من الحب، إنهم لا يعرفونهم كرجال وإنما كأدوات إنتاج عليها أن تنتج أكثر ما يمكن بأقل نفقة ممكنة. وليس لدى هؤلاء السكان العاملين – المتزاحمين بصورة متزايدة – حتى ضمان أن يستخدموا دائمًا. فالصناعة التي جمعتهم معًا لا تتركهم يعيشون إلا طالما تتخلى عنهم دون أدنى حرج. والعمال الذي يعطي لهم أكثر طولاً وإيلامًا وإثارة للاشمئزاز كان أجرهم أقل. وهناك من لا يكادون يشترون الحق في ألا يموتوا إلا مقابل يوم عمل من ست عشرة ساعة من الجهد الذي لا يكل" (نفس المصدر ص 68 – 69). "إننا مقتنعون.. كالمندوبين الذي كلفوا بالتحقيق في ظروف عمال النسيج اليدويين بأن المدن الصناعية الكبيرة كانت ستفقد سكانها من العمال في وقت قصير لو أنها لم تكن تحصل طيلة الوقت من المناطق الريفية المجاورة على وافدين دائمين من الرجال الأصحاء، على فيض دائم من الدماء الجديدة" (نفس المصدر ص 362).
ربح رأس المال 1- رأس المال 1- ما أساس رأس المال، أي الملكية الخاصة لمنتجات عمل الغير؟ "لأنه إذا لم يكن رأس المال ذاته مجرد سرقة احتيال، فإنه مع هذا يتطلب معاونة التشريع لتقنين الوراثة" (ساي – المجلد الأول – ص 136 – الهامش) ([29]) . كيف يصبح المرء مالكًا لأرصدة منتجة؟ كيف يصبح المرء مالكًا للمنتجات التي خلقت بواسطة هذه الأرصدة؟ يفضل القانون الوضعي (ساي – المجلد الثاني – ص 4). ماذا يكتسب الإنسان برأس المال حين يرث ثروة كبيرة مثلاً؟ "فالشخص الذي يكتسب أو تؤول إليه ثروة كبيرة لا يكتسب أو يرث بالضرورة أي سلطة سياسية.. والقدرة التي يضفيها عليه هذا التملك فورًا وبشكل مباشر هي القدرة على الشراء، أنها قدر من السيطرة على كل العمل، أو على كل ناتج العمل، الذي يكون حينئذ في السوق" (آدم سميث "ثروة الأمم" – المجلد الأول ص 26 – 27). وهكذا فأن رأس المال هو السلطة الحاكمة على العمل ومنتجاته. ويمتلك الرأسمالي هذه السلطة لا بحكم كفاءته الشخصية أو الإنسانية، وإنما من حيث هو مالك لرأس المال. أن قدرته هي القدرة الشرائية لرأسماله التي لا يستطع شيء أن يقف في وجهها. وسنرى فيما بعد أولاً كيف يمارس الرأسمالي – عن طريق رأسماله – سلطته الحاكمة على العمل، بيد أننا سنرى بعد ذلك السلطة الحاكمة لرأس المال على الرأسمالي نفسه. ما رأس المال؟ "قدر معين من العمل المختزن أو المدخر لاستخدامه" (المصدر السابق – المجلد الأول ص 295). فرأس المال عمل مختزن. 2- الأرصدة أو المخزون هو أي تراكم لمنتجات الأرض أو الصناعة. ولا يسمى المخزون رأسمالاً إلا حيثما يدر على مالكه دخلاً أو ربحًا. (المصدر السابق – المجلد الأول ص 234). 2- ربح رأس المال أن ربح رأس المال أو كمية يختلف كلية عن أجور العمل. ويبدو هذا الاختلاف بطريقتين: في المقال الأول أن أرباح رأس المال تحددها كلية قيمة رأس المال المستخدم، رغم أن عمل التفتيش والإدارة بالنسبة لرؤوس أموال مختلفة قد يكون واحد. وفضلاً عن ذلك ففي المصانع الكبيرة قد يعهد بكل هذا العمل إلى كاتب رئيسي ما، لا يتناسب راتبه تناسبًا منتظمًا مع رأس المال الذي يشرف على إدارته. ورغم أن عمل المالك هنا يهبط إلى الصفر تقريبًا، فإنه رغم ذلك يطلب أرباحًا تتناسب مع رأسماله (المصدر السابق – المجلد الأول – ص 43). ماذا يطلب الرأسمالي هذا التناسب بين الربح وبين رأس المال؟ فلن تكون له مصلحة في استخدام العمال، ما لم ينتظر مع بيع عملهم شيئًا أكثر مما يلزم لاستبدال المخزون الذي يقدمه كأجور، ولن تكون له مصلحة في استخدام رصيد أكبر وليس رصيدًا أقل ما لم يكن ربحه يتناسب مع اتساع الرصيد المستخدم. (المصدر السابق – ص 42). وهكذا فإن الرأسمالي يحقق ربحًا أولاً من الأجور وثانيًا من المواد الأولية التي قدمها. فأي تناسب إذن بين الربح ورأس المال؟ وإذا كان من الصعب بالفعل أن تحدد المستوى المتوسط المعتاد للأجور في مكان معين في زمن معين، فإن من الأصعب أن نحدد ربح رأس المال. فالتغير في ثمن السلع التي يتعامل فيها الرأسمالي، وحسن حظ منافسيه وعملائه أو سوئه، وألف حادث آخر تتعرض له سلعة سواء في نقلها أو تخزينها – كلها تحدث تغيرًا كل يوم – بل يكاد يكون كل ساعة – في الربح (المصدر السابق ص 78 – 79). ولكن رغم إنه من المستحيل أن نحدد بدقة ما أرباح رأس المال فإننا نستطيع أن نكون فكرة عنها من الفائدة على النقود، فحيثما يمكن تحقيق الكثير من استخدام النقود، فحيثما يمكن تحقيق الكثير من استخدام النقود، يعطي الكثير للحصول على الحق في استخدامها، وحيثما لا تحقق إلا القليل، لا يعطي إلا القليل (المصدر السابق ص 79). والنسبة التي ينبغي أن تقوم بين معدل الفائدة العادي في السوق وبين معدل الربح الصافي تتغير مع ارتفاع الربح وهبوطه. فضعف الفائدة هو ما يعترف به التجار في بريطانيا العظمى باعتباره “Un profit honnete, modere, raisonnble-“ ([30]) وهي عبارة لا تعني أكثر من الربح الشائع المعتاد. (المصدر السابق ص 87). فما أدنى معدل للربح، وما أعلى معدل؟ أن أدنى معدل للربح العادي لرؤوس الأموال ينبغي دائمًا أن يكون شيئًا أكثر مما هو ضروري لتعويض الخسائر العارضة التي يتعرض لها ل استخدام لرأس المال. وهذا الفائض هو وحده الربح الخالص أو الصافي. وينطبق نفس الشيء على أدنى معدل للفائدة (المصدر السابق ص 68). وأقصى معدل يمكن أن ترتفع إليه الأرباح العادية هو ذلك الذي يستولى – من ثمن الجانب الأكبر من السلع – والسلعة الموردة إلى أدنى معدل، إلى مجرد احتياجات معيشة العامل أثناء عمله. فلا بد أن يغذى العامل بطريقة أو أخرى طيلة فترة الاحتياج إله للعمل، ويمكن أن يختفي ريع الأرض كلية، وعلى سبيل المثال: رجال شركة الهند الشرقية في البنغال (المصدر السابق ص 86 – 78). وإلى جانب كل مزايا المنافسة المحدودة التي يمكن للرأسمالي أن يستغلها في هذه الحالة فإنه يستطيع أن يبقى سعر السوق أعلى من الثمن الطبيعي بوسائل لائقة تمامًا. من ناحية بإخفاء الأسرار التجارية إذا كان السوق على مسافة بعيدة عن أولئك الذين يوردون إليها، أي بإخفاء التغير في السعر وارتفاعه عن المستوى الطبيعي. ولهذا الإخفاء نتيجة هي أن الرأسماليين الآخرين لا يتبعونه في استثمار رأسمالهم في هذا الفرع من الصناعة أو التجارة. وكذلك أيضًا بإخفاء أسرار الصناعة الذي يمكن الرأسمالي من تقليل تكاليف الإنتاج، وتقديم سلعته بنفس أسعار منافسيه أو بأسعار أدنى مع الحصول على ربح أكبر (أليس الخداع بإخفاء الأسرار عملاً غير أخلاقي؟ صفقات البورصة). وفضلاً عن ذلك حيثما يكون الإنتاج قاصرًا على منطقة معينة (كما في حالة نبيذ نادر) وحيث لا يمكن إشباع الطلب الفعال أبدًا. وأخيرًا عن طريق الاحتكارات التي يمارسها أفراد أو شركات. فالسعر الاحتكاري هو أعلى سعر ممكن (المصدر السابق ص 53 – 54). أسباب عارضة أخرى يمكن أن تزيد ربح رأس المال: أن اكتساب أقاليم جديدة أو فروع تجارية جديدة أكثيرًا ما يزيد ربح رؤوس الأموال حتى في بلد غنى، لأنه يسحب بعض رؤوس الأموال من فروع التجارة القديمة، ويقلل المنافسة، ويؤدي إلى تزويد السوق بسلع أقل، وعندئذ ترتفع أسعارها: ويستطيع أولئك الذي يتعاملون في هذه السلع أن يفترضوا بسعر فائدة أعلى (المصدر السابق ص 83). وكلما زاد تشغيل سلعة ما - أي زاد تحولها إلى سلعة مصنوعة – زاد ذلك الجزء من الثمن الذي يتحول إلى أجور وربح بالنسبة للجزء الذي يتحول إلى ريع. ومع تقدم تصنيع سلعة ما، لا يزيد فحسب عدد الأرباح، بل أن كل ربح تال يزيد عن سابقه، لأن رأس المال الذي يستمد منه هذا الربح لا بد دائمًا أن يكون أكبر. فرأس المال الذي يستخدم عمال النسيج مثلاً لا بد دائمًا أن يكون أكبر من ذلك الذي يستخدم عمال الغزل، لأنه لا يحل فحسب محل هذا الرأسمال مع أرباحه بل يدفع إلى جانب ذلك أجور عمال النسيج، ولا بد أن تتناسب الأرباح دائمًا مع رأس المال. (المصدر السابق ص 45). وهكذا فإن التقدم الذي يحققه العمل الإنساني في تحويل منتجات الطبيعة إلى منتجات مصنوعة للطبيعة لا تزيد أجور العمل، وإنما تزيد من ناحية عدد رؤوس الأموال التي تدر ربحًا، ومن ناحية أخرى حجم كل رأسمال تال بالمقارنة رأس المال السابق عليه. وسنتحدث فيما بعد عن الميزة التي يحققها الرأسمالي من تقسيم العمل. إنه يجني ربحًا مزدوجًا – أولاً عن طريق تقسيم العمل، وثانيًا – بشكل عام – عن طريق التقدم الذي يحققه العمل الإنساني في الناتج الطبيعي. وكلما زاد النصيب الإنساني في سلعة ما زاد ربح رأس المال الميت. ففي ذات المجتمع يكون المعدل المتوسط لأرباح رأس المال أقرب إلى نفس المستوى من أجور مختلف أنواع العمل (المصدر السابق ص 100). وفي مختلف استخدامات رأس المال يختلف معدل الربح مع تأكد أو عدم تأكد العائدات. والربح العادي لرأس المال وأن كان يرتفع مع المخاطرة لا يبدو أنه يرتفع دائمًا في تناسب معها. (المصدر السابق ص 99 – 100). وغنى عن البيان أن الأرباح ترتفع كذلك إذا أصبحت وسائل التداول أقل نفقة أو أيسر في الحصول علها (العملات الورقية مثلاً). 3- سيطرة رأس المال على العمل ودوافع الرأسمالي الدافع الوحيد الذي يدفع صاحب أي رأس مال لاستخدامه أما في الزراعة أو الصناعات أو في فرع خاص من تجارة الجملة أو القطاعي هو اعتبار ربحه الخاص. ولا تدخل في اعتباره أبدًا كميات العمل الإنتاجي الذي قد يدفعه إلى الحركة، والقيم المختلفة التي قد يضيفها الناتج السنوي لأرض بلاده وعملها، وفقًا لما إذا كان يستخدم بطريقة أو أخرى من هذه الطرق (المصدر السابق ص 335). وأفيد استخدام لرأس المال بالنسبة للرأسمالي هو الذي يدر له – عند تساوي المخاطر – أكبر ربح. وليس هذا الاستخدام دائمًا هو أفيد استخدام للمجتمع: فأفيد استخدام هو ذلك الذي يستخرج فائدة من قوى الطبيعة الإنتاجية (ساي المجلد الثاني – ص 130 - 131). وخطط ومشاريع مستخدمي رأس المال تحدد وتوجه أهم عمليات العمل، والربح هو الهدف الذي تسعى إليه كل هذه الخطط والمشاريع. لكن معدل الربح لا يرتفع – كالريع والأجور – مع ازدهار المجتمع، ولا يهبط مع انحداره. بالعكس أنه بشكل طبيعي منخفض في البلاد الغنية ومرتفع في البلاد الفقيرة، وهو أعلى ما يكون في البلاد التي تجري بسرعة نحو الدمار. ومن هنا فإن مصلحة هذه الطبقة لا ترتبط بمصلحة المجتمع بنفس العلاقة التي ترتبط بها الطبقتان الآخريان... فالمصلحة الخاصة للذين يتعاملون في أي فرع خاص من فروع التجارة أو الصناعات تختلف دائمًا في بعض النواحي عن مصلحة الجمهور، بل أحيانًا ما تتعارض معها بشدة. فتوسع السوق وتضييق منافسة البائعين دائمًا في مصلحة المتعامل. أن هذه طبقة من الناس لا تتفق مصلحتها بالدقة أبدًا مع مصلحة المجتمع، طبقة من الناس لها بشكل عام مصلحة في خداع الجمهور وقهره (سميث – المجلد الأول – ص 231 – 232). 4- تراكم رؤوس الأموال والمنافسة بين الرأسماليين أن زيادة رؤوس الأموال – التي ترفع الأجور تميل إلى تخفيض ربح رأس المال بسبب المنافسة بين الرأسماليين (المصدر السابق ص 78). "فإذا كان رأس المال الملازم لتجارة البقالة في مدينة معينة مثلاً مقسمًا بين بدالين مختلفين، فإن منافستهما ستتجه إلى أن تجعل كلاً منهما يبيع أرخص مما لو كان رأس المال في يد واحد فقط، وإذا كان مقسمًا بين عشرين فأن منافستهم ستكون أكبر، وفرصة اتحادهم مما لرفع السعر ستكون أقل بنفس الدرجة". ولما كنا نعرف بالفعل أن الأسعار الاحتكارية هي أعلى ما يمكن، ولما كانت مصلحة الرأسماليين حتى من وجهة النظر التي يتقاسمها عمومًا رجال الاقتصاد السياسي، تقف في تضاد وعداء مع المجتمع، ولما كانت زيادة الربح تؤثر كفائدة مركبة على ثمن السلعة (المصدر السابق ص 87 – 88)، فإنه ينتج عن ذلك أن الدفاع الوحيد ضد الرأسماليين من هو المنافسة، وهي تؤثر – وفقًا لشواهد الاقتصاد السياسي – تأثيرًا مفيدًا عن طريق رفع الأجور وتخفيض أثمان السلع لصالح الجمهور المستهلك. لكن المنافسة ليست ممكنة إلا إذا تضاعفت رؤوس الأموال وغدت في أيد كثيرة. وتكوين كثير من رؤوس الأموال ليس ممكنًا إلا نتيجة لتراكم متعدد الجوانب لأن رأس المال لا يوجد إلا بالتراكم. والتراكم متعدد الجوانب يتحول بالضرورة إلى تراكم أحادي الجانب. والمنافسة بين رؤوس الأموال تزيد تراكم رؤوس الأموال. والتراكم – حيث تسود الملكية الخاصة – هو تركيز رأس المال في أيدي قلة، أنه عمومًا نتيجة حتمية إذا تركت رؤوس الأموال تسير في مسارها الطبيعي، وخلال المنافسة بالتحديد يمهد الطريق4 لهذا الاتجاه الطبيعي لرأس المال. ولقد قيل لنا أن ربح رأس المال يتناسب مع حجم رأس المال. ومن هنا فإن رأس المال الكبير يتراكم بسرعة أكبر من رأس المال الصغير بالنسبة لحجمه، حتى لو طرحنا جانبًا في الوقت الراهن المنافسة المتعمدة. وبالتالي فأن تراكم رأس المال الكبيرة ينطلق بسرعة أكبر من رأس المال الصغير – بغض النظر عن المنافسة. ولكن فلنتابع هذه العملية إلى أبعد من ذلك. مع ازدياد رؤوس الأموال تنخفض أرباحها بسبب المنافسة، ومن هنا فإن أول من يعاني من ذلك هو الرأسمالي الصغير. وتزايد رؤوس الأموال وزيادة عدداها يفترضان مسبقًا ظرفًا من تقدم ثروة البلاد. "وفي بلد حقق اكتمال ثرواته... وإذا يكون المعدل العادي للربح الصافي صغيرًا للغاية فإن معدل الفائدة العادي في السوق الذي يستطيع هذا الربح تحمله سيكون منخفضًا إلى حد يجعل من المستحيل أن يعيش على فائدة نقوده سوى أغنى الناس، وسيجبر كل ذوي الثروات الصغيرة أو المتوسطة على أن يشرفوا بأنفسهم على استخدام أموالهم" (المصدر السابق ص 86). وهذا هو الوضع العزيز للغاية على قلب الاقتصاد السياسي. "ومن هنا فإن النسبة بين رأس المال والدخل تحدد على ما يبدو في كل مكان النسبة بين الصناعة والخمول، فحيثما يسود رأس المال تسود الصناعة، وحيثما يسود الدخل يسود الخمول" (المصدر السابق ص 301). فماذا عن استخدام رأس المال في هذا الظرف من المنافسة المتزايدة؟ "مع تزايد رأس المال ينمو بالتدريج مقدرا رأس المال الذي يمكن أن يفرض بفائدة أكثر فأكثر، ومع تزايد مقدار رأس المال الذي يمكن أن يقرض بفائدة... تتناقص الفائدة… (1) لأن "سعر السوق بالنسبة للأشياء يتناقص بشكل عام مع زيادة كميتها.." و (2) لأنه مع زيادة رؤوس الأموال في أي بلد "يصبح من الصعب أكثر فأكثر بالتدريج أن نجد داخل البلاد أسلوبًا مريحًا لاستخدام أي رأسمال جديد. وبالتالي تثور منافسة بين مختلف رؤوس الأموال، ويحاول صاحب أحد رؤوس الأموال أن يستحوذ على ذلك الاستخدام الذي يحتله آخر. لكنه في أغلب الحالات لا يستطيع أن يأمل في إزاحة هذا الآخر عن هذا الاستخدام بوسيلة أخرى غير التعامل بشرط أكثر معقولية. فلا يجب عليه فحسب أن يبيع ما يتعامل فيه بثمن أرخص إلى حد ما بل يجب عليه كذلك أحيانًا – لكي يستطيع أن يحصل عليه ليبعه – أن يشتري بثمن أعلى. أن الطلب على العمل الإنتاجي نتيجة زيادة الأرصدة المخصصة لصيانته – يتزايد يومًا بعد يوم. ويجد العمال عملاً بسهولة، لكن ملاك رأس المال يجدون من الصعب عليهم أن يحصلوا على عمال يستخدمونهم وتؤدي منافستهم إلى زيادة أجور العمل، وتهبط بأرباح رأس المال" (المصدر السابق ص 316). وهكذا فأن أمام الرأسمالي الصغير الخيار: (1) بين أن يستهلك رأسماله لأنه لم يعد يستطيع أن يعيش على الفائدة – وبذلك يكف عن أن يكون رأسماليًا أو: (2) أن يقيم بنفسه عملاً، ويبيع سلعته بثمن أرخص، ويشتري بثمن أعلى من الرأسماليين الأغنى، ويدفع أجورًا أكبر – وبذلك يدمر نفسه لأن سعر السوق يكون بالفعل منخفضًا جدًا نتيجة لما افترضناه من منافسة حادة. غير أنه إذا كان الرأسمالي الكبير يريد أن يزيح الرأسمالي الأصغر، فإن لديه في مواجهته كل المزايا التي للرأسمالي في مواجهة العامل. فالحجم الأكبر لرأسماله يعوضه عن الأرباح الأقل، بل أنه يستطيع أن يتحمل خسائر مؤقتة حتى يدمر الرأسمالي الصغير، ويجد نفسه متحررًا من هذه المنافسة. وبهذه الطريقة يراكم أرباح الرأسمالي الصغير. وفضلاً عن ذلك: فأن الرأسمالي الكبير يشتري دائمًا بسعر أرخص من الرأسمالي الصغير لأنه يشتري كميات أكبر. ومن هنا فإنه يستطيع أن يتحمل البيع بسعر أرخص. ولكن إذا كان الهبوط في سعر الفائدة يحول الرأسماليين المتوسطين من أصحاب ريع إلى رجال أعمال، فإن الزيادة في رؤوس الأموال العاملة وما ينتج عن ذلك من انخفاض في الربح يؤدي بالعكس إلى هبوط في سعر الفائدة. "فحين.. تتناقص.. الأرباح التي يمكن الحصول عليها من استخدام رأس المال.. فأن الثمن الذي يمكن أن يدفع لاستخدامه.. لابد بالضرورة أن يتناقص معها" (المصدر السابق ص 316). "وإذا تزايدت الثروات والتحسين والسكان هبطت الفائدة" وبالتالي ربح رؤوس الأموال "وبعد أن تناقصت هذه فأن رأس المال قد لا يستمر في الزيادة فحسب بل يزيد بسرعة أكبر كثيرًا من ذي قبل.. فرأسمال كبير – وإن يكن بأرباح صغيرة – يزيد عمومًا بسرعة أكبر من رأس مال صغير بأرباح كبيرة. وكما يقول المثل فإن المال يصنع المال" (المصدر السابق ص 83). غير أنه إذا كانت تواجه هذا الرأسمال الكبير رؤوس أموال صغيرة بأرباح صغيرة – كما هو الحال في ظرف المنافسة الحادة الذي افترضناه – فإنه يسحقها تمامًا. والنتيجة الضرورية لهذا المنافسة هي التدهور العام للسلع والغش والتقليد والتسمم الشامل الذي يبدو واضحًا في المدن الكبيرة. وفضلاً عن ذلك فإن ثمة ظرفًا هامًا في المنافسة بين رؤوس الأموال الكبيرة والصغيرة هو العلاقة بين رأس المال الثابت ورأس المال المتداول ([31]) . "ورأس المال المتداول هو رأس المال الذي يستخدم في توفير المؤن في الصناعة أو التجارة. ورأس المال الذي يستخدم بهذه الطريقة لا يعود بعائد أو ربح على مستخدمة طالما بقى في حيازته أو أستمر في نفس الشكل. فهو باستمرار يغادره في شكل معين لكي يعود إليه في شكل آخر، وعن طريق مثل هذا التداول وحده، أو مثل هذه المبادلات والتحولات المتعاقبة، يستطيع أن يدر أي ربح، ورأس المال الثابت يتألف من رأس المال الذي يستثمر في تحسين الأرض، وفي شراء الآلات المفيدة، ومعدات التجارة وما شابه ذلك" (المصدر السابق ص 243 – 244) – وقد أختصر ماركس هذه الفقرة عند اقتباسه لها). "وكل توفير في نفقات صيانة رأس المال الثابت هو تحسين في الدخل الصافي للمجتمع. ومجموع رأسمال صاحب أي عمل ينقسم بالضرورة بين رأسماله الثابت ورأسماله المتداول. وإذا بقى كل رأسماله كما هو فكلما كان أحد القسمين صغيرًا كان الآخر كبيرًا بالضرورة. ورأس المال المتداول هو الذي يوفر المواد وأجور العمل ويحرك الصناعة. ومن هنا فكل توفير في نفقة صيانة رأس المال الثابت لا يقلل قوة العمل الإنتاجية لابد أن يزيد الأرصدة التي تحرك الصناعة" (المصدر السابق ص 257). وواضح منذ البداية أن العلاقة بين رأس المال الثابت ورأس المال المتداول في صالح الرأسمالي الكبير أكثر مما هي بالنسبة للرأسمالي الصغير. فرأس المال الثابت الذي يحتاجه مالك بنك كبير جدًا زيادة عما يحتاجه مالك بنك صغير جدًا لا يؤبه له. فرأسمالهما الثابت لا يزيد عن الكتب. ومعدات مالك الأرض الأكبر لا تزيد بما يتناسب مع حجم ضيعته وبالمثل فإن الثقة التي يتمتع بها الرأسمالي الكبير بالمقارنة بالرأسمالي الصغير تعني بالنسبة له توفيرًا أكبر في رأس المال الثابت – أي في كمية النقود السائلة التي ينبغي أن تكون دائمًا في يده. وأخيرًا فإن من الواضح أنه حيثما وصل العمل الصناعي إلى مستوى مرتفع، وحيثما أصبح بالتالي كل العمل اليدوي تقريبًا عملاً مصنعيًا، فإن كل رأسمال الرأسمالي الصغير لا يمكن لكي يزوده حتى برأس المال الثابت اللازم له ([32]) . وتراكم رؤوس الأموال الكبيرة يصحبه تركيز وتبسيط مماثلان لرأس المال الثابت بالنسبة للرأسماليين الأصغر. فالرأسمالي الكبير يقيم لنفسه نوعًا من التنظيم لأدوات العمل. "وبالمثل ففي مجال الصناعة فأن كل مصنع ومعمل هو تجميع أكبر شمولاً لثروة مادية أكبر مع القدرات الفكرية ومهارات الفنية المتنوعة يخدم غرضًا إنتاجيًا مشتركًا.. وحيثما يحافظ التشريع على ملكية الأرض في وحدات كبيرة فإن فائض السكان المتزايدين يتدفق إلى المهن، ومن هنا ففي ميدان الصناعة أساسًا – كما حدث في بريطانيا العظمى – يتجمع البروليتاريون في أعداد كبيرة. أما حيثما يسمح القانون بالتقسيم المستمر للأرض فأن عدد صغار الملاك المثقلين بالديون يزيد كما في فرنسا، واستمرار عملية التمزيق يلقيهم في طبقة المحتاجين والساخطين. وحين يصل هذا التمزيق وهذه المديونية إلى درجة أعلى فأن ملكية الأرض الكبيرة تبتلع من جديد الملكية "الصغيرة، تمامًا كما تدمر الصناعة الكبيرة الصناعة الصغيرة. وإذ تشكل من جديد ضياع كبيرة فإن أعداد كبيرة من العمال الذين لا يمتلكون شيئًا وغير اللازمين لزراعة الأرض يدفعون من جديد إلى الصناعة" (شولز “Bewegung der Produktion” "حركة الإنتاج – المترجم" – ص 58 – 59). "والسلع من نوع معين يتغير طابعها نتيجة للتغيرات في أسلوب الإنتاج، وبشكل خاص نتيجة لاستخدام الآلات. فعن طريق استبعاد القوة البشرية وحده أصبح من الممكن أن تعزل من رطل من القطن قيمته ثلاثة شلنات وثمانية بنسات 350 (شلة) خيط يبلغ طولها 167 ميلاً انجليزيًا (36 ميلاً ألمانيًا) وتبلغ قيمتها التجارية 25 جنيهًا" (المصدر السابق ص 62). "وفي المتوسط انخفضت أثمان المنسوجات القطنية في انجلترا خلال الخمسة والأربعين عامًا الماضية بنسبة ، ووفقًا لتقديرات مارشال فأن نفس الكمية من البضائع المصنوعة التي كان يدفع مقابلها 16 شلنا في عام 1814، تباع الآن بشلن وعشرة بنسات. ويزيد رخص المنتجات الصناعية من توسع كل من الاستهلاك الداخلي والسوق الخارجي، ونتيجة لذلك فإن عدد عمال القطن في بريطانيا العظمى لم ينخفض بعد إدخال الآلات بل إنه – أكثر من ذلك – زاد من أربعين ألفًا إلى مليون ونصف مليون. أما عن دخول المنظمين الصناعيين (Industrial entrepreneurs) والعمال، فإن المنافسة المتزايدة بين ملاك المصانع أدت بالضرورة إلى انخفاض أرباحهم بالنسبة لكمية المنتجات التي يعرضونها. ففي السنوات من 1820 إلى 1833 هبط الربح الإجمالي للصناعة في مانشستر بالنسبة لقطعة نسيج من القطن من أربعة سلنات 2/11 نبس إلى شلن وتسعة بنسات. ولكن تعويضًا لهذه الخسارة زاد حجم الصناعة بنفس المقدار. ونتيجة ذلك هي... إن فروعًا منفصلة من الصناعة تمارس فائض إنتاج إلى حد ما، وأن إفلاسات عديدة تحدث ويترتب عليها تأرجح الثورة وتذبذبها دون استقرار داخل طبقة الرأسماليين وأصحاب العمل وبذلك تقذف إلى صفوف البروليتاريا بعض أولئك الذي دمروا اقتصاديًا وأنه كثيرًا ما يصبح الإغلاق أو تخفيض العمالة فجأة أمرًا ضروريًا، وهو ما تشعر طبقة العمال بالأجر دائمًا بآثاره شعورًا مريرًا" (المصدر السابق ص 63). "أن تأجير المرء لعمله هو بداية استبعاده. وتأجيره لمواد العمل هو إقرار حريته.. والعمل هو الإنسان، لكن مواد العمل – من الناحية الأخرى – لا تحوي شيئًا إنسانيًا" (بيكور "النظرية الاجتماعية الخ" ص 411 – 412). "وعنصر المادة الذي لا يستطيع إطلاقًا أن يخلق ثروة دون العنصر الآخر – العمل – يكتسب فضيلة سحرية هي أن يكون خصبًا بالنسبة لهم ([33]) وكأنهم بفعلهم هم قد وضعوا فيه هذا العنصر الذي لا غنى عنه" (المصدر السابق). "وإذا افترضنا أن العمل اليومي لعامل ما يجلب له في المتوسط أربعمائة فرنك سنويًا، وأن هذا المبلغ يكفي كل بالغ لكي يعيش لونًا من الحياة الخشنة، فأن أي مالك يحصل على 2000 فرنك كفائدة أو ريع من مزرعة أو منزل الخ.. ويجبر بشكل غير مباشر خمسة رجال على أن يعملوا له، ودخل يبلغ مائة ألف فرنك يمثل عمل مائتين وخمسين رجلاً، ودخل يبلغ مليون فرنك يمثل عمل ألفين وخمسمائة رجل (وإذن فدخل يبلغ ثلاثمائة مليون (لويس فيليب) يمثل عمل سبعمائة وخمسين ألف عامل) (المرجع السابق ص 412 – 413). "إن القانون الإنساني قد أعطى الملاك حق الاستخدام وإساءة الاستخدام – أي الحق أن يفعلوا ما يشاءون بمواد العمل.. والقانون لا يلزمهم بأي حال بأن يوفروا عملاً لمن لا يملكون عندما يريدون وفي كل الأوقات، أو أن يدفعوا لهم دائمًا أجرًا كافيًا الخ". (المرجع السابق ص 413). "حرية مطلقة بشأن طبيعة الإنتاج وكميته ونوعيته وملاءمته، وبشأن استخدام الثروة والتصرف فيها، والسيطرة الكاملة على مواد كل العمل. وكل فرد حر في أن يبادل ما يملكه على هواه، دون اعتبار لشيء آخر غير مصلحته كفرد" (المرجع السابق ص 413). "وليست المنافسة إلا لتعبير عن حرية التبادل، وهي بذاتها النتيجة المباشرة والمنطقية لحق الفرد في استخدام وإساءة الاستخدام، وحرية التبادل، والمنافسة التحكمية – هذه اللحظات الاقتصادية التي تشكل وحدة واحدة، تؤدي إلى النتائج التالية: كل أمرئ ينتج ما يريد وكما يريد وحين يريد وحيث يريد، ينتج جيدًا أو سيئًا، ينتج أكثر من اللازم أو أقل مما يكفي، ينتج قبل الأوان أو بعد الأوان، بسعر مرتفع للغاية أو منخفض للغاية، ولا أحد يعرف ما إذا كان سيبيع، وكيف سيبيع، ومتى سيبيع، وأين سيبيع، ولمن سيبيع، ونفس الأمر بالنسبة لمشترياته. والمنتج يجهل احتياجاته وموارده، يجهل الطلب والعرض. أنه يبيع حين يريد، حين يستطيع، وحيث يريد، ولمن يريد، وبالسعر الذي يريد. وهو يشتري نفس الطريقة. وهو في هذا كله دائمًا لعبة المصادفة، وعبد قانون الأقوى، الأقل تعجلاً، والأكثر غنى.. وفي حين تكون هناك ندرة في مكان ما، نجد الأغراق والتبديد في مكان آخر، وفي حين يبيع منتج الكثير أو بسعر مرتفع للغاية وبربح هائل فأن آخر لا يبيع شيئًا أو يبيع بخسارة.ز أن العرض لا يعرف الطلب، والطلب لا يعرف العرض. فأنت تنتج – استنادًا إلى ذوق أو طراز يسود بين الجمهور المستهلك. ولكن ما أن تستعد لتقديم سلعتك، حتى تكون النزوة قد انفضت وتحولت إلى نوع آخر من المنتجات.. والنتائج الحتمية هي: وقوع الافلاسات بصورة دائمة وشاملة، إساءة التقدير، الخراب المفاجئ والثروات غير المتوقعة، الأزمات التجارية، البطالة، حالات الاغراق أو العجز الدورية، عدم استقرار الأجور والأرباح وتناقصها، الخسارة أو التبديد الهائل للثروة والزمن والجهد في حلبة المنافسة العنيفة" (المصدر السابق ص 414 – 416). ريكاردو في كتابه (ريع الأرض): ليست الأمم سوى ورش إنتاج، والإنسان آلة للاستهلاك والإنتاج، والحياة الإنسانية نوع من رأس المال، والقوانين الاقتصادية تحكم العالم بشكل أعمى. والناس عند ريكاردو ليسوا شيئًا، أما الناتج فهو كل شيء. وفي الفصل السادس والعشرين من الترجمة الفرنسية يقول "فبالنسبة لفرد لديه رأس مال يبلغ عشرين ألف جنيه وتبلغ أرباحه ألفي جنيه سنويًا لا يهمه ما إذا كان رأسماله سيستخدم مائة رجل أم ألفًا.. أليست المصلحة الحقيقة للأمة على هذا النحو؟ فطالما ظل دخلها الصافي – ريعها وأرباحها – كما هو فلا يهم ما إذا كانت الأمة تتألف من عشرة ملايين أو أثنى عشر مليونًا من السكان". ويقول سيسموندي (المجلد الثاني ص 231). "والواقع أنه لم يعد هناك ما نرغب فيه إلا أن يدير الملك – الذي يعيش وحده تمامًا في الجزيرة – باستمرار ذراع آلة تحرك أناسًا آليين لكي يقوموا بكل العمل في انجلترا" ([34]) . "والسيد الذي يشتري عمل العامل بسعر منخفض بحيث لا يكاد يكفي أشد احتياجات العمل ضروري ليس مسئولاً عن عدم كفاية الآجر ولا عن مدة العمل مفرطة الطول. فهو نفسه يخضع للقانون الذي يفرضه فالبؤس لا يسببه البشر بقدر ما تسببه قوة الأشياء" (بوريه – مصدر سابق ص 82). "وسكان أنحاء كثيرة من بريطانيا ليس لديهم رأسمال كاف لتحسين أرضهم وزراعتها. وصوف المقاطعات الجنوبية في اسكتلندة ينقل الجزء الأكبر منه عبر طرق سيئة للغاية ليصنع في يوركشاير لعدم توفر رأس المال اللازم لتصنيعه ف مكانه. وهناك كثير من المدن الصناعية الصغيرة في بريطانيا ليس لدى سكانها رأسمال كاف لنقل ناتج صناعتهم لتلك الأسواق البعيدة التي تجد فيها طلبًا وأستهلاكًا، وإذا كان بينهم تجار فهم ليسوا أكثر من وكلاء لتجار أكثر غنى يقيمون في المدن التجارية الأكبر" (سميث – المصدر السابق – المجلد الأول ص 326 – 327). "والناتج السنوي للأرض والعمل في أي أمة لا يمكن أن تزيد قيمته بوسيلة أخرى غير زيادة عدد عمالها الإنتاجيين أو زيادة القدرات الإنتاجية لهؤلاء العمال المستخدمين من قبل.. وفي أي الحالين يلزم دائمًا تقريبًا رأسمال إضافي" (المصدر السابق ص 306 – 307). "ولما كان تراكم رأس المال لا بد – بحكم طبيعة الأشياء – أن يكون سابقًا لتقسيم العمل، فأن العمل لا يمكن أن يقسم أكثر فأكثر إلا بقدر ما يكون رأس المال قد تراكم من قبل أكثر فأكثر. وكمية المواد التي يستطيع نفس العدد من الناس تشغيلها يزيد بنسبة كبيرة من ازدياد تقسيم العمل، ولما كانت عمليات كل عامل تهبط بالتدريج إلى درجة أكبر من البساطة فأن أنواعًا من الآلات الجديدة تخترع لتسهيل هذه العمليات واختصارها. وهكذا فمع تقدم تقسيم العمل لا بد – من أجل توفير عمل دائم لنفس العدد من العمال – أن تكون قد تراكمت من قبل كمية مساوية من المؤن ورصيد أكبر من الأدوات والمواد مما كان ضروريًا في وضع أكثر بدائية. لكن عدد العمال في كل فرع من فروع العمل يزيد عمومًا مع تقسيم العمل في هذا الفرع، أو بالأحرى أن الزيادة في عددهم هي التي تمكنهم من أن يرتبوا أنفسهم ويقسموها بهذه الطريقة" (المصدر السابق ص 241 – 242). "وكما أن سبق تراكم رأس المال ضروري لإجراء هذا التحسن الكبير في القدرات الإنتاجية للعمل فإن ذلك التراكم يؤدي بشكل طبيعي إلى هذا التحسن. فالشخص الذي يستخدم رأسماله في صيانة العمل يريد بالضرورة أن يستخدمه بطريقة تنتج أكبر كمية ممكنة من العمل. ومن هنا فإنه يسعى في نفس الوقت إلى أن يقيم بين عماله أكمل توزيع للعمالة وإلى أن يزودهم بأفضل الآلات التي يستطيع أن يبتدعها أو يطيق شراءها. وتتناسب قدراته في هذين الجانبين عمومًا مع مقدار رأسماله، أو عدد العمال الذي يستطيع رأسماله استخدامهم. ومن هنا فأن مقدار الصناعة لا يزيد فحسب في كل بلد مع ازدياد رأس المال الذي يستخدمه، بل أنه نتيجة لهذه الزيادة فأن نفس المقدار من الصناعة ينتج قدرًا أكبر من العمل" (المصدر السابق ص 242) ومن هنا يأتي فائض الإنتاج. "تجميعات أكثر شمولاً للقوى الإنتاجية.. في الصناعة والتجارة بتوحيد قوى طبيعية وبشرية أكثر تعددًا وتنوعًا في المنشآت الكبيرة. وهنا وهناك اتحادات أوثق بين فروع الإنتاج الرئيسية. وهكذا سيحاول كبار الصناعيين أن يتملكوا كذلك ضياعًا كبيرة لكي يستقلوا عن الآخرين على الأقل بالنسبة لجزء من المواد الأولية الأزمة لصناعاتهم، أو يتوجهوا إلى التجارة في ارتباط مع منشآتهم الصناعية لا من أجل بيع مصنوعاتهم فحسب، بل كذلك لشراء أنواع أخرى من المنتجات وبيعها لعمالهم. وفي انجلترا حيث يستخدم مالك مصنع واحد أحيانًا ما بين عشرة آلاف وأثنى عشر ألف عامل.. فليس أمرًا غير شائع أن نجد مثل هذه التجميعات لمختلف فروع الإنتاج التي يسطر عليها ذهن واحد، مثل هذه الدول الصغيرة أو المقاطعات داخل الدولة. وهكذا فإن ملاك المناجم في منطقة برمنجهام قد أستولوا أخيرًا على كل عملية إنتاج الحديد التي كانت من قبل موزعة بين مختلف المنظمين والملاك. أنظر “Der Bergmannische Distrukt bei Birmingham” في “Deutsche Vierteljahrsschrift” "العدد 3 – 1838" ([35]) وأخيرًا ففي المنشآت المساهمة الكبرى التي أصحبت كثيرة العدد نرى تجميعات بعيدة المدى بين الموارد المالية لكثير من المساهمين وبين المعرفة والمهارات العلمية والفنية لآخرين يعهد اليهم بتنفيذ العمل. وهكذا يتمكن الرأسماليون من استخدام مدخراتهم بطرق أكثر تنوعًا، بل من استخدامها في نفس الوقت في الزراعة والصناعة والتجارة، ونتيجة لذلك تصبح مصلحتهم أكثر شمولاً، وتقل تختفي التناقضات بين المصالح الزراعية والصناعية والتجارية. لكن هذه الإمكانية المتزايدة لاستخدام رأس المال بصورة مربحة بأكثر الطرق تنوعًا لا يمكن ألا أن تضاعف التناقض العدائي بين الطبقات المالكة والطبقات غير المالكة" (شولتز – مصدر سابق ص 40 – 41). الأرباح الهائلة التي يحققها ملاك المساكن من البؤس. فإيجار المساكن يتناسب تناسبًا عكسيًا مع البؤس الصناعي (كلما أنخفض مستوى المعيشة ارتفع إيجار المسكن). ونفس الشيء بالنسبة للفائدة التي تجني من رذائل البروليتاريين الذي أصابهم الدمار (البغاء، السكر، القرض بالرهن). فتراكم رؤوس الأموال يزيد والمنافسة بينهما تقل حين يتحد رأس المال وملكية الأرض في نفس اليد، وكذلك حين يتمكن رأس المال بحكم حجمه من الجمع بين مختلف فروع الإنتاج اللامبالاة بالناس. أوراق يانصيب سميث العشرون ([36]) الدخل الصافي والإجمالي عند ساي ***
الريع يرجع أصل حق مالك الأرض إلى السرقة (ساي – المجلد الأول – ص 136 – الهامش). فملاك الأرض – كغيرهم من الناس – يحبون أن يحصدوا حيث لم يبذروا، ويطلبون ريعًا حتى عن الناتج الطبيعي للأرض (سميث – المجلد الأول – ص 44). "وقد يظن البعض أن ريع الأرض ليس في كثير من الأحيان أكثر من ربح معتدل أو فائدة عن الأموال التي استخدمها مالك الأرض في تحسينها. ولا شك أن هذا قد يكون هو الوضع في بعض الحالات.. لكن المالك يطلب: 1- ريعًا حتى عن الأرض غير المحسنة، وتعد الفائدة أو الربح المفترضين عن نفقات التحسين عمومًا إضافة إلى هذا الريع الأصلي. 2- كما أن هذه التحسينات لا تتم دائمًا بأموال مالك الأرض، بل تتم أحيانًا بأموال المستأجر. غير أنه عند تجديد الإيجار فأن مالك الأرض عادة ما يطلب نفس الزيادة في الريع وكأنه هو الذي قام بها. وهو أحيانًا يطلب ريعًا عمًا لا يقبل تحسينًا بشريًا" (نفس المصدر ص 131). ويعطي سميث كمثال على هذه الحالة الأخيرة عشب البحر (Kelp)، وهو نبات بحري يعني حين يحرق ملحًا قلويًا يستخدم في صناعة الزجاج والصابون الخ.. وينمو هذا العشب في أنحاء كثيرة من بريطانيا وبخاصة في اسكوتلندا، وإنما على تلك الصخور التي تقع في حدود مد البحر والتي يغضبها البحر مرتين في اليوم، ومن هنا فأن ناتجها لم يزد أبدًا بفعل الصناعة البشرية. غير أن مالك الأرض الذي يحد ضيعته شاطئ من هذا النوع ينتجد عشب البحر يطلب ريعًا موازيًا لريع حقول قمحه. والبحر المجاور لجزر سيتلاند وفير أكثر من المألوف بالأسماك التي تمثل جانبًا كبيرًا من معيشة سكانها. ولكن الاستفادة من ناتج الماء تتطلب مسكنًا في الأرض المجاورة. ولا يتناسب ريع مالك الأرض مع ما يستطيع المزارع الحصول عليه من الأرض، بل مع ما يستطيع الحصول عليه من الأرض والماء معًا" (نفس المصدر ص 131). "ويمكن أن يعتبر هذا الريع نتاج تلك القوى الطبيعية التي يعير مالك الأرض استخدامها للمزارع. وهو يزيد أو يقل تبعًا للمدى المفترض لهذه القوى، أو بعبارة أخرى تبعًا للخصوبة الطبيعية أو المحسنة للأرض. أنه عمل الطبيعة الذي يبقى بعد استقطاع أو تعويض كل ما يمكن اعتباره من عمل الإنسان" (نفس المصدر ص 324 – 325). "وهكذا فأن ريع الأرض – الذي يعتبر ثمنًا مدفوعًا لاستخدام الأرض – هو بالطبع ثمن احتكاري. وهو لا يتناسب بحال مع ما يمكن أن يكون مالك الأرض قد أنفقه على تحسين الأرض، أو ما يتحمل أن يأخذه دون خسارة، وإنما مع ما يطيق المزارع أن يدفعه" (نفس المصدر ص 131). ومن بين الطبقات الأصلية الثلاث فأن ملاك الأرض هم الذين "لا يكلفهم دخلهم عملاً أو اهتمامًا، وإنما يأتيهم وكأنما من تلقاء نفسه، وبغض النظر عن أية خطة أو مشروع من جانبهم" (نفس المصدر ص 230). لقد عرفنا أن مقدار الريع يتوقف على درجة خصوبة الأرض. وثمة عامل آخر في تحديده هو الموقع. "ولا يختف ريع الأرض باختلاف خصوبتها أيًا كان ناتجها فقط بل يختلف كذلك باختلاف موقعها أيًا كانت خصوبتها" (نفس المصدر ص 133). "وناتج الأرض والمناجم والمصايد حين تتساوي خصوبتها الطبيعية يتناسب مع المدى والاستخدام السليم لرؤوس الأموال فيها. وحين تتساوي رؤوس الأموال وتتكافأ في حسن استخدامها فإنه يتناسب مع خصوبتها الطبيعية) (نفس المصدر ص 249). وعبارات سميث هذه هامة، لأنه مع تساوي نفقات الإنتاج وحجم رأس المال فإنها تنتهي بريع الأرض إلى زيادة أو انخفاض خصوبة الأرض. وبذلك تبين بوضوح انحراف مفاهيم الاقتصاد السياسي التي تحول خصوبة الأرض إلى صفة لمالك الأرض. ولكن لننظر الآن إلى ريع كما يتكون في الحياة الواقعية. يتحدد ريع الأرض نتيجة للصراع بين المستأجر ومالك الأرض. ونجد التناقض العدائي بين المصالح، الصراع، الحرب، معترفًا به في الاقتصاد السياسي كله كأساس للتنظيم الاجتماعي. ولنر الآن ما العلاقات بين مالك الأرض والمستأجر. "يسعى مالك الأرض عند أعداد شروط الإيجار ألا يترك له أكثر من ذلك الجانب من الناتج الذي يكفيه ليحصل على المال الذي يوفر به البذور ويدفع أجر العمل ويشتري الماشية وأدوات الفلاحة الأخرى ويصونها إلى جانب الأرباح العادية التي تدرها المزارع المجاورة. ومن الواضع أن هذا هو أصغر نصيب يمكن للمستأجر أن يقنع به دون أن يخسر. ونادرًا ما يريد مالك الأرض أن يترك له أكثر منه. وأي جزء من الناتج، أو بعبارة أ×رى أي جزء من ثمن الناتج يزيد عن هذا النصيب فإنه يسعى بوضوح لأن يبقيه لنفسه كريع للأرض. وهو بوضوح أكبر ما يمكن للمستأجر أن يدفعه في الظروف الراهنة للأرض.. غير أن هذا الجزء يمكن مع ذلك أن يظل يعتبر الريع الطبيعي للأرض، أو الريع الذي يقصد بشكل طبيعي أن تؤجر غالبية الأرض مقابله" (نفس المصدر ص 130 -131). ويقول ساي "ويمارس ملاك الأرض نوعًا من الاحتكار ضد المستأجرين. فالطلب على سلعتهم – الموقع والأرض – يمكن أن يتسع إلى مالا نهاية، وليست هناك سوى كمية معينة محدودة من سعلتهم.. فالمساومة التي تجري بين مالك الأرض والمستأجر هي دائمًا في صالح الأول لأكبر درجة ممكنة.. وفضلاً عن الميزة التي يحصل عليها من طبيعة الحالة، فإنه يستمد ميزة أخرى من مركزه، ومن ثروته الأكبر، والثقة والوضع الأكبر اللذين يتمتع بهما. لكن الميزة الأولى وحدها تكفي لتمكنه هو، وهو وحده، من الاستفادة من الظروف المواتية للأرض. فشق قناة أو طريق، وزيادة السكان، وازدهار المنطقة، دائمًا ما يؤدي إلى زيادة في الريع.. والحق أن المستأجر نفسه قد يحسن الأرض على نفقته، لكنه لا يجني ربحًا من رأسماله هذا إلا طيلة مدة الإيجار، ومع انتهاء الإيجار يبقى الربح مع مالك الأرض. ومن هنا فأن الأخير هو الذي يحصل على الفائدة منذ ذلك الحين دون أن يكون قد قام بالإنفاق أذ ستحدث الآن مناسبة في الريع" (ساي – المجلد الثاني – ص 142 – 143). "والريع بعبارة الثمن الذي يدفع مقابل استخدام الأرض هو بالطبع أعلى ما يستطيع المستأجر أن يدفع في الظروف الفعلية للأرض "سميث –المجلد الأول – ص 130). "وريع أي مزرعة على سطح الأرض يصل إلى ما يفترض أنه هو الناتج الإجمالي، وهو عمومًا ريع مؤكد مستقل عن التغيرات الطارئة في الحصول" (نفس المصدر ص 153) وهذا الريع "نادرًا ما يقل عن ريع الناتج كله" (نفس المصدر ص 225). وريع الأرض لا يمكن أن يدفع عن كل السلع. فعلى سبيل المثال لا يدفع ريع عن الأحجار في بعض المناطق. "فلا يمكن عادة أن تجلب إلى السوق إلا تلك الأجزاء من الناتج التي يكفي ثمنها العادي لتغطية الأموال التي لا بد أن تستخدم في جلبها إليه من أرباحها العادية. وإذا كان الثمن العادي أكبر من ذلك – فإن الجزء الزائد سيذهب بشكل طبيعي إلى ريع الأرض. وإذا لم يكن أكبر فرغم أن السلعة يمكن أن تجلب إلى السوق فإنها لا تستطيع أن تقدم ريعًا للمالك. أما هل سيكون الثمن أكثر أو لا يكون فهذا أمر يتوقف على الطلب" (نفس المصدر ص 132). ومن هنا فإننا نلاحظ أن الريع يدخل في تركيب ثمن السلع بطريقة مختلفة عن الأجور والأرباح. فالأجور أو الأرباح المرتفعة أو المنخفضة أسباب للأثمان المرتفعة أو المنخفضة. أما الريع المرتفع أو المنخفض فنتيجة لها". والغذاء ينتمي إلى المنتجات التي تدر دائمًا ريعًا عقاريًا. "فإذ يتكاثر الناس بشكل طبيعي – شأنهم شأن سائر الحيوانات – بما يتناسب مع وسائل معيشتهم فأن الأغذية تكون دائمًا – بدرجة أو أخرى – موضعًا للطلب، وهي تستطيع دائمًا أن تشتري أو تطلب كمية أكبر أو أقل من العمل، وهناك دائمًا من هو على استعداد لأن يفعل شيئًَا لكي يحصل عليها. والحق أن كمية العمل التي تستطيع أن تشتريها ليست دائمًا مساوية لما تستطيع أن تعولها إذا ما أديرت بأكثر الطرق اقتصادًا نظرًا للأجور العالية التي تعطي أحيانًا للعمل. لكنها تستطيع دائمًا أن تشتري كمية العمل التي تستطيع أن تعولها وفقًا للمعدل الذي يعيش به هذا النوع من العمل عادة في الجيرة. لكن الأرض – في أي وضع ممكن تقريبًا – تنتج كمية من الطعام أكثر مما يكفي للإبقاء على كل العمل اللازم لجلبه إلى السوق بأكثر الطرق التي يعيش بها هذا العمل سخاء. كما أن الفائض دائمًا أكبر مما يكفي لاستبدال رأس المال الذي استخدم العمل مع أرباحه. وهكذا يبقى دائمًا شيء كريع لمالك الأرض" (نفس المصدر ص 132 – 133). "وهكذا فأن الغذاء بهذه الطريقة ليس فحسب المصدر الأصلي للريع، بل أن كل جزء من ناتج الأرض يوفر ريعًا بعد ذلك يستمد هذا الجزء من قيمته من تحسين قوى العمل في إنتاج الغذاء عن طريق تحسين الأرض وزراعتها" (نفس المصدر ص 150). "ويبدو أن الغذاء الإنساني هو ناتج الأرض الوحيد الذي يوفر دائمًا بالضرورة بعض الريع للأرض" (نفس المصدر ص 147). "ولا يتناسب مكان الدول مع عدد الناس الذين يستطيع ناتجها أن يكسيهم ويسكنهم وإنما يتناسب مع من يستطيع هذا الناتج أن يطعمهم" (نفس المصدر ص 149). "وبعد الطعام يعد الملبس والمسكن أكبر احتياجين للبشرية" (نفس المصدر ص 147) "وهما عادة يعودان بريع، ولكن هذا ليس أمرًا حتميًا". ولنر الآن كيف يستغل مالك الأرض كل مزايا المجتمع. 1- يزيد ريع الأرض مع زيادة السكان (نفس المصدر ص 146). 2- عرفنا من ساي فيما سبق أن ريع الأرض يزيد مع إقامة السكك الحديدية الخ.. ومع تحسن وسائل المواصلات وأمنها وتضاعفها. 3- "وكل تحسن في ظروف المجتمع بشكل مباشر أو غير مباشر إلى زيادة الريع الحقيقي للأرض، إلى زيادة الثروة الحقيقية لمالك الأرض، وقدرته على شراء العمل، أو ناتج عمل الآخرين.. ويتجه توسيع التحسين والزراعة إلى زيادتها بشكل مباشر. فنصيب مالك الأرض من الناتج يزيد بالضرورة مع زيادة الناتج. كذلك فإن الزيادة في الأثمان الحقيقية لتلك الأجزاء من منتجات الأرض الخام.. الزيادة في أثمان الماشية مثلاً، تتجه إلى زيادة ريع الأرض بشكل مباشر وبنسبة أكبر. أن القيمة الحقيقية لنصيب مالك الأرض – أي تحكمه الفعلي في عمل الآخرين – لا تزيد فحسب مع القيمة الحقيقية بل تزيد معها كذلك نسبة نصيبه إلى الناتج كله. فهذا الناتج – بعد الزيادة في ثمنه الحقيقي – لا يتطلب الحصول عليه عملاً أكبر من ذي قبل. ومن هنا فإن نسبة أقل منه ستكون كافية لاستبدال رأس المال الذي يستخدم هذا العمل مع الأرباح العادية. وبالتالي فإن نسبة أكبر منه لا بد أن تؤول إلى مالك الأرض" (نفس المصدر ص 228 – 229). وقد ينشأ تزايد الطلب على الناتج الخام، وبالتالي ارتفاع القيمة جزئيًا عن زيادة السكان وزيادة احتياجاتهم. لكن كل ابتكار جديد، كل استخدام جديد في الصناعة لمادة أولية لم تكون تستخدم من قبل أو لم تكن تستخدم إلا قليلاً تزيد من ريع الأرض. وهكذا كانت هناك مثلاً زيادة هائلة في ريع مناجم الفحم مع ظهور السكك الحديدة والسن البخارية الخ... وإلى جانب هذه الميزة التي يحصل عليها مالك الأرض من الصناعة والاكتشافات والعمل، فأن هناك ميزة أخرى سنراها الآن. 4- "إن هذه التحسينات في القدرات الإنتاجية للعمل التي تتجه مباشرة إلى تخفيض الثمن الحقيقي للمصنوعات تتجه بشكل غير مباشر إلى زيادة الريع الحقيقي للأرض. فمالك الأرض يبادل ذلك الجزء من الناتج الخام الذي يزيد على استهلاكه الشخصي، أو يبادل ثمن هذا الجزء من الناتج – وهو نفس الأمر – بالناتج المصنوع. وكل ما يقلل الثمن الحقيقي لهذا الأخير يزيد الثمن الحقيقي للأول. وهكذا فإن نفس الكمية من الأول تصبح معادلة لكمية أكبر من الأخير، ويصبح في وسع مالك الأرض أن يشتري كمية أكبر من وسائل الرفاهية أو الزينة أو الترف التي تعن له" (نفس المصدر ص 229). لكن من الحماقة أن نستخلص من ذلك – كما فعل سميث – أنه ما دام مالك الأرض يستغل كل ميزة يحققها المجتمع فإن مصلحة مالك الأرض متطابقة دائمًا مع مصلحة المجتمع (نفس المصدر ص 230). ففي الاقتصاد السياسي – في ظل حكم الملكية الخاصة – تتناسب المصلحة التي لفرد ما في المجتمع تناسبًا عكسيًا تمامًا مع مصلحة المجتمع فيه – تمامًا كما لا تتطابق مصلحة المرابي مع مصلحة المبذر بأي حال. ولن نشير إلا عرضًا إلى تسلط فكرة الاحتكار ضد ملكية الأرض في البلاد الأجنبية لدى مالك الأرض الذي نشأت عنه مثلاً قوانين القمح. كما سنصرف النظر هنا عن القنانة في العصور الوسطى، والعبودية في المستعمرات، والظروف البائسة لسكان الريف، عمال المياومة، في بريطانيا. ولنقتصر على قضايا الاقتصاد السياسي ذاته. 1- أن حرص مالك الأرض على رفاهية المجتمع يعني – وفقًا لمبادئ الاقتصاد السياسي – حرصه على نمو سكانه وإنتاجه واتساع احتياجاته – وباختصار زيادة ثروته، والزيادة في الثروة تتطابق – كما رأينا من قبل – مع زيادة الفقر والعبودية. والعلاقة بين زيادة إيجار المساكن وزيادة الفقر مثل لمصلحة مالك الأرض في المجتمع، لأن ريع الأرض – الفائدة المتحققة من الأرض التي يقوم عليها المسكن – يرتفع مع ارتفاع إيجار المسكن. 2- وفقًا لرجال الاقتصاد السياسي أنفسهم فأن مصلحة مالك الأرض هي الضد تمامًا لمصلحة المزارع المستأجر – وبالتالي لمصلحة جزء له شأنه من المجتمع. 3- لما كان مالك الأرض يستطيع أن يطلب مزيدًا من الريع من المزارع المستأجر كلما قل ما يدفعه الزارع من أجور، ولما كان المزارع يخفض الأجور كلما زاد ما يطلبه مالك الأرض من ريع فأنه ينتج من ذلك أن مصلحة مالك الأرض معادية لمصالح عمالهم. وهي تخفض الأجور إلى الحد الأدنى بنفس الطريقة. 4- لما كان التخفيض الحقيقي في ثمن المنتجات المصنوعة يزيد ريع الأرض فإن لمالك الأرض مصلحة مباشرة في تخفيض أجور العمال الصناعيين، وفي المنافسة بين الرأسماليين، وفي الإنتاج الزائد، وفي كل أوجه البؤس المرتبطة بالإنتاج الصناعي. 5- وفي نفس الوقت الذي نجد فيه أن مصلحة مالك الأرض أبعد من أن تتطابق مع مصلحة المجتمع، وإنما هي تقف على الضد تمامًا من مصلحة المزارعين المستأجرين والعمال الزراعيين وعمال المصانع والرأسماليين فأن مصلحة مالك أرض ما – من الناحية الأخرى – ليست متطابقة حتى مع مصلحة مالك أرض آخر بسبب المنافسة التي سنتعرض لها الآن. وبشكل عام فإن العلاقة بين ملكية الأرض الكبيرة والصغيرة شبيهة بالعلاقة بين رأس المال الكبير والصغير. ولكن هناك – فضلاً عن ذلك – ظروفًا خاصة تؤدي حتمًا إلى تراكم ملكية الأرض الكبيرة، وابتلاعها للملكية الصغيرة. (1) فليس من مجال يتناقص فيه العدد النسبي للعمال والمعدات مع الزيادة في حجم رأس المال كما يتناقص في ملكية الأرض. وبالمثل لا تزيد أمكانية الاستغلال الشامل، وتوفير نفقات الإنتاج، والتقسيم الفعال للعمل، مع زيادة حجم رأس المال بقدر ما تزيد في ملكية الأرض فمهما كان الحقل صغيرًا فأن فلاحته تتطلب حدًا أدنى من المعدات لا يمكن الهبوط عنه (محراث، منشار، الخ...) في حين أن حجم جزء من ملكية أرض يمكن أن يقل كثيرًا عن هذا الحد الأدنى. (2) تراكم الملكية العقارية لنفسها الفائدة على رأس المال الذي استخدمه المزارع المستأجر لتحسين الأرض. أما ملكية الأرض الصغيرة فأن عليها أن تستخدم رأسمالها هي، ومن هنا فإنها لا تحصل على هذا الربح على الإطلاق. (3) في حين أن كل تحسين اجتماعي يفيد المزرعة الكبيرة فإنه يضر الملكية الصغيرة لأنه يزيد من احتياجها إلى المال السائل. (4) وما زال علينا أن ندرس قانونين هامين يتعلقان بهذه المنافسة. (أ) إن ريع الأرض المنزرعة التي تنتج الغذاء الإنساني يحدد ربع الجانب الأكبر من الأراضي المنزرعة الأخرى. (نفس المصدر ص 144). وفي نهاية الأمر فإن الضياع الكبيرة وحدها هي التي تستطيع أن تنتج أنواعًا من الطعام مثل الماشية إلخ... ومن هنا فإنها تحدد ريع الأراضي الأخرى، وتستطيع أن تخفضها إلى أدنى حد. ومن هنا فإن مالك الأرض الصغير الذي يعمل لحسابه الخاص يرتبط بمالك الأرض الكبير بنفس العلاقة التي تربط بين الحرفي الذي يمتلك أداته الخاصة وبين مالك المصنع. لقد أصبحت الملكية الصغيرة للأرض مجرد أداة للعمل. وريع الأرض يختفي كلية بالنسبة للمالك الصغير ولا يبقى له على الأكثر إلا فائدة رأسماله وأجوره، لأن المنافسة يمكن أن تهبط بريع الأرض حتى لا يزيد عن فائدة رأس المال الذي يستثمره المالك. (ب) وفضلاً عن ذلك عرفنا أنه مع تساوي الخصوبة والاستغلال الكفء للأرض والمناجم والمصائد فإن الناتج يتناسب مع حجم رأس المال. ومن هنا يأتي انتصار مالك الأرض الكبير. وبالمثل فحينما تستخدم رؤوس أموال متساوية يتناسب الناتج مع الخصوبة. ومن هنا فحيث تتساوى رؤوس الأموال يكون النصر من نصيب الأرض الأكثر خصوبة. (جـ) "ويمكن أن يقال عن منجم من أي نوع أنه خصب أو مجدب وفقًا لما إذا كانت كمية المعدن التي يمكن الحصول عليها منه بكمية معينة من العمل أكبر أو أقل مما يمكن الحصول عليه بنفس كمية العمل من الجزء الأكبر من المناجم من نفس النوع". (نفس المصدر ص 151). "وأكثر مناجم الفحم خصوبة يحدد – أيضًا – ثمن الفحم في كل المناجم الأخرى في الجيزة. فكل من المالك والقائم بالعمل يجدان أنهما يستطيعان أن يحققا ريعًا أكبر بالنسبة للأول، وربحًا أكبر بالنسبة للثاني، بالبيع بثمن أقل إلى حد ما من كل جيرانهما. وسرعان ما يجبر الجيران على البيع بنفس السعر رغم أنهم أقل قدرة على ذلك، ورغم أن هذا الثمن يتناقض باستمرار، وأحيانًا ما يلغي كل ريعهم وربحهم. وهكذا يرك العمل في بعض المناجم كلية، في حين لا يعود في وسع البعض الآخر أن يقدم ريعًا، ولا يعود من الممكن أن يعمل به سوى مالكه" (نفس المصدر ص 152) "وبعد اكتشاف مناجم بيرو هجر الجانب الأكبر من مناجم الفضة في أوروبا... وحدث نفس الأمر بالنسبة لمناجم كوبا وسان دومينجو، بل حتى لمناجم بيرو القديمة بعد اكتشاف مناجم بوتوسي". (نفس المصدر ص 154). وما يقوله سميث هنا عن المناجم ينطبق بدرجة أو أخرى على ملكية الأرض عمومًا. (د) "وينبغي أن نلاحظ أن سعر السوق العادي بالنسبة للأرض يتوقف في كل مكان على معدل الفائدة العادي في السوق... فلو أن ريع الأرض انخفض – إلى حد أكبر - عن فائدة النقود فإن أحدًا لن يشتري الأرض، الأمر الذي سيهبط سريعًا بسعرها العادي. وعلى العكس إذا كانت المزايا أكثر كثيرًا من مجرد تعويض الفارق فإن كل امرئ سيشتري أرضًا، الأمر الذي سيزيد ثانية سعرها العادي" (نفس المصدر ص 320). وينتج عن هذه العلاقة بين ريع الأرض وبين فائدة النقود أن الريع لا بد أن يهبط أكثر فأكثر بحيث لا يعود قادرًا في النهاية على أن يعيش على الريع إلا أغنى الناس. ومن هنا تأتي المنافسة المتزايدة على الدوام بين ملاك الأرض الذين لا يؤجرون أرضهم لمستأجرين. خراب بعضهم. ومزيد من تراكم ملكية الأرض الكبيرة. ولهذه المنافسة نتيجة أخرى هي جانبًا كبيرًا من ملكية الأرض يسقط في أيدي الرأسماليين، وأن الرأسماليين يصبحون في نفس الوقت ملاك أرض، تمامًا كما أن ملاك الأرض الأصغر لم يعودوا في مجموعهم بالفعل سوى رأسماليين. وبالمثل فإن قسمًا من كبار ملاك الأرض يصبحون في نفس الوقت صناعيين. وهكذا فإن النتيجة النهائية هي إلغاء التمايز بين الرأسمالي ومالك الأرض، بحيث لا تبقى هناك إجمالاً إلا طبقتان من السكان – الطبقة العاملة وطبقة الرأسماليين. إن هذا الإتجار بملكية الأرض، تحويل ملكية الأرض إلى سلعة، يشكل التطويح النهائي بالقديم، والاكتمال الأخير للأريستقراطية المالية. 1- ولن نشترك في الدموع العاطفية التي تذرفها الرومانسية لهذا السبب. فالرومانسية تخلط دائمًا بين عار الإتجار بالأرض وبين النتيجة العقلانية تمامًا والحتمية والمرغوب فيها في إطار مملكة الملكية الخاصة، وهي الإتجار بالملكية الخاصة في الأرض. وفي المقام الأول فإن الملكية الإقطاعية للأرض هي بالفعل وبحكم طبيعتها ذاتها أرض اتجر بها – الأرض التي اغتربت عن الإنسان ومن ثم تواجهه في شكل عدد من السادة العظام. فسيطرة الأرض كقوة غريبة على الناس كامنة بالفعل في الملكية الإقطاعية للأرض. فالقن ملحق بالأرض، وبالمثل فإن سيد الضيعة الموروثة – الابن الأكبر – ينتمي للأرض. إنها ترثه. والحق أن سيادة الملكية الخاصة تبدأ بملكية الأرض – فهذا هو أساسها. ولكن السيد في ظل ملكية الأرض الإقطاعية يبدو على الأقل مليكًا للضيعة. وبالمثل لا يزال يبدو مظهر علاقة بين المالك وبين الأرض أوثق من مجرد الثروة المادية. فالضيعة تتكيف مع فردية سيدها: إن لها درجته، فهي بارونية أو دوقية معه، ولها امتيازاته، وولايته ومركزه السياسي إلخ... وهي تبدو جسدًا غير عضوي لسيدها. ومن هنا جاء المثل القائل “nulle terre sans maitre” ([37]) الذي يعبر عن الانصهار بين النبالة وبين ملكية الأرض. وبالمثل لا يبدو حكم ملكية الأرض بشكل مباشر كمجرد حكم لرأس المال. فالضيعة بالنسبة لمن ينتمون إليها أقرب إلى أن تكون وطنًا. إنها نوع ضيق من القومية. وبنفس الطريقة تعطي ملكية الأرض الإقطاعية اسمها لسيدها، كما تعطي المملكة اسمها لمليكها. فتاريخ أسرته، تاريخ عائلته إلخ... – كل هذا يكيف فردية الضيعة بالنسبة له، ويجعلها عائلته بالمعنى الحرفي ويشخصها. وبالمثل فإن أولئك الذين يعملون في الضيعة ليس لهم وضع عمال المياومة، لكنهم أنفسهم مملوكون له جزئيًا، كالأقنان. وهم يرتبطون به جزئيًا بروابط الاحترام والولاء والواجب. ومن هنا فإن علاقته بهم علاقة سياسية مباشرة، كما أن لها بالمثل جانبًا إنسانيًا حميمًا، فالعادات والطبيعة إلخ... تتغير من ضيعة إلى أخرى، وتبدو متطابقة مع الأرض التي ينتمون إليها. غير أنه فيما بعد يرتبط الإنسان بالأرض – لا بطبيعته أو فرديته – وإنما فحسب بخيوط كيس نقوده. وأخيرًا لا يحاول السيد الإقطاعي أن يستخلص أقصى ميزة من أرضه، بل هو بالأحرى يستهلك ما فيها، وفي هدوء يترك هم الإنتاج للأقنان والمستأجرين. تلك هي علاقة النبلاء بملكية الأرض، التي تضفي هالة رومانسية على سادتها. ومن الضروري أن يلغي هذا المظهر – وأن تجر ملكية الأرض – جذر الملكية الخاصة – كلية إلى حركة الملكية الخاصة، وأن تصبح سلعة، وأن يبدو حكم المالك حكمًا غير مقنع للملكية الخاصة، لرأس المال، المتحرر من كل صبغة سياسية، وأن تنتهي العلاقة بين المالك والعامل إلى العلاقة الاقتصادية بين المستغل والمستغل، وأن تكف كل علاقة شخصية بين المالك وملكيته، وتصبح الملكية مجرد ثروة مادية موضوعية، وأن يحل زواج المصلحة محل زواج الشرف بالأرض، وأن تهبط الأرض بالمثل إلى وضع القيمة التجارية مثلها مثل الإنسان. من الضروري أن يظهر جذر ملكية الأرض – المصلحة الذاتية الدنيئة – أيضًا في شكله الصارخ. من الضروري أن يتحول الاحتكار العقاري إلى الاحتكار المنقول غير المستقر، إلى المنافسة، وأن يتحول الاستمتاع الكسول بمنتجات دم الآخرين وكدحهم إلى تجارة نشطة في نفس السلعة. وأخيرًا من الضروري – في هذه المنافسة – أن تبدي ملكية الأرض – في شكل رأس المال – سيطرتها على كل من الطبقة العاملة والملاك أنفسهم الذين أما أن يصيبهم الخراب أو يرتفعوا بفعل القوانين التي تحكم حركة رأس المال. وهكذا حل محل مثل العصور الوسطى" “null terre Sans maitre” ، ([38]) مثل آخر هو “l’argent n’a pas de maitre” ([39])، الذي يعبر عن السيطرة الكاملة للمادية الميتة على الناس. 2- وفيما يتعلق بالجدال حول تقسيم أو عدم تقسيم ملكية الأرض ينبغي مراعاة ما يلي: إن تقسيم ملكية الأرض ينفي الاحتكار الكبير لملكية الأرض – يلغيه، وإنما بتعميم هذا الاحتكار، إنه لا يلغي مصدر الاحتكار، الملكية الخاصة، إنه يهاجم الشكل القائم للاحتكار لا جوهره. والنتيجة هي أنه يقع ضحية لقوانين الملكية الخاصة. لأن تقسيم ملكية الأرض يتفق مع حركة المنافسة في مجال الصناعة. وفضلاً عن المساوئ الاقتصادية لمثل هذا التقسيم لأدوات العمل وللعمل المنفصل (وهو ما يجب أن نميزه تمامًا عن تقسيم العمل. ففي العمل المنفصل لا يتقاسم الكثيرون العمل وإنما يقوم كل واحد بنفس العمل. إنه مضاعفة لنفس العمل)، فإن هذا التقسيم للأرض – مثل المنافسة في الصناعة – يتحول بالضرورة ثانية إلى تراكم. وهكذا فحيث يحدث تقسيم الأرض لا يبقى أمامه إلا أن يعود احتكارًا في شكل أكثر خبثًا، أو ينفي، يلغي، تقسيم الأرض ذاته. بيد أن ذلك لا يعني العودة إلى الملكية الإقطاعية، بل إلغاء الملكية الخاصة للأرض كلية. فأول إلغاء للاحتكار هو دائمًا تعميمه، توسيع وجوده. وإلغاء الاحتكار بعد أن يوجد في أعرض وأوسع أشكاله هو القضاء عليه كلية. وللمشاركة (Association) إذا ما طبقت على الأرض الميزة الاقتصادية لملكية الأرض الكبيرة، وهي أول ما يحقق الاتجاه الأصلي الكامن في تقسيم الأرض... المساواة. وبنفس الطريقة فإن المشاركة تعيد من جديد – وإنما على أساس عقلاني الآن لم تعد تمليه القنانة والتحكم وصوفية الملكية الحمقاء – الروابط الحتمية بين الإنسان والأرض، لأن الأرض تكف عن أن تكون موضعًا للإتجار، وتصبح من جديد عن طريق العمل الحر والاستمتاع الحر ملكية شخصية حقًا للإنسان. ومن المزايا الكبيرة لتقسيم ملكية الأرض أن جماهيرها – التي لم تعد تستطيع أن تقبل العبودية – تهلك عن طريق الملكية بطريقة تختلف عنها في الصناعة. أما ملكية الأرض الكبيرة فإن المدافعين عنها قد طابقوا دائمًا – بطريقة سوفسطائية – بين المزايا التي توفرها الزراعة الكبيرة وبين ملكية الأرض الكبيرة، وكأنما لم يكن إلغاء الملكية هو بالتحديد السبب في أن هذه الميزة تلقت – من ناحية – أقصى اتساع لها، ومن ناحية أخرى إنها لن تكون ذات فائدة اجتماعية إلا عندئذ. وبنفس الطريقة فقد هاجموا روح الإتجار لدى ملكية الأرض الصغيرة، وكإنما ملكية الأرض الكبيرة لا تحوي إتجارًا كامنًا فيها حتى في شكلها الإقطاعي – إذا لم نتحدث عن الشكل الإنجليزي الحديث الذي يجمع بين إقطاعية مالك الأرض وإتجار المزارع المستأجر وصناعته. وكما تستطيع ملكية الأرض الكبيرة أن تأخذ على تقسيم الأرض نفس مأخذ الاحتكار الذي يأخذه تقسيم الأرض عليها، لأن تقسيم الأرض يستند إلى احتكار الملكية الخاصة، فإن في وسع تقسيم الأرض بالمثل أن يأخذ على ملكية الأرض الكبيرة مأخذ التقسيم، لأن التقسيم يسودها أيضًا، وإن يكن في شكل جامد متبلور. والحق أن الملكية الخاصة تستند كلية إلى التقسيم. وفضلاً عن ذلك فكما يؤدي تقسيم الأرض ثانية إلى ملكية الأرض الكبيرة كشكل للثروة الرأسمالية، فإن ملكية الأرض الإقطاعية لا بد أن تؤدي بالضرورة إلى التقسيم، أو على الأقل تسقط في أيدي الرأسماليين، مهما لفت ودارت. ذلك أن ملكية الأرض الكبيرة – كما في إنجلترا – تدفع الأغلبية الساحقة من السكان إلى أحضان الصناعة، وتنتهي بعمالها إلى التعاسة الكاملة. وهكذا فإنها تولد وتوسع قوة عدوها، رأس المال، الصناعة، بإلقاء الفقراء، ووجه بأكمله من نشاط البلاد، إلى الجانب الآخر. إنها تجعل غالبية الناس في البلاد صناعيين، وبالتالي خصومًا لملكية الأرض الكبيرة. وحينما حققت الصناعة قوة كبيرة – كما في إنجلترا في الوقت الحالي – فإنها تجبر ملكية الأرض الكبيرة بالتدريج على أن تتخلى عن احتكاراتها ضد الدول الأجنبية، وتلقي بها إلى المنافسة في ملكية الأرض في الخارج. لأنه تحت ضغط الصناعة لا تستطيع ملكية الأرض أن تبقي على جلالها الإقطاعي إلا عن طريق الاحتكارات ضد البلاد الأجنبية، وبذلك تحمي نفسها من القوانين العامة للتجارة التي لا تتفق مع طبيعتها الإقطاعية. وما أن يلقي بملكية الأرض إلى المنافسة، حتى تخضع لقوانين المنافسة، كأي سلعة أخرى خاضعة للمنافسة. وهكذا تبدأ في التذبذب، في الانخفاض والارتفاع، وتطير من يد إلى أخرى، ولم يعد ثمة قانون يستطيع أن يبقيها في بضع أياد مقدرة من قبل. والنتيجة المباشرة هي تمزيق الأرض بين كثير من الأيدي. وعلى أي الأحوال الخضوع لسلطة رؤوس الأموال الصناعية. وأخيرًا فإن ملكية الأرض الكبيرة – التي أبقيت بالقوة بهذه الطريقة، والتي ولدت إلى جانبها صناعة هائلة، تقود إلى الأزمة بسرعة أكبر مما يقود إليها تقسيم الأرض الذي تبقى الصناعة إلى جانبه دائمًا في المرتبة الثانية. إن ملكية الأرض الكبيرة – كما نرى في إنجلترا – قد ألقت عنها بالفعل طابعها الإقطاعي، واتخذت طابعًا صناعيًا بقدر ما تستهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من النقود. فهي تقدم للمالك أقصى ريع ممكن، وللمزارع المستأجر أقصى ريع لرأسماله. وبالتالي فإن العمال في الأرض قد هبطوا إلى الحد الأدنى، وتمثل طبقة المزارعين المستأجرين بالفعل داخل ملكية الأرض قوة الصناعة ورأس المال. ونتيجة للمنافسة الأجنبية. لم يعد ريع الأرض في أغلب الأحوال قادرًا على أن يشكل دخلاً مستقلاً. ويصبح على عدد كبير من ملاك الأرض أن يزيحوا المزارعين الذين يهبط بعضهم بهذه الطريقة إلى صفوف البروليتاريا. ومن الناحية الأخرى سيستولى كثير من المزارعين على ملكية الأرض لأن كبار الملاك الذين انغمسوا في التبذير – نتيجة دخولهم المريحة – هم في أغلبهم غير أكفاء لممارسة الزراعة الكبيرة، وفي بعض الحالات لا يمتلكون رأس المال ولا المقدرة على استغلال الأرض. ومن هنا فإن قسمًا من هذه الطبقة أيضًا يدمر تمامًا. وفي النهاية فإن الأجور – التي خفضت بالفعل إلى الحد الأدنى – لا بد أن تخفض من جديد، لمواجهة المنافسة الجديدة، وهذا يؤدي بالضرورة عندئذ إلى الثورة. وكان على ملكية الأرض أن تتطور في كل من هذين الطريقين حتى تمارس في كليهما انهيارها الضروري، تمامًا كما أن على الصناعة – سواء في شكل الاحتكار أو شكل المنافسة – أن تدمر ذاتها حتى تتعلم الإيمان بالإنسان.
العمل المغترب لقد انطلقنا من مقدمات الاقتصاد السياسي، وتقبلنا لغته وقوانينه، وافترضنا الملكية الخاصة، والانفصال بين العمل ورأس المال والأرض، وبين الأجور وربح رأس المال وريع الأرض – كما افترضنا تقسيم العمل والمنافسة ومفهوم القيمة التبادلية إلخ...، وعلى أساس الاقتصاد السياسي، وبعباراته ذاتها، أوضحنا أن العامل يهبط إلى مستوى السلعة، وأنه يصبح في الحقيقة أتعس أنواع السلع، وأن تعاسته تتناسب تناسبًا عكسيًا مع قوة وحجم إنتاجه، وأن النتيجة الضرورية للمنافسة هي تراكم رأس المال في بضعة أيد، وبالتالي عودة الاحتكار في شكل أبشع، وأخيرًا أن التمييز بين الرأسمالي وصاحب ريع الأرض، تمامًا كالتمييز بين فالح الأرض وعامل المصنع، يختفي، وينقسم المجتمع كله إلى طبقتين: الملاك والعمال الذين لا يملكون شيئًا. والاقتصاد السياسي ينطلق من حقيقة الملكية الخاصة، لكنه لا يفسرها. وهو يعبر في صيغ عامة مجردة عن العملية المادية التي تمر بها الملكية الخاصة بالفعل، ثم يأخذ هذه الصيغ كقوانين. وهو لا يدرك هذه القوانين – أي لا يوضح كيف نشأت من طبيعة الملكية الخاصة ذاتها. والاقتصاد السياسي لا يوضح مصدر التقسيم بين العمل ورأس المال، وبين رأس المال والأرض، وهو حين يحدد مثلاً العلاقة بين الأجور والربح يجعل من مصالح الرأسماليين سببًا نهائيًا، أي أنه يأخذ كأمر مسلم ما هو مفروض أن يوضحه. وبالمثل تظهر المنافسة في كل مكان، وهي تفسر بالظروف الخارجية، أما كيف أن هذه الظروف الخارجية التي تبدو – في الظاهر – عارضة (Furtuitous) ليست سوى التعبير عن المسار الضروري للتطور فإن الاقتصاد السياسي لا يعرفنا بشيء من ذلك. وقد رأينا كيف أن التبادل ذاته يبدو له حقيقة عارضة. والعجلات الوحيدة التي يحركها الاقتصاد السياسي هي التعطش للثروة والحرب بين الأطماع – المنافسة. وبالتحديد لأن الاقتصاد السياسي لا يدرك العلاقات داخل الحركة فقد استطاع أن يقابل مثلاً بين مبدأ المنافسة ومبدأ الاحتكار، بين مبدأ الحرية الحرفية ومبدأ النقابة الحرفية، بين مبدأ تقسيم ملكية الأرض ومبدأ الضياع الكبيرة – لأنه لم يفسر المنافسة والحرية الحرفية وتقسيم ملكية الأرض ولم يدركها إلا كنتائج عارضة عمدية عنيفة للاحتكار والنقابة الحرفية والملكية الإقطاعية وليس كنتائجها الضرورية الحتمية الطبيعية. ومن هنا فإن علينا الآن أن ندرك العلاقة الجوهرية بين الملكية الخاصة، التعطش إلى الثروة، والانفصال بين العمل ورأس المال وملكية الأرض، وبين التبادل والمنافسة، والقيمة وهبوط قيمة البشر، والاحتكار والمنافسة إلخ.. والعلاقة بين كل هذا الاغتراب وبين النظام النقدي. ولنحاول ألا نعود إلى ظرف أصلي خيالي كما يفعل رجل الاقتصاد السياسي حين يحاول أن يفسر. فمثل هذا الظرف الأصلي لا يفسر شيئًا. وإنما هو فحسب يدفع بالمسألة بعيدًا إلى مسافة سديمية معتمة. أنه يفترض – في شكل حقيقة أو حدث – ما هو مفروض أن يستخلصه – وهو العلاقة الضرورية بين شيئين – بين تقسيم العمل والتبادل مثلاً. وبنفس الطريقة يشرح اللاهوت مصدر الشر بسقوط الإنسان، أي أنه يفترض كحقيقة – في شكل تاريخي – ما عليه أن يشرحه. إننا ننطلق من حقيقة اقتصادية فعلية. إن العامل يزداد فقرًا كلما زادت الثروة التي ينتجها، وكلما زاد إنتاجه قوة ودرجة، والعامل يصبح سلعة أكثر رخصًا كلما زاد عدد السلع التي يخلقها، فمع القيمة المتزايدة لعالم الأشياء ينطلق في تناسب عكسي انخفاض قيمة عالم البشر. والعمل لا ينتج سلعًا فحسب، وإنما هو ينتج ذاته وينتج العامل كسلعة – وهو يفعل ذلك بنفس النسبة التي ينتج بها السلع عمومًا. ولا تعبر هذه الحقيقة إلا عن أن الشيء الذي ينتجه العمل – ناتج العمل – يواجهه كشيء غريب، كقوة مستقلة عن المنتج. فناتج العمل هو عمل تجمد في موضوع، أصبح ماديًا، إنه تموضع (Objectification) العمل، فتحقق العمل هو تموضعه، وفي الظروف التي يعالجها الاقتصاد السياسي يبدو هذا التحقق للعمل فقدانًا للواقع بالنسبة للعمال، ويبدو التموضع فقدانًا للموضوع، وعبودية للموضوع، والتملك تغربًا، انسلابًا (Alienation). ويبدو تحقق العمل فقدانًا للواقع حتى أن العامل ليفقد الواقع إلى حد الموت جوعًا، ويبدو التموضع فقدانًا للموضوع حتى أن العامل ليسلب الموضوعات الأشد ضرورة لا لحياته فحسب، بل لعمله كذلك. والحق أن العمل ذاته يصبح شيئًا لا يمكن أن يحصل عليه إلا بأكبر جهد وأشد الانقطاعات بعدًا عن الانتظام. ويبدو تملك الموضوع اغترابًا إلى حد أنه كلما زاد عدد الموضوعات التي ينتجها العامل قل ما يستطيع أن يتملكه، وزاد وقوعه تحت سيطرة ناتجه... رأس المال. وكل هذه النتائج يحويها التعريف القائل أن العامل يرتبط بناتج عمله كما يرتبط بموضع غريب، لأنه من الواضح بحكم هذه المقدمة أنه كلما أنفق العامل نفسه زادت قوة العالم الموضوعي الغريب الذي يخلقه أمام نفسه وأصبح هو – عالمه الداخلي – أكثر فقرًا، وقل ما ينتمي إليه كشيء مملوك له. ونفس الشيء في الدين.. فكلما زاد ما يضعه الإنسان في الله قل ما يحتفظ به في نفسه. إن العامل يضع حياته في الموضوع، لكن حياته الآن لم تعد تنتمي له وإنما للموضوع. ومن هنا فكلما زاد نشاط العامل، زاد افتقاره إلى الموضوعات. وأيًا كان ناتج عمله، فإنه هو لا يوجد. ومن هنا فكلما زاد هذا الإنتاج أصبح هو ذاته أقل. ولا يعني اغتراب العامل في ناتجه أن عمله قد أصبح موضوعًا – وجودًا خارجيًا – فحسب، وإنما يعني أنه يوجد خارجه، مستقلاً عنه، كشيء غريب عنه، وأنه يصبح قوة في ذاته تواجهه، إنه يعني أن الحياة التي منحها للموضوع تواجهه كأمر معاد غريب. ولننظر الآن بدقة أكبر إلى التموضع، إلى إنتاج العامل، ومن هنا إلى الاغتراب، إلى فقدان الموضوع، فقدان ناتجه. إن العامل لا يستطيع أن يخلق شيئًا دون الطبيعة، دون العالم الخارجي المحسوس، إنها المادة التي يتحقق فيها عمله، التي يمارس فيها عمله، التي ينتج منها وبواسطتها. ولكن كما تزود الطبيعة العمل بوسيلة الحياة بمعنى أن العمل لا يستطيع أن يعيش دون موضوعات يعمل عليها، فإنها من الناحية الأخرى توفر وسيلة الحياة – بالمعنى الضيق للكلمة، أي وسيلة الوجود الجسدي للعامل ذاته. وهكذا فكلما زاد تملك العامل للعالم الخارجي – الطبيعة المحسوسة – بعمله، زاد حرمانه لنفسه من وسيلة الحياة بالمعنى المزدوج: أولاً أن العالم الخارجي المحسوس يكف أكثر فأكثر عن أن يكون موضوعًا ينتمي إلى عمله – عن أن يكون وسيلة حياة عمله، وثانيًا أن يكف أكثر فأكثر عن أن يكون وسيلة الحياة بالمعنى المباشر، وسيلة الوجود الجسدي للعامل. وهكذا ففي هذا المجال المزدوج يصبح العامل عبدًا لموضوعه، أولاً في أنه يتلقى موضوعًا للعمل، أي أنه يتلقى عملاً، وثانيًا في أنه يتلقى وسائل المعيشة. ومن هنا فإنه يمكنه من أن يوجد أولاً كعامل وثانيًا كذات جسدية، والصورة القصوى لهذه العبودية هي أنه لا يستمر في الإبقاء على نفسه كذات جسدية إلا باعتباره عاملاً، وأنه ليس عاملاً إلا كذات جسدية. (وتعبر قوانين الاقتصاد السياسي عن اغتراب العامل في موضوعه بالطريقة التالية: كلما زاد ما ينتجه العامل قل ما يستهلكه، وكلما زادت القيم التي ينتجها أصبح هو أكثر تفاهة وقلة شأن. وكلما تحسن شكل ناتجه زاد العامل تشوهًا، وكلما زادت مدنية موضوعه أصبح العامل أكثر وحشية وكلما زادت قدرة العمل أصبح العامل أكثر عجزًا، وكلما زاد إبداع العمل أصبح العامل أكثر غباء، وازدادت عبوديته للطبيعة). ويخفي الاقتصاد السياسي الاغتراب الكامن في طبيعة العمل بعدم دراسته للعلاقة المباشرة بين العامل (العمل) وبين الإنتاج. صحيح أن العمل ينتج للأغنياء أشياء رائعة – لكنه ينتج للعامل الحرمان. أنه ينتج القصور – وللعامل الأكواخ، ينتج الجمال – وللعامل التشوه. يحل الآلات محل العمل – لكنه يلقي ببعض العمال إلى طراز بربري من العمل ويحول البعض الآخر إلى آلات، أنه ينتج الذكاء – وللعامل البلاهة والحماقة. إن العلاقة المباشرة بين العمل وما ينتجه هي العلاقة بين العامل والموضوعات التي ينتجها، أما علاقة الثري بموضوعات الإنتاج بالإنتاج ذاته فليست سوى نتيجة لهذه العلاقة الأولى – وهي نتيجة تؤكدها. وسندرس هذا الجانب الآخر فيما بعد. فحين نسأل إذن – ما العلاقة الأساسية للعمل فإنما نحن نسأل عن علاقة العامل بالإنتاج. وحتى الآن كنا ندرس اغتراب، انسلاب، العامل في أحد جوانبه فقط أي علاقة العامل بمنتجات عمله، لكن الاغتراب لا يبدو فحسب في نتيجة الإنتاج بل في فعل الإنتاج – داخل النشاط الإنتاجي ذاته. فكيف يمكن للعامل أن يواجه ناتج نشاطه كشخص غريب لو لم يكن في عملية الإنتاج ذاتها يغترب بذاته عن ذاته؟ فليس الناتج في نهاية الأمر إلا خلاصة النشاط الإنتاجي، فإذا كان ناتج العمل هو الانسلاب فلا بد أن يكون الإنتاج نفسه انسلابًا نشطًا، انسلاب النشاط، نشاط الانسلاب، ففي اغتراب موضوع العمل إنما يتلخص الاغتراب، الانسلاب، في نشاط العمل ذاته. فماذا إذن يشكل اغتراب العمل؟ أولاً، حقيقة أن العمل خارجي عن العامل، أي أنه لا ينتمي إلى وجوده الأساسي، وأنه بالتالي لا يؤكد ذاته في العمل وإنما ينكرها، لا يشعر بالارتياح، بل بالتعاسة، لا ينمي بحرية طاقته البدنية والذهنية وإنما يقتل جسده ويدمر ذهنه. ومن هنا فإن العامل إنما يشعر بنفسه خارج العمل، وهو في العمل يشعر بأنه خارج نفسه، إنه في مكانه حين لا يعمل، وحين يمل فإنه ليس في مكانه. ومن هنا فإن عمله ليس اختيارًا، وإنما هو قسر، إنه عمل إجباري، وهكذا فهو ليس إشباعًا لحاجة، وإنما هون مجرد وسيلة لإشباع حاجات خارجية، وتبرز طبيعته الغربية بوضوح في حقيقة أنه طالما لا يوجد إجبار مادي أو غير مادي فإن العمل يتجنب كأنه الطاعون. إن العمل الخارجي، العمل الذي ينسلب فيه الإنسان عن ذاته – هو عمل من التضحية بالنفس، من قتل النفس. وأخيرًا يبدو الطابع الخارجي للعمل بالنسبة للعامل في حقيقة أنه ليس له، وإنما هو لآخر، أنه لا ينتمي له، أنه خلاله لا ينتمي لنفسه وإنما لآخر، وكما نجد في الدين أن النشاط التلقائي للخيال البشري، وللذهن البشري، والقلب البشري، يعمل بشكل مستقل عن الفرد – كذلك فإن نشاط العامل ليس هو نشاطه التلقائي، إنه ينتمي لآخر، إنه فقدان ذاته. وكنتيجة لذلك فإن الإنسان (العامل) لا يعود يشعر بنفسه يتصرف بحرية إلا في وظائفه الحيوانية – الأكل والشرب والتكاثر وعلى أكثر تقدير في مسكنه وملبسه إلخ... أما في وظائفه الإنسانية فإنه لا يعود يشعر إلا بأنه حيوان، فما هو حيواني يصبح إنسانيًا، وما هو إنساني يصبح حيوانيًا. وصحيح أن الأكل والشرب والتكاثر إلخ. هي كذلك وظائف إنسانية حقة، ولكنها في التجريد الذي يفصلها عن مجال كل نشاط إنساني آخر ويحولها إلى أهداف وحيدة ونهائية، تكون حيوانية. ولقد درسنا الآن عملية اغتراب النشاط الإنساني العملي – العمل – في جانبين. (1) العلاقة بين العامل وناتج العمل كموضوع غريب يمارس قوته عليه، وهذه العلاقة هي في نفس الوقت العلاقة بالعالم الخارجي، بموضوعات الطبيعة كعالم غريب يعارضه معارضة عدائية. (2) علاقة العمل بفعل الإنتاج داخل عملية العمل. وهذه العلاقة هي علاقة العامل بنشاطه هو كنشاط غريب لا ينمي إليه، إنها النشاط كمعاناة، والقوة كضعف، والإنجاب كعقم، إنها وجود العامل المادي ذاته، وطاقته الذهنية – أو حياته الشخصية، وإلا فما الحياة إن لم تكن النشاط؟ - يتحول ضده، ولا يعتمد عليه أو ينتمي إليه. وهنا نجد اغتراب الذات، كما رأينا من قبل اغتراب الشيء. بيد أن أمامنا جانبًا ثالثًا للعمل المغترب نستخلصه من الجانبين السابقين. فالإنسان كائن نوعي (Species being)، ولا يرجع هذا فحسب إلى أنه يتخذ النوع – في الممارسة وفي النظرية – موضوعًا له (نوعه فضلاً عن نوع الأشياء الأخرى) وإنما هو يرجع كذلك – وليس هذا سوى أسلوب آخر للتعبير – إلى أنه يعامل نفسه باعتباره النوع الحي الفعلي، يعامل نفسه ككائن كل وبالتالي حر. وحياة النوع – سواء عند الإنسان أو عند الحيوان – تتألف ماديًا من حقيقة أن الإنسان (كالحيوان) يعيش على الطبيعة غير العضوية، وكلما ازدادت كلية الإنسان بالمقارنة بالحيوانات ازدادت كلية مجال الطبيعة غير العضوية التي يعيش عليها. وتمامًا كما تشكل النباتات والحيوانات والأحجار والهواء والضوء إلخ.. جزءًا من الوعي الإنساني في مملكة النظرية، جزئيًا كموضوعات للعلم الطبيعي وجزئيًا كموضوعات للفن – طبيعته الروحية غير العضوية، غذاءه الروحي الذي ينبغي عليه أولاً أن يعده كي يكون سائغًا وقابلاً للهضم – فإنها تشكل كذلك في مملكة الممارسة جزءًا من الحياة الإنسانية والنشاط الإنساني. ومن الناحية البدنية لا يعيش الإنسان إلا على منتجات الطبيعة هذه – سوا ظهرت في شكل طعام أو دفء أو ملابس أو مسكن أو أي شيء آخر. وكلية الإنسان تظهر في الممارسة بالتحديد في الكلية التي تجعل من الطبيعة بأسرها جسمه غير العضوي – سواء من حيث أن الطبيعة هي (1) وسيلته المباشرة للعيش و(2) مادة وموضوع وأداة نشاط حياته. فالطبيعة هي جسم الإنسان غير العضوي – ونحن نشير هنا إلى الطبيعة من حيث أنها ليست هي الجسم الإنساني. فكون الإنسان يعيش على الطبيعة – يعني أن الطبيعة هي جسده الذي ينبغي أن يظل البدنية والروحية ترتبط بالطبيعة يعني أن الطبيعة ترتبط بذاتها، لأن الإنسان جزء من الطبيعة. والعمل المغترب، حين يغترب بالإنسان عن (1) الطبيعة و(2) عن ذاته، عن وظائفه النشطة، عن نشاطه حياته إنما يغترب بالنوع عن الإنسان. إنه يحول حياة النوع بالنسبة له إلى وسيلة لحياة الفرد. وهو أولاً يغترب بحياة النوع عن حياة الفرد وثانيًا يجعل حياة الفرد في شكلها المجرد هدف حياة النوع – وبالمثل في شكلها المجرد والمغترب. وذلك في المقام الأول لأن العمل – نشاط الحياة، الحياة الإنتاجية ذاتها – يبدو للإنسان مجرد وسيلة لإشباع حاجة – الحاجة إلى المحافظة على الوجود الجسدي. غير أن الحياة الإنتاجية هي حياة النوع، إنها حياة تولد حياة، وطابع أي نوع – طابعه كنوع – يحويه طابع نشاط حياته، والنشاط الحرب الواعي هو طابع نوع الإنسان. والحياة نفسها لا تظهر إلا كوسيلة للحياة. ويتطابق الحيوان بشكل مباشر مع نشاط حياته، وهو لا يميز نفسه عنه، إنه نشاط حياته. والإنسان يجعل نشاط حياته ذاته موضوع إرادته ووعيه. أن لديه نشاط حياة واعيًا، وهو ليس تحديدًا يندمج فيه بشكل مباشر، فنشاط الحياة الواعي يميز الإنسان بشكل مباشر عن نشاط حياة الحيوان، وهو لهذا السبب بالتحديد يعد كائنًا نوعيًا، أو هو ليس كائنًا واعيًا – أي أن حياته ذاته موضوع له – إلا لأنه كائن نوعي. ولهذا السبب وحده فإن نشاطه حر، لكن العمل المغترب يقلب هذه العلاقة بحيث أن الإنسان – ولأنه كائن واع – يجعل نشاط حياته، وجوده الأساسي، مجرد وسيلة للوجود. والإنسان إذ يخلق عالمًا موضوعيًا. بنشاطه العملي، وإذ يصوغ الطبيعة غير العضوية يؤكد ذاته ككائن نوعي. صحيح أن الحيوانات أيضًا تنتج، فهي تيني لنفسها أعشاشًا ومساكن مثل النحل والقندس والنمل الخ.... لكن الحيوان لا ينتج إلا ما يحتاجه مباشرة لنفسه أو لصغاره، إنه ينتج إنتاجًا أحادي الجانب في حين ينتج الإنسان إنتاجًا كليًا، أنه لا ينتج إلا تحت ضغط الحاجة الجسدية المباشرة في حين ينتج الإنسان حتى حين يكون متحررًا من الحاجة الجسدية، ولا ينتج حقًا إلا متحررًا منها. والحيوان لا ينتج إلا نفسه في حين يعيد الإنسان إنتاج الطبيعة بأسرها. وينتمي ناتج الحيوان مباشرة لجسمه المادي، في حين أن الإنسان يواجه ناتجه بحرية، والحيوان يشكل الأشياء وفقًَا لمعيار واحتياج النوع الذي ينتمي إليه، في حين يعرف الإنسان كيف ينتج وفقًا لمعايير كل نوع، ويعرف كيف يطبق في كل مكان على الموضوع، المعيار الكامن فيه. ومن هنا فإن الإنسان يشكل الأشياء كذلك وفقًا لقوانين الجمال. وهكذا فإن الإنسان في صياغته للعالم الموضوعي يؤكد نفسه حقًا للمرة الأولى باعتباره كائنًا نوعيًا. فهذا الإنتاج هو حياته النشطة كنوع، وخلال هذا الإنتاج وبسببه تبدو الطبيعة باعتبارها عمله وواقعه. ومن هنا فإن موضوع العمل هو تموضع حياة الإنسان كنوع: لأنه يضاعف نفسه لا فكريًا فحسب – كما يحدث في الوعي – بل كذلك في الفعل – في الواقع – ومن هنا فإنه يتأمل ذاته في عالم خلقه، وهكذا فإن العمل المغترب بأبعاده عن الإنسان موضوع إنتاجه ينتزع منه حياة نوعه، موضوعيته النوعية الواقعية، ويحول ميزته على الحيوانات إلى نقيصة هي أن جسده غير العضوي – الطبيعة – ينتزع منه. وبالمثل فإن العمل المغترب بانحطاطه بالنشاط التلقائي، النشاط الحر، يجعل حياة الإنسان كنوع وسيلة لوجوده الجسدي. وهكذا فإن وعي الإنسان يتحول بالاغتراب بحيث تصبح حياة النوع بالنسبة له وسيلة. وهكذا فإن العمل المغترب يحول: (3) وجود الإنسان كنوع – كلا من الطبيعة وخصائص نوعه الروحية – إلى وجود غريب عنه، إلى وسيلة لوجوده الفردي. أنه يغترب بجسد الإنسان عنه كما يفعل بالطبيعة الخارجية وجوهره الروحي، وجوده الإنساني. (4) ومن النتائج المباشرة لحقيقة أن الإنسان يغترب عن ناتج عمله، عن نشاط حياته، عن وجوده كنوع، اغتراب الإنسان عن الإنسان. فإذا كان الإنسان يواجه بنفسه فإنه يواجه بالإنسان الآخر. وما ينطبق على علاقة الإنسان بعمله، وبناتج عمله وبنفسه، ينطبق كذلك على علاقة الإنسان بالإنسان الآخر وبعمل الآخر وموضوع عمل هذا الآخر. والحق أن القضية القائلة أن طبيعة الإنسان كنوع تغترب عنه تعني أن الإنسان يغترب عن الآخر، كما يغترب كل منهما عن طبيعة الإنسان الجوهرية ([40]) . ويتحقق اغتراب الإنسان – وفي الواقع كل علاقة يقف فيها الإنسان أمام نفسه – بالدرجة الأولى ويجد تعبيرًا عنه في العلاقة التي تقوم بين الإنسان وغيره من الناس. ومن هنا فداخل علاقة العمل المغترب يرى كل إنسان الآخر بالمعيار والوضع الذي يجد نفسه فيه كعامل. ولقد انطلقنا في حديثنا من أحدى حقائق الاقتصاد السياسي – اغتراب العامل وإنتاجه، وصغنا مفهوم هذه الحقيقة – العمل المغترب، المنسلب – وحللنا هذا المفهوم – ومن هنا فإننا أنما حللنا حقيقة من حقائق الاقتصاد السياسي. فلنر الآن بعد ذلك كيف ينبغي لمفهوم العمل المغترب، المنسلب، أن يغبر عن نفسه ويعرضها في الحياة الواقعية. إذا كان ناتج العمل غريبًا عني، إذا كان يواجهني كقوة غريبة، فلمن إذن ينتمي؟ لكائن آخر غيري. من هذا الكائن؟ الآلهة؟ صحيح أن الإنتاج الرئيسي في الأزمنة الأولى (مثل بناء المعابد الخ... في مصر والهند والمكسيك) يبدو في خدمة الآلهة، والناتج يبدو مملوكًَا للآلهة... غير أن الآلهة بذاتها لم تكن أبدًا سادة العمل. كذلك لم تكن الطبيعة. وأن تناقض كان يمكن أن يقوم لو أن الإنسان كلما زاد إخضاعه للطبيعة عن طريق عمله، وكلما أصبحت معجزات الآلهة غير ذات شأن أمام معجزات الصناعة، زاد اضطرار الإنسان إلى أن يتخلى عن بهجة الإنتاج ومتعة الناتج لصالح هذه القوى. فالكائن الغريب، الذي ينتمي إليه العمل وناتج العمل، والذي يبذل العمل في خدمته، ويوفر ناتج العمل لمنفعته، لا ينم إلا أن يكون الإنسان نفسه. فإذا كان ناتج العمل لا ينتمي للعامل، وإذا كان يواجهه كقوة غريبة، فهذا ليس ممكنًا إلا لأنه ينتمي إلى إنسان آخر غير العامل، وإذا كان عمل العامل عذابًا له فإنه لآخر لا بد أن يكون متعة الحياة وبهجتها، فلا الآلهة ولا الطبيعة وإنما الإنسان نفسه هو الذي يمكن أن يكون هذه القوة الغربية التي تثقل على الإنسان. وينبغي أن نضع في ذهننا القضية التي أشرنا إليها من قبل، وهي أن علاقة الإنسان بذاته لا يصبح موضوعية وواقعية بالنسبة له إلا من خلال علاقته بالإنسان الآخر. وهكذا فإذا كان ناتج عمله – عمله المتموضع – شيئًا قويًا غريبًا معاديًا ومستقلاً عنه فإن قوام علاقته به هو أن شخصًا آخر هو سيد هذا الشيء، شخصًا غريبًا ومعاديًا وقويًا ومستقلاً عنه. وإذا كان نشاطه الخاص هو بالنسبة له نشاط غير حر فإنه إذن يعامله كنشاط يؤدي في خدمة إنسان آخر وتحت سيطرته وقسره وقهره. ويبدو كل اغتراب ذاتي للإنسان عن ذاته وعن الطبيعة في العلاقة التي يضع فيها نفسه والطبيعة إزاء أناس آخرين غيره ومتميزين عنه. ولهذا السبب فإن الاغتراب الذاتي الديني يظهر بالضرورة في العلاقة بين الإنسان العادي والكاهم أو بينه وبين الوسيط الخ.... ما دمنا نعالج هنا العالم الفكري. وفي العالم العملي الواقعي لا يمكن أن يظهر الاغتراب الذاتي إلا من خلال العلاقة العملية الواقعية بالآخرين. والوسيط الذي يحدث الاغتراب خلاله هو ذاته وسيط عملي. وهكذا فخلال العمل المغترب لا يولد الإنسان فحسب علاقته بالموضوع ويفعل الإنتاج كقوة غريبة عنه ومعادية له، لكنه يولد كذلك العلاقة التي تربط بين غيره من الناس وبين أنتاجه وناتجه، والعلاقة بينه وبين هؤلاء الناس الآخرين. وتمامًا كما يخلق إنتاجه كفقدان لواقعه، كعقاب له، تمامًا كما يخلق ناتجه كضياع (Loss)، كناتج لا ينتمي له، فإنه يخلق كذلك سيطرة الشخص الذي لا ينتج على الإنتاج وعلى الناتج. وكما يغترب بنشاطه عن نفسه، فإنه كذلك يضفى على الغريب نشاطًا ليس له. وحتى الآن لم ندرس هذه العلاقة إلا من زاوية العمل، وفيما بعد سندرسها أيضًا من زاوية غير العامل. وهكذا فخلال العمل المغترب، المنسلب، ينتج العامل علاقة إنسان غريب عن العمل ويقف خارجه بهذا العمل، فعلاقة العامل بالعمل تولد علاقة الرأسمالي – أو أي أسم يختاره المرء لسيد العمل – بالعمل. وهكذا فإن الملكية الخاصة هي نتاج العمل المغترب – العلاقة الخارجية للعامل الطبيعة وبذاته – ونتيجته وعاقبته الضرورية. وهكذا تنتج الملكية الخاصة بالتحليل عن مفهوم العمل المنسلب، أي الإنسان المنسلب، العمل المغترب، الحياة المغتربة، الإنسان المغترب. صحيح أننا توصلنا كنتيجة لحركة الملكية الخاصة إلى مفهوم العمل المنسلب (الحياة المنسلبة) من الاقتصاد السياسي. لكننا عند تحليل هذا المفهوم يصبح من الواضح أنه رغم أن الملكية الخاصة تبدو مصدر وسبب العمل المنسلب فإنها في الحقيقة نتيجته، تمامًا كما أن الآلهة في البداية ليست سبب البلبلة الفكرية للإنسان وإنما نتيجتها وفيما بعد أصبحت هذه العلاقة تبادلية. وعند ذروة تطور الملكية الخاصة فحسب يعود سرها هذا إلى الظهور، وهو أنها من ناحية ناتج العمل المنسلب، وإنها ثانية الوسيلة التي بها ينسلب العمل بذاته، تحقق هذا الإنسلاب. ويلقي هذا العرض الضوء على الفور على منازعات لم تحل حتى الآن: (1) أن الاقتصاد السياسي يبدأ من العمل باعتباره الروح الحقة للإنتاج، لكنه لا يعطي شيئًا، ويعطي الملكية الخاصة كل شيء. ومن هذا التناقض خلص برودون إلى الوقوف في صف العمل وضد الملكية الخاصة. بيد أننا ندرك أن هذا التناقض الظاهري هو تناقض العمل المغترب مع ذاته، وأن كل ما فعله الاقتصاد السياسي هو أنه صاغ قوانين العمل المغترب. كذلك فإننا نفهم أيضًا أن الأجور والملكية الخاصة متطابقان: فحيث يدفع الناتج – موضوع العمل – مقابل العمل ذاته فإن الأجور ليست سوى نتيجة ضرورية لاغتراب العمل، لأن العمل لا يبدو في أجر العمل في نهاية الأمر كهدف في ذاته بل كخادم الآجر. وسنبسط هذه النقطة فيما بعد، أما الآن فسنكتفي باستخلاص بعض النتائج. فرفع الأجور بالقوة (بغض النظر عن كل الصعوبات الأخرى بما فيها حقيقة أنه لا يمكن المحافظة على الأجور العالية باعتبارها شذوذًا إلا بالقوة أيضًا) لن يكون إذن إلا مقابلاً أفضل للعبد، ولن ينتزع للعامل أو للعمل وضعه الإنساني وكرامته. والحق أنه حتى المساواة في الأجور التي يطالب بها برودون إنما تحول علاقة العامل المعاصر بعمله إلى علاقة الناس جميعًا بالعمل، وهكذا فإن المجتمع يتصور هنا باعتباره رأسماليًا مجردًا. والأجور هي نتيجة مباشرة للعمل المغترب، والعمل المغترب هو السبب المباشر للملكية الخاصة، وانهيار أحد الجانبين لا بد أن يعني انهيار الآخر. (2) ومن العلاقة بين العمل المغترب والملكية الخاصة ينتج كذلك أن تحرر المجتمع من الملكية الخاصة الخ....، من العبودية، يجد تعبيرًا عنه في شكل سياسي هو تحرر العمال، ولا يعني هذا أن المسألة هي مسألة تحررهم وحدهم، وإنما يعني أن تحرر العمال يحوى التحرر الإنساني الكلي – وهو يحويه لأن كل العبودية البشرية تتضمنها علاقة العامل بالإنتاج، وليست كل علاقة عبودية إلا تحويرًا (Modification) ونتيجة لهذه العلاقة. وتمامًا كما استخلصنا مفهوم الملكية الخاصة من مفهوم العمل المغترب، والمنسلب، عن طريق التحليل فإننا نستطيع بنفس الطريقة أن نصل إلى كل مقولة للاقتصاد السياسي بمساعدة هذين العاملين، وسنجد كذلك في كل مقولة مثل التجارة والمنافسة ورأس المال والنقود مجرد تعبير محدد ومتطور عن الأسس الأولى. ولكن فلنحاول قبل دراسة هذا الشكل أن نحل مشكلتين: (1) أن نحدد الطبيعة العامة للملكية الخاصة كما ظهرت نتيجة العمل المغترب، في علاقتها بالملكية الاجتماعية الإنسانية حقًا. (2) لقد تقبلنا اغتراب العمل، انسلابه، كحقيقة، وحللنا هذه الحقيقة. لكننا الآن نسأل كيف توصل الإنسان إلى أنسلاب عمله واغترابه؟ وكيف يضرب هذا الاغتراب بجذوره في طبيعة التطور الإنساني؟ ولقد مضينا بالفعل شوطًا بعيدًا في حل هذه المشكلة بتحويل السؤال عن أل الملكية الخاصة إلى مسألة علاقة العمل المنسلب بمجرى تطور البشرية. لأنه حين يتحدث المرء عن الملكية الخاصة فإنه يتصور إنه يفكر في شيء خارجي عن الإنسان. وحين يتحدث الإنسان عن العمل فإنه يتحدث مباشرة عن الإنسان ذاته. وهذه الصياغة الجديدة للمسألة تحوي بالفعل حلها. أما عن (1): الطبيعة العاملة للملكية الخاصة وعلاقتها بالملكية الإنسانية حقًا. فلقد حلل العمل المنسلب ذاته في عنصرين يحدد كل منها الآخر، أو ليسا سوى تعبيرين مختلفين عن نفس العلاقة. فالتملك يبدو اغترابًا، انسلابًا، والأنسلاب يبدو تملكًا، والاغتراب يبدو انعتاقًا حقًا. لقد درسنا جانبًا واحدًا – العمل المنسلب في علاقته بالعامل ذاته، أي علاقة العمل المنسلب بذاته، أما علاقة الملكية بين غير العامل وبين العامل والعمل فقد وجدنا أنها نتاج هذه العلاقة للعمل المنسلب وحصيلتها الضرورية. والملكية الخاصة كالتعبير المادي الموجز عن العمل المنسلب تشمل كلتا العلاقتين – علاقة العامل بالعمل، وبناتج عمله، وبغير العامل، وعلاقة غير العامل بالعامل وبناتج عمله. وإذا رأينا أن هذا التملك في علاقته بالعامل الذي يتملك الطبيعة عن طريق عمله، يبدو اغترابًا، كما يبدو نشاطه التلقائي الخاص نشاطًا من أجل آخر، ونشاطًَا لآخر، والحيوية تضحية بالحياة، وإنتاج الموضوع فقدانا للموضوع الصالح قوة غريبة، لصالح شخص غريب – فسندرس الآن علاقة هذا الشخص الغريب عن العمل والعامل بالعامل والعمل وموضوعه. وينبغي أولاً أن نلاحظ أن كل ما يبدو في العامل نشاطًا للانسلاب، للاغتراب، يبدو لغير العامل كحالة من الانسلاب، من الاغتراب. وثانيًا أن موقف العامل الفعلي العملي في الإنتاج ومن الناتج (كحالة ذهنية) يبدو لغير العامل الذي يواجهه كموقف نظري. وثالثًا أن غير العامل يفعل ضد العامل كل ما يفعله العامل ضد ذاته، لكنه لا يفعل ضد ذاته ما يفعله ضد العامل. فلندرس عن قرب أكبر العلاقات الثلاث ([41]) .
المخطوط الثاني (التناقض بين رأس المال والعمل وملكية الأرض ورأس المال) ... تشكل فائدة رأسماله ([42]) . والعامل هو المظهر (Manifestation) الذاتي لحقيقة أن رأس المال هو الإنسان الضائع تمامًا بالنسبة لنفسه، تمامًا كما أن رأس المال هو المظهر الموضوعي لحقيقة أن العمل هو الإنسان الضائع بالنسبة لنفسه. لكن من سوء حظ العامل أنه رأسمال حي، ومن هنا رأسمال له احتياجات – رأسمال يفقد فائدته – ومن هنا معيشته – في كل لحظة لا يعمل فيها. وترتفع قيمة العامل كرأسمال طبقًا للعروض والطلب، وحتى من الناحية الجسدية فإن وجوده، حياته، كان ولا يزال ينظر إليه كعرض لسلعة كغيرها من السلع. أن العامل ينتج رأس المال، ورأس المال ينتجه، ومن هنا فإنه ينتج ذاته، والإنسان كعامل، كسلعة، هو نتاج هذه الدورة كلها. وبالنسبة للإنسان الذي لا يزيد أن يكون عاملاً – وبالنسبة له كعامل – لا توجد خصائصه البشرية إلا حيثما توجد لرأسمال غريب عنه، غير أنه لأن الإنسان ورأس المال غريبان عن بعضهما البعض، وبذا يقعان في علاقة لا مبالية خارجية عارضة بينهما، فإن من المحتم أن تبدو هذه الغربة كذلك كشيء حقيقي. وهكذا فحالما يخطر لرأس المال (سواء عن ضرورة أو عن نزوة) ألا يكون للعامل فإن العامل لا يعود موجودًا لذاته: فهو ليس لديه عمل، وبالتالي ليس لديه أجر. ولما لم يكن له وجود ككائن إنساني بل كعامل فحسب، فإنه يستطيع أن يذهب ويدفن نفسه، وأن يتضور جوعًا الخ... والعامل لا يوجد كعامل إلا حين يوجد بالنسبة لنفسه كرأسمال، وهو لا يوجد كرأسمال إلا حين يوجد أمامه قدر من رأس المال. أن وجود رأس المال هو وجوده، حياته، إذ يحدد محتوى حياته بطريقة لا تعنيه. وهكذا فان الاقتصاد السياسي لا يعترف بالعامل الذي لا يشتغل، بالإنسان العامل، طالما أنه موجود خارج علاقة العمل هذه. فالغشاش اللص والوغد والشحاذ والمتعطل، والعامل المتضور التعس المجرم – هذه أشخاص لا توجد بالنسبة للاقتصاد السياسي وإنما هي توجد لأعين أخرى هي أعين الطبيب والقاضي وحافر القبور وحارس السجن... الخ. هذه الأشخاص أشباح خارج مجال الاقتصاد السياسي. وهكذا فبالنسبة له ليست احتياجات العامل سوى حاجة واحدة، إلا وهي صيانته أثناء العمل إلى الحد الذي يكون ضروريًا لمنع جنس العمال من الفناء. وهكذا فإن لأجر العمل بالدقة نفس معنى صيانة وخدمة أي أداة إنتاجية أخرى، أو استهلاك رأس المال اللازم لتجدد إنتاجه بفائدة، أو الزيت الذي تدهن به العجلات لتظل تدور. ومن هنا فإن الأجور تنتمي إلى نفقات رأس المال والرأسمالي الضرورية، وينبغي ألا تتجاوز حدود هذه الضرورة. وهكذا كان من المنطقي تمامًا لملاك المصانع الانجليز أن يخصموا من أجور العامل الصدقة العامة التي يحصل عليها من ضريبة الفقراء قبل صدور قانون التعديل في عام 1834، وأن يعتبروها جزءًا لا يتجرأ من الأجر. والإنتاج لا ينتج فحسب الإنسان كسلعة، الإنسان – السلعة، الإنسان في دور السلعة. وإنما هو ينتجه بما يتفق مع هذ الدور ككائن مجرد من إنسانيته روحيًا وبدنيًا – لا أخلاقية وتشوه وبلادة العمال والرأسماليين. أن نتاجه هو السلعة الواعية بذاتها والمتصرفة بذاتها... الإنسان – السلعة... وقد كان تقدمًا كبيرًا من ريكاردو وميل... الخ على سميث وساي أن يعلنوا أن وجود الكائن الإنساني – القدر الأكبر أو الأقل من الإنتاجية الإنسانية للسلعة – شيء غير ذي شأن بل حتى ضار. فهم يقولون أن الغرض الحقيقي للإنتاج ليس هو كم عدد العمال الذين يعولهم رأسمال ما، وإنما هو بالأحرى كم قدر الفائدة التي يحققها، والمجموع الكلي للمدخرات السنوية. وبالمثل كان تقدمًا كبيرًا ومنطقيًا للاقتصاد السياسي الانجليزي الحديث انه في حين يجعل العمل مبدأه الوحيد فإنه يعرض في نفس الوقت بوضوح كامل العلاقة العكسية بين الأجور وفائدة رأس المال، وحقيقة أن الرأسمالي لا يمكن بشكل طبيعي ألا أن يكسب بتخفيض الأجور والعكس بالعكس. ويبين استغلال الرأسمالي والعامل لبعضهما البعض، وليس استغلال المستهلك، باعتباره العلاقة الطبيعية. وعلاقات الملكية الخاصة تحوي – كامنة فيها – علاقات الملكية الخاصة كعمل، ونفس العلاقات كرأسمال، والعلاقة المتبادلة فيما بين هذين الاثنين. فهناك إنتاج النشاط الإنساني كعمل – أي كنشاط غريب عن ذاته، عن الإنسان وعن الطبيعة، وبالتالي عن الوعي وفيض الحياة – الوجود المجرد الفراغ المطلق – إلى لا وجوده الاجتماعي وبالتالي الفعلي. ومن الناحية الأخرى هنا إنتاج موضوع النشاط الإنساني كرأسمال – الذي زال فيه التحديد (Determinateness) الطبيعي والاجتماعي للموضوع، الذي فقدت فيه الملكية الخاصة صفتها الطبيعية والاجتماعية (وبالتالي كل وهم سياسي واجتماعي ولم تعد تختلط بأي علاقات إنسانية في الظاهر)، والتي يبقى فيها نفس رأس المال على ما هو عليه في أكثر المظاهر الاجتماعية والطبيعية تنوعًا، لا مباليًا كلية بمحتواه الحقيقي. وهذا التناقض حين يدفع إلى نهايته هو بالضرورة الحد النهائي، والذروة، والانهيار، لكل علاقة الملكية الخاصة. وهكذا كان انجازًا كبيرًا آخر للاقتصاد السياسي الانجليزي الحديث أن يعلن أن الريع هو الفرق بين الفائدة التي تنتجها أسوأ قطعة أرض وأفضل قطعة أرض منزرعة، وأن يفضح الأوهام الرومانسية لمالك الأرض – أهميته الاجتماعية المزعومة وتطابق مصلحته مع مصلحة المجتمع – التي كان آدم سميث لا يزال متمسكًا بها بعد الفزيوقراط، وأن يستبق ويمهد لحركة العالم الحقيقي التي ستحول مالك الأرض إلى رأسمالي عادي نثري، وبذلك يبسط التناقض بين العمال ورأس المال ويزيده حدة ويسرع بحله، لقد فقدت الأرض كأرض، والريع كريع، رتبتهما الأعلى، وأصبحا رأسمال وفائدة أخرسين – أو بالأحرى أصبحا رأسمال وفائدة لا يتحدثان إلا حديث النقود. أن التمييز بين رأس المال والأرض، وبين الربح والريع، وبينهما معًا وبين الأجور، وبين الصناعة والزراعة، وبين الملكية الخاصة العقارية والمنقولة – أن هذا التمييز ليس تمييزًا أساسيًا كامنًا، وإنما هو تمييز تاريخي، ولحظة ثابتة في تشكل وتطور التناقض بين رأس المال والعمل. فالصناعة الخ... كشيء يقبل ملكية الأرض العقارية ليست سوى التعبير عن الطريقة التي جاءت بها الصناعة إلى الوجود، وعن التناقض مع الزراعة الذي تطورت فيه الصناعة. ويظل تمييز الصناعة هذا قائمًا كنوع خاص من العمل – كتمييز أساسي هام يشمل الحياة كلها – طالما أن الصناعة (حياة المدن) تتطور في وجه ملكية الأرض (الحياة الإقطاعية الارستقراطية)، وطالما ظلت هي نفسها تحمل الطابع الإقطاعي لنقيضها في شكل الاحتكار، وطوائف الحرف، والنقابات والاتحادات الحرفية القديمة.. الخ التي لا يزال للعمل فيها دلالة اجتماعية ظاهرية، ما زالت له دلالة الحياة المشتركة الحقة، ولم يبلغ بعد مرحلة اللامبالاة بمحتواه، لم يبلغ بعد تمامًا مرحلة الوجود لذاته، أي التجريد عن كل الكائنات الأخرى، وبالتالي لم يصبح بعد رأسمال متحرر. لكن الصناعة المتحررة، أي الصناعة المشكلة لذاتها باعتبارها هذا – ورأس المال المتحرر تطوران ضروريان للعمل. فسلطة الصناعة على ضدها تظهر على الفور في انبثاق الزراعة كصناعة حقة، بعد أن كان معظم العمل يترك فيما مضى للتربة ولعبد التربة الذي من خلاله تفلح الأرض نفسها. ومع تحول العبد إلى عامل حر – أي إلى أجير – يتحول مالك الأرض ذاته إلى سيد للصناعة، إلى رأسمالي – وهو تحول يحدث في البداية من خلال المزارع المستأجر. غير أن المزارع هو ممثل مالك الأرض – هو سر مالك الأرض المكشوف: فمن خلاله فحسب يكون لمالك الأرض وجوده الاقتصادي – وجوده كمالك خاص – لأن ريع أرضه إنما يرجع إلى المنافسة بين المزارعين. وهكذا يصبح مالك الأرض في الجوهر – في شكل المزارع المستأجر – رأسماليًا عاديًا. ولا بد أن يتحقق هذا أيضًا في الواقع العملي: فالرأسمالي الذي يشتغل بالزراعة – المزارع – لا بد أن يصبح مالكًا للأرض أو العكس فالمهنة الصناعية للمزارع هي المهنة الصناعية لمالك الأرض. لأن وجود الأول يفترض وجود الثاني. لكنها يدركان أصلهما المتناقض – سلسلة نسبهما – ويعرف مالك الأرض في الرأسمالي عبد الأمس الوقح المتحرر الذي أصبح الآن غنيًا، ويرى نفسه رأسماليًا يواجه التهديد منه. ويعرف الرأسمالي في مالك الأرض سيد الأمس الكسول القاسي الأناني، ويعرف أنه يسئ إليه كرأسمالي، رغم أنه – مالك الأرض – يدين للصناعة بكل أهميته الاجتماعية الراهنة، بممتلكاته ومتعته. أنه يرى فيه نقيضًا (Antithesis) للصناعة الحرة ولرأس المال الحر – لرأس المال المستقل عن كل تحديد طبيعي. وهذا التناقض بين مالك الأرض والرأسمالي مرير للغاية، وكل طرف يعلن حقيقة الآخر. ولا يحتاج المرء إلا أن يقرأ هجمات الملكية العقارية على الملكية المنقولة والعكس بالعكس لكي يحصل على صورة دقيقة عن تفاهة كل منهما. فمالك الأرض يبرز النسب النبيل لملكيته، والتذكارات الاقطاعية، والذكريات، وأشعار الذكرى، ونزعته الرومانسية، وأهميته السياسية الخ... وهو حين يتحدث في الاقتصاد فإن الزراعة وحدها هي التي يرى أنها منتجة. وهو في نفس الوقت يصور خصمه كمرتزق مساوم مخادع شره متمرد بلا قلب ولا روح – غشاش قواد خانع مداهن منافق بلا شرف أو مبادئ أو عاطفة أو جوهر أو أي شيء آخر – شخصًا مغتربًا عن الجماعة، يبيعها عنة طيب خاطر، ويولد المنافسة ويغذيها، ويعتز بها بكل ما تجلبه من بؤس وجريمة وتحلل لكل الروابط الاجتماعية (أنظر من بين آخرين بيرجاس (Bergasse) الفزيوقراطي الذي فضحه كاميل ديمولان (Camille Desmoulins) في يومياته "ثورات فرنسا وبرابان" ([43]) ، وأنظر فون فينك (Von Vince) ولا نسيزول (Lancizol) وهالر (Haller) وليو (Leo) وكوزجارتن (Kozegarten) ([44]) وكذلك سيسموندي. أما الملكية المنقولة فهي من جانبها تبرز معجزات الصناعة والتقدم. أنها وليد العصر الحديث وأنبه الشرعي الأصيل. وهي ترثي لخصمها كأبله غير متنور عن طبيعته الخاصة (وهي في هذا على حق تمامًا) يريد أن يحل محل رأس المال الأخلاقي والعمل الحر العنف الوحشي غير الأخلاقي والقنانة. وهي تصوره كدون كيشوت يخفي تحت ستار من الاستقامة والشرف والصالح العام والاستقرار عجزه عن التقدم، وانغماسه الشديد في المتعة، وأنانيته، وحرصه على مصلحته الضيقة، وسوء نيته. وهي تعلن أنه احتكاري خبيث، ونصب المياه الباردة على ذكرياته وأشعاره ورومانسية بتعداد تاريخي ساخر للضعة والقسوة والمهانة والبغاء والعار والفوضى والتمرد التي كانت القلاع الرومانسية مصدر لها. وهي تزعم أنها قد حصلت على الحرية السياسية للشعب، أنها فكت الأغلال التي تقيد المجتمع المندي، أنها ربطت بين عوالم مختلفة، أنها خلقت التجارة التي تطور الصداقة بين الشعوب، أنها خلقت الأخلاقية الخالصة وقدرًا مقبولاً من الثقافة، أنها أعطت للشعوب حاجات متمدينة بدلاً من الحاجات الفجة، ووفرت وسائل إشباعها. وتقول أنه في نفس الوقت فإن مالك الأرض – محتكر الحبوب الكسول المزعج الطفيلي – يرفع أسعار الضروريات الأساسية للشعب، وبذا يجبر الرأسمالي على رفع الأسعار دون أن يكون قادرًا على زيادة الإنتاجية، وهكذا يعوق – وفي النهاية يلغي – دخل الأمة السنوي، وتراكم رأس المال، ومن هنا أمكانية توفير العمل للشعب، والثورة للبلاد، ويخلق بالتالي انحدارًا عامًا، في حين يستغل بشكل طفيلي كل مزايا المدينة الحديثة دون أن يفعل أدنى شيء لها، وحتى دون أن يخفف ولو قليلاً من تحيزاته الإقطاعية. وأخيرًا فلندعه – هو الذي لا توجد زراعة الأرض ولا الأرض نفسها له إلا كمصدر للنقود التي تأتيه كهدية – لندعه يلقي مجرد نظرة على مزارعه المستأجر، وليقل بعدها ما إذا لم يكن هو نفيه وغدًا خبيثًا مخادعًا "مهذبا" ينتمي في قلبه وفي الواقع منذ وقت طويل إلى الصناعة الحرة وإلى التجارة الحبيبة، مهما أحتج وثرثر عن الذكريات التاريخية، والأهداف الأخلاقية أو السياسية. أن كل ما يستطيع أن يطرحه حقًا لتبرير نفسه ليس صحيحًا إلا بالنسبة لمن يقوم بزراعة الأرض (الرأسمالي والعمال) الذي يعد مالك الأرض عدوًا له. وهكذا فإنه يقدم أدلة ضد نفسه. وبدون رأس المال تصبح ملكية الأرض مادة ميتة لا قيمة لها، وقد كان انتصار الملكية المنقولة المتمدين هو بالتحديد أنها اكتشفت وجعلت من العمل الإنساني مصدر الثورة بدلاً من الشيء الميت (أنظر بول لويس كورييه وسان سيمون وجانيل وريكاردو وميل وماككلوش وديستوت دي تراسي وميشيل شيفالييه). ويؤدي المجرى الحقيقي للتطور (وهذا شيء ينبغي أن نضيفه هنا) إلى الانتصار الضروري للرأسمالي على مالك الأرض – أي للملكية الخاصة المتطورة على الملكية الخاصة غير المتطورة وغير الناضجة، تمامًا كما تنتصر الحركة عمومًا على الثبات، والضعة الصريحة الواعية بذاتها على الضعة المستترة غير الواعية، وشهوة المال على الانغماس في اللذة، والأنانية المستنيرة الصريحة المتوثبة الماهرة على أنانية الخرافة ضيقة الأفق الحذرة الساذجة الكسولة المضللة، والنقود على الأشكال الأخرى للملكية الخاصة. وتحاول تلك الدول التي تتوجس قدرًا من الخطر المرتبط بالصناعة الحرة كاملة التطور، والأخلاقية الخالصة كاملة التطور، والتطور الكامل للتجارة التي تنشط الصداقة بين الشعوب، تحاول عبثًا أن توقف رسملة ملكية الأرض. وملكية الأرض على خلاف رأس المال هي ملكية خاصة – رأسمال – لا تزال مصابة بالتحيزات المحلية والسياسية، أنها رأسمال لم يستعد نفسه بعد من تشابكه مع العالم – رأسمال لم يتطور كلية بعد، ولا بد له في مجرى تطوره العالمي أن يحقق تعبيره المجرد، أي تعبيره الخالص. وعلاقات الملكية هي العمل ورأس المال، والعلاقة بين هذين الاثنين. والحركة التي ينبغي لهذه المكونات أن تمر بها هي: أولاً – وحدة الاثنين بوسيط أو بغير وسيط. رأس المال والعمل في البداية ما زالا موحدين ثم – ورغم أنهما منفصلان مغتربان – فإن كلاًَ منهما يطور الآخر ويغذيه كشرط أكيد. ثانيًا – الاثنان في تضاد، وكل منهما يستبعد الآخر، فالعامل يرى في الرأسمالي نفي وجوده، والعكس بالعكس، وكل منهما يحاول أن يسلب الآخر وجوده. ثالثًََا – تضاد كل منهما مع ذاته، رأس المال – العمل المخزون – العمل. ورأس المال باعتباره هذا – ينقسم إلى رأس المال ذاته وإلى عائده الذي ينقسم بدوره على فائدة وربح. الرأسمالي الذي يضحي به كلية، وهو يسقط إلى صفوف الطبقة العاملة في حين أن العامل (إنما بشكل إستثنائي) يصبح رأسماليًا. العمل كلحظة من لحظات رأس المال – نفقته. ومن هنا فالأجور – أنقسام العمل إلى العمل ذاته وأجور العمل، والعامل نفسه رأسمال، سلعة. تضاد عدائي متبادل ([45]) .
المخطوط الثالث (الملكية الخاصة والعمل. آراء المذهب التجاري والفزيوقراطية وأدم سميث وريكارد ومدرسته) حول الصفحة 36. الماهية الذاتية للملكية الخاصة – الملكية الخاصة كنشاط لذاته ([46]) ، كذات، كشخص – هي العمل. ومن هنا فمن البديهي أن الاقتصاد السياسي الذي يعترف بالعمل كمبدأ له (آدم سميث)، والذي لم يعد من ثم ينظر إلى الملكية الخاصة كمجرد ظرف خارجي عن الإنسان – أن هذا الاقتصاد السياسي وحده هو الذي ينبغي أن ينظر إليه من ناحية – كنتيجة للطاقة الفعلية والحركة الفعلية للملكية الخاصة ([47]) ، كنتاج للصناعة الحديثة – ومن ناحية أخرى كقوة أسرعت ومجدت طاقة وتطور الصناعة الحديثة، وجعلتها قوة في مملكة الوعي. وهكذا فبالنسبة لهذا الاقتصاد السياسي المستنير – الذي أكتشف داخل الملكية الخاصة الماهية الذاتية للثروة – يبدو أنصار المذهب النقدي والتجاري الذين لا ينظرون إلى الملكية الخاصة إلا الجوهر ([48]) موضوعي يواجه الناس عبدة أصنام ووثنيين وكاثوليك ومن هنا كان انجلز على حق حين سمى آدم سميث لوثر الاقتصاد السياسي ([49]) . فكما أعترف لوتر بالذين – الإيمان – كجوهر للعالم الخارجي، وبالتالي وقف معارضًا للوثنية الكاثوليكية – وكما تجاوز ([50]) التدين الخارجي بجعل التدين الجوهر الداخلي للإنسان، وكما نفى الكهنة خارج الإنسان العادي لأنه غرس الكاهن في قلوب الناس العاديين... هكذا تمامًا كان الأمر مع الثروة: فقد الغيث الثروة كشيء خارج الإنسان ومستقل عنه، ومن ثم كشيء لا يمكن أن يحفظ أو يؤكد إلا بطريقة خارجية، أي أن هذه الموضوعية الخارجية اللا معقولة للثروة قد ألغيت، إذ أصبحت الملكية الخاصة متجسدة في الإنسان نفسه، والإنسان نفسه يعتبر ما هية لها. ولكن نتيجة لذلك يجلب الإنسان إلى داخل مدار الملكية الخاصة، تمامًا كما جلب – عند لوثر – إلى داخل مدار الدين. وتحت مظهر الاعتراف بالإنسان لم يعد الاقتصاد السياسي حقًا – ومبدؤه هو العمل – أكثر من التحقق المنسق لإنكار الإنسان، لأن الإنسان ذاته لم يعد يقف في علاقة خارجية من التوتر مع الجوهر الخارجي للملكية الخاصة، بل أصبح هو ذاته هذه الماهية المتوترة للملكية الخاصة. وما كان من قبل خارجيًا بالنسبة للذات – تخارج الإنسان في الشيء ([51]) – قد أصبح مجرد فعل التخارج – عملية الانسلاب. وهكذا فإذا كان هذا الاقتصاد السياسي يبدأ بالتظاهر بالاعتراف بالإنسان (استقلاله وتلقائيته الخ..)، وإذا كان يحدد موضع الملكية الخاصة في وجود الإنسان ذاته، فإنه لم يعد يمكن أن يظل محددًا بالخصائص المحلية أو القومية أو غيرها من خصائص الملكية الخاصة، وكأنها شيء يوجد خارجه، وإذا كان هذا الاقتصاد السياسي يكشف بالتالي عن طاقة كوزموبوليتية، كلية، تطيح بكل قيد ورابطة حتى تضع نفسها مكانها باعتبارها السياسة الوحيدة، والكلية الوحيدة، والقيد الوحيد، والرابطة الوحيدة، فإن عليه أن يطرح جانبًا هذا النفاق في مجرى تطوره المقبل، وأن يبرز بكل تبجحه. وهو يفعل ذلك – دون أن تزعجه كل التناقضات الظاهرة التي ينغمس فيها – بتطوير فكرة العمل تطويرًا أكثر أحادية، ومن ثم أكثر أنساقًا، باعتباره الماهية الوحيدة للثروة: بإثباته أن نتائج هذه النظرية لا إنسانية في طابعها، على عكس المعالجة الأخرى الأصلية وأخيرًا بتوجيه اللطمة الساحقة للريع – آخر شكل فردي طبيعي للملكية الخاصة، وآخر مصدر للثورة يوجد مستقلاً عن حركة العمل، هذا التعبير عن الملكية الإقطاعية، وهو تعبير أصبح اقتصاديًا تمامًا في طابعه، وبالتالي عاجزًا عن مقاومة الاقتصاد السياسي (مدرسة ريكاردو). وليست هناك فحسب زيادة نسبية في تبجح الاقتصاد السياسي منذ سميث وخلال ساي حتى ريكاردو وميل الخ... بقدر ما تبدو نتائج الصناعة أكثر تطورًا وأكثر تناقضًا في أعين هؤلاء الأخيرين، بل أن هؤلاء الاقتصاديين الأخيرين تقدموا بثبات ووعي إلى أبعد من أسلافهم بصورة إيجابية في تغربهم عن الإنسان. غير أنهم إنما يفعلون ذلك لأن علمهم يتطور باتساق وأصالة أكبر. ولأنهم يجعلون الملكية الخاصة في شكلها النشط الذات، وبذلك يجعلون الإنسان في نفس الوقت – والإنسان كشيء غير ما هوى – الماهية، فإن تناقض الواقع يتجاوب كلية مع الماهية المتناقضة التي يقبلونها كمبدأ لهم. وعالم الصناعة الممزق يؤكد مبدأهم الممزق داخليًا ولا يدحضه. ومبدأهم هو – في نهاية الأمر – مبدأ هذا التمزق. ويشكل مذهب الفزيوقراط الذي وضعه الدكتور كيسناي الشكل الانتقالي من المذهب التجاري إلى آدم سميث. والفزيوقراطية هي بشكل مباشر ذوبان الملكية الإقطاعية في الاقتصاد السياسي، لكنها كذلك وبنفس الصورة المباشرة تحولها وعودتها في الاقتصاد السياسي، فيما عدا أن لغتها الآن لم تعد لغة إقطاعية بل اقتصادية. فكل الثروة تحلل إلى أرض وزراعة. والأرض ليست بعد رأسمالاً: إنها لا تزال شكلاً خاصًا لوجوده، يفترض أن صحته تكمن وتستمد من خصوصيته الطبيعية. غير أن الأرض عنصر طبيعي عام في حين أن المذهب التجاري لا يعترف بالثروة إلا في شكل معدن ثمين. وهكذا فإن موضوع الثروة – مادتها – قد أتخذ صراحة أعلى درجة من العمومية داخل حدود الطبيعة، من حيث أنه بشكل مباشر ثروة موضوعية حتى كطبيعة. والأرض لا توجد بالنسبة للإنسان إلا من خلال العمل، من خلال الزارعة. وهكذا فإن الماهية الذاتية للثروة قد حولت إلى العمل. ولكن في نفس الوقت فالزراعة هي العمل الإنتاجي الوحيد. ومن هنا فإن العمل لا يفهم بعد في عموميته وتجريده: فهو لا يزال انسلابًا نوعيًا، خاصًا، للإنسان، تمامًا كما أن ناتجه لا يدرك إلا كشكل نوعي للثروة، يرجع إلى الطبيعة أكثر مما يرجع إلى العمل ذاته. ولا تزال الأرض تدرك هنا كظاهرة طبيعية مستقلة عن الإنسان – وليس وبعد كرأسمال أي كمظهر للعمل ذاته. وبالأحرى أن العمل يبدو كمظهر للأرض. ولكن ما كانت وثنية الثروة الخارجية القديمة – والثروة التي توجد كموضوع فقط – قد ردت على عنصر طبيعي بسيط للغاية، ولما كانت ما هيتها – ولو جزئيًا فحسب وفي شكل خاص – قد أدركت داخل وجودها الذاتي، فإن هناك الخطوة الضرورية إلى الأمام من حيث أن الطبيعة العامة للثروة قد اتضحت، وأن العمل بالتالي – في إطلاقه الكلي (أي في تجريده) – قد أثير وأقر باعتباره المبدأ. ويرد على الفزيوقراطية بأن الزراعة من وجهة النظر الاقتصادية – أي من وجهة النظر الصحيحة الوحيدة – لا تختلف عن أي صناعة أخرى، وأن منفعية الثروة من هنا ليست شكلاً نوعيًا للعمل مرتبطًا بعنصر خاص – تعبيرًا خاصًا عن العمل – وإنما هي العمل عمومًا. وتنكر الفزيوقراطية الثروة الخاصة الخارجية الموضوعية فحسب بإعلانها أن العمل هو ماهية الثروة. لكن العمل عند الفزيوقراطية ليس منذ البداية الأولى إلا الماهية الذاتية لملكية الأرض (فهي تنطلق من طراز الملكية الذي يبدو تاريخيًا الطراز المسيطر المعترف به) وهي أنما تحول ملكية الأرض إلى إنسان منسلب. وهي تلغي طابعها الإقطاعي بإعلان أن الصناعة (الزراعة) هي ماهيتها. لكن موقفها من عالم الصناعة هو موقف الإنكار، وهي تعترف بالنظام الإقطاعي بإعلان أن الزراعة هي الصناعة الوحيدة. ومن الواضح أنه إذا كانت الماهية الذاتية للصناعة قد أدركت الآن (للصناعة في مواجهة ملكية الأرض أي الصناعة وهي تشكل ذاتها كصناعة) فإن هذه الماهية تشمل نقيضها. فتمامًا كما تجسد الصناعة ملكية الأرض الملغاة فإن الماهية الذاتية للصناعة تجسد في نفس الوقت الماهية الذاتية لملكية الأرض. وتمامًا كما أن ملكية الأرض هي أول أشكال الملكية الخاصة، وأن الصناعة قد واجهتها في البداية تاريخيًا كمجرد شكل خاص للملكية – أو بالأحرى كعبد أعنق لملكية الأرض – فإن هذه العملية تكرر ذاتها على مستوى الإدراك العلمي للماهية الذاتية للملكية الخاصة، للعمل. ويبدو العمل في البداية كعمل زراعي فحسب، لكنه بعدئذ يؤكد ذاته كعمل عمومًا. لقد أصبحت كل الثروات ثروات صناعية، ثروة العمل، والصناعة عمل منجن، تمامًا كما أن نظام المصنع هو ماهية الصناعة – العمل – وقد توصلت إلى النضج، وتمامًا كما أن رأس المال الصناعي هو الشكل الموضوعي المنجز للملكية الخاصة. ونستطيع الآن أن نرى كيف أنه عند هذه النقطة فحسب تستطيع الملكية الخاصة أن تكمل سيطرتها على الإنسان، وتصبح في أكثر أشكالها عمومية قوة تاريخية عالمية.
(الملكية الخاصة والشيوعية. مختلف مراحل تطور الأفكار الشيوعية. الشيوعية الفجة والشيوعية القائمة على المساواة والشيوعية بوصفها اشتراكية تتوافق مع الإنسانية) حول الصفحة 39. أن التضاد بين اللا ملكية والملكية – طالما لم يفهم باعتباره تضادًا بين العمل ورأس المال، لا يزال تضادًا لا مباليًا، لم يدرك في صلته الفاعلة، في علاقته الداخلية – لا يزال تضادًا لم يدرك كتناقض. وهو يمكن أن يجد تعبيرًا في هذا الشكل الأول حتى دون التطور المتقدم للملكية الخاصة (كما في روما القديمة وتركيا ألخ...)، أنه لا يبدو بعد وكأن الملكية الخاصة ذاتها هي التي أقامته، لكن العمل – الماهية الذاتية للملكية الخاصة كاستبعاد للملكية، ورأس المال – العمل الموضوعي كاستبعاد للعمل – يشكلان الملكية الخاصة في حالة تناقضها المتطورة – ومن هنا علاقة دينامية تتحرك بعناد نحو حلها. حلو الصفحة نفسها، أن تخطي ([52]) اغتراب الذات يتبع نفس تطور اغتراب الذات، فالملكية الخاصة ترى أولاً في جانبها الموضوعي وحده – ولكن مع العمل كماهية لها. ومن هنا فإن شكل وجودها هو رأس المال الذي ينبغي أن يلغي "باعتباره هذا" (برودون)، أو أن شكلاً خاصًا من أشكال العمل – العمل السوي المجزأ، وبالتالي غير الحر – يتصور كمصدر لضرر الملكية الخاصة، ولوجودها في اغتراب عن الناس، وعلى سبيل المثال فوربيه الذي كان كالفزيوقراط يتصور بدوره العمل الزراعي باعتباره على الأقل النموذج المثالي، في حين يعلن سان سيمون على العكس أن العمل الصناعي من حيث هو كذلك هو الماهية، ثم هو يتطلع إلى حكم الصناعيين وحدهم وتحسين ظروف العمال. وأخيرًا فالشيوعية هي التعبير الإيجابي عن الملكية الخاصة الملغاة – أولاً كملكية خاصة كلية Universal. والشيوعية بإحاطتها بهذه العلاقة ككل فإنها: (1) في شكلها الأول مجرد تعميم واكتمال لهذه العلاقة، وهي تكشف عن نفسها باعتبارها هذا في شكل مزدوج: فمن ناحية تتضخم سيطرة الثروة المادية إلى حد أنها تزيد أن تحطم كل شيء لا يقبل أن يحوزه الجميع كملكية خاصة، إنها تريد أن تزيل الموهبة... الخ بالقوة لأن هدف الحياة والوجود الوحيد بالنسبة لها هو الحيازة المادية المباشرة. أن مقولة العامل لا تلغي، وإنما هي توسع لتشمل كل الناس. وتستمر علاقة الملكية الخاصة باعتبارها علاقة الجماعة بعالم الأشياء، وأخيرًا فإن حركة المقابلة بين الملكية الخاصة الكلية وبين الملكية الخاصة تجد تعبيرًا عنها في الشكل الحيواني لمقابلة الزواج (وهو بالتأكيد شكل للملكية الخاصة الاستئثارية) بمشاعية النساء، التي تصبح المرأة فيها جزءًا من الملكية الجماعية المشتركة. ويمكن أن نقول أن فكرة مشاعية النساء هذه تكشف عن سر هذه الشيوعية التي لا تزال فجة تمامًا وبلا تفكير. فتمامًا كما تنتقل المرأة من الزواج إلى البغاء العام ([53]) فإن كل عالم الثروة (أي جوهر الإنسان الموضوعي) ينتقل من علاقة الزواج المستأثرة بمالك الملكية الخاصة إلى حالة من البغاء الكلي مع الجماعة. وهذا الطراز من الشيوعية بنفيه شخصية الإنسان في كل مجال ليس في الحقيقة إلا التعبير المنطقي للملكية الخاصة، الذي هو هذا النفي. أن الحسد العام الذي يشكل ذاته كقوة هو القناع الذي يتخذه التعطش إلى الثروة، والذي يشبع به نفسه وإنما بطريقة أخرى. أن أفكار كل قطعة من الملكية الخاصة – الكامنة في كل قطعة بما هي كذلك – تتجه على الأقل ضد كل ملكية خاصة أغني في شكل الحسد واللهفة إلى الهبوط إلى مستوى مشترك بحيث أن هذا الحسد واللهفة يشكلان جوهر المنافسة. وليست الشيوعية الفجة إلا اكتمال هذا الحسد وهذه التسوية منطلقة من الحد الأدنى المتصور مسبقًا. أن لديها معيارًا محددًا محدودًا. أما كيف أن هذا الإلغاء للملكية الخاصة ليس في الحقيقة تملكًا فهو ما يؤكده النفي المجرد لكل عالم الثقافة والمدنية، والردة إلى البساطة غير الطبيعية للإنسان الفقير الذي ليست له مطالب، الذي لم يفشل فحسب في تخطي إطار الملكية الخاصة، بل حتى لم يبلغها بعد. وليست الجماعة إلا جماعة عمل، ومساواة في الأجور التي يدفعها رأس المال الجماعي – الجماعة كرأسمالي كلي، وكلا جانبي العلاقة يرفع إلى كلية متخيلة – العمل كحالة يوضع فيها كل شخص، ورأس المال ككلية الجماعة وقوتها المعترف بهما. وفي الموقف من المرأة كغنيمة وخادمة للشهوة الجماعية ينعكس الانحطاط اللانهائي الذي يوجد فيه الإنسان لذاته، لأن سر هذا الموقف يجد تعبيره الجلي القاطع الواضح غير المقنع في علاقة الرجل بالمرأة، وفي الطريقة التي يتم بها تصور علاقة التكاثر المباشرة الطبيعية، فالعلاقة المباشرة والطبيعية والضرورية بين شخص وشخص هي علاقة الرجل بالمرأة. ففي هذه العلاقة الطبيعية بين الجنسين تكون علاقة الإنسان بالطبيعة هي مباشرة علاقته بالإنسان، تمامًا كما أن علاقته بالإنسان هي مباشرة علاقته بالطبيعة – بوظيفته الطبيعية الخاصة. ومن هنا ففي هذه العلاقة يتجلى بشكل محسوس – وقد انتهى إلى واقعة يمكن ملاحظتها – المدى الذي أصبحت فيه ماهية الإنسان طبيعة للإنسان. أو الذي أصبحت فيه الطبيعة بالنسبة له الماهية الإنسانية للإنسان. ومن هنا يستطيع المرء من هذه العلاقة أن يحكم على كل مستوى تطور الإنسان، ويتضح من طبيعة هذه العلاقة إلى أي حد تمكن الإنسان – ككائن نوعي، كإنسان – من أن يصبح ذاته، وأن يدرك ذاته، فالعلاقة بين الرجل والمرأة هي العلاقة الأكثر طبيعية بين الكائن الإنساني والكائن الإنساني، وهي بالتالي تكشف عن المدى الذي أصبح به سلوك الإنسان الطبيعي إنسانيًا، أو المدى الذي أصبحت به الماهية الإنسانية فيه ماهية طبيعية – المدى الذي أصبحت فيه طبيعته الإنسانية هي الطبيعة بالنسبة له، وفي هذه العلاقة يتضح أيضًا المدى الذي أصبحت به حاجة الإنسان حاجة إنسانية، ومن ثم المدى الذي أصبح به الشخص الآخر كشخص حاجة بالنسبة له – المدى الذي يكون فيه في وجوده المفرد هو في نفس الوقت كائن اجتماعي. وهكذا فإن الإلغاء الإيجابي الأول للملكية الخاصة – الشيوعية الفجة – هو مجرد شكل تظهر فيه على السطح وضاعة الملكية الخاصة التي تريد أن تضع نفسها باعتبارها الجماعة الإيجابية. (2) الشيوعية (أ) التي لا تزال ذات طبيعية سياسية – ديموقراطية أو مطلعة. (ب) مع إلغاء الدولة، إلا أنها لا تزال بعد غير كاملة. ولا تزال متأثرة بالملكية الخاصة (أي باغتراب الإنسان). وفي كلا الشكلين تدرك الشيوعية نفسها باعتبارها عودة تكامل الإنسان مع ذاته أو رجوعه إليها، وتخطي اغتراب الذات الإنساني، ولكن لأنها لم تدرك بعد الماهية الإيجابية للملكية الخاصة، ولم تدرك بنفس القدر الطبيعة الإنسانية للحاجة، فإنها تظل أسيرة لها وملوثة بها، إنها حقًا قد أدركت مفهومها، لكنها لم تدرك ماهيتها. (3) ألشيوعية باعتبارها التخطي الإيجابي للملكية الخاصة، أو لاغتراب الذات الإنساني، وبالتالي باعتبارها التملك الحقيقي للماهية الإنسانية من جانب الإنسان وللإنسان، وبالتالي الشيوعية باعتبارها عودة الإنسان الكاملة إلى ذاته ككائن اجتماعي (أي إنساني) – عودة تصبح واعية ومكتملة في إطار كل ثروة التطور السابق. وهذه الشيوعية – كطبيعية مكتملة التطور – تساوي الإنسانية، وكإنسانية مكتملة التطور تساوي الطبيعية، إنها الحل الحقيقي للنزاع بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والإنسان – الحل الحقيقي للصراع بين الوجود والماهية، بين التموضع وتأكيد الذات، بين الحرية والضرورة، بين الفرد والنوع. الشيوعية هي لغز التاريخ وقد حل، وهي تعرف نفسها باعتبارها هذا الحل. ومن هنا فإن كل حركة التاريخ هي كل من فعل توليدها الواقعي (فعل ولادة وجودها التجريبي) وكذلك بالنسبة لوعيها المفكر العملية المدركة والمعروفة لصيرورتها. وفي نفس الوقت فإن تلك الشيوعية الأخرى – التي لا تزال غير ناضجة – تبحث عن برهان تاريخي لذاتها – برهان في مملكة الموجود – بين الظواهر التاريخية غير المترابطة المعارضة للملكية الخاصة، منتزعة مراحل مفردة من العملية التاريخية، ومركزة الاهتمام عليها كبراهين على أصالة نسبها (وهذا جواد طالما امتطاه كابيه وفيلجارديل وغيرهما). وهي إذ تفعل ذلك فإنها إنما توضح أنه حتى الآن فإن الجانب الأكبر من هذه العملية يناقض مزاعمها، وأنها إذا كانت قد وجدت ذات مرة، فإن وجودها في الماضي بالتحديد يدحض زعمها أنها جوهرية (Essential). فمن السهل أن نرى أن كل الحركة الثورية تجد بالضرورة كلا من أساسها التجريبي وأساسها النظري في حركة الملكية الخاصة – وبتعبير أدق في حركة الاقتصاد. وهذه الملكية الخاصة المادية المحسوسة مباشرة هي التعبير المادي الحسي عن الحياة الإنسانية المغتربة. وحركتها – الإنتاج والاستهلاك – هي الانكشاف الحسي لحركة كل الإنتاج حتى الآن – أي تحقق الإنسان أو حقيقته. فالدين والعائلة والدولة والقانون والأخلاق والعلم والفن إلخ.. ليست سوى أساليب إنتاج خاصة، وتخضع لقانونه العام. ومن هنا فإن التخطي الإيجابي للملكية الخاصة كتملك للحياة الإنسانية هو التخطي الإيجابي لكل اغتراب – وبعبارة أخرى عودة الإنسان من الدين والعائلة والدولة إلخ.. إلى أسلوب وجوده الإنساني أي الاجتماعي. فالاغتراب الديني بما هو كذلك لا يحدث إلا في مملكة الوعي، حياة الإنسان الداخلية، لكن الاغتراب الاقتصادي هو اغتراب الحياة الواقعية، وبالتالي فإن تخطيه يشمل كلا الجانبين. ومن الواضح أن المرحلة الأولى للحركة بين مختلف الشعوب تتوقف على ما إذا كانت الحياة الحقة للشعب والأصيلة بالنسبة له تتجلى أكثر في الوعي أو في العالم الخارجي – ما إذا كانت بدرجة أكبر مثالية أو واقعية. والشيوعية تبدأ منذ البداية (أوين) مع الإلحاد. لكن الإلحاد في البداية أبعد من أن يكون شيوعية، والحق أنه لا يزال في أغلبه تجريدًا. وهكذا فإن خيرية (Philanthropy) الإلحاد هي في البداية مجرد خيرية فلسفية مجردة، أما خيرية الشيوعية فهي على الفور واقعية تتجه مباشرة إلى الفعل. وقد رأينا كيف أنه مع افتراض الملكية الخاصة الملغاة إيجابيًا فإن الإنسان ينتج الإنسان – ينتج نفسه وينتج الإنسان الآخر، وكيف أن الموضوع – باعتباره التجسيد المباشر لفرديته – هو في الوقت نفسه وجوده للإنسان الآخر، ووجود الإنسان الآخر، ووجود الإنسان الآخر بالنسبة له. بيد أنه بالمثل فإن كلا من مادة العمل والإنسان كذات هما نقطة انطلاق الحركة فضلاً عن نتيجتها (وفي هذه الحقيقة بالتحديد – أنهما لا بد أن يشكلا نقطة الانطلاق – تكمن الضرورة التاريخية للملكية الخاصة). وهكذا فإن الطابع الاجتماعي هو الطابع العام للحركة كلها: فتمامًا كما أن المجتمع ذاته ينتج الإنسان كإنسان فإن المجتمع ينتجه الإنسان. والفاعلية والاستهلاك – في كل من مضمونهما وأسلوب وجودهما – اجتماعيان: فاعلية اجتماعية واستهلاك اجتماعي، والماهية الإنسانية للطبيعة لا توجد أولاً إلا بالنسبة للإنسان الاجتماعي، والماهية الإنسانية للطبيعة لا توجد أولاً إلا بالنسبة للإنسان الاجتماعي، لأنه هنا فحسب توجد الطبيعة بالنسبة له كرابطة مع إنسان – كوجوده بالنسبة للآخر ووجود الآخر بالنسبة له – كعنصر الحياة للعالم الإنساني، هنا فحسب توجد الطبيعية كأساس لوجوده الإنساني. هنا فحسب أصبح ما هو بالنسبة له وجوده الطبيعي هو وجوده الإنساني، وأصبحت الطبيعة هي الإنسان بالنسبة له. وهكذا فإن المجتمع هو الوحدة المكتملة في الجوهر بين الإنسان والطبيعة – البعث الحقيقي للطبيعة – طبيعية الإنسان وإنسانية الطبيعة وقد وصل كلاً منهما إلى تحققه. غير أن الفاعلية الاجتماعية والاستهلاك الاجتماعي لا يوجدان فقط في شكل نوع من الفاعلية الجماعية المباشرة والاستهلاك الجماعي المباشر رغم أن الفاعلية الجماعية والاستهلاك الجماعي – أي الفاعلية والاستهلاك اللذين يتجليان ويتأكدان مباشرة في الترابط الحقيقي مع الناس الآخرين – سيحدثان حيثما ينبع مثل هذا التعبير المباشر عن الاجتماعية من الطابع الحقيقي لمضمون الفاعلية الإنسانية، ويكون ملائمًا لطبيعة الاستهلاك. ولكن مرة أخرى فحين أنشط علميًا إلخ... – حين أنغمس في فاعلية لا أكاد أستطيع أن أؤديها في اشتراك مباشر مع الآخرين – فإنني حينئذ اجتماعي، لأنني أنشط كإنسان، ولا يقتصر الأمر على أن مواد فاعليتي قد أعطيت لي كناتج اجتماعي (كما هو الأمر حتى بالنسبة للغة التي ينشط بها المفكر): بل أن وجودي ذاته هو فاعلية اجتماعية، ومن هنا فإن ما أصنعه بنفسي، أصنعه بنفسي للمجتمع وأنا أعي ذاتي ككائن اجتماعي. ووعيي العام ليس سوى الشكل النظري لما شكله الحي هو الجماعة الواقعية، النسيج الاجتماعي، رغم أن الوعي العام في الوقت الحالي تجريد من الحياة الواقعية، وهو باعتباره هذا يواجهها بصورة عدائية. وبالتالي – أيضًا – فإن فاعلية وعيي العام – كفاعلية – هي وجودي النظري ككائن اجتماعي. وما يجب تجنبه في المقام الأول هو إقرار "المجتمع" كتجريد في مواجهة الفرد. فالفرد هو الكائن الاجتماعي. ومن هنا فإن حياته – حتى ولو لم تظهر في الشكل المباشر لحياة جماعية تتحقق مع الآخرين – هي تعبير عن الحياة الاجتماعية وتأكيد لها. فحياة الإنسان الفردية وحياته النوعية ليستا مختلفتين، مهما كان أسلوب وجود الفرد – وهذا أمر حتمي – أسلوبًا أكثر خصوصية أو عمومية لحياة النوع، أو كانت حياة النوع حياة فرد أكثر خصوصية أو عمومية. ويؤكد الإنسان في وعيه النوعي حياته الاجتماعية الواقعية، وهو لا يعدو أن يكرر وجوده الواقعي في الفكر، تمامًا كما أن وجود النوع – بالعكس – يؤكد ذاته في الوعي النوعي، ويكون لذاته في عموميته ككائن مفكر. والإنسان – مهما كان فدرًا خاصًا (وخصوصيته بالتحديد هي التي تجعل منه فردًا، كائنًا. اجتماعيًا فرديًا حقيقيًا) – هو بالدقة الكلية – الكلية المثالية – الوجود الذاتي للفكر والمجتمع معروضًا لذاته، تمامًا كما يوجد أيضًا في العالم الواقعي كادراك للوجود الاجتماع واستمتاع واقعي بالوجود الاجتماعي، وككلية لفاعلية الحياة الإنسانية. وهكذا فإن التفكير والوجود لا شك متمايزان، لكنهما في نفس الوقت متحدان مع بعضهما البعض. ويبدو الموت انتصارًا قاسيًا للنوع على الفرد المحدد، ومناقضًا لوحدتهما. لكن الفرد المحدد ليس سوى كائن نوعي محدد، وهو باعتباره هذا فإن. (4) وتمامًا كما أن الملكية الخاصة ليست إلا التعبير الحسي عن حقيقة أن الإنسان يصبح موضوعيًا لذاته، وفي نفس الوقت يصبح بالنسبة لذاته موضوعًا غريبًا غير إنساني، تمامًا كما أنها تعبر عن أن تأكيد حياته هو انسلاب هذه الحياة، وأن تحققه الواقعي هو فقدانه للواقع، هو واقع غريب: فإن التخطي الإيجابي للملكية الخاصة – أي التملك الحسي للإنسان وبالإنسان للماهية الإنسانية وللحياة الإنسانية، للإنسان الموضوعي، للإنجازات الإنسانية – لا ينبغي أن يدرك فحسب بمعنى الإشباع المباشر الأحادي الجانب – بمعنى الحيازة والملكية. فالإنسان يتملك جوهره الكلي بطريقة كلية، أي كإنسان كلي. فكل علاقاته الإنسانية بالعالم – الرؤية والسمع والشم والتذوق والشعور والتفكير والإدراك والحس والرغبة والفعل والحب – وباختصار كل أجهزة وجوده الفردي – كتلك الأجهزة الاجتماعية في شكلها مباشرة – هي في اتجاهها الموضوعي، أو في اتجاهها من الموضوع، تملك هذا الموضوع، تملك العالم الإنساني، واتجاهها من الموضوع، تملك هذا الموضوع، تملك العالم الإنساني، واتجاهها من الموضوع هو تجلي العالم الإنساني ([54]) ، أنه الفاعلية الإنسانية والمعاناة الإنسانية، لأن المعاناة – مدركة بطريقة إنسانية – هي تمتع بالذات لدى الإنسان. لقد جعلتنا الملكية الخاصة من الغباء وأحادية الجانب بحيث أن موضوعًا ما لا يعد موضوعنا إلا حين نمتلكه – حين يوجد بالنسبة لنا كرأسمال، أو حين نحوزه بشكل مباشر أو نأكله أو نشربه أو نرتديه أو نقطنه الخ... وباختصار حين نستخدمه. رغم أن الملكية الخاصة ذاتها بدورها تدرك كل هذه التحقيقات المباشرة للحيازة كوسيلة حياة، والحياة التي تعد هذه التحقيقات وسيلتها هي حياة الملكية الخاصة – العمل والتحول إلى رأسمال. وهكذا ففي مكان كل هذه الحواس الجسدية والذهنية جاء الإغتراب الخالص لكل هذه الحواس – حاسة التملك. وكان لابد من الهبوط بالكائن الإنساني إلى هذا الفقر المطلق حتى يمكن أن يضفى ثروته الداخلية على العالم الخارجي (عن مقولة "الملكية" أنظر هيس في "الواحد وعشرين بحثًا") ([55]) . ومن هنا فإن تخطي الملكية الخاصة هو الإنعتاق الكامل لكل الحواس والصفات الإنسانية، لكنه يمثل هذا الإنعتاق بالتحديد لأن هذه الحواس والصفات أصبحت – ذاتيًا وموضوعيًا – إنسانية. لقد أصحبت العين عينًا إنسانية، تمامًا كما أن موضوعها أصبح موضوعًا اجتماعيًا إنسانيًا – موضوعًا ينبثق من الإنسان للإنسان. ومن هنا فإن الحواس أصبحت بشكل مباشر في ممارستها منظرة. أنها ترتبط بالشيء لصالح الشيء، لكن الشيء ذاته علاقة إنسانية موضوعية بذاتها وبالإنسان ([56]) والعكس بالعكس. وبالتالي فقدت الحاجة أو المتعة طبيعتها الأنانية، وفقدت الطبيعة منفعتها المحضة بأن أصبح الاستخدام استخدامًا إنسانيًا. وبنفس الطريقة فإن حواس ومتعات الآخرين أصبحت ملكًا لي، ومن هنا فإلى جانب هذه الأجهزة المباشرة تتطور أجهزة اجتماعية في شكل مجتمع، وهكذا مثلاً أصبحت الفاعلية في ارتباط مباشر بالآخرين الخ... جهازًا للتعبير عن حياتي أنا، وأسلوبًا لتملك الحياة الإنسانية. ومن الواضع أن العين الإنسانية ترضى نفسها بطريقة تختلف عن العين الفجة غير الإنسانية، والأذن الإنسانية بطريقة تختلف عن الأذن الفجة الخ... ولنوجز ما قلناه؛ أن الإنسان لا يضيع في موضوعه عندما يصبح الموضوع بالنسبة له موضوعًا إنسانيًا أو أنسانًا موضوعيًا. وليس هذا ممكنًا ألا حين يصبح الموضوع بالنسبة له موضوعًا اجتماعيًا، ويصبح هو ذاته لذاته كائنًا اجتماعيًا، تمامًا كما يصبح المجتمع موجودًا بالنسبة له في هذا الموضوع. ومن هنا فمن ناحية فإن كل الموضوعات لا يصبح بالنسبة للإنسان موضعه لذاته، موضوعات تؤكد فرديته وتحققها، لا تصبح موضوعاته: أي لا يصبح الإنسان نفسه الموضوع إلا حين يصبح العالم الموضوعي في كل مكان بالنسبة للإنسان في المجتمع عالم قوى الإنسان الجوهرية ([57]) – الواقع الإنساني، ولهذا السبب واقع قواه الجوهرية الخاصة. والطريقة التي تصبح بها هذه الموضوعات موضوعاته تتوقف على طبيعة الموضوعات وعلى طبيعة القوة الجوهرية التي تتوافق معها، لأن تحديد هذه العلاقة هو بالدقة الذي يشكل أسلوب التأكيد الخاص الواقعي. فالموضوع يوجد بالنسبة للعين بطريقة مختلفة عما يوجد به بالنسبة للأذن، وموضوع العين موضوع آخر غير موضوع الأذن. وخصوصية كل قوة جوهرية هي بالتحديد ماهيتها الخاصة، ومن هنا فإنها أيضًا الأسلوب الخاص لموضعتها، الأسلوب الخاص لوجودها الحي الواقعي موضوعيًا، وهكذا يتأكد الإنسان في العالم الموضوعي لا في فعل التفكير وحده، بل بكل حواسه. ومن الناحية الأخرى فإذا نظرنا إلى هذا في جانبه الذاتي: فتمامًٍا كما أن الموسيقى وحدها توقظ في الإنسان حاسة الموسيقى، وتمامًا كما أن أجمل موسيقى ليس لها معنى بالنسبة للإذن غير الموسيقية – ليست موضوعًا لها، لأن موضوعي لا يمكن أن يكون ألا تأكيد أحدى قواي الجوهرية، ولا يمكن بالتالي أو يكون كذلك بالنسبة لي إلا حين تبدو قواي الجوهرية لذاتها كقدرة ذاتية، لأن معنى موضوع ما بالنسبة لي لا يمتد إلا بمقدار ما تمتد حواسي (ليس له معنى إلا بالنسبة لحاسة تتجاوب مع هذا الموضوع) – ولهذا السبب فإن حواس الإنسان الاجتماعي حواس أخرى غير حواس الإنسان غير الاجتماعي. فمن خلال التفتح الموضوعي لثروة الوجود الجوهري للإنسان يمكن أن تربى أو أن تولد ثروة الحساسية الإنسانية الذاتية (الأذن الموسيقية والعين التي تحس جمال الشكل – وباختصار الحواس القادرة على الإشباع الإنساني، الحواس التي تؤكد ذاتها كقوى جوهرية للإنسان)، فما يسمى بالحواس الإنساني – إنسانية الحواس – وليس فحسب الحواس الخمس – إنما تولد بفضل موضوعها، بفضل الطبيعة المتسمة بالإنسانية. وتكون الحواس الخمس هو عمل تاريخ العالم كله حتى وقتنا الحالي. والحاسة التي تكون أسيرة الحاجة العملية ليست سوى حاسة مقيدة، فبالنسبة للإنسان الذي يتصور جوعًا ليس الشكل الإنساني للطعام هو الذي يوجد، وإنما فقط شكله المجرد كطعام، ولا يهم عنده أن يكون في أكثر أشكاله فجاجة، ويكون من المستحيل أن نقول أين تختلف هذا النشاط الغذائي عن نشاط الحيوانات. والإنسان المثقل بالأعباء والذي يعاني الحاجة ليس لديه حس لأرقى مسرحية، وتأجر المعادن لا يرى إلا القيمة التجارية للمعادن. ولا يرى جمالها ولا طبيعتها الفريدة: أنه ليست لديه حاسة معدنية. وهكذا فإن موضعة الماهية الإنسانية في كل من جانبيها النظري والعملي لأزمة لجعل حاسة الإنسان إنسانية، ولخلق الحاسة الإنسانية التي تتوافق مع كل ثروة الجوهر الإنساني والطبيعي. وتمامًا كما ينشأ عن حركة الملكية الخاصة، عن ثروتها فضلاً عن بؤسها – أو عن ثروتها وبؤسها المادي والروحي – أن يجد المجتمع البازغ تحت يده كل المواد اللازمة لهذا التطور: فإن المجتمع الراسخ ينتج الإنسان في هذا الثراء الكامل لوجوده – ينتج الإنسان الثري الذي يتمتع بعمق بكل الحواس – باعتباره واقعه الثابت. وهكذا سنرى كيف أن الذاتية والموضوعية، الروحية والمادية، الفاعلية والمعاناة، أنما تفقد طابعها التناقضي – ومن ثم وجودها من حيث هي متناقضة – في ظروف المجتمع، سنرى كيف أن حل التناقض النظري ليس ممكنًا إلا بطريقة عملية، بفضل الطاقة العملية للناس. ومن هنا فإن حله ليس بأي حال مجرد مشكلة معرفة، بل مشكلة واقعية للحياة لم تستطع الفلسفة حلها بالتحديد لأنها تصورت هذه المشكلة كمجرد مشكلة نظرية. وسنرى كيف أن تاريخ الصناعة، والوجود القائم الموضوعي للصناعة، هما الكتاب المفتوح لقوى الإنسان الجوهرية، وكشف السيكولوجيات الإنسانية أمام الحواس. وحتى الآن لم يكن هذا يتصور في علاقته التي لا تنقصم بالوجود الجوهري للإنسان وإنما في علاقة خارجية بالمنفعة، لأن الناس – إذ يتحركون في مملكة الاغتراب – لم يستطيعوا أن يروا إلا أسلوب الوجود العام للإنسان – الدين أو التاريخ في طابعه المجرد العام كسياسة وفن وأدب الخ... – كحقيقة لقوى الإنسان الجوهرية وفاعلية الإنسان النوعية. أن أمامنا القوى الجوهرية المتوضعة للإنسان في شكل مواضيع حسية منسلبة مفيدة، في شكل اغتراب، معروضة في صناعة مادية عادية (يمكن تصورها كجزء من هذه الحركة العامة، تمامًا كما يمكن تصور هذه الحركة كجزء خاص من الصناعة لأن كلك الفاعلية الإنسانية حتى الآن كانت عملاً – أي صناعة – فاعلية مغتربة عن ذاتها). والسيكولوجيا التي يبقى هذا بالنسبة لها – هذا الجزء من التاريخ الأكثر معاصرة وقربًا من الحواس – كتابًا مغلقًَا، لا يمكن أن تصبح علمًا واقعيًا شاملاً حقًا. فالحق ماذا يمكن أن نقوله عن علم يلغي في استخفاف هذا الجزء الكبير من العمل الإنساني، ويعجز عن أن يرى عدم كماله، في حين أن مثل هذا الثروة من الجهد الإنساني المتفتحة أمامه لا تعني بالنسبة له أكثر مما قد يمكن أن تعبر عنه كلمة واحدة – "الحاجة"،... "الحاجة المبتذلة"؟ لقد طورت العلوم الطبيعية فاعلية هائلة، وجمعت كتلة متزايدة على الدوام من المواد. غير أن الفلسفلة بقيت غريبة عنها كما بقيت هي غريبة عن الفلسفة. ولم تكن وحدتها المؤقتة إلا وهمًا خياليًا. توفرت الإدارة ولم تتوفر الوسائل. وحتى التاريخ لا يولي اهتمامًا للعلم الطبيعي إلا بشكل عابر كعامل للتنوير والمنفعة ناشيء عن الاكتشافات الفردية العظيمة. لكن العلم الطبيعي غزًا الحياة الإنسانية وحولها رغم هذا عمليًا من خلال وساطة الصناعة، ومهد للإنعتاق الإنساني، وإن كان عليه إلى حد كبير وبشكل مباشر أن يكمل نزع الإنسانية. فالصناعة هي العلاقة التاريخية الفعلية للطبيعة – ومن ثم للعلم الطبيعي – بالإنسان. ومن هنا فإذا أدركت الصناعة باعتبارها انكشافًا خارجيًا لقوى الإنسان الجوهرية، فإننا نكسب أيضًا فهمًا للماهية الإنسانية للطبيعة، أو الماهية الطبيعية للإنسان. وبالتالي فإن العلم الطبيعي سيفقد اتجاهه المادي المجرد – أو بالأحرى اتجاهه المثالي – وسيصبح أساس العلم الإنساني كما أصبح بالفعل بأساس الحياة الإنسانية الفعلية وأن يكن في شكل مغترب. أن القول بأساس للحياة وأساس آخر للعلم هو بداهة أكذوبة. فالطبيعة التي تجد صيرورتها في التاريخ الإنساني – مولد المجتمع الإنساني – هي طبيعة الإنسان الواقعية، ومن هنا فإن الطبيعة كما توجد من خلال الصناعة – وأن يكن في شكل مغترب – هي طبيعة أنثربولوجية حقيقية. والإدراك الحسي (أنظر فيورباخ) يجب أن يكون أساس كل علم. ولا يكون العلم علمًا حقيقيًا إلا حين ينطلق من الإدراك الحسي في شكله المزدوج سواء كوعي حسي أو حاجة حسية – أي حين ينطلق من الطبيعة. وكل التاريخ هو التمهيد لأن يصبح "الإنسان" موضوعًا للوعي الحسي وتصبح حاجات "الإنسان كإنسان" حاجات "طبيعية حسية". والتاريخ ذاته جزء واقعي من التاريخ الطبيعي – من صيرورة الطبيعة إنسانًا. ومع الزمن سيشمل العلم الطبيعي علم الإنسان، تمامًا كما سيشمل علم الإنسان العلم الطبيعي: وسيكون هناك علم واحد. والإنسان هو الموضوع المباشر للعلم الطبيعي: لأن الطبيعة الحسية المباشرة بالنسبة للإنسان هي بشكل مباشر حساسية إنسانية (والتعبيران متطابقان) – معروضة مباشرة في بشكل مباشرة حساسية إنسانية (والتعبيرات متطابقان) – معروضة مباشرة في شكل الإنسان الآخر الموجود حسيًا للإنسان الآخر. لكن الطبيعة هي الموضوع المباشر لعلم الإنسان: أن الموضوع الأول للإنسان – الإنسان – هو طبيعة، هو حسية، ولا يمكن للقوى الجوهرية الحسية الإنسانية الخاصة أن تتعرف على ذاتها إلا في علم العالم الطبيعي عمومًا، لأنها لا تستطيع أن تجد تحققها الموضوعي إلا في موضوعات طبيعة حسية. فالواقع الاجتماعي للطبيعة، والعلم الطبيعي الإنساني، أو العلم الطبيعي عن الإنسان، كلها تعبيرات متطابقة. وسنرى كيف أنه مكان ثروة وبؤس الاقتصاد السياسي يأتي الكائن الإنساني الغني والحاجة الإنسانية الغنية، والكائن الإنساني الغني هو في نفس الوقت الكائن الإنساني الذي يشعر بالحاجة لكلية فعاليات الحياة الإنسانية – الإنسان الذي يوجد فيه تحققه الخاص كضرورة داخلية، كحاجة، ولا يقتصر الأمر على الثروة وحدها، بل بالمثل فإن فقر الإنسان – مع افتراض الاشتراكية – يحصل بنفس القدر على مغزى إنساني ومن ثم اجتماعي. فالفقر هو الرابطة السلبية التي تجعل الكائن الإنساني يشعر بالحاجة إلى أكبر ثروة – إلى الكائن الإنساني الآخر. أن مجال الوجود الموضوعي في، التفجر الحي لفاعليتي الجوهرية، هو العاطفة التي تصبح من هنا فاعلية وجودي. (5) أن الكائن لا يعتبر نفسه مستقلاً إلا حين يقف على قدميه، وهو لا يقف على قدميه إلا حين يدين بوجوده لذاته، والإنسان الذي يعيش بفضل غيره يعتبر نفسه كائنًا تابعًا. لكنني أعيش كلية بفضل آخر إذا لم أكن أدين له فحسب بالإبقاء على حياتي، بل إذا كان فضلاً عن ذلك قد خلق حياتي – إذا كان هو مصدر حياتي. وإذا لم تكن حياتي من خلقي، فإن لها بالضرورة مصدرًا من هذا النوع خارجها. ومن هنا فإن الخلق فكرة من الصعب نزعها من الوعي الشعبي، فالوجود الذاتي للطبيعة والإنسان أمر غير مفهوم لهذا الوعي، لأنه يتناقض كل شيء ملموس في الحياة العملية. وقد تقلت فكرة خلق الأرض ضربة قوية من علم تاريخ الأرض “geogeny”، أي من العلم الذي يعرض تكون الأرض، صيرورة الأرض، كعملية، كتوليد ذاتي، فالتوالد التلقائي هو التفنيد العملي الوحيد لنظرية الخلق. ومن السهل الآن بالتأكيد أن نقول للفرد المفرد ما قاله أرسطو من قبل. لقد ولدت لأبيك وأمك، ومن ثم ففيلك أنتج تزاوج كاثنين أنسبانيين – وهو فعل نوعي لكائنات إنسانية – الكائن الإنساني، ومن هنا فأنت ترى أن الإنسان يدين بوجوده – حتى جسديًا – للإنسان ومن هنا يجب ألا تبصر فحسب جانبًا واحدًا – التسلسل “Progression” اللا نهائي الذي يدفعك إلى أن تتساءل: "من الذي أنجب والدي؟ ومن أنجب جدي؟ الخ...". بل يجب كذلك أن تبصر الحركة الدائرية التي تردك حسيًا في هذا التسلسل والتي يكرر الإنسان ذاته عن طريقها في التكاثر، وبذلك يظل دائمًا الذات. غير أنك ستجيب: سأسلم لك بهذه الحركة الدائرية، فلتسلم لي بالتسلسل الذي يدفعني أكثر إلى أن أسأل: من الذي أنجب الإنسان الأول والطبيعة ككل؟ ولا أستطيع إلا أن أجيبك: أن سؤالك نفسه نتاج تجريد. أسأل نفسك كيف وصلت إلى هذا السؤال. أسأل نفسك عما إذا لم يكن سؤالك مطروحًا من زاوية لا أستطيع أن أجيب عليها، لأنها زاوية معكوسة. أسأل نفسك عما إذا كان مثل هذا التسلسل من حيث هو تسلسل موجود بالنسبة لذهن عاقل، فأنت حين تسأل عن خلق الطبيعة والإنسان فإنك تجرد – بفعلك هذا – من الطبيعة والإنسان. أنك تفترض أنهما غير موجودين ورغم هذا فإنك تريد مني أن أثبتهما لك كموجودين. وأنا الآن أقول لك: تخل عن تجريدك وستتخلى أيضًا عن سؤالك. أو أذا أردت أن تظل متمسكًا بتجريدك فكن متسقًا، وإذا كنت تفرك في الإنسان والطبيعة باعتبارهما غير موجودين، ففكر في نفسك كغير موجود، لأنك أيضًا بالتأكيد طبيعة وإنسان. لا تفكر، ولا تسألني، لأنه حالما تفكر وتسأل فليس لتجريدك من وجود الطبيعة والإنسان معني. أم هل أنت من الأنانية بحيث تفترض كل شيء كلا شيء ورغم هذا تريد أن تكون أنت نفسك موجودًا؟ وتستطيع أن تجيب: لا أريد أن أفترض لا شيئية الطبيعة، فأنا أنما أسألك عن مولدها كما أسأل عالم التشريح عن تكوين العظام الخ.... ولكن لما كان كل ما يسمى تاريخ العالم هو بالنسبة للإنسان الاشتراكي – لا يعدو أن يكون أنجاب الإنسان عن طريق العمل الإنساني، لا يعدو أن يكون صيرورة الطبيعة للإنسان، فإن لديه البرهان المرئي الذي لا يدحض على مولده خلال ذاته، على عملية صيرورته، ولما كان الوجود الحقيقي للإنسان والطبيعة قد أصبح عمليًا وحسيًا ومدركًا – لما كان الإنسان قد أصبح للإنسانة كوجود للطبيعة، والطبيعة قد أصبحت للإنسان كوجود للإنسان – فإن السؤال عن كائن غريب، عن كائن فوق الطبيعة والإنسان – وهو سؤال يتضمن الاعتراف بلا جوهرية الطبيعة والإنسان – قد أصبح مستحيلاً في الممارسة. والإلحاد كإنكار لهذه اللا جوهرية لم يعد له معنى، أن الإلحاد هو نفي الله، وهو يفترض وجود الإنسان خلال هذا النفي، لكن الاشتراكية كاشتراكية لم تعد بحاجة إلى مثل هذا الوسيط. إنها تنطلق من الوعي الحسي عمليًا ونظريًا للإنسان وللطبيعة كجوهر. والاشتراكية من وعي الذات الإيجابي للإنسان الذي لم يعد موجودًا بالوساطة من خلال إلغاء الدين، تمامًا كما أن الحياة الواقعية هي واقع الإنسان الإيجابي الذي لم يعد موجودًا بالوساطة خلال إلغاء الملكية الخاصة، خلال الشيوعية. الشيوعية هي الإيجاب كنفي للنفي، ومن هنا فإنها المرحلة الواقعية الضرورية للمرحلة التالية من التطور التاريخي في عملية الانعتاق والاسترجاع البشريين. الشيوعية من النموذج الضروري للمبدأ الدينامي للمستقبل القريب، لكن الشيوعية باعتبارها هذا ([58]) ليست هدف التطور الإنساني – هيكل المجتمع الإنساني.
(معني الحاجات الإنسانية حيث توجد الملكية الخاصة وفي ظل الاشتراكية الفارق بين الثروة المبددة والثروة الصناعية. تقسيم العمل في المجتمع البورجوازي) (7) رأينا أي دلالة تكون لثروة الاحتياجات الإنسانية – إذا افترضنا الاشتراكية – وأي دلالة تكون بالتالي لكل من أسلوب الإنتاج الجديد والموضوع الجديد للإنتاج: للتجلي الجديد لقوى الطبيعة الإنسانية والإثراء الجديد للطبيعة الإنسانية ([59]) . وفي ظل الملكية الخاصة تكون دلالتهما معكوسة: فكل امرئ يضارب على خلق حاجة جديدة لدى آخر، حتى يدفعه لتضحية جديدة، وليضعه في تبعية جديدة، وليغريه بأسلوب جديد من الإشباع ومن ثم للدمار الاقتصادي. أن كل امرئ يحاول أن يفرض على الآخر قوة غريبة، حتى يستطيع بذلك أن يجد الإشباع لحاجته الأنانية. ويصحب الزيادة في كمية الموضوعات اتساع لمملكة القوى الغربية التي يخضع لها الإنسان، ويمثل كل ناتج جديد إمكانية جديدة للخداع المتبادل والسرقة المتبادلة. أن الإنسان يصبح أكثر فقرًا كإنسان، وتصبح حاجته إلى المال عكس مع زيادة حجم الإنتاج: أي أن احتياجه ينمو مع ازدياد قوة النقود. وهكذا فإن الحاجة إلى المال هي الحاجة الحقيقية التي ينتجها النظام الاقتصادي الحديث، وهي الحاجة الوحيدة التي ينتجها هذا النظام، وتصبح كمية المال بدرجة متزايدة هي الخاصية الوحيدة الفعالة للمال: وتمامًا كما أنه يهبط بكل شيء إلى شكله المجرد فإنه يهبط بذاته في مجرى حركته إلى مجرد شيء كمي. ويصبح الإسراف والإفراط معياره الحقيقي. ومن الناحية الذاتية فإن هذا يتجلي جزئيًا في أن أتساع المنتجات والحاجات يهبط إلى عبودية مبتدعة دائمة الحساب لرغبات غير إنسانية مترفة غير طبيعية خيالية، أن الملكة الخاصة لا تعرف كيف تغير الحاجة الفجة إلى حاجة إنسانية، ومثاليتها هي الخيال والهوى والنزوة، وما من خصي يتملق سيدة بدناءة أكبر، أو يستخدم وسائل أكثر حقارة لإثارة طاقته المتبلدة على الاستمتاع حتى يستطيع أن يختلس منفعة لنفسه، مثلما يفعل خصي الصناعة – المنتج – لكي يختلس لنفسه بضع بنسات، لكي يسحر الطيور الذهبية فتخرج من جيوب جيرانه الذين يحبهم حبًا مسيحيًا. أنه يضع نفسه في خدمة أكثر خيالات الآخر فسادًا، ويلعب دور القواد بينه بين حاجته، ويثير فيه رغبات عفنة، ويكمن منتظرًا كل وجه من أوجه ضعفه – كل ذلك حتى يستطيع عندئذ أن يطلب مالاً مقابل هذه الخدمة الودية. (فكل ناتج هو طعم يسعى به إلى اجتذاب وجود الآخر، ماله. وكل حاجة حقيقية وممكنة ضعف سيقود الذبابة إلى إناء الغراء؛ استغلال عام للطبيعة الإنسانية الجماعية. وتمامًا كما أن كل نقيصه في الإنسان هي رابطة بينه وبين السماء – طريق يصل بالكاهن إلى قلبه، فإن كل حاجة هي فرصة للاقتراب من جارك تحت قناع أقصى قدر من الود لتقول له: إيها الصديق العزيز، أني أعطيك ما تحتاجه، لكنك تعرف الشرط الذي لا مفر منه، أنت تعرف المدار الذي عليك أن توقع به لي، فأنا أنهبك بتزويدك بمتعتك). ويتجلى هذا الاغتراب جزئيًا في أنه ينتج ترفه الحاجات ووسائلها من ناحية، وبربرية حيوانية، بساطة كاملة غير مرفهة مجردة للحاجة من ناحية أخرى، أوي بالأحرى في أنه أنما يبعث ذاته في نقيضه. فحتى الحاجة إلى الهواء الطلق تتوقف بالنسبة للحامل، ويعود الإنسان إلى العيش في الكهف الذي أصبح الآن – فضلاً عن ذلك – ملوثًا بنفس الطاعون العفن الذي تنفثه المدنية، والذي لم يعد يشغله إلا بشكل غير مستقر إذ يصبح بالنسبة له مسكنًا غريبًا يمكن أن يسحب منه في أي يوم – مكانًا يمكن أن يطرد منه في أي يوم إذا لم يدفع. وعليه أن يدفع مقابلاً لهذا القبر. أن مسكنًا في النور – الذي أشار إليه برومثيوس عند أسخيلوس باعتباره واحدًا من أعظم العطايا التي تمكن عن طريقها من أن يحول الهمجي إلى كائن إنساني – يكف عن الوجود بالنسبة للعامل. والضوء والهواء الخ... – وأبسط نظافة حيوانية – تكف عن أن تكون حاجة للإنسان. والقذارة – هذا الركود والتعفن للإنسان – بالوعة المدنية هذه (بالمعنى الحرفي تمامًا) – تصبح هي عنصر الحياة بالنسبة له. والإهمال الكامل غير الطبيعي، الطبيعة المتعفنة، تصبح هي عنصر حياته. أن واحدة من حواسه لم تعد موجودة، لا بالطريقة الإنسانية فحسب، بل حتى بطريقة غير إنسانية، ومن ثم حتى بطريقة حيوانية. وتعود ثانية أكثر أساليب (وأدوات) العمل فظاظة: أن طاحونة العبيد الرومان مثلاً هي وسيلة الإنتاج. وسيلة الوجود، لكثير من العمال الإنجليز. ولم يعد الأمر قاصرًا على أن الإنسان ليست له حاجات إنسانية – فحتى حاجاته الحيوانية تكف عن الوجود. فالأيرلندي لم يعد يعرف أي حاجة إلا الحاجة لأن يأكل. وفي الحقيقة إلا الحاجة لأن يأكل البطاطس – وبطاطس الخنازير في الواقع، أي أسوأ أنواع البطاطس. لكن لدى كل من انجلترا وفرنسا بالفعل في كل مدينة من مدنهما الصناعية أيرلندا صغيرة. أن لدى الهمجي والحيوان على الأقل الحاجة إلى الصيد، إلى التجول الخ... – الحاجة إلى الصحبة، أن العمل الآلي يبسط لكي يحول إلى عامل الكائن الإنساني الذي لا يزال في طور الصنع، الذي لا يزال غير ناضج كلية، الطفل – في حين أصبح العامل طفلاً مهملاً. وتكيف الآلة نفسها مع ضعف الكائن الإنساني لكي تحول الكائن الإنساني الضعيف إلى آلة. أما كيف يولد تضاعف الحاجات ووسائل إشباعها غياب الحاجات والوسائل فهذا ما يوضحه رجل الاقتصاد السياسي (والرأسمالي: وينبغي أن نلاحظ أننا أنما نتحدث دائمًا عن رجال الأعمال التجريبيين حين نشير إلى رجال الاقتصادي السياسي – باعتبارهم اعترافهم وأسلوب وجودهم العلمي). وهو يوضح ذلك: (1) بالهبوط بحاجة العامل إلى أدنى وأبأس مستوى للبقاء الجسدي، والهبوط بفاعليته إلى الحركة الميكانيكية الأكثر تجريدًا. ومن هنا فإنه يقول: ليس لدى الإنسان حاجة أخرى سواء للفاعلية أو للمتعة. لأنه يسمى حتى هذه الحياة، حياة ووجودًا إنسانيين. (2) باعتبار أدنى مستوى ممكن للحياة (الوجود) معيارًا، وفي الحقيقة المعيار العام – وهو عام لأنه قابل للتطبيق على جمهور الناس. أنه يحول العامل إلى كائن بلا حس يفتقر إلى كل الحاجات، تمامًا كما يحول فاعليته إلى محض تجريد من كل فاعلية. ومن هنا فإن كل ترف للعامل يبدو له شيئًا يستحق اللوم، وكل ما يتجاوز الحاجة الأكثر تجريدًا – ولو كان في مملكة المتعة السلبية أو تجليًا للفاعلية – يبدو له ترفًا. ومن هنا فإن الاقتصاد السياسي – علم الثروة هذا – هو في نفس الوقت علم الإنكار، العور، التقتير، الادخار – وهو يصل في الواقع على النقطة التي يعفي فيها الإنسان من الحاجة إلى أي من الهواء الطلق أو التمارين البدنية. أن علم الصناعة الزائفة هذا هو في نفس الوقت علم الزهد، ومثله الأعلى هو البخيل الزاهد، والمرابي في نفس الوقت، والعبد الزاهد، والمنتج في نفس الوقت. ومثله الأعلى الأخلاقي هو العامل الذي يأخذ جزءًا من أجره إلى بنك الادخار، بل لقد وجد فنا دنيئًا جاهزًا يغلف فيه فكرته المفضلة هذه: لقد عرضوها غارقة في العاطفية فوق خشبة المسرح. وهكذا فإن الاقتصاد السياسي – رغم مظهره الدنيوي الشهواني – هو علم أخلاقي حقًا، أكثر العلوم أخلاقيه. فإنكار الذات، إنكار الحياة وكل الحاجات الإنسانية، هو مبدأه الرئيسي. وكلما قل ما تأكله وتشربه وتقرؤه من كتب، وقل ترددك على المسرح وقاعة الرقص والمقصف، وقل نصيبك من التفكير والحب والتنظير والغناء والرسم والمبارزة الخ... كلما زاد ما تدخره – كلما زاد كنزك الذي لا تستطيع العتة ولا الغبار أن تلتهمه – زاد رأسمالك. كلما قل وجودك زاد ما تملك، كلما قل تعبيرك عن حياتك، زادت حياتك المنسلبة – زاد رصيد وجودك المغترب. وكل ما يأخذه رجل الاقتصاد السياسي منك في الحياة الإنسانية يعطيك بدلاً منه مالاً وثروة. وكل ما لا تستطيع صنعه، يصنعه مالك. أنه يستطيع أن يأكل ويشرب ويذهب إلى قاعة الرقص والمسرح، يستطيع أن يرحل، وأن يمتلك الفن والتعليم وكنوز الماضي والسلطة السياسية – أن كل هذا يستطيع أن يمتلكه لك – أنه يستطيع أن يشترى هذا كله لك، أنه العطية الحقيقية. بيد أنه وهو كذلك، فإنه يميل إلى ألا يفعل شيئًا إلا أن يخلق ذاته. يشتري ذاته، لأن كل شيء آخر هو في نهاية الأمر خادم له. وحين أمتلك السيد فإنني أمتلك الخادم ولست في حاجة إلى خادمه، ومن هنا فإن كل العواطف وكل فاعلية لا بد أن تغرق في التعطش إلى الثروة. وليس للعامل إلا أن يكون له ما يكفيه لكي يعيش، وليس له أن يعيش إلا لكي يكون له (ما يكفيه). وبالطبع يثور هنا جدال في مجال الاقتصاد السياسي. فأحد الأطراف (لوديرديل، مالتس... الخ...) يوصي بالترف ويلعن التقتير، والآخر (ساي، ريكاردو... الخ...) يوصي بالتقتير ويلعن الترف. لكن الطرف الأول يعترف بأنه يريد الترف حتى ينتج العمل (أي التقتير المطلق) والآخر يعترف بأنه يوصى بالتقتير لكي ينتج الثروة (أي الترف). ولدى مدرسة لوديرديل – مالتس فكرة رومانسية هي أن التعطش إلى الثروة وحده لا ينبغي أن يحدد استهلاك الغني، وهي تناقض قوانينها بتقديم الإشراف كوسيلة مباشرة للثراء. ومن هنا فإن الجانب الآخر – في مواجهتها – يثبت بحماس شديد وتفصيل بالغ أنني لا أزيد – بل أنقص – ملكياتي بالإسراف. غير أن مدرسة ساي – ريكاردو مرائية في عدم اعترافها بأن الهوى والنزوات هي بالدقة التي تحدد الإنتاج، أنها تنسى "الحاجات المرفهة"، إنها تنسى أنه لن يكون هناك إنتاج دون الاستهلاك، إنها تنسى أنه نتيجة للمنافسة فإن الإنتاج لا يمكن إلا أن يكون أكثر أتساعًا ورفاهية، إنها تنسى أن الاستعمال هو الذي يحدد قيمة الشيء، وإن "الموضة" تقرر الاستعمال، إنها لا تريد أن ترى إلا إنتاج "الأشياء المفيدة" لكنها تنسى أن أنتاج قدر عديمي الجدوى. وكلا الطرفين ينسى أن الإسراف والتقتير، والترف والحرمان، الثروة والفقر، كلها متساوية. ولا ينبغي عليك فقط أن تقتصد في الإرضاء المباشر لحواسك، بالاقتصاد في طعامك الخ... بل عليك أن تعفي نفسك من كل مشاركة في الاهتمام العام، من كل تعاطف، من كل ثقة الخ... إذا أردت أن تكون اقتصاديًا، إذا لم ترد أن تحطمك الأوهام. وينبغي أن تجعل كل ما لك قابلاً للبيع أن مفيدًا، فإذا أنا سألت رجل الاقتصاد السياسي: هل أنا أطيع قوانين الاقتصاد السياسي إذا انتزعت المال بتقديم جسدي للبيع بالاستسلام لشهوة آخر؟ (وعمال المصانع في فرنسا يسمون بغاء زوجاتهم وبناتهم ساعة العمل الإضافية وهو أمر صحيح حرفيًا) – أم هل أنا لا أتصرف وفق الاقتصاد لو أنني بعت صديقي للمغاربة؟ (والبيع المباشر للناس في شكل الإنجاز في المجندين الخ... يحدث في كل البلاد المتمدينة) – عندئذ سيجيبني رجل الاقتصاد السياسي: إنك لا تنتهك قوانيني، ولكن أنظر ماذا سيقول ابن عمي الأخلاق وابن عمي الدين عن ذلك. أن أخلاقي وديني الاقتصاديين السياسيين لا يأخذان عليك شيئًا ولكن – ولكن من أصدق الآن، الاقتصاد السياسي أم الأخلاق؟ أن أخلاق الاقتصاد السياسي هي الاكتساب والعمل والتقتير والاعتدال – ولكن الاقتصاد السياسي يعد بإشباع احتياجاتي. والاقتصاد السياسي للأخلاق هو ثروة الضمير المستريح والفضيلة الخ... ولكن كيف أستطيع أن أعيش فاضلاً إذا لم يكن أعيش؟ وكيف يكون لدى ضمير مستريح إذا لم أكن أعي شيئًا؟ وينبع عن ذات طبيعة الاغتراب أن كل مجال يطبق على معيارًا آخر، لأن كلا منهما اغتراب محدد للإنسان، يركز الانتباه على مجال خاص من الفاعلية الجوهرية المغتربة، وكل منهما يقف في اغتراب بالنسبة للآخر. وهكذا يأخذ ميشيل شيفالييه على ريكاردو أنه يزيل الأخلاق، لكن ريكاردو إنما بسمح للاقتصاد السياسي أن يتحدث بلغته، وإذا كان لا يتحدث أخلاقيًا فليس هذا خطأ ريكاردو، وشيفالييه يزيل الاقتصادي السياسي إلى الحد الذي يتحدث فيه أخلاقيًا، لكنه في الحقيقة وبالضرورة ينفصل عن الأخلاق إلى الحد الذي يمارس فيه الاقتصاد السياسي. وأشار الاقتصاد السياسي إلى الأخلاق، إذ لم تكن أشارة متعسفة عارضة ومن ثم غير ذات أساس وغير علمية، إذ لم تكن أشارة زائفة وإنما يراد لها أن تكون جوهرية، لا يمكن غلا أن تكون أشارة قوانين الاقتصادي السياسي إلى الأخلاق، فإذا لم تكن هناك مثل هذه العلاقة، أو إذا كان الأمر بالأحرى هو العكس – فماذا يستطيع ريكاردو أن يفعل؟ وفضلاً عن ذلك فإن التعارض بين الاقتصاد السياسي والأخلاق ليس سوى تعارض زائف، وهو لا تعارض بقدر ما هو تعارض، وكل ما يحدث هو أن الاقتصاد السياسي يعبر عن القوانين الأخلاقية بطريقته الخاصة. وتظهر اللا حاجة كمبدأ للاقتصاد السياسي أوضح ما تظهر في نظريته عن السكان. أن هناك عددًا أكبر مما يجب من الناس. فحتى وجود الناس في مجرد ترف، وإذا كان العامل "أخلاقيًا" فإنه سيوفر في تكاثره (ويقترح ميل الثناء العلني على أولئك الذين يقتصدون في علاقاتهم الجنسية، واللوم العلني لأولئك الذي يخطئون ضد مثل هذا الزواج العقيم... أليست هذه هي الأخلاق، وتعاليم الزهد؟). أن إنتاج الناس يبدو في شكل تعاسة عامة. والمعنى الذي للإنتاج في علاقته بالغنى ينكشف في المعنى الذي له بالنسبة للفقير. ففي القمة يكون التجلي دائمًا مرفهًا مقنعًا غامضًا – أكذوبة، وفي السفح يكون خشنًا مباشرًا صريحًا – الشيء الحقيقي. أن حاجة العامل الفجة مصدر للكسب أكبر من حاجة الغنى المرفهة، ومساكن الأقبية ف6ي لندن تجلب لمؤجريها أكثر مما تجلب القصور، أي أنها – بالنسبة للمالك – تشكل ثورة أكبر وبالتالي (إذا تحدثنا بلغة الاقتصاد السياسي) تشكل ثروة اجتماعية أكبر. وتضارب الصناعة على رفاهية الحاجات، لكنها تضارب بنفس القدر على فجاجتها، وإنما على فجاجتها المنتجة بشكل مصطنع، والتي تكون متعتها الحقة هي التخدير الذاتي – هذا الإشباع الظاهري للحاجة – هذه المدينة المحتواة داخل البربرية الفجة للحاجة. ومن هنا فإن الحانات البريطانية هي التجسيد الرمزي للملكية الخاصة. أن ترفها يكشف العلاقة الحقيقية بين ترف الصناعة وثروتها وبين الإنسان. ومن هنا فإنها بحق متعة الأحد الوحيد للناس التي يعاملها البوليس الانجليزي بلطف على الأقل. رأينا بالفعل كيف يقيم رجل الاقتصاد السياسي الوحدة بين العمل ورأس المال بطرق متنوعة: (1) فرأس المال عمل متراكم. (2) وغاية رأس المال داخل الإنتاج – جزئيًا تجدد إنتاج رأس المال مع الربح وجزئيًا رأس المال كمادة خام (مادة العمل) وجزئيًا باعتباره هو ذاته أداة عمل (الآلة هي رأسمال يسوى مباشرة بالعمل) – هي العمل الإنتاجي. (3) العامل رأسمالي. (4) الأجور تنتمي إلى تكاليف رأس المال. (5) بالنسبة للعمال فإن العمل هو تجدد إنتاج رأسمال حياته. (6) بالنسبة للرأسمالي فإن العمل أحد جوانب فاعلية رأسماله. وأخيرًا (7) يفترض رجل الاقتصاد السياسي الوحدة الأصلية لرأس المال والعمل في شكل الوحدة بين الرأسمالي والعامل، وهذه هي حالة الفردوس الأصلية. والطريقة التي يقفز بها هذان الجانبان في شكل شخصين ليأخذوا بخناق بعضهما البعض هي بالنسبة لرجل الاقتصاد السياسي حادث عارض، ومن هنا لا يمكن تفسيره إلا بالرجوع إلى عوامل خارجية (أنظر ميل) ([60]) . والأمم التي لا تزال تخلب لبها الروعة الحسية للمعادن الثمينة، ومن هنا لا تزال عابدة وثنية للنقود المعدنية، ليست بعد أممًا نقدية كاملة التطور – قارن فرنسا بانجلترا. ويتضح المدى الذي يكون فيه حل الألغاز النظرية مهمة الممارسة، ويتم من خلال الممارسة – تمامًا كما أن الممارسة الحقة هي شرط لنظرية حقيقية وإيجابية – يتضح هذا المدى على سبيل المثال في الوثنية “Fetishism” والوعي الحسي لعابد الوثن مختلف عن وعي الأغريقي لأن وجوده الحسي أيضًا مختلف. والعداء المجرد بين الحس والروح ضروري طالما أن الشعور الإنساني بالطبيعة، الحس الإنساني للطبيعة، ومن هنا الحس الطبيعي للإنسان، لم ينتجه بعد عمل الإنسان. والمساواة ليست إلا ترجمة للعبارة الألمانية "أنا = أنا" إلى الفرنسية أي إلى الشكل السياسي. والمساواة كأساس للشيوعية هي تبريرها السياسي، وهذا هو نفس ما يحدث حين يبررها الألماني بتصور الإنسان كوعي ذات كلي. وبالطبع فإن تخطي الاغتراب ينطلق دائمًا من شكل الاغتراب الذي يكون قوة مسيطرة: في ألمانيا... وعي الذات، في فرنسا... المساواة بسبب السياسة، في انجلترا الحاجة العملية الحقيقية المادية التي تأخذ ذاتها فحسب كمقياس لذاتها. ومن هذه الزاوية ينبغي أن ينتقد برودون وأن يقدر. إذا نحن شخصنا الشيوعية ذاتها بسبب طبيعتها كنفي للنفي، كتملك للجوهر الإنساني الذي يصالح ذاته مع ذاته مع ذاته خلال نفي الملكية الخاصة – باعتبار أنها لم تصبح بعد الوضع الحقيقي الناشئ عن ذاته، بل بالأحرى وضعًا ناشئًا عن الملكية الخاصة (.......) ([61]) . ولما كان الاغتراب الحقيقي لحياة الإنسان يبقى في هذه الحالة ([62]) ، ويبقى بدرجة أكبر كلما زاد وعي المرء به من حيث هو اغتراب، فإنه لا يمكن أن يتحقق إلا بتطبيق الشيوعية. ولكي نلغي فكرة الملكية الخاصة فإن فكرة الشيوعية كافية تمامًا. بيد أن الأمر يتطلب فعلاً شيوعيًا واقعيًا لإلغاء الملكية الخاصة الواقعية. وسيصل التاريخ إليه؛ وهذه الحركة التي نعرفها بالفعل في النظرية باعتبارها حركة تتخطى ذاتها ستمثل في الواقع الفعلي عملية طويلة وقاسية للغاية. لكننا ينبغي أن نعتبر من قبيل التقدم الحقيقي أننا قد كسبنا مقدمًا وعيًا بالطابع المحدود للحركة التاريخية وهدفها – ووعيًا يتجاوزها. وحين يرتبط العاملون الشيوعيون ببعضهم البعض فإن هدفهم الأول هو النظرية، الدعاية الخ... ولكن في نفس الوقت – وكنتيجة لهذا الارتباط – فإنهم يكتسبون حاجة جديدة – الحاجة إلى المجتمع – وما يبدو كوسيلة يصبح غاية. وتستطيع أن تلاحظ هذه العملية الفعلية في أروح نتائجها حيثما شاهدت عمالاً اشتراكيين فرنسيين معًا. أن أمورًا مثل التدخين والشراب والطعام الخ... لم تعد وسيلة الاتصال أو وسيلة التقريب بينهم، فالصحبة والترابط والحديث – وهي بدورها تتخذ المجتمع هدفًا – تكفيهم، ولم تعد الأخوة بين الناس لديهم عبارة جوفاء، وإنما حقيقة من حقائق الحياة، ويشرق نبل الإنسان من أجسادهم التي صهرها العمل. وحين يزعم الاقتصاد السياسي أن الطلب والعرض يتوازنان دائمًا، فإنه ينسى على الفور أنه وفقًا لزعمه هو (نظرية السكان) فإن عرض الناس يتجاوز دائمًا الطلب عليهم، وبالتالي فإنه في النتيجة الجوهرية لكل عملية الإنتاج – وجود الإنسان – يجد التفاوت بين الطلب والعرض أبلغ تعبير عنه. أما المدى الذي تمثل فيه النقود – التي تبدو وسيلة – السلطة الحقة والغاية الوحيدة – المدى الذي تكون فيه هذه الوسيلة التي تعطيني الجوهر، التي تجعلني حائزًا للجوهر الموضوعي للآخرين، هدفًا في ذاتها – فنستطيع أن نراه من حقيقة أن ملكية الأرض حيثما كانت الأرض هي مصدر الحياة، والحصان والسيف حيثما يكونان الوسيلة الحقة للحياة، يعترف بها كذلك باعتبارها السلطات السياسية الحقيقية في الحياة. وفي العصور الوسطى كانت طبقة اجتماعية تعتق حالما يسمح لها بأن تحمل السيف، وبين الشعوب الرحل فإن الحصان هو الذي يجعل مني إنسانًا حرًا وشريكًا في حياة الجماعة. قلنا من قبل أن الإنسان يرتد إلى سكنى الكهوف إلخ... لكنه يرتد إليها في شكل مغترب خبيث. فالمتوحش في كهفه – وهو عنصر طبيعي يقدم له نفسه دون مقابل لاستخدامه وحمايته – لا يشعر بنفسه غريبًا، أو بالأحرى، أنه يشعر بنفسه مطمئنًا كالسمكة في الماء. لكن مسكن القبو الذي يقطنه الفقير هو مسكن معاد، "قوة غريبة مقيدة لا تعطي نفسها له إلا بقدر ما يعطيها دمه وعرقه"، مسكن لا يستطيع أن ينظر إليه باعتباره بيته حيث يستطيع في النهاية أن يصيح "ها أنذا في بيتي"، وإنما هو يجد نفسه في منزل شخص آخر، في منزل غريب يكمن في انتظاره كل يوم، ويلقيه خارجه إذا لم يدفع الإيجار. وبالمثل فإنه يدرك أيضًا ذلك التناقض في الكيف بين مسكنه والمسكن الإنساني – المسكن الذي يوجد فيه العالم الآخر، في سماء الثروة. إن الاغتراب لا يظهر فحسب في حقيقة أن وسائل معيشتي ملك لشخص آخر، وأن رغبتي هي حيازة آخر لا أستطيع أن أصل إليها، وإنما يظهر كذلك في حقيقة أن كل شيء هو في ذاته شيء مختلف عن ذاته – أن فاعليتي هي شيء آخر، وأخيرًا (وهذا ينطبق أيضًا على الرأسمالي) أن كل شيء يخضع لقوة غير إنسانية. وهناك شكل للثروة غير النشطة المبذرة المكرسة كلية للمتعة، والمستمتع بها يتصرف – من ناحية – كمجرد فرد زائل يبدد ذاته بجنون دون غاية، ويعرف العمل العبودي للآخرين (العرق والدم الإنسانيين) كفريسة لجشعه، ومن هنا فإنه يعرف الإنسان ذاته – وبالتالي ذاته هو – ككائن فارغ مضحى به. ومع مثل هذه الثروة يظهر احتقار الإنسان، جزئيًا كنوع من الازدهاء، وكتبديد لما يمكن أن يقيم أود مائة حياة إنسانية، وجزئيًا كوهم شائن هو أن تبذيره الجامح، واستهلاكه غير الإنتاجي الذي لا يكف هما شرطان لعمل الآخر وبالتالي لبقائه. أنه لا يعرف تحقق القوى الجوهرية للإنسان إلا كتحقق لإسرافه ونزواته وأفكاره الهوائية الغريبة. وهذه الثروة – وهي من الناحية الأخرى تعرف أيضًا الثروة كمجرد وسيلة، كشيء لا يصلح إلا للقضاء عليه، وهي من هنا في نفس الوقت عبد وسيد، في نفس الوقت كريمة ودنيئة، متقلبة، مدعية، مغرورة، مترفة، متحضرة ذكية – أن هذه الثروة لم تمارس بعد الثروة كقوة غريبة تمامًا ترزح فوقها: بل هي بالأحرى ترى فيها قوتها هي، وليس الثروة وإنما الإشباع (هو الذي يمثل) ([63]) هدفها النهائي وغايتها. وهذا الوهم المشرق عن طبيعة الثروة، الذي تعميه المظاهر الحسية، يواجهه الصناعي المشتغل المتزن الاقتصادي النثري – المستنير تمامًا بشأن طبيعة الثروة، والذي يعرف – في ذات الوقت الذي يوفر فيه مجالاً أوسع لانغماس الآخر في ملذاته، ويوجه له ألوان التملق البغيض في منتجاته (لأن منتجاته هي عبارات إطراء وضيعة لشهوات المبدد) – يعرف كيف يتملك لنفسه في الشكل المفيد الوحيد قوة الآخر المتضائلة. ومن هنا فإذا كانت الثروة الصناعية تبدو في البداية نتيجة للثروة الخيالية المبددة، فإن حركتها، الحركة الكامنة فيها، تبعد هذه الأخيرة بطريقة نشطة أيضًا. ذلك أن هبوط الفائدة على النقود عاقبة ونتيجة ضرورية للتطور الصناعي. ومن هنا فإن وسائل المبذر الذي يعيش على الريع تتناقص يومًا بعد يوم في تناسب عكسي مع تزايد إمكانات المتعة وشراكها. وبالتالي فإن عليه أن يستهلك رأسماله ذاته وبذلك يدمر نفسه أو أن يصبح رأسماليًا صناعيًا. ومن الناحية الأخرى هناك بالطبع زيادة مستمرة دائمًا في ربع الأرض نتيجة لمجرى التطور الصناعي، ورغم هذا – فكما رأينا من قبل ([64]) – لا بد أن يأتي وقت يكون فيه على ملكية الأرض – ككل نوع آخر من الملكية – أن تقع في مقولة رأس المال الذي يجدد ذاته بطريقة مريحة – وهذا في الواقع ينشأ عن نفس التطور الصناعي. وهكذا فإن على مالك الأرض المبذر بدوره أن يستهلك رأسماله وبهذا يدمر، أو يصبح هو نفسه زارعًا لضيعته – أي صناعيًا يزرع. وهكذا فإن تناقص الفائدة على النقود الذي أعتبره برودون إلغاء لرأس المال، واتجاهًا لتشريك رأس المال، هو في الحقيقة وبشكل مباشر مجرد أمارة على الانتصار الكامل لرأس المال العامل على الثروة المبددة – أي تحول كل ملكية خاصة إلى رأسمال صناعي. أنه انتصار كامل للملكية الخاصة على كل صفاتها التي لا يزال لها مظهر إنساني، والخضوع الكامل لمالك الملكية الخاصة لماهية الملكية الخاصة – العمل. صحيح أن للرأسمالي الصناعي أيضًا متعة، فهو لا يعود إلى بساطة الاحتياجات غير الطبيعية، لكن متعته ليست سوى موضوع جانبي، ترويح، شيء خاضع للإنتاج، وهي في نفس الوقت متعة محسوبة، وبالتالي فإنها ذاتها متعة اقتصادية، فهو يضيفها إلى الجانب المدين في دفتر حساباته، وما يبدده على متعته ينبغي ألا يزيد عما سيحل محله بربح خلال تجدد إنتاج رأس المال. ومن هنا تخضع المتعة لرأس المال، ويخضع الفرد المستمتع للفرد الذي يراكم رأس المال، في حين كان الأمر على العكس فيما مضى. وهكذا فإن هبوط معدل الفائدة ليس مظهرًا لإلغاء رأس المال إلا بقدر ما هو مظهر لحكم رأس المال في عملية إكمال ذاته – للاغتراب في عملية تحوله إلى اغتراب كامل التطور، وبالتالي في عملية إسراعه نحو إلغائه. وتلك هي في الحقيقة الطريقة الوحيدة التي يؤكد بها ما هو قائم نقيضه. وهكذا فإن النزاع بين رجال الاقتصاد حول الترف والتقتير ليس سوى النزاع بين هذا الاقتصاد السياسي الذي وصل إلى الوضوح عن طبيعة الثروة، وذلك الاقتصاد السياسي الذي لا يزال مصابًا بذكريات رومانسية معادية للصناعة. لكن أحدًا من الجانبين لا يعرف كيف يصل بموضوع الجدال إلى عباراته البسيطة، وأحدًا منهما لا يستطيع من ثم أن يتغلب على الآخر. وفضلاً عن ذلك فإن ريع الأرض باعتباره ريع أرض قد أطيح به، لأن الاقتصاد السياسي الحديث قد أثبت – على عكس حجة الفزيوقراط القائلة أن مالك الأرض هو المنتج الوحيد الحقيقي – أن مالك الأرض باعتباره هذا هو صاحب الريع الوحيد غير المنتج كلية. فوفقًا للاقتصاد السياسي الحديث فإن الزراعة هي عمل الرأسمالي، الذي يستخدم رأسماله فيها بشرط أن يستطيع أن ينتظر منها الربح العادي. وزعم الفزيوقراطي أن ملكية الأرض – باعتبارها الملكية الوحيدة المنتجة – هي التي ينبغي أن تدفع ضرائب الدولة وحدها، وأنها بالتالي هي التي يجب أن تقننها وأن تشارك في شئون الدولة يتحول إلى الموقف المضاد وهو أن الضريبة على ريع الأرض هي الضريبة الوحيدة على الدخل غير المنتج، وأنها من هنا الضريبة الوحيدة التي لا تضر بالإنتاج القومي. وغنى عن البيان أنه من وجهة النظر هذه فإن الامتياز السياسي لملاك الأرض لم يعد ناشئًا عن وضعهم باعتبارهم دافعي الضرائب الرئيسيين. وكل ما يتصوره برودون على أنه حركة العمل ضد رأس المال ليس سوى حركة العمل في شكل رأسمال – في شكل رأسمال صناعي – ضد رأس المال الذي لا يستهلك باعتباره رأسمالاً – أي الذي لا يستهلك صناعيًا. وهذه الحركة تنطلق في طريقها الظافر – طريق انتصار رأس المال الصناعي. ومن هنا فإن من الواضح أنه لا يمكن التغلغل إلى العملية الاقتصادية في تحديدها الفعلي إلا حين يدرك العمل باعتباره ماهية الملكية الخاصة. * * * والمجتمع – كما يبدو لرجل الاقتصاد السياسي – هو المجتمع المدني، الذي يكون كل فرد فيه مجموعة من الاحتياجات، ولا يوجد بالنسبة للشخص الآخر – كما لا يوجد الآخر بالنسبة له – إلا بقدر ما يصبح كل منهما وسيلة للآخر. فرجل الاقتصاد السياسي ينتهي بكل شيء (تمامًا كما تفعل السياسة في حديثها عن حقوق الإنسان) إلى الإنسان، أي إلى الفرد الذي يجرده من كل تحديد حتى يصنفه كرأسمالي أو عامل. وتقسيم العمل هو تعبير الاقتصاد السياسي عن الطابع الاجتماعي للعمل داخل الاغتراب. أو – ما دام العمل ليس سوى تعبير عن الفاعلية الإنسانية داخل الانسلاب، عن عيش الحياة كانسلاب للحياة – فإن تقسيم العمل ليس إذن أيضًا إلا وضع الفاعلية الإنسانية المغتربة، المنسلبة، كفاعلية حقيقية للنوع، أو كفاعلية الإنسان ككائن نوعي. وأما عن جوهر تقسيم العمل – وبالطبع فإن تقسيم العمل ينبغي أن يدرك باعتباره القوة الدافعة الرئيسية في إنتاج الثروة حالما يعترف بالعمل باعتباره ماهية الملكية الخاصة – أي عن الشكل المغترب والمنسلب للفاعلية الإنسانية كفاعلية نوع – فإن رجال الاقتصاد السياسي غير واضحين للغاية ومتناقضين مع ذاتهم بشأنه. "آدم سميث: ([65]) "وتقسيم العمل ليس في الأصل نتيجة لأي حكمة إنسانية. إنه النتيجة الضرورية البطيئة التدريجية للنزعة إلى مبادلة ومقايضة ناتج المرء بغيره. وربما كانت هذه النزهة إلى الإتجار نتيجة ضرورية لاستخدام العقل والمنطق. فهي مشتركة لدى كل الناس، ولا توجد لدى أي حيوان. فالحيوان حين ينمو مستقل كلية. أما الإنسان فلديه احتياج دائم إلى مساعدة الآخرين، وعبثًا ينتظرها من طيبتهم وحدها. وهو أقرب إلى الحصول عليها إذا استطاع أن يخاطب مصلحتهم الشخصية، ويريهم أن من مصلحتهم أن يصنعوا له ما يحتاجه منهم. إننا لا نخاطب إنسانية الآخرين، بل حبهم لذاتهم، ولا نتحدث إليهم أبدًا عن ضروراتنا، بل عن منافعهم. "وكما أننا نحصل – بالاتفاق وبالمقايضة وبالشراء – من بعضنا البعض على الجانب الأكبر من هذه المساعي الحميدة المتبادلة التي نحتاجها فإن هذه النزعة إلى المقايضة ذاتها هي التي أدت في الأصل إلى نشأة تقسيم العمل. ففي قبيلة من الصيادين أو الرعاة يقوم شخص معين بصناعة الأقواس والأسهم – مثلاً – باستعداد وبراعة أكبر من أي شخص آخر. وكثيرًا ما يبادلها مع زملائه بالماشية أو لحم الحيوانات، وهو يجد في النهاية أنه يستطيع بهذه الطريقة أن يحصل على قدر من الماشية ولحم الحيوانات أكثر مما لو توجه هو نفسه إلى الميدان للحصول عليها. وهكذا فبحكم مصلحته تنمو صناعة الأقواس إلخ.. لتكون عمله الرئيسي. "وليس الاختلاف بين المواهب الطبيعية بين مختلف الأفراد سببًا بقدر ما هو نتيجة لتقسيم العمل.... ودون نزعة المقايضة والتبادل يكون على كل إنسان أن يحصل لنفسه على كل ضرورات الحياة ووسائل الراحة. وسيكون على الجميع أن يقوموا بنفس العمل، وما كان يمكن أن يوجد مثل هذا الاختلاف في العمل الذي يمكن له وحده أن يولد أي اختلاف كبير في المواهب. "وكما كانت هذه النزعة هي التي تشكل هذا الاختلاف في المواهب بين الناس، فإن هذه النزعة ذاتها هي التي تجعل هذه الاختلافات مفيدة. فكثير من فصائل الحيوانات من نفس النوع تستمد من الطبيعة تمييزًا عبقريًا أكبر مما يمكن أن يلاحظ بين الناس قبل العادات والتربية. فمن حيث الطبيعة لا يختلف الفيلسوف عن الحمال في الموهبة والذكاء نصف الاختلاف بين كلب من كلاب الحراسة (mastiff) وكلب من كلاب الصيد (greyhound)، أو بين كلب الصيد وكلب من نوع (Spaniel)، أو بين هذا النوع الأخير وكلب من كلاب الرعاة، غير أن هذه الفصائل المختلفة من الحيوانات وإن كانت كلها من نفس النوع لا تكاد تكون ذات فائدة لبعضها البعض. فلا يمكن لكلب من كلاب الحراسة أن يزيد من قوته بالاستفادة من سرعة كلب الصيد إلخ... فتأثيرات هذه المواهب أو درجات الذكاء المختلفة – نتيجة عدم وجود القدرة أو النزعة للمقايضة والتبادل – لا يمكن أن تشكل رصيدًا مشتركًا، ولا تسهم أدنى مساهمة في تحقيق إشباع أو راحة أفضل للنوع. وكل حيوان لا يزال مضطرًا لأن يعول نفسه ويدافع عنها، وحده وبشكل مستقل، ولا يستمد أي نوع من المزايا من هذا التنوع في المواهب الذي ميزت به الطبيعة زملاءه. أما بين الناس فعلى العكس تكون أكثر العبقريات تباينًا ذات فائدة لبعضها البعض. فالمنتجات المختلفة لمختلف المواهب – عن طريق النزعة العامة للمقايضة والتبادل – تجلب – إذا أمكن القول – إلى الرصيد المشترك، حيث يستطيع كل إنسان أن يشتري أي جزء يتاح له من ناتج صناعة الآخرين. "وكما أن القدرة على التبادل هي التي تتيح الفرصة لتقسيم العمل، فإن مدى هذا التقسيم لا بد أن يحدده دائمًا مدى هذه القدرة، أو بعبارة أخرى مدى السوق. فحين يكون السوق صغيرًا جدًا، لا يمكن أن يجد شخص ما أي تشجيع على أن يكرس نفسه كلية لعمل واحد، لنقص القدرة على مبادلة كل هذا الجزء الفائض من ناتج عمله الذي يزيد عن استهلاكه، مقابل تلك الأجزاء التي قد يريدها من ناتج الآخرين..." وفي حالة مجتمع متقدم "فإن كل إنسان يعيش بالتبادل، ويصبح إلى حد ما تاجرًا، وينمو المجتمع ذاته ليصبح شركة تجارية حقًا" ([66]) (أنظر ديستوت دي تراسي: ([67]) "المجتمع هو سلسلة من المبادلات، فالتجارة تحوي كل جوهر المجتمع"). ويتصاعد تراكم رؤوس الأموال مع تقسيم العمل والعكس بالعكس – ويكفي – ويكفي هذا بالنسبة لآدم سميث. "ولو أنتجت كل أسرة كل ما تستهلكه، لاستطاع المجتمع أن يستمر رغم عدم حدوث تبادل من أي نوع، فالتبادل دون أن يكون أساسيًا إلا أنه لا غني عنه في حالتنا المتقدمة من المجتمع. وتقسيم العمل هو توزيع ماهر لقوى الإنسان، إنه يزيد إنتاج المجتمع – قوته ومتعه – كلنه ينهب ويقلل مقدرة كل شخص مأخوذًا على حدة. والإنتاج لا يمكن أن يحدث دون تبادل" – هكذا يقول ج.ب. ساي ([68]) . "والقوى الكامنة في الإنسان هي ذكاؤه وقدرته البدنية على العمل. والقوى الناشئة عن ظروف المجتمع تتمثل في القدرة على تقسيم العمل وعلى توزيع مختلف الأعمال بين مختلف الناس للحصول على وسائل المعيشة والقدرة على تبادل الخدمات المتبادلة والمنتجات التي تشكل هذه الوسائل. والدافع الذي يدفع إنسانًا إلى أن يقدم خدماته لآخر هو المصلحة الذاتية – إنه يطلب مكافأة مقابل الخدمات التي يقدمها. وحق الملكية الخاصة المستأثرة لا غنى عنه لإقامة التبادل بين الناس" "والتبادل وتقسيم العمل يحدد كل منهما الآخر بشكل متبادل". هكذا يتحدث سكاربيك ([69]) . ويعرض ميل التبادل المتطور – التجارة – كنتيجة لتقسيم العمل. "وفعل الإنسان يمكن تتبعه إلى عناصر بسيطة جدًا. فهو في الواقع لا يستطيع أن يفعل أكثر من أن ينتج الحركة. إنه يستطيع أن يحرك الأشياء نحو بعضها البعض، ويستطيع أن يفصلها عن بعضها البعض، وخواص المادة تقوم بكل الباقي" "وفي استخدام العمال والآلات كثيرًا ما نجد أن النتائج يمكن أن تزيد بالتوزيع الماهر، بفصل كل تلك العمليات التي تحوى أي اتجاه لأن تعوق بعضها البعض، وبالتقريب بين كل هذه العمليات التي يمكن دفعها بأي طريقة لأن تساعد بعضها البعض. ولما كان الناس عمومًا لا يستطيعون أن يؤدوا كثيرًا من العمليات المختلفة بنفس السرعة والبراعة التي يستطيعون بها ممارسة تعلم وأداء بضع عمليات فإنها تكون دائمًا ميزة أن يحدد بقدر الإمكان عدد العمليات المفروضة على كل واحد. ومن الضروري في أغلب الحالات لتقسيم العمل وتوزيع قوات الناس والآلات بأكبر ميزة ممكنة أن نعمل على نطاق كبير، وبعبارة أخرى أن ننتج السلع بكميات أكبر. وهذه الميزة هي التي تخلق المصانع الكبيرة، التي كثيرًا ما يتولى عدد قليل منها – يقوم في أكثر المواقع ملائمة – تزويد أكثر من بلد – لا بلد واحد – بكل ما ترغب فيه من السلع المنتجة". هكذا يتحدث ميل ([70]) . غير أن الاقتصاد السياسي بأسره يوافق على أن تقسيم العمل وثروة الإنتاج، تقسيم العمل وتراكم رأس المال، يرتبطان بعلاقة متبادلة، تمامًا كما يوافق على أن الملكية الخاصة المتحررة وحدها – الملكية الخاصة متروكة لذاتها – هي التي تستطيع أن تنتج أبعد وأوسع تقسيم للعمل. ويمكن أن نلخص حجة أدم سميث كما يلي: أن تقسيم العمل يضفى على العمل طاقة إنتاجية غير محددة. وهو ينبع من النزعة إلى التبادل والمقايضة، وهي نزعة إنسانية خاصة ربما لم تكن عارضة وإنما يحددها استخدام العقل والنطق. ودافع هؤلاء الذين يعملون في التبادل ليس هو الإنسانية، بل الأنانية، وتنوع المواهب الإنسانية نتيجة – أكثر منه سبب – لتقسيم العمل – أي للتبادل. وفضلاً عن ذلك فإن هذا الأخير هو الذي يجعل هذا التنوع مفيدًا. أن الاختلافات بين الصفات الخاصة التي تولدها الطبيعة الخاصة التي تولدها في القدرة والفاعلية الإنسانية. ولكن لأن الحيوانات عاجزة عن الانشغال بالتبادل، فإن أي حيوان مفر لا يستفيد من اختلاف صفات الحيوانات التي تنتمي لنفس النوع وإنما لسلالات مختلفة. والحيوانات تعجز عن الجمع بين مختلف صفات نوعها، وتعجز عن المساهمة بشيء في الصالح والراحة المشتركين للنوع. لكن الأمر على خلاف ذلك بالنسبة للناس، حيث تكون أكثر المواهب وأشكال النشاط تباينًا مفيدة لبعضها البعض لأنهم يستطيعون أن يضعوا منتجاتهم المختلفة في رصيد مشترك يستطيع كل منهم أن يشتري منه. وكما ينبعث تقسيم العمل من النزعة إلى التبادل، فإنه ينمو ويتحدد بمدى التبادل – بمدى السوق. وفي الظروف المتقدمة يكون كل إنسان تاجرًا والمجتمع شركة تجارية. ويعتبر ساي التبادل عارضًا لا أساسيًا. فالمجتمع يستطيع أن يعيش دونه. وهو يصبح أمرًا لا غنى عنه في حالة المجتمع المتقدمة. إلا أن الإنتاج لا يمكن أن يحدث دونه. فتقسيم العمل وسيلة مريحة مفيدة – توزيع ماهر للقوى الإنسانية من أجل الثروة الاجتماعية، لكنه يقلل مقدرة كل شخص مفرد مأخوذًا على حدة. والملحوظة الأخيرة خطوة إلى الأمام من جانب ساي. ويميز سكاربيك بين القوى المفردة الكامنة في الإنسان – الذكاء والمقدرة البدنية على العمل – وبين القوى المستمدة من المجتمع – التبادل وتقسيم العمل اللذين يحدد كل منهما الآخر. لكن المقدمة الضرورية للتبادل هي الملكية الخاصة. ويعبر سكاربيك هنا بشكل موضوعي عما يقوله سميث وساي وريكاردو الخ... حين يحددون الأنانية والمصلحة الذاتية كأساس للتبادل، والبيع والشراء باعتبارهما الشكل الأساسي والكافي للتبادل. ويعرض ميل التجارة كنتيجة لتقسيم العمل. وعنده تنتهي الفاعلية الإنسانية إلى حركة ميكانيكية. وتقسيم العمل واستخدام الآلات يحفزان ثروة المجتمع، وينبغي أن يعهد لكل شخص بأصغر مجال ممكن من العمليات. ويتطلب تقسيم العمل واستخدام الآلات بدورهما إنتاج الثروة – ومن ثم الناتج – بكميات كبيرة، وهذا هو السبب في ظهور المصانع الكبيرة. ودراسة تقسيم العمل والتبادل ذات أهمية كبيرة، لأنهما تعبيران منسلبان ملموسًا عن الفاعلية الإنسانية وعن القوة الإنسانية الجوهرية كفاعلية وقوة النوع. وتأكيد أن تقسيم العمل والتبادل يستندان إلى الملكية الخاصة ليس سوى تأكيد أن العمل هو ماهية الملكية الخاصة – وهو تأكيد لا يستطيع رجل الاقتصاد السياسي أن يثبته ونود أن نثبته له. وبالتحديد ففي حقيقة أن تقسيم العمل والتبادل هما تجسيدان للملكية الخاصة يمكن البرهان المزدود، من ناحية أن الحياة الإنسانية تطلبت الملكية الخاصة من أجل تحققها، ومن ناحية آخري أنها تتطلب الآن تخطي الملكية الخاصة. إن تقسيم العمل والتبادل هما الظاهرتان اللتان يفخر رجل الاقتصاد السياسي بسببهما بالطابع الاجتماعي لعمله، وفي نفس اللحظة يعبر عن التناقض في علمه – أقامة المجتمع من خلال المصالح الخاصة غير الاجتماعية. والعوامل التي علينا أن ندرسها هي: النزعة إلى التبادل التي نجد أساسها في الأنانية – والتي تعتبر السبب أو النتيجة المتبادلة لتقسيم العمل. ويعتبر ساي أن التبادل ليس أساسيًا بالنسبة لطبيعة المجتمع. ويفسر الثروة – الإنتاج – بتقسيم العمل والتبادل. ويعترف بإفقار الفاعلية الفردية وفقدها لطابعها نتيجة لتقسيم العمل. كما يعترف بالتبادل وتقسيم العمل كمصدرين للتنوع الكبير في المواهب الإنسانية – وهو تنوع يصبح بدوره مفيدًا نتيجة للتبادل. ويقسم سكاربيك قوى الإنتاج الأساسية للإنسان – أو القوى الإنتاجية – إلى قسمين: (1) القوى الفردية الكامنة فيه – ذكائه واستعداده الخاص أو طاقته على العمل. (2) تلك المستمدة من المجتمع وليس من الفرد الواقعي – تقسيم العمل والتبادل. وأكثر من هذا فإن تقسيم العمل محدود بالسوق. والعمل الإنساني مجرد حركة ميكانيكية: فاعلم الأساسي تقوم به الخواص المادية للأشياء. وأقل قدر ممكن من العمليات ينبغي أن يسند إلى أي فرد. تمزق العمل وتركيز رأس المال، تفاهة الإنتاج الفردي وإنتاج الثروة بكميات كبيرة. معنى الملكية الخاصة داخل تقسيم العمل ([71]) .
(قوة النقود في المجتمع البورجوازي) إذا لم تكن مشاعر الإنسان وعواطفه الخ... مجرد ظاهرة انثروبولوجية بالمعنى (الضيق) ([72]) بل تأكيدات انطولوجية حقًا للوجود الأساسي (للطبيعة)، وإذا لم تكن تتأكد حقًا إلا أن موضوعها يوجد بالنسبة لها كموضوع للحس، فإن من الواضح: (1) إنه ليس لها بأي حال مجرد أسلوب واحد للتأكيد، بل بالأحرى أن الطابع المميز لوجودها، لحياتها، يتألف من الأسلوب المميز لتأكيدها. والطريقة التي يوجد بها الموضوع بالنسبة لها هو الأسلوب المميز لإشباعها. (2) حيثما يكو التأكيد الحسي هو الإلغاء المباشر للموضوع في شكله المستقل (كما في أكل الموضوع وشربه وتشغيله الخ...) فهذا هو تأكيد الموضوع. (3) وبقدر ما يكون الإنسان – ومن هنا مشاعره الخ... إنسانيًا، فإن تأكيد الموضوع من جانب شخص آخر هو بالمثل متعته هو. (4) ومن خلال الصناعة المتطورة وحدها – أي من خلال وساطة الملكية الخاصة – يصل الجوهر الانطولوجي للعاطفة الإنسانية إلى كليته وإنسانية معًا، ومن هنا فإن علم الإنسان هو ذاته نتاج لإقرار الإنسان لذاته بواسطة العملي. (5) معنى الملكية الخاصة – المتحررة من اغترابها – هو وجود الموضوعات الأساسية للإنسان كموضوعات للفاعلية معًا. وبحيازة صفة شراء كل شيء، بحيازة صفة تملك كل المواضيع، تصبح النقود موضوع الحيازة البارز. وكلية صفتها هي قدرة وجودها. ومن ثم فإنها تعمل كالكائن الأسمى. أن النقود هي القواد بين حاجة الإنسان وبين الموضوع، بين حياته ووسائل حياته. لكن ذلك الذي يتوسط بين حياتي وبيني يتوسط أيضًا بين وجود الآخرين وبيني. أنه بالنسبة لي الشخص الآخر. "ماذا... اللعنة، أن أيديك وأقدامك ورأسك وظهرك... كلها لك وما نحصل عليه والحياة جميلة، أيمكن أحد أن يعلن أنه ليس ملكنا. أنني – مثلاً – أستطيع أن أشترى ستة ثيران أفليست قوتها ملكًا لي؟ أنني أعدو سريعًا، وأنا السيد البدين وكأن أقدامها ملك لي". (جوته: فاوست – مفيستوفيليس ([73]) ) شكسبير في "تيمون أثينا": "الذهب؟ الذهب الأصفر اللامع الثمين؟ كلاً أيتها الآلهة لست زاهدًا كسولاً... إن قدرًا منه سيجعل الأسود أبيض، والقبيح جميلاً والخطأ صوابًا، والوضيع نبيلاً، والعجوز شابًا، والجبان باسلاً ... ماذا، إنه سيبعد عن جواركم كهنتكم وخدمكم وينتزع وسائد الأقوياء من تحت رؤوسهم: هذا العبد الأصفر سيوثق الأديان ويحطمها، ويبارك الملعونين، ويجعل الجذام معبودًا ويكرم اللصوص ويعطيهم لقبًا، وجاهًا وتقريظًا مع أعضاء مجلس الشيوخ فوق مقاعدهم: إنه هو الذي يجعل الأرملة الثكلة تتزوج ثانية" ([74]) . ثم فيما بعد: "أنت ياقتل الملوك الجميل... يا أيها الفاصل العزيز بين الابن الطبيعي والسيد! أيها المدنس المشرق لأطهر فراش الآلهة العفاف، يا مارس الباسل! أنت أيها المغازل الفتى أبدًا، الغض المحبوب الرقيق، الذي يذيب رواؤه الجليد المقدس الذي يرقد في حضن ديانًا! أيها الإله المرئي! الذي يصهر المستحيلات معًا: ويجعلها تتبادل القبلات! الذي يتحدث بكل لسان ولكن غرض، يا لمسة القلوب! فكر، أن عبدك الإنسان يتمرد، وبقوتك ضعهم في منازعات لعينة، حتى تكون للوحوش إمبراطورية العالم!" ([75]) إن شكسبير يصور بشكل رائع الطبيعة الحقيقية للنقود، ولكي نفهمه لنبدأ أولاً بعرض فقرة جوته. إن هذا الذي يكون لي من خلال وساطة النقود – هذا الذي أستطيع أن أدفع مقابله (أي الذي تستطيع النقود شراءه) – هذا هو أنا، مالك النقود. ومدى قوة النقد هو مدى قوتي. وصفات النقود هي صفاتي وقواي الجوهرية – صفات مالكها وقواه. وهكذا فأنا وما أستطيعه لا تحدده بأي حال فرديتي. إنني قبيح، لكنني أستطيع أن أشترى لنفسي أجمل النساء. ومن هنا فإنني لست قبيحًا، لأن تأثير القبح – قوته المنفرة – تلغيه النقود. إنني – في شخصيتي كفرد – أعرج لكن النقود تزودني بأربعة وعشرين قدمًا. ولذا فلست أعرج. إنني سيء، غير أمين، بلا ضمير، غبي، لكن النقود مكرمة وكذلك مالكها. إن النقود هي الخير الأسمى، ولذا فإن مالكها خير، كذلك فإن النقود توفر على مئونة أن أكون غير أمين: ومن هنا يفترض أنني أمين، إنني غبي، لكن النقود هي الذهن الحقيقي لكل الأشياء، فكيف إذن يكون مالكها غبيًا؟ كذلك فإنه يستطيع أن يشترى لنفسه الموهوبين، أو ليس هذا الذي يسيطر على الموهوبين أكثر موهبة منهم؟ ألست أنا – الذي أملك بفضل نقودي كل ما يصبو إليه القلب الإنساني – أمتلك كل القدرات الإنسانية؟ أفلا تحول نقودي إذن كل أوجه عجزي إلى نقيضها؟ وإذا كانت النقود هي الرابطة التي تربطني بالحياة الإنسانية، وتربط المجتمع بي وتربطني بالطبيعة والإنسان، أفليست النقود هي رابطة كل الروابط؟ أليست هي إذن بالتالي عامل الانفصال الكلي؟ إنها عامل الانفصال الحقيقي كما هي عامل الربط الحقيقي، إنها القوة الجلفنية – الكيميائية (الكلية) ([76]) للمجتمع. ويؤكد شكسبير بشكل خاص صفتين للنقود: (1) إنها الإله المرئي – تحول كل الصفات الإنسانية والطبيعية إلى أضدادها، الخلط الكلي بين الأشياء وأنقلابها، أنها تؤاخي بين المستحيلات. (2) إنها البغي المشتركة والقواد المشترك للناس والأمم. إن انقلاب كل الصفات الإنسانية والطبيعية وخلطها، والمؤاخاة بين المستحيلات – القوة الألهية للنقود – تكمن في طابعها باعتبارها طبيعة النوع المغتربة المنسلبة للناس، أن النقود هي قدرة البشرية المنسلبة. إن ما لا أستطيع أن أفعله كإنسان، والذي تعد كل قواي الجوهرية الفردية عاجزة عنه، أستطيع أن أفعله بواسطة النقود. وهكذا فإن النقود تحول كلاً من هذه القوى إلى شيء آخر غير ما هي عليه في ذاتها – أي تحولها إلى نقيضها. فلو إنني أريد طبعًا معينًا، أو أريد أن أستقل عربة البريد لأني لست من القوى بحيث أمضى على قدمي، فإن النقود تحضر لي الطبق وعربة البريد. أي أنها تحول رغباتي من شيء في مملكة الخيال، وتترجمها من وجودها المتصور أو المتخيل أو المراد إلى وجودها الحسي، الواقعي – من الخيال إلى الحياة، من الوجود المتخيل إلى للوجود الحقيقي، وبالقيام بهذه الوساطة فإن النقود هي القوة الخلاقة الحقيقية. ولا شك أن الطلب يوجد كذلك بالنسبة لمن ليست لديه نقود، لكن طلبه مجرد شيء في الخيال ليس له تأثير أو وجود بالنسبة لي، وبالنسبة لطرف ثالث، بالنسبة للآخرين، وبذلك يظل بالنسبة لي غير حقيقي وبلا موضوع. والفارق بين الطلب الفعال المستند إلى النقود، والطلب غير الفعال المستند إلى حاجتي، رغبتي، أمنيتي الخ.... هو الفارق بين الوجود وبين الفكر، بين المتخيل الذي لا يوجد إلا داخلي وبين المتخيل كما هو بالنسبة لي خارجي كموضوع واقعي. وإذا لم يكن لدى نقود للسفر فليست لي حاجة – أي حاجة واقعية تحقق ذاتها – إلى السفر. وإذا كانت لدى موهبة للدراسة وليست لدى نقود لها فليست لدى موهبة الدراسة – أي ليست لدى موهبة فعالة، موهبة حقيقية. ومن ناحية أخرى إذا لم تكن لدى موهبة الدراسة، ولكن لدى الإرادة والنقود لها، فإن لدى موهبة فعالة لها. أن النقود باعتبارها الوسيط والملكة الخارجية المشتركة لتحويل الصورة إلى واقع، والواقع إلى مجرد صورة (وهي ملكة لا تنبعث من الإنسان كإنسان، أو من المجتمع الإنساني كمجتمع) تحول القوى الجوهرية الحقيقية للإنسان والطبيعة إلى ما لا يزيد عن تصورات مجردة وبالتالي نواقص – إلى أوهام مؤلمة – تمامًا كما تحول النواقص والأوهام الحقيقية – القوى الجوهرية التي هي عاجزة حقًا، والتي لا توجد إلا في خيال الفرد – إلى قوى وملكات حقيقية. وفي ضوء هذه الخاصية وحدها فإن النقود هي القلب العام للفرديات الذي يحولها إلى ضدها، ويضيف صفات متناقضة إلى صفاتها. وعندئذ تظهر النقود باعتبارها قوة القلب هذه، سواء ضد الفرد أو ضد روابط المجتمع الخ.... التي تزعم أنها جواهر في ذاتها، أنها تحول الإخلاص إلى خيانة، والحب إلى حقد، والحقد إلى حب، والفضيلة إلى رذيلة، والرذيلة إلى فضيلة، والخادم على سيد، والسيد إلى خادم، والبلاهة إلى ذكاء، والذكاء إلى بلاهة. ولما كانت النقود – باعتبارها المفهوم القائم والنشط للقيمة – تخلط كل الأشياء وتبادلها، فإنها الخلط والتركيب لكل الأشياء، إنها العالم مقلوبًا – خلط وتركيب كل الصفات الطبيعية والإنسانية. إن من يستطيع أن يشترى الشجاعة شجاع، ولما لم تكن النقود تتبادل مقابل أي صفة محددة، مقابل أي شيء محدد، أو مقابل أي قوة إنسانية خاصة، وإنما مقابل كل العالم الموضوعي للإنسان والطبيعة فإنها إذن من وجهة نظر مالكها تخدم في مبادلة كل صفة مقابل كل صفة وموضوع حتى لو كانا متناقضين: إنها المؤاخاة بين المستحيلات، إنها تجعل المتناقضات تتعانق. افترض الإنسان إنسانًا، وعلاقته بالعالم علاقة إنسانية: عندئذ لن تستطيع أن تبادل الحب إلا بالحب، والثقة إلا بالثقة الخ... وإذا كانت تريد أن تستمتع بالفن فلا بد أن تكون أنسانًا ذات تربية فنية، وإذا كنت تريد أن تمارس التأثير على الآخرين فلا بد أن تكون شخصًا يتمتع بتأثير حافز مشجع على الآخرين. ولا بد أن تكون كل علاقة من علاقاتك بالإنسان وبالطبيعة تعبيرًا محددًا يتفق مع موضوع إرادتك، مع حياتك الفردية الواقعية. وإذا كنت تحب دون أن تثير حبًا مقابلاً – أي إذا لم يكن حبك كحب يثير حبًا متبادلاً، إذا لم تكن من خلال التعبير الحي عن ذاتك كشخص محب تجعل من نفسك شخصًا محبوبًا فإن حبك عاجز، إنه مأساة.
نقد جدل هيجل وفلسفته ككل (6) ربما كان هذا هو المكان ([77]) الذي يمكن أن نقدم فيه – كنوع من تفسير وتبرير الأفكار التي عرضناها – بعض التقديرات عن جدل هيجل عمومًا وبشكل خاص عرضه في "الفينومينولوجيا" و"المنطق" ([78]) وكذلك أخيرًا علاقة الحركة النقدية الحديثة به. لقد كان اهتمام النقد الألماني الحديث بالماضي من القوة، واستغراقه خلال تطوره بموضوعه من الاكتمال، حتى لقد ساد موقف غير انتقادي كلية من منهج النقد، إلى جانب افتقار كامل إلى إدراك السؤال الذي يبدو شكليًا لكنه في الحقيقة سؤال حيوي: أين نقف الآن من جدل هيجل؟ ولقد كان هذا الافتقار إلى إدراك العلاقة بين النقد الحديث وبين الفلسفة الهيجلية بأسرها وبخاصة الجدل الهيجلي كبيرًا إلى حد أن نقادًا مثل شتراوس وبرونو باور ما زالوا كلية في إطار المنطق الهيجلي، الأول، بشكل كامل، والثاني ضمنيًا على الأقل في كتابة عن "الأناجيل المتوافقة" ([79]) (حيث على عكس شتراوس يحل محل جوهر "الطبيعة المجردة" وعي ذات الإنسان المجرد) وحتى في "اكتشاف المسيحية" ([80]). وهكذا نجد مثلاً في "اكتشاف المسيحية". "وكان وعي الذات إذ يضم العالم، يضع ما هو مختلف عنه، وهو فيما يضع إنما يضع ذاته، لأنه بدوره يلغي الفارق بين ما وضعه وبين ذاته من حيث أنه هو ذاته لا يوجد إلا في الوضع وفي الحركة – فكيف إذن لا تكون غايته في هذه الحركة؟" إلخ... أو أيضًا "أنهم (الماديون الفرنسيون) لم يستطيعوا بعد أن يروا أنه من خلال حركة وعي الذات وحدها استطاعت حركة الكون أن تصبح فعلاً لذاتها، وحققت الوحدة مع ذاتها". ومثل هذه التعبيرات لا تكشف حتى عن اختلاف لفظي مع المعالجة الهيجلية، بل هي بالعكس ترددها كلمة كلمة. أما عن مدى قلة الوعي بالعلاقة بالجدل الهيجلي أثناء عملية النقد (باور "الأناجيل المتوافقة")، وقلة تحقق هذا الوعي حتى بعد عملية النقد المادي، فهذا ما يكشف عنه باور حين يستبعد في مؤلفه "خير الحرية" ([81]) – السؤال الوقح الذي طرحه الهر جروب "وماذا عن المنطق الآن؟" بإحالته إلى نقاد المستقبل. ولكن حتى الآن – الآن وقد طوح فيورباخ من حيث المبدأ سواء في "قضاياه" في (Anecdotis) أو بالتفصيل في "فلسفة المستقبل" – بالجدل والفلسفة القديمين، الآن وقد رأت مدرسة النقد من الناحية الأخرى – وهي العاجزة عن أداء هذه المهمة – قد رأتها مع ذلك تؤدي، وأعلنت نفسها النقد الخالص القاطع المطلق – النقد الذي استبان لنفسه، الآن وقد انتهى هذا النقد – في خيلائه الروحية – بكل عملية التاريخ إلى علاقة بين بقية العالم وبينه (وبقية العالم – في مواجهته – تندرج تحت مقولة "الكتلة") وأذاب كل التناقضات الدوجماطيقية في تناقض دوجماطيقي واحد هو التناقض بين ذكائه وبين غباء العالم – التناقض بين المسيح النقدي وبين البشرية، الرعاع، الآن أخيرًا وقد أعلن يوم الحساب النقدي في شكل إعلان اقتراب ذلك اليوم الذي ستتجمع فيه كل الإنسانية الفانية أمامه لكي يصنفها إلى مجموعات، ويعطي لكل مجموعة شهادة فقرها، الآن وقد أعلن في كتابات مطبوعة ([82]) سموه على المشاعر الإنسانية فضلاً عن سموه على العالم الذي يجلس فوقه على عرشه في عزلة سامية، ولا تصدر عن شفاهه الساخرة من فترة إلى أخرى إلا الضحكات الرنانة لآلهة الأولمب – الآن بعد كل هذا التهريج الممتع لمثالية محتضرة تحت قناع النقد (أي للهيجلية الفتية) – حتى الآن فإنه لم يعبر عما يوحي بأن الوقت قد حان لتسوية حساب نقدية مع أم الهيجلية الفتية – الجدل الهيجلي – بل (وليس) لديه ما يقوله عن موقفه النقدي من جدل فيورباخ. إنه نقد ليس له إطلاقًا موقف نقدي من ذاته! وفيورباخ هو الوحيد الذي اتخذ موقفًا جادًا نقديًا من الجدل الهيجلي وتوصل إلى اكتشافات حقيقية في هذا الميدان. إنه في الواقع القاهر الحقيقي للفلسفة القديمة. وإن مدى ما أنجزه، والبساطة غير المدعية التي عرضه بها على العالم، ليقفان في تناقض صارخ مع الموقف المضاد. وكان إنجاز فيورباخ الكبير هو: (1) البرهنة على أن الفلسفة ليست إلا الدين مقدمًا في شكل أفكار، ومعروضًا بطريقة مفكرة، وأنها بالتالي ينبغي أن تدان كشكل وأسلوب آخر لوجود اغتراب ماهية الإنسان. (2) تأسيس المادية الحقيقية والعلم الواقعي لأن فيورباخ كذلك جعل العلاقة الاجتماعية "بين الإنسان والإنسان" المبدأ الأساسي للنظرية. (3) معارضته لنفي النفي الذي يزعم أنه الإيجابي المطلق، بالإيجابي المستند إلى ذاته، القائم إيجابيًا على ذاته. ويشرح فيورباخ الجدل الهيجلي (وبهذا يبرر البدء من الإيجابي، من اليقيني الحسي) بالطريقة التالية: ينطلق هيجل من اغتراب الجوهر (في المنطق، من اللامتناهي (Infinite)، من الكلي المجرد) من التجريد المطلق الثابت، الأمر الذي يعني – بلغة شعبية – أنه ينطلق من الدين واللاهوت. وثانيًا هو يلغي اللامتناهي، ويقيم الواقعي، الحسي، الحقيقي، المحدود، الخاص (الفلسفة – إلغاء الدين واللاهوت). وثالثًا هو يلغي ثانية الإيجابي ويعيد المجرد، اللامتناهي – إعادة الدين واللاهوت. وهكذا لا يتصور فيورباخ نفي النفي إلا كتناقض للفلسفة مع ذاتها – كالفلسفة التي تؤكد اللاهوت (المفارق إلخ....) بعد أن أنكرته، والتي تؤكد من ثم في معارضتها. أن الإيجاب (Position) أو إثبات الذات (Self-affirmation) وتأكيد الذات (Self-Confirmation) الذي الذي يحويه نفي النفي يعتبر إيجابًا ليس بعد واثقًا من ذاته، ومن ثم مثقلاً بنقيضه، إيجابًا يتشكك في ذاته، ومن ثم فهو في حاجة إلى برهان، وهو إذن ليس إيجابًا يؤكد ذاته بوجوده – ليس إيجابًا يبرر ذاته، ومن هنا فإنه يواجه مباشرة وفورًا إيجاب اليقين الحسي القائم على ذاته ([83]). ولكن لأن هيجل قد تصور نفي النفي من زاوية العلاقة الإيجابية الكامنة فيه باعتبارها الإيجابي الحقيقي والوحيد، ومن زاوية العلاقة السلبية الكامنة فيه باعتبارها الفعل الحقيقي الوحيد، وفعل تحقق الذات الوحيدي لكل وجود، فإنه لم يجد إلا التعبير المجرد المنطقي النظري لحركة التاريخ، وهذه العملية التاريخية ليست بعد التاريخ الواقعي للإنسان – للإنسان كذات معطاة، وإنما فحسب لفعل توليد الإنسان – قصة نشأة الإنسان. وسنشرح كلاً من الشكل المجرد لهذه العملية، والفارق بين هذه العملية، كما هي عند هيجل في تناقض مع النقد الحديث، أي في تناقض مع نفس العملية في كتاب فيورباخ “Wesen des Crhistentums” (جوهر المسيحية)، أو بالأحرى الشكل النقدي لهذه العملية التي لا تزال غير نقدية عند هيجل. ولنلق نظرة على المذهب الهيجلي. وينبغي أن يبدأ المرء بفينومونولوجيا هيجل، المنبع الحقيقي للفلسفة الهيجلية وسرها.
الفينومينولوجيا (يعرض ماركس هنا العناوين الرئيسية للفصول والبنود في كتاب هيجل فينومينولوجيا الروح) (أ) وعي الذات: 1- الوعي (أ) اليقين على مستوى الخبرة الحسية أو الـ"هذا" والمعنى. (ب) الإدراك (Perception) أو الشيء مع خصائصه، والوهم (Deception). (جـ) القوة والفهم. المظهر والعالم فوق الحسي. 2- وعي الذات. حقيقة يقين الذات. (أ) استقلال وعي الذات وتبعيته، السيادة (Lordship) والعبودية. (ب) حرية وعي الذات: الرواقبة، الشكية، الوعي التعس. 3- العقل. يقين العقل وحقيقة العقل. (أ) الملاحظة كعملية للعقل. ملاحظة الطبيعة ووعي الذات. (ب) تحقيق وعي الذات العقلاني من خلال نشاطه ذاته. اللذة والضرورة. قانون القلب وجنود الخيلاء. الفضيلة ومسار العالم. (جـ) الفردية التي هي حقيقة في ذاتها ولذاتها. المملكية الحيوانية الروحية والوهم أو الواقعة الحقيقية. العقل كمشرع. العقل الذي يختبر القوانين. (ب) الروح: 1- الروح الحق: النظام الأخلاقي. 2- الروح في اغتراب ذاتي – الثقافة. 3- الروح المتيقن من ذاته. الأخلاق. (جـ) الدين: الدين الطبيعي، الدين في شكل الفن، دين الوحي. (د) المعرفة المطلقة. إن موسوعة ([84]) هيجل، إذ تبدأ بالمنطق، بالفكر النظري الخالص، وتنتهي بالمعرفة المطلقة – بوعي الذات، بالروح المجرد الفلسفي أو المطلق (أي فوق الإنساني) – الذي يعي ذاته، الذي يدرك ذاته – ليست في مجملها أكثر من عرض لماهية الروح الفلسفي، وموضعه ذاته. وليس الذهن الفلسفي أكثر من ذهن العالم المغترب الذي يفكر في إطار اغتراب ذاته – أي الذي يدرك ذاته بشكل مجرد. فالمنطق (عملية الذهن، القيمة التأملية أو القيمة الفكرية للإنسان والطبيعة – جوهرهما الذي أصبح غير مكترث بكل تحديد حقيقي، ومن هنا جوهرهما غير الحقيقي) هو تفكير مناسب، ومن هنا تفكير يتجرد عن الطبيعة وعن الإنسان الحقيقي: تفكير مجرد. ثم تخارج هذا التفكير المجرد... الطبيعة كما هي بالنسبة لهذا التفكير المجرد. إن الطبيعة خارجية عنه – إنها ضياع ذاته، وهو يدرك الطبيعة كذلك بطريقة خارجية، كتفكير مجرد – ولكن كتفكير مجرد مناسب. وأخيرًا – الروح - ** يعود إلى نقطة شأنه – التفكير الذي – باعتباره روحًا أنثروبولوجيا وفينومونولوجيا وسيكولوجيا وأخلاقيًا وفنيًا ودينيًا – ليس صحيحًا لذاته، إلى أن يجد أخيرًا ذاته، ويربط ذاته بذاته كمعرفة مطلقة في الروح الذي يصبح من هنا روحًا مطلقًا أي مجردًا، وهكذا يتلقى تجسيده الواعي في أسلوب للوجود يتوافق معه، لأن أسلوب وجوده الحقيقي هو التجريد. وهناك خطًا مزدوج عند هيجل. ويبرز الأول أوضح ما يكون في "الفينومينولوجيا" منبت الفلسفة الهيجلية. فحين يدرك هيجل – مثلاً – الثروة وسلطة الدولة إلخ.... كذاتيات (Entities) مغتربة عن الكائن الإنساني، فإن هذا إنما يحدث في شكلها كأفكار... إنها ذاتيات – فكرية ومن هنا مجرد اغتراب للتفكير الفلسفي الخالص أي المجرد. ولهذا فإن العملية كلها تنتهي بالمعرفة المطلقة. فالفكر المجرد هو بالتحديد ما اغتربت عنه هذه المواضيع، وما تواجهه بانتحالها للواقع. وينصب الفيلسوف من نفسه (وهو نفسه شكل مجرد للإنسان المغترب) مقياسًا للعالم المغترب. ومن هنا فإن كل تاريخ عملية الانسلاب، وكل عملية استرجاع (Retraction) الانسلاب، ليست سوى تاريخ إنتاج الفكر المجرد (أي المطلق) – إنتاج الفكر التأملي المنطقي. فالاغتراب – الذي يشكل إذن الأهمية الحقيقية لهذا الانسلاب ولتخطي هذا الانسلاب – هو التعارض بين "في ذاته" و"لذاته"، بين الوعي ووعي الذات، بين الموضوع والذات – أو بعبارة أخرى أنه التعارض – داخل إطار الفكر ذاته – بين التفكير المجرد وبين الواقع الحسي أو الحسي الواقعي. وليست كل التعارضات الأخرى – أو حركات هذه التعارضات – سوى المظهر، القناع، الشكل الخارجي، لهذه التعارضات التي هي وحدها ذات الأهمية، والتي تشكل معنى هذه التعارضات الدنيوية الأخرى. فالجوهر الموضوع للاغتراب والشيء الذي ينبغي تخطيه ليس حقيقة أن الكائن الإنساني يموضع ذاته بصورة غير إنسانية في معارضة ذاته، وإنما حقيقة أنه يموضع ذاته في تمايز عن التفكير المجرد، وفي تعارض معه. وهكذا فإن تملك قوى الإنسان الجوهرية، التي أصبحت موضوعات – وفي الحقيقة موضوعات غريبة – هو في المقام الأول مجرد تملك يحدث في الوعي، في الفكر الخالص – أي في التجريد، إنه تملك لهذه الموضوعات كأفكار وكحركات للفكر. وبالتالي فرغم مظهرها السلبي والانتقادي للغاية، ورغم النقد الذي تحويه حقًا، والذي كثيرًا ما يستبق تطورًا لاحقًا بعيدًا، فسنجد كامنًا في الفينومينولوجيا منذ الآن – كبذرة، كإمكان، كسر الوضعية غير الانتقادية، والمثالية غير الانتقادية بالمثل، التي تظهر في مؤلفات هيجل اللاحقة – هذا الانحلال والإعادة للعالم التجريبي القائم. وفي المقام الثاني: فإن عودة العالم الموضوعي إلى الإنسان – وعلى سبيل المثال إدراك أن الوعي الحسي ليس وعيًا حسيًا مجردًا وإنما وعيًا حسيًا إنسانيًا – أن الدين والثروة إلخ... ليست سوى العالم المغترب للتموضع الإنساني، لقوى الإنسان الجوهرية وقد أعطيت للعمل، وأنها لهذا ليست سوى الطريق إلى العالم الإنساني الحقيقي – وأن هذا التملك أو الاستبصار (Insight) لهذه العملية يبدو لدى هيجل في هذا الشكل؛ أن انحس الدين وسلطة الدولة إلخ... هي ذاتيات روحية، لأن الروح هو وحده الجوهر الحق للإنسان، والشكل الحقيقي للروح هو الروح المفكر، العقل المنطقي النظري. فإنسانية الطبيعة، والطبيعة التي يولدها التاريخ – إنسانية منتجات الإنسان – تظهر في شكل أنها منتجات للروح المجرد وباعتبارها هذا فإنها – من ثم – مراحل للروح – ذاتيات فكر. ولهذا فإن الفينومينولوجيا هي نقد خفي – لا يزال بالنسبة لنفسه نقدًا غامضًا صوفيًا، ولكن بمقدار ما يبقى في ذهنها اغتراب الإنسان – ورغم أن الإنسان لا يبدو إلا في شكل روح – فسنجد مختفية فيها كل عناصر النقد، مهيأة ومعدة بالفعل بطريقة كثيرًا ما ترتفع فوق وجهة النظر الهيجلية. "فالوعي التعس" و"الوعي الأمين" والصراع بين "الوعي النبيل والدنيء" ([85])... إلخ... إلخ – هذه الأقسام المنفصلة تحوي – ولكن في شكل مغترب لا يزال – العناصر النقدية لمجالات بأسرها مثل الدين والدولة والحياة المدنية إلخ... فتمامًا كما تبدو الذاتيات، الموضوعات، باعتبارها ذاتيات فكر، فإن الذات هي دائمًا وعي أو وعي ذات، أو بالأحرى أن الموضوع لا يبدو إلا كوعي مجرد، والإنسان إلا كوعي ذات: ومن هنا فإن الأشكال المتميزة التي تظهر للاغتراب ليست إلا أشكالاً مختلفة للوعي ووعي الذات، وكما أن الوعي المجرد (الشكل الذي يتصور به الموضوع) هو في ذاته مجرد لحظة في تميز وعي الذات فإن ما يبدو كنتيجة للحركة هو تطابق وعي الذات مع الوعي – المعرفة المطلقة – حركة الفكر المجرد التي لم تعد متجهة إلى الخارج وإنما تدور الآن داخل ذاتها فحسب: وبعبارة أخرى أن النتيجة هي جدل الفكر الخالص. وهكذا فإن الشيء البارز في فينومينولوجيا هيجل وحصيلتها النهائية – أي جدل النفي باعتباره المبدأ المحرك المولد – هو أولاً أن هيجل يتصور خلق الإنسان لنفسه “Self – genesis” كعملية، يتصور الموضعة كفقدان للموضوع، كإنسلاب، وتجاوز لهذا الإنسلاب، وأنه بهذا يدرك جوهر العمل، ويفهم الإنسان الموضوعي – الصادق لأنه إنسان حقيقي – باعتباره حصيلة عمل الإنسان نفسه. فالاتجاه الواقعي الإيجابي للإنسان نفسه ككائن نوعي، أو تجليه ككائن نوعي واقعي (أي ككائن إنساني) ليس ممكنًا إلا بأن تستخرج حقًا من نفسه كل القوى التي له كإنسان نوعي – وهو بدوره أمر ليس ممكنًا إلا من خلال مجموعة أعمال الإنسان، كنتيجة للتاريخ – ليس ممكنًا إلا بأن يعامل الإنسان هذه القوى النوعية كموضوعات، وهذا – بادئ ذي بدء – ليس بدوره ممكنًا إلا في شكل الاغتراب. وسنبين الآن بالتفصيل أحادية الجانب عند هيجل وحدوده كما تتضح من الفصل الأخير من "الفينومينولويجا"، "المعرفة المطلقة" – وهو فصل يحوي الروح المركزة للفينومينولوجيا، والعلاقة بين الفينومينولوجيا وبين الجدل التأملي، وكذلك وعي هيجل بالاثنين معًا وبعلاقة كل منهما بالأخرى. ولنكتف الآن مؤقتًا بأن نقول كلمة مقدمًا: أن وجهة نظر هيجل هي وجهة نظر الاقتصاد السياسي الحديث. وهو يدرك العمل كماهية للإنسان – كماهية الإنسان في عملية أثبات ذاتها: إنه لا يرى إلا الجانب الإيجابي – لا السلبي – للعمل، العمل هو الإنسان وهو يصبح لذاته داخل الإنسلاب، أو كإنسان منسلب. والعمل الوحيد الذي يعرفه هيجل ويعترف به هو العمل الذهني المجرد. ومن هنا فإن ما يشكل ماهية الفلسفة – إنسلاب الإنسان في معرفته بذاته أو العلم المنسلب وهو يفكر ذاته – يدركه هيجل باعتباره ماهيتها، ولهذا فإنه يستطيع في مواجهة الفلسفة السابقة أن يجمع عناصرها ومراحلها المنفصلة، وأن يعرض فلسفته باعتبارها الفلسفة. فما صنعه الفلاسفة السابقون – أنهم أدركوا مراحل منفصلة للطبيعة وللحياة الإنسانية كمراحل لوعي الذات، وفي الحقيقة لوعي الذات المجرد – معروف لهيجل باعتباره منجزات الفلسفة. ومن هنا فإن عمله مطلق. ولنعد الآن إلى موضوعنا. المعرفة المطلقة. الفصل الأخير من "الفينومينولوجيا". النقطة الأساسية هي أن موضوع الوعي ليس إلا وعي الذات أو أن الموضوع ليس إلا وعي ذات متموضعًا – وعي الذات كموضوع. (وضع “Positing” الإنسان = وعي الذات). والنتيجة إذن هي تخطي موضوع الوعي. والموضوعية من حيث هي كذلك تعتبر علاقة إنسانية مغتربة لا تتفق مع ماهية الإنسان، مع وعي الذات. وإعادة تملك الجوهر الموضوعي للإنسان، المولد في شكل اغتراب كشيء أجنبي، لا تعني إذن إلغاء الاغتراب فحسب، بل إلغاء الموضوعية كذلك، وبعبارة أخرى فإن الإنسان يعتبر كائنًا روحيًا غير موضوعي. إن الموضوع يكشف عن نفسه لا بمجرد العودة إلى الذات – وهذه لدى هيجل الطريقة الأحادية الجانب لفهم هذه الحركة، إدراك جانب واحد فحسب. فالإنسان يوضع كمعادل للذات، غير أن الذات ليست إلا الإنسان المتصور بشكل مجرد – الإنسان الذي ولده التجريد. والإنسان يدور على الأنا، فالعين عين الأنا، والآذن أذن الأنا الخ...، وفيه نجد لكل واحدة من قواه الإنسانية صفة الذات “Selfhood”. لكن من الخطأ أن نقول استنادًا إلى ذلك أن "لوعي الذات عيونًا وآذانًا وقوى جوهرية"، فوعي الذات بالأحرى صفة للطبيعة الإنسانية، للعين الإنسانية الخ... وليست الطبيعة الإنسانية صفة لوعي الذات. والمجرد المحدد لذاته هو الإنسان كانا مجرد – الأنا وقد رفعت في تجريدها الخالص إلى مستوى الفكر (وسنعود إلى هذه النقطة فيما بعد). وبالنسبة لهيجل فإن ماهية الإنسان – الإنسان – تساوي وعي الذات. ومن هنا فإن كل اغتراب لماهية الإنسان ليس إلا اغتراب وعي الذات. واغتراب وعي الذات لا ينظر إليه باعتباره تعبيرًا عن الاغتراب الحقيقي الكائن الإنساني – تعبيره المنعكس في مملكة المعرفة والفكر. بالعكس أن الاغتراب الحقيقي – الذي يبدو حقيقيًا – هو من حيث أعماقه، من حيث طبيعته الخفية (وهي طبيعة لا تظهرها في الضوء إلا الفلسفة) ليس إلا تجليًا لاغتراب الماهية الواقعية للإنسان، لوعي الذات. ومن هنا فإن العلم الذي يدرك هذا يسمى الفينومينولوجيا. ولهذا فإن كل إعادة لتملك الجوهر الموضوعي المغترب يظهر كعملية تجسد في وعي الذات: فالإنسان الذي يسيطر على وجوده الأساسي هو مجرد وعي ذات يسيطر على الماهيات الموضوعية، وعودة الموضوع إلى الذات هي إذن إعادة لتملك الموضوع. وتجاوز موضوع الوعي، معبرًا عنه بشكل شامي يعني ([86]): (1) أن الموضوع من حيث هو موضوع يتمثل للوعي باعتباره شيئًا يختفي. (2) أن انسلاب وعي الذات هو الذي يقيم الشيئية (Thinghood). (3) إن هذا التخارج ([87]) لوعي الذات ليست له فحسب دلالة سلبية بل دلالة إيجابية كذلك. (4) أن له هذا المعنى لا بالنسبة لنا فحسب أو باطنيًا (Intriniscally) بل بالنسبة لوعي الذات نفسه. (5) بالنسبة لوعي الذات فإن لسلبية الموضوع، إلغائه لذاته، دلالة إيجابية – فوعي الذات يعرف هذا العدم للموضوع – لأن وعي الذات نفسه ينسلب بذاته، ولأنه في هذا الانسلاب يقيم ذاته كموضوع، أو من أجل الوحدة التي لا تنقسم للوجود للذات (Being – For – Self) يقيم الموضوع باعتباره ذاته. (6) ومن الناحية الأخرى هناك أيضًا هذه اللحظة الأخرى في العملية، إن وعي الذات قد ألغي بنفس القدر هذا الانسلاب والموضوعية وتجاوزهما واسترجاعهما في ذاته، وبذا استراح مع ذاته في وجوده الآخر من حيث هو وجود آخر. (7) هذه هي حركة الوعي، وفي هذه الحركة فإن الوعي هو مجموع لحظاتها. (8) ولا بد للوعي بالمثل أن يكون قد أقام علاقة بالموضوع في كل جوانبه ومراحله، وأحاط به من زاوية كل من هذه الجوانب والمراحل، وهذا المجموع للخصائص المحددة يجعل الموضوع كائنًا روحيًا باطنيًا، وهو يصبح كذلك في الحقيقة بالنسبة للوعي من خلال إدراك كل خصيصة مفردة منها كذات، أو من خلال ما أسميناه فيما سبق الموقف الروحي منها. أما عن (1): أن الموضوع من حيث هو موضوع يتمثل للوعي باعتباره شيئًا يختفي – فهذه هي عودة الموضوع إلى الذات التي تحدثنا عنها فيما سبق. أما عن (2): إن انسلاب وعي الذات هو الذي يقيم الشيئية. لأن الإنسان يساوي وعي الذات فإن جوهره الموضوعي المنسلب، أو الشيئية، يساوي وعي الذات المنسلب، وهكذا تقام الشيئية خلال هذا الانسلاب (فالشيئية هي ما هو موضوع بالنسبة للإنسان، والموضوع بالنسبة له ليس في الحقيقة إلا ما هو بالنسبة له موضوع جوهري، ومن هنا جوهره الموضوعي، ولما لم يكن الإنسان الواقعي، ولا بالتالي الطبيعة – باعتبار أن الإنسان هو الطبيعة الإنسانية – هو الذي يعتبر من حيث هو كذلك – الذات وإنما تجريد الإنسان – وعي الذات – فإن الشيئية لا يمكن أن تكون إلا وعي ذات منسلبًا). ومن المتوقع تمامًا أن كائنًا طبيعيًا حيًا مزودًا أو متمتعًا بقوات جوهرية موضوعية (أي مادية) لا بد أن تكون له موضوعات طبيعية واقعية لجوهره، وأن انسلابه الذاتي لا بد أن يقود إلى إقامة عالم موضوعي واقعي – وإنما عالم في شكل تخارج – ومن هنا عالم لا ينتمي إلى وجوده الجوهري، عالم يسيطر عليه. وليس في هذا شيء غامض أو غير مفهوم، بل أن الأمر ليكون غامضًا لو كان على العكس. لكن من الواضح بالمثل أن وعيًا للذات لا يمكن أن يقيم الشيئية إلا خلال انسلابه – أي يقيم شيئًا ليس هو ذاته إلا شيئًا مجردًا، شيئًا ينتمي للتجريد وليس شيئًا واقعيًا. ومن الواضح كذلك أن الشيئية من هنا محرومة تمامًا من أي استقلال، من أي جوهرية، في مواجهة وعي الذات، وأنها على العكس مجرد مخلوق – شيء وضعه وعي الذات. وهذا الذي يوضع، بدلاً من أن يؤكد ذاته، ليس إلا تأكيدًا لفعل الوضع الذي تتركز فيه للحظة طاقة الفعل كناتج له، بحيث يبدو وكأنه يعطي الشيء الموضوع – ولكن للحظة فقط – جوهرًا ([88]) مستقلاً حقيقيًا. وحيثما يقيم الإنسان الواقعي الجسدي، الإنسان الذي يضع قدميه ثابتتين على الأرض الصلبة، الإنسان الذي يستنشق ويزفر كل قوى الطبيعة، حيثما يقيم هذا الإنسان قواه الجوهرية الموضوعية الحقيقية كموضوعات غريبة عن طريق تخارجه، فليس فعل الوضع هو الذات في هذه العملية: إنها ذاتية القوى الجوهرية الموضوعية، التي لا بد من ثم أن يكون فعلها شيئًا موضوعيًا. فالكائن الموضوعي يتصرف بطريقة موضوعية، وما كان ليتصرف بطريقة موضوعية لو لم تكن الموضوعية كامنة في طبيعة وجوده ذاتها. أنه لا يخلق أو يقيم إلا موضوعات، لأنه إنما أقامته موضوعات – لأنه في الأصل طبيعة، ومن هنا فإن هذا الكائن الموضوعي – في فعل الإقامة – لا يسقط من حالة "النشاط الخالص" إلى خلق للموضوع، بالعكس أن ناتجه الموضوعي إنما يؤكد نشاطه الموضوعي، ويقيم نشاطه كنشاط لكائن طبيعي موضوعي. وهنا نرى كيف تميز الطبيعة (Natrualism) أو الإنسانية المتسقة ذاتها عن كل من المثالية والمادية، مشكلة في نفس الوقت الحقيقة الموحدة للاثنتين. ونرى أيضًا كيف أن الطبيعة وحدها هي القادرة على الإحاطة بفعل تاريخ العالم. فالإنسان هو مباشرة كائن طبيعي. وهو ككائن طبيعي، وككائن طبيعي حي، مزودة من ناحية بالقوى الطبيعية للحياة – إنه كائن طبيعي نشط. وتوجد هذه القوى فيه كاتجاهات وقدرات – كدوافع. ومن ناحية أخرى فإنه ككائن موضوعي طبيعي جسدي حسي هو مخلوق محدود مشروط يعاين كالحيوانات والنباتات، وبعبارة أخرى فإن موضوعات دوافعه توجد خارجه، كموضوعات مستقلة عنه، غير أن هذه الموضوعات هي موضوعات لاحتياجاته – موضوعات أساسية لا غنى عنها لتجلي قواه الجوهرية و تأكدها. فالقول بأن الإنسان كائن جسدي حي حقيقي حسي موضوعي مليء بالقوة الطبيعية يعني القول بأن لديه موضوعات حقيقية حسية كموضوعات لوجوده أو لحياته، أو بأنه لا يستطيع أن يعبر عن حياته إلا بموضوعات حقيقية حسية موضوعية. فأن تكون موضوعيًا وطبيعيًا وحسيًا، وفي نفس الوقت أن يكون لك موضوع وطبيعة وحس خارجك، أو أن تكون أنت ذاتك موضوعًا وطبيعة وحسًا لطرف ثالث هو نفس الشيء. فالجوع حاجة طبيعية، ولهذا فإنه يحتاج إلى طبيعة خارجه، موضوع خارجه، لكي يشبع ذاته، لكي يهدأ. الجوع حاجة معترف بها لجسدي إلى موضوع يوجد خارجه، لا غنى عنه لتكامله وللتعبير عن وجوده الجوهري. والشمس موضوع للنبات – موضوع لا غنى عنه بالنسبة له، يؤكد حياته – تمامًا كما أن النبات موضوع للشمس، باعتباره تعبيرًا عن قوة الشمس كموقظة للحياة، عن قوة الشمس الجوهرية الموضوعية. والكائن الذي ليست له طبيعته خارجه ليس كائنًا طبيعيًا، ولا يلعب دورًا في نظام الطبيعة. والكائن الذي ليس له موضوع خارجه ليس كائنًا موضوعيًا. الكائن الذي ليس هو ذاته موضوعًا لكائن ثالث ليس له وجود بالنسبة لموضوعه، أي أنه لا يرتبط به موضوعيًا، إن وجوده ليس موضوعيًا. إن وجودًا غير موضوعي هو علم – لا وجود. فلنفترض كائنًا ليس هو ذاته موضوعًا، وليس له موضوع، إن مثل هذا الكائن في المقام الأول سيكون الكائن الأوحد (Unique): فلن يكون هناك وجود خارجه – وسيوجد منفردًا وحيدًا لأنه حالما توجد موضوعات خارجي، حالما لا أكون وحيدًا، فإنني آخر – واقع آخر غير الموضوع الذي يوجد خارجي. وهكذا فأنا بالنسبة لهذا الموضوع الثالث واقع آخر غيره، أي أنني موضوع له. وهكذا فإن افتراض كائن ليس موضوعًا لكائن آخر يعني أننا نفترض مسبقًا أنه لا يوجد كائن موضوعي. فحالما يكون لدى موضوع، فإنني أكون موضوعًا لهذا الموضوع. لكن كائنًا غير موضوعي هو شيء غير حقيقي لا معنى له – شيء يفكر فيه فحسب (أي متخيلاً فقط) – مخلوق من مخلوقات التجريد. وأن تكون حسيًا، أي أن تكون موضوعًا للحس، أن تكون موضوعًا حسيًا وبذلك تكون لديك موضوعات حسية خارجك – موضوعات لحسك، أن تكون حسيًا يعني أن تعاني ([89]). ومن هنا فإن الإنسان ككائن حي هو كائن يعاني – ولأنه يشعر بما يعانيه فإنه كائن منفعل، والانفعال هو القوة الجوهرية للإنسان العاكف بنشاط على موضوعه. لكن الإنسان ليس مجرد كائن طبيعي، بل هو كائن طبيعي إنساني، وبعبارة أخرى أنه كائن لذاته، ولهذا فإنه كائن نوعي، عليه أن يؤكد ذاته ويبديها باعتباره هذا سواء في وجوده أو في معرفته، ومن هنا فإن الموضوعات الإنسانية ليست الموضوعات الطبيعية كما تعرض نفسها مباشرة، كما ليس الحس الإنساني ما هو عليه مباشرة – كما هو موضوعيًا – حساسية إنسانية، موضوعية إنسانية. فلا الطبيعة موضوعيًا ولا الطبيعة ذاتيًا معطاة مباشرة في شكل ملائم للكائن الإنساني. ولما كان كل شيء طبيعي ينبغي أن تكون له بدايته، فإن للإنسان أيضًا فعل مجيئه إلى الوجود – التاريخ – ولكنه بالنسبة له تاريخ معروف، ومن هنا فكفعل للوجود فإنه فعل تجاوز ذاتي واع للوجود. فالتاريخ هو التاريخ الطبيعي الحقيقي للإنسان (وسنعود إلى هذه النقطة فيما بعد). وثالثًا لأن هذه الإقامة للشيئية ليست ذاتها إلا خدعة، فعلاً يتناقض مع طبيعة النشاط الخالص، فلا بد من أن تلغى ثانية وتنكر الشيئية. وأما عن (3) و(4) و(5) و(6): (3) إن هذا التخارج للوعي ليست له فحسب دلالة سلبية، بل دلالة إيجابية كذلك و(4) وله هذا المعنى لا بالنسبة لنا فحسب أو باطنيًا بل للوعي ذاته ([90]). (5) بالنسبة للوعي فإن لسلبية الموضوع، إلغائه لذاته، دلالة إيجابية. فالوعي يعرف هذا العدم للموضوع لأنه ينسلب بذاته، ولأنه في هذا الانسلاب يعرف ذاته كموضوع أو – من أجل الوحدة التي لا تنقسم للوجود للذات – يعرف الموضوع باعتباره ذاته. (6) ومن الناحية الأخرى هناك أيضًا هذه اللحظة الأخرى في العملية، إن الوعي قد ألغي بنفس القدر هذا الانسلاب والموضوعية وتجاوزهما واسترجاعهما في ذاته، وبذلك استراح مع ذاته في وجوده الآخر من حيث هو وجود آخر. وكما رأينا من قبل فإن: تملك ما هو مغترب وموضوعي، أو إلغاء الموضوعية في شكل الاغتراب (الذي لا بد أن يتقدم من الغربة غير المكترثة إلى الاغتراب الحقيقي العدائي) يعني بالمثل بل وبالدرجة الأولى لدى هيجل أن الموضوعية هي التي ستلغي، فليس الطابع المحدد للموضوع – وإنما بالأحرى طابعه الموضوعي – هو الذي يعد إهانة ويشكل اغترابًا لوعي الذات. ولهذا فإن الموضوع شيء سلبي، يلغي ذاته – عدم. وهذا العدم للموضوع ليس له فحسب معنى سلبي، بل معنى إيجابي بالنسبة للوعي، لأن مثل هذا العدم للموضوع هو بالتحديد التأكيد الذاتي للاموضوعيته، لتجريده. وبالنسبة للوعي ذاته فإن لهذا العدم للموضوع معنى إيجابيًا لأنه يعرف هذا العدم، الوجود الموضوعي، كانسلابه الذاتي، لأنه يعرف أنه لا يوجد إلا كنتيجة لانسلابه الذاتي... والطريقة التي يوجد بها الوعي، والتي يوجد بها الشيء بالنسبة للوعي، هي المعرفة، فالمعرفة هي فعله الوحيد. وهكذا فإن الشيء يوجد بالنسبة للوعي بمقدار ما يعرف الأخير هذا الشيء. والمعرفة هي علاقته الموضوعية الوحيدة. وإذن فالوعي يعرف عدم الموضوع (أي يعرف عدم وجود التمايز بين الموضوع وبينه، عدم وجود الموضوع بالنسبة له) لأنه يعرف الموضوع كانسلابه الذاتي؛ أي أنه يعرف ذاته – يعرف المعرفة كموضوع، لأن الموضوع ليس سوى مظهر لموضوع، ليس إلا نوعًا من التعمية، ولكنه ليس في جوهره إلا المعرفة ذاتها، التي واجهت ذاتها بذاتها وبعملها هذا واجهت نفسها بالعدم – بشيء ليست له موضوعية خارج المعرفة. أو: المعرفة تعرف أنها بربط ذاتها بموضوع فإنها فحسب خارج ذاتها، أنها إنما تتخارج (Externalize itself)، أنها ذاتها لا تبدو لذاتها إلا كموضوع – أو أن ما يبدو لها كموضوع ليس سوى هي ذاتها. ومن ناحية أخرى – كما يقول هيجل – فإن هناك في نفس الوقت تلك اللحظة الأخرى في هذه العملية، أن الوعي قد ألغي بنفس القدر وتجاوز هذا التخارج والموضوعية واسترجاعهما في ذاته، وبذلك استراح في وجوده الآخر من حيث هو وجود آخر. وفي هذه المناقشة تتجمع معًا كل أوهام الفكر النظري. في المقام الأول: الوعي – وعي الذات – يستريح مع ذاته في وجوده الآخر من حيث هو وجود آخر. ومن هنا فإنه – أو إذا جردنا هنا من التجريد الهيجلي ووضعنا وعي ذات الإنسان بدلاً من وعي الذات – يستريح مع ذاته في وجوده الآخر من حيث هو وجود آخر. وهذا يتضمن – من ناحية – أن الوعي (المعرفة كمعرفة، والتفكير كتفكير) يدعى أنه مباشرة هو الآخر بالنسبة لذاته – أنه عالم الحس، العالم الواقعي، الحياة – الفكر يتخطى ذاته في الفكر (فيورباخ) ([91]). وهذا الجانب محتوى هنا من حيث أن الوعي كمجرد وعي لا يهاجم الموضوعية المغتربة، وإنما يهاجم الموضوعية من حيث هي موضوعية. وثانيًا، هذا يتضمن أن الإنسان الواعي لذاته، بمقدار ما أدرك العالم الروحي (أو أسلوب الوجود الروحي العام لعالمه) وألغاه وتجاوزه كانسلاب ذاتي فإنه رغم هذا يؤكده في شكله المنسلب، ويقدمه باعتباره الأسلوب الحقيقي لوجوده – ويعيد إقامته ويتظاهر بأنه يستريح مع وجوده الآخر من حيث هو وجود آخر. وهكذا – على سبيل المثال – فبعد إلغاء الدين وتجاوزه، بعد إدراك الدين كنتاج لانسلاب الذات، فإنه رغم هذا يجد تأكيدًا لذاته في الدين كدين. وهنا يوجد جذر وضعية هيجل الزائفة، أو نقده الذي لا يعدو أن يكون نقدًا ظاهريًا: هذا ما وصفه فيورباخ بأنه وضع الدين أو اللاهوت ونفيهما وإعادة إقامتهما – ولكن ينبغي أن نفهمه بصورة أعم، وهكذا فإن العقل يستريح في اللاعقل من حيث هو لا عقل. والإنسان الذي أدرك أنه يعيش حياة منسلبة في السياسة والقانون إلخ... يعيش حياته الإنسانية الحقة في هذه الحياة المنسلبة من حيث هي كذلك. وهكذا فإن إثبات الذات، في تناقض مع ذاته – في تناقض مع كل من معرفة الموضوع والوجود الجوهري للموضوع – هو المعرفة الحقة والحياة الحقة. وهكذا لم يعد يمكن الحديث عن عملية توفيق قام بها هيجل تجاه الدين والدولة إلخ... لأن هذه الأكذوبة هي أكذوبة مبدئه. فإذا كنت أعرف الدين كوعي ذات إنساني منسلب، فإن ما أعرفه فيه كدين ليس وعي ذاتي، وإنما وعي ذاتي المنسلب متأكدًا فيه. ومن هنا فإنني أعرف ذاتي – وعي الذات الذي ينتمي إلى طبيعته الحقة – لا متأكدة في الدين بل بالأحرى في الدين الملغي المتجاوز. وهكذا فعند هيجل ليس نفي النفي تأكيدًا للمساهمة الحقة يتم بالتحديد خلال نفي الماهية الزائفة. إن نفي النفي لديه هو تأكيد الماهية الزائفة، أو الماهية المغتربة عن ذاتها في إنكارها، أو هو إنكار هذه الماهية الزائفة كوجود موضوعي يعيش خارج الإنسان ومستقلاً عنه وتحويلها إلى الذات. ومن هنا يلعب فعل التجاوز – الذي يرتبط فيه الإنكار بالاستبقاء، الإنكار بالتأكيد – دورًا خاصًا. وهكذا – مثلاً – ففي فلسفة الحقوق عند هيجل قانون الحق الخاص للتجاوز يساوي الأخلاق، والأخلاق المتجاوزة تساوي العائلة، والعائلة المتجاوزة تساوي المجتمع المدني، والمجتمع المدني المتجاوز يساوي الدولة، والدولة المتجاوزة تساوي تاريخ العالم. وفي العالم الواقعي يظل الحق الخاص والأخلاق والعائلة والمجتمع المدني والدولة إلخ.... موجودة، لكنها أصبحت لحظات للإنسان – حالة لوجوده وكينونته – ليست لها قيمة إذا ما أخذت معزولة، ولكنها تتحلل، ويولد كل واحد منها الآخر إلخ... لقد أصبحت لحظات للحركة. وفي وجودها الواقعي تختفي طبيعتها المتحركة هذه، وهي تظهر للمرة الأولى وتتجلى في الفكر، في الفلسفة. ومن هنا فإن وجودي الديني الحقيقي هو وجودي في فلسفة الدين، ووجودي السياسي هو وجودي في فلسفة الحق، ووجودي الطبيعي الحقيقي هو وجودي في فلسفة الطبيعة، ووجودي الفني الحقيقي هو وجودي في فلسفة الفن، ووجودي الإنساني الحقيقي هو وجودي في الفلسفة. وبالمثل فإن الوجود الحقيقي للدين والدولة والطبيعة والفن هو فلسفة الدين والطبيعة والدولة والفن. غير أنه إذا كانت فلسفة الدين إلخ... هي بالنسبة لي الوجود الحقيقي الوحيد للدين فإنني أيضًا لا أكون متدينًا حقًا إلا كفيلسوف للدين، وهكذا فإنني أنكر الشعور الديني الواقعي، والإنسان المتدين الواقعي، لكنني في نفس الوقت أؤكدهما – جزئيًا داخل وجودي أنا أو داخل الوجود الغريب الذي أضعه في معارضتهما – لأن هذا هو التعبير الفلسفي الوحيد عنهما – وجزئيًا أؤكدهما في شكلهما الأصلي، لأنهما ليسا صحيحين بالنسبة لي إلا كمجرد الوجود الآخر الظاهري. كرموز، كأشكال لوجودهما الحقيقي (أي لوجودي الفلسفي) المختفي تحت أقنعة حسية. وبنفس الطريقة فإن الكيف المتجاوز يساوي الكم، والكم المتجاوز يساوي القياس، والقياس المتجاوز يساوي الماهية، والماهية المتجاوزة تساوي المظهر، والمظهر المتجاوز يساوي الواقع، والواقع المتجاوز يساوي المفهوم، والمفهوم المتجاوز يساوي الموضوعية، والموضوعية المتجاوزة تساوي الفكرة المطلقة، والفكرة المطلقة المتجاوزة تساوي الطبيعة، والطبيعة المتجاوزة تساوي الروح الذاتي، والروح الذاتي المتجاوز يساوي الروح الأخلاقي الموضوعي، والروح الأخلاقي الموضوعي المتجاوز يساوي الفن، والفن المتجاوز يساوي الدين، والدين المتجاوز يساوي المعرفة المطلقة ([92]). ومن ناحية فإن فعل التجاوز هذا هو تخط للذاتية الفكرية (Thought entity)، وهكذا فإن الملكية الخاصة كفكرة تتجاوز في فكرة الأخلاق، ولأن الفكر يتصور نفسه باعتباره الآخر بالنسبة لذاته، باعتباره واقعًا حسيًا – ومن هنا يتصور فعله باعتباره فعلاً حسيًا واقعيًا – فإن هذا التجاوز في الفكر – الذي يترك موضوعه قائمًا في العالم الحقيقي – يؤمن بأنه قد تغلب عليه فعلاً. ومن ناحية أخرى فلأن الموضوع قد أصبح الآن بالنسبة إليه لحظة من الفكر، فإن الفكر يأخذه في واقعه أيضًا باعتباره تأكيدًا ذاتيًا لذاته – لوعي الذات، للتجريد. فمن الناحية الأولى فإن الوجود الذي يتجاوزه هيجل في الفلسفة ليس إذن الدين الواقعي أو الدولة الواقعية أو الطبيعة الواقعية بل أن الدين ذاته يصبح بالفعل موضوعًا للمعرفة أي دوجماطيقًا، ونفس الأمر بالنسبة للفقه والعلم السياسي والعلم الطبيعي. ومن هنا فهو من الناحية الأولى يقف في معارضة كل من الشيء الواقعي والعلم المباشر غير الفلسفي أو التصورات (Conceptions) غير الفلسفية لهذا الشيء. وهو بالتالي يناقض تصوراتها الجارية ([93]). ومن الناحية الأخرى فإن الإنسان المتدين إلخ... يمكن أن يجد لدى هيجل تأكيده النهائي. وقد حان الوقت الآن لكي نمسك بالجوانب الإيجابية في الجدل الهيجلي في مجال الاغتراب. (أ) الإلغاء كحركة موضوعية لاسترجاع الانسلاب في الذات. تلك هي البصيرة – معبرًا عنها داخل الاغتراب – والخاصة بتملك الجوهر الموضوعي خلال إلغاء اغترابه، إنها البصيرة المغتربة إلى الموضعة الحقيقية للإنسان، إلى التملك الحقيقي لماهيته الموضوعية خلال إلغاء الطابع المغترب للعالم الموضوعي في أسلوب وجوده المغترب – تمامًا كما أن الإلحاد باعتباره إلغاء الله – هو مقدم الإنسانية النظرية، والشيوعية – باعتباره إلغاء الملكية الخاصة – هي تبرير الحياة الإنسانية الواقعية كملك للإنسان، وبذلك مقدم الإنسانية العملية (أو تمامًا كما أن الإلحاد هو الإنسانية متصالحة مع ذاتها خلال إلغاء الدين، في حين أن الشيوعية هي الإنسانية متصالحة مع ذاتها خلال إلغاء الملكية الخاصة). فعن طريق إلغاء هذه الوساطة فحسب وإن كانت هي نفسها مقدمة ضرورية – تولد الإنسانية المستمدة من ذاتها إيجابيًا، الإنسانية الإيجابية. لكن الإلحاد والشيوعية ليسا هروبًا، ليسا تجريدًا، ليسا فقدانًا للعالم الموضوعي الذي ولده الإنسان – فقدانًا لقواه الجوهرية المعطاة لمملكة الموضوعية، إنهما ليسا عودة في الفقر للبساطة البدائية غير الطبيعية، وبالعكس أنهما ليسا سوى الصيرورة الواقعية الأولى، تحقق ماهية الإنسان وقد أصبح واقعيًا بالنسبة للإنسان – ماهية الإنسان كشيء واقعي. وهكذا فحين يدرك هيجلي المعنى الإيجابي للنفي المستند إلى ذاته (وإن يكن ثانية بطريقة مغتربة) فإنه يدرك الاغتراب الذاتي للإنسان، انسلاب جوهر الإنسان، فقدان الإنسان للموضوعية وفقدانه للحقيقة (Realness) باعتباره اكتشافًا للذات، وتغييرًا للطبيعة، وموضعته وتحققه. وباختصار فإن هيجل – داخل مملكة التجريد – يدرك العمل باعتباره فعل ولادة الإنسان لذاته – يدرك علاقة الإنسان بذاته ككائن غريب، وتجلى ذاته ككائن غريب، باعتبارها مولد وعي النوع وحياة النوع. (ب) بيد أنه بعيدًا عن، أو بالأحرى نتيجة، للانحراف (Perverseness) الذي وصفناه من قبل فإن هذا الفعل يبدو لدى هيجل: أولاً كمجرد فعل شكلي، لأن ماهية الإنسان ذاتها تؤخذ كمجرد ماهية مجردة مفكرة، لا تتصور إلا كوعي ذات. و... ثانيًا، لأن التصور شكلي مجرد فإن إلغاء الانسلاب يصبح تأكيدًا للانسلاب، أو بعبارة أخرى فإن هذه الحركة لتوليد الذات وموضعة الذات في شكل انسلاب ذات واغتراب ذات هي – لدى هيجل – التعبير المطلق، ومن ثم النهائي – للحياة الإنسانية – للحياة التي أصبحت غاية ذاتها، للحياة التي استراحت مع ذاتها، للحياة التي حققت الوحدة مع ماهيتها. وهكذا فإن هذه الحركة في شكلها المجرد كجدل تعتبر الحياة الإنسانية حقًا، ولأنها رغم ذلك تجريد – اغتراب للحياة الإنسانية – فإنها تعتبر عملية إلهية، وإنما عملية إلهية للإنسان، عملية تمر بها ماهية الإنسان الخالصة المطلقة كشيء متميز عنه. وثالثًا، لا بد لهذه العملية من حامل، ذات. لكن الذات تبدو أولاً كنتيجة. ومن هنا فإن هذه النتيجة – الذاتي التي تعرف ذاتها كوعي ذات مطلق – هي الله – الروح المطلق – الفكرة التي تعرف ذاتها وتتجلى لذاتها. ويصبح الإنسان الواقعي والطبيعة الواقعية مجرد محمولين (Predicates) – رمزين لهذا الإنسان الخفي غير الواقعي ولهذه الطبيعة غير الواقعية. وهكذا فإن الذات والمحمول يرتبطان ببعضهما البعض في علاقة تعاكس مطلق – إنها ذات – موضوع صوفية أو ذاتية تصل إلى ما بعد الموضوع – الذات المطلق كعملية، كذات تنسلب عن ذاتها وتعود من الانسلاب إلى ذاتها، لكنها في نفس الوقت تسترجع هذا الانسلاب في ذاتها، والذات باعتبارها هذه العملية، خالصة قلقة تدور داخل ذاتها. أولاً التصور الشكلي والمجرد لعمل التوليد الذاتي والتموضع الذاتي للإنسان. إذ وضع هيجل الإنسان كمعادل لوعي الذات، فإن الموضوع المغترب – الواقع الجوهري المغترب للإنسان – ليس سوى وعي، مجرد فكرة الاغتراب – التعبير المجرد وبالتالي الفارغ غير الواقعي عن الاغتراب، النفي. ومن هنا فإن إلغاء الاغتراب ليس بالمثل إلا إلغاء مجردًا فارغًا لهذا التجريد الفارغ – نفي النفي. وهكذا فإن النشاط الغني الحي الحسي العيني لتموضع الذات ينتهي إلى مجرد تجريده، السلبية المطلقة – تجريدًا يتثبت ثانية باعتباره تجريدًا ويفكر فيه كنشاط مستقل – كنشاط محض. ولأن هذه السلبية المزعومة ليست أكثر من الشكل المجرد الفارغ للفعل الحي الحقيقي، فإن مضمونه لا يمكن بالتالي أن يكون إلا مجرد مضمون شكلي أنجبه التجريد من كل مضمون. وكنتيجة لذلك فإن هناك أشكال تجريد عامة مجرد تنتمي لكل مضمون، ولهذا السبب فإنها غير مكترثة – وبالتالي صالحة – لكل مضمون – صور الفكر أو المقولات المنطقية المفصولة عن الروح الواقعي وعن الطبيعة الواقعية (وسنعرض المضمون المنطقي للسلبية المطلقة فيما بعد). وإنجاز هيجل الإيجابي هنا – في منطقه النظري – هو أن المفهومات المحددة – صور الفكر المثبتة الكلية في استقلالها في مواجهة الطبيعة والروح – هي نتيجة ضرورية للاغتراب العام للجوهر الإنساني ومن ثم أيضًا للفكر الإنساني، وأن هيجل بذلك قد جمع بينهما معًا وعرضهما كلحظات لعملية التجريد. وعلى سبيل المثال فإن الوجود المتجاوز هو الماهية، والماهية المتجاوزة هي المفهوم، والمفهوم المتجاوز هو... الفكرة المطلقة. ولكن ماذا إذن هي الفكرة المطلقة؟ إنها تتجاوز نفسها ثانية إذا لم ترد أن تمر ثانية من البداية بكل فعل التجريد، وأن تذعن لكونها كلية تجريدات، أو كونها التجريد الذي يدرك ذاته. لكن التجريد الذي يدرك ذاته كتجريد يعرف أنه لا شيء، ولا بد له أن يتخلى عن ذاته – أن يتخلى عن التجريد – وهكذا يصل إلى ذاتية هي نقيضه تمامًا – إلى الطبيعة. وهكذا فإن "المنطق" كله هو إيضاح أن الفكر المجرد ليس شيئًا في ذاته، إن الفكرة المطلقة ليست شيئًا في ذاتها، وأن الطبيعة وحدها هي الشيء. إن الفكرة المطلقة، الفكرة المجردة التي "تعتبر من حيث وحدتها مع ذاتها حدسًا" ([94]) (هيجل الأنسكلوبيديا – الطبعة الثالثة – ص 222) والتي "تقرر في حقيقتها المطلقة أن تترك لحظة خصوصيتها أو لحظة التحدد (Characterization) المبدئي والوجود الآخر – الفكرة المباشرة كانعكاس لها – تنطلق حرة من ذاتها كطبيعة" (المصدر نفسه) – هذه الفكرة التي تتصرف بمثل هذه الطريقة الغريبة الفريدة، والتي سببت للهيجليين مثل هذا الصداع الرهيب، ليست من البداية إلى النهاية سوى تجريد (أي المفكر المجرد) – تجريد يقرر – وقد علمته التجربة وتنور بالنسبة لحقيقته – في ظل ظروف متنوعة (زائفة لا تزال هي ذاتها تجريدًا) أن يتخلى عن ذاته وأن يحل محل استغراقه في ذاته، وعدميته، وعموميته وعدم تحديده وجوده الآخر، الخاص، والمحدد، يقرر أن يترك الطبيعة التي يبقيها مختفية في ذاته وإنما كتجريد، كذاتية فكر، تنطلق متحررة من ذاتها، وبعبارة أخرى أن التجريد يقرر أن يتخلى عن التجريد، وأن يلقي نظرة على الطبيعة متحررًا من التجريد. والفكرة المجردة التي تصبح دون وسيط حدسًا ليست إطلاقًا سوى تفكير مجرد يتخلى عن ذاته ويعتزم الحدس. وليس هذا الانتقال من المنطق إلى فلسفة الطبيعة إلا الانتقال – الذي يصعب للغاية على الفيلسوف المجرد أن يقوم به، وبذلك يبدو وصفه له غريبًا للغاية – من التجريد إلى الحدس، والشعور الصوفي الذي يدفع الفيلسوف إلى الأمام من التفكير المجرد إلى الحدس هو الملل – الشوق إلى مضمون. (والإنسان المغترب عن ذ اته هو أيضًا المفكر المغترب عن ماهيته، أي عن الماهية الطبيعية والإنسانية. ومن هنا فإن أفكاره أشكال وأشباح ذهنية مثبتة تعيش خارج الطبيعة والإنسان. وقد أغلق هيجل على كل هذه الأشكال الذهنية في كتابة المنطق، مدركًا كلاً منها أولاً كنفي، أي كانسلاب للفكر الإنساني – ثم كنفي للنفي – أي كتجاوز لهذا الانسلاب، كتعبير واقعي عن الفكر الإنساني. ولكن لما كان هذا لا يزال يحدث داخل حدود الاغتراب، فإن هذا النفي هو جزئيًا استرجاع هذه الأشكال المثبتة في اغترابها – وجزئيًا التوقف قبل الفعل الأخير – فعل الرجوع إلى الذات في الانسلاب – كأسلوب حقيقي لوجود هذه الأشكال الذهنية المثبتة ([95])، وجزئيًا – وإلى الحد الذي يدرك فيه هذا التجريد ذاته ويشعر بإنهاك لا ينتهي داخل ذاته – يظهر هنا عند هيجل في شكل العزم على الاعتراف بالطبيعة باعتبارها الوجود الجوهري والانتقال إلى الحدس – التخلي عن الفكر المجرد – التخلي عن الفكر الذي لا يدور إلا في مدار الفكر، الفكر المحروم من العيون والأسنان والآذان وكل شيء). لكن الطبيعة بدورها، إذا ما أخذت بشكل مجرد، إذا ما أخذت لذاتها – الطبيعة المثبتة معزولة عن الإنسان – ليست شيئًا بالنسبة للإنسان، وغني عن البيان أن المفكر المجرد الذي يعتزم الحدس، يحدس الطبيعة بشكل مجرد، فتمامًا كما ترقد الطبيعة حبيسة داخل المفكر في شكل الفكرة المطلقة، في شكل ذاتية فكر – في شكل هو شكله ورغم ذلك فإنه خفي وغامض حتى بالنسبة له – فإن ما عليه أن يطلقه من ذاته الآن ليس في الحقيقة سوى هذه الطبيعة المجردة، سوى الطبيعة كذاتية فكر – ولكن لها الآن معنى كونها الموجود الآخر للفكر، كونها طبيعة واقعية محدسة – كونها طبيعة متميزة عن الفكر المجرد. أو إذا تحدثنا بلغة بشرية أن المفكر المجرد يتعلم في حدسه للطبيعة أن الذاتيات التي فكر في خلقها من لا شيء، من التجريد الخالص – الذاتيات التي كان يؤمن بأنه ينتجها في الجدل الإلهي كمنتجات خالصة لعمل الفكر الذي ينسج داخل ذاته إلى الأبد ولا ينظر أبدًا إلى الخارج – ليست إلا تجريدات من خصائص الطبيعة. ولهذا فإن الطبيعة كلها لديه إنما تكرر التجريدات المنطقية في شكل حسي خارجي. أنه يحللها ويحلل هذه التجريدات مرة أخرى بعد الأخرى، ومن هنا فإن حدسه للطبيعة ليس سوى التكرار الواعي من جانبه لعملية ميلاد تجريده. وهكذا – على سبيل المثال – فإن الزمن يساوي السلبية التي ترجع إلى ذاتها (المصدر نفسه ص 238): ويتجاوب مع الصيرورة المتجاوزة كوجود الحركة المتجاوزة كمادة – في شكل طبيعي. فالضوء هو انعكاس في الذات، في شكل طبيعي، وجرم كالقمر والشهاب هو الشكل الطبيعي للتضاد الذي يقوم – طبقًا للمنطق – بين الإيجابي المرتكز على ذاته من ناحية والسلبي المرتكز على ذاته من ناحية أخرى. والأرض هي الشكل الطبيعي للأرض المنطقية كوحدة سلبية للتضاد إلخ.... ([96]). إن الطبيعة كطبيعة – أي من حيث أنها لا تزال متميزة حسيًا عن ذلك المعنى السري المختبئ داخلها – الطبيعة مفصولة ومتميزة عن هذه التجريدات، ليست شيئًا – إنها لا شيء يثبت أنه لا شيء – خالية من المعنى، أو ليس لها سوى معنى كونها خارجية ينبغي إلغاؤها. "وفي الموقف الغائي المحدود نجد القضية الصحيحة أن الطبيعة لا تحوي داخلها الغاية المطلقة" (ص 225) وغايتها هي تأكيد التجريد. "لقد أوضحت الطبيعة ذاتها باعتبارها الفكرة في شكل الوجود الآخر، ولما كانت الفكرة في هذا الشكل هي نفي ذاتها أو خارجية عن ذاتها، فإن الطبيعة ليست فحسب خارجية نسبيًا في مواجهة هذه الفكرة، بل أن الخارجية تمثل الشكل الذي توجد فيه الطبيعة" (ص 227). ولا ينبغي أن نفهم الخارجية هنا باعتبارها عالم الحس المتخارج والمكشوف للضوء، المفتوح أمام الإنسان المزود بالحواس، وإنما ينبغي أن نفهمه هنا بمعنى الانسلاب – خطًا – نقيصة، ينبغي ألا توجد. لأن ما هو صحيح لا يزال هو الفكرة. وليست الطبيعة إلا شكل الوجد الآخر للفكرة. ولما كان الفكر المجرد هو الماهية، فإن ما هو خارجي بالنسبة له هو بحكم ماهيته مجرد شيء خارجي. إن المفكر المجرد يعرف في نفس الوقت بأن الحسية – الخارجية – في تعارض مع الفكر الذي ينسج داخل ذاته – هي ماهية الطبيعة. لكنه يعبر عن هذا التناقض بطريقة تجعل من خارجية الطبيعة هذه، تناقضها مع الفكر، نقيصتها، بحيث أن الطبيعة بمقدار ما هي متميزة عن التجريد شيء ناقص. والشيء الناقص لا بالنسبة لي وفي عيني فحسب، بل في ذاته – باطنيًا – له شيء خارجه يفتقر إليه. أي أن وجوده هو شيء آخر غيره ذاته. ومن هنا فإن على الطبيعة أن تتخطى ذاتها بالنسبة للمفكر المجرد، لأنه منذ البداية يضعها ككائن متجاوز بالقوة. "وبالنسبة لنا فإن الطبيعة هي مقدمة الروح باعتباره حقيقة الطبيعة، ولهذا السبب فإنه أولها المطلق وفي هذه الحقيقة اختفت الطبيعة، ونتج الروح باعتباره الفكرة وقد وصلت إلى الوجود لذاتها، وموضوعها، فضلاً عن ذاتها – هو المفهوم. وهذا التطابق سلبية مطلقة لأنه في حين أن للمفهوم في الطبيعة موضوعيته الخارجية الكاملة، فإن هذا، انسلابه، قد تخطى، وفي هذا الانسلاب أصبح المفهوم متطابقًا مع ذاته، ومن هنا فإنه هذا التطابق فحسب في كونه عودة خارج الطبيعة" (ص 392). "وباعتباره الفكرة المجردة فإن الوحي هو الانتقال دون وسيط إلى الطبيعة، صيرورتها، وباعتباره وحي الروح – الذي هو حر – فإنه إقرار الطبيعة كعالم الروح – وهو إقرار يعد في نفس الوقت باعتباره انعكاسًا – افتراضًا مسبقًا للعالم كطبيعة موجودة بشكل مستقل. والوحي في التصور هو خلق الطبيعة كوجود للذهن، يحقق فيه الذهن تأكيد حريته وحقيقتها" "فالمطلق هو الروح. هذا هو أعلى تعريف للمطلق". "كتبه كارل ماركس بين إبريل وأغسطس 1844" ونشره للمرة الأولى جزئيًا معهد الماركسية اللينينية بالروسية عام 1927 ثم كاملاً بالألمانية في عام 1933
ملحق تخطيط لنقد الاقتصاد السياسي ("تخطيط لنقد الاقتصاد السياسي" هو أول عمل اقتصادي لفريدريك إنجلز يدرس فيه النظام الاقتصادي البورجوازي من زاوية الاشتراكية. وقد كان ماركس يقدر هذا العمل تقديرًا بالغًا – حتى فيما بعد – ويعتبره "تخطيطًا رائعًا لنقد المقولات الاقتصادية" (أنظر مقدمة "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" – 1859) "ويشهد هذا المقال بابتعاد إنجلز النهائي عن المثالية إلى المادية، وعن الديمقراطية الثورية إلى الشيوعية، إلا أنه لا يخلو من تأثير الشيوعية" الفلسفة الأخلاقية. فلا يزال إنجلز في عدد من الفقرات ينتقد المجتمع البورجوازي من زاوية المبادئ المجردة للأخلاق الكلية والإنسانية – الناشر(. بقلم: فريدريك إنجلز ولد الاقتصاد السياسي كنتيجة طبيعية لاتساع التجارة، ومع ظهوره حل محل الغش غير العلمي نظام متطور من التدليس المرخص به – اقتصاد كامل من السعي إلى الثراء. ويحمل هذا الاقتصاد السياسي – أو علم الإثراء الذي تولد عن حسد التجار وجشعهم المتبادل – طابع الأنانية البغيضة على جبهته. فقد كان الناس لا يزالون يعيشون على إيمان ساذج بأن الذهب والفضة هما الثروة، ولا يعتبرون شيئًا أكثر أهمية من أن يحظر في كل مكان تصدير المعادن "الثمينة". وواجهت الأمم بعضها البعض كأشحاء يقبض كل منها بكلتا يديه على حافظة نقوده الثمينة، وهي تنظر إلى جيرانها بحسد وشك. وكل وسيلة متصورة تستخدم لكي تبتز من الأمم التي تتاجر خمعها أكبر قدر ممكن من النقود، ولكي تحتفظ بأحكام داخل حدودها الجمركية بما أسعدها الحظ بجمعه. غير أن المراعاة المنسقة المتشددة لهذا المبدأ كان يمكن أن تقتل التجارة ومن هنا بدأ الناس يمضون إلى أبعد من هذه المرحلة، وبدأوا يدركون أن رأس المال الذي يغلق عليه في صندوق هو رأس مال ميت، وأن رأس المال المتداول يضاعف نفسه على الدوام. فأصبحوا عندئذ أكثر ميلاً للخير، وأخذوا يرسلون نقودهم كالطيور لتعود بغيرها معها، ويدركون أنه لا ضرر من أن يدفعوا إلى "أ" كثيرًا مقابل سلعته طالما أنهم يستطيعون التصرف فيها إلى "ب" بسعر أعلى. وعلى هذا الأساس قام المذهب التجاري. لقد بدأ إلى حد ما إخفاء الجشع التجاري. وتقاربت الأمم قليلاً، وعقدت فيما بينها اتفاقات التجارة والصداقة، وتاجرت مع بعضها البعض، ومن أجل مزيد من الأرباح تعاملت بكل حب ورفق ممكن. ولكن في الأساس ظلت هناك تلك الرغبة العارمة القديمة في النقود، وتلك الأنانية التي تفجرت من وقت لآخر في الحروب، التي كانت تستند كلها في تلك الأيام إلى الغيرة التجارية. وأصبح من الواضح كذلك في تلك الحروب أن التجارة – كالسرقة – تقوم على قانون اليد الأقوى. فلم يكن ثمة حرج من أي نوع في التوصل بالخديعة والعنف إلى تلك المعاهدات التي تعد أكثر ميزة. والنقطة الأساسية في كل المذهب التجاري هي نظرية الميزان التجاري. فلأنهم كانوا لا يزالون يتمسكون بالمبدأ القائل أن الذهب والفضة هما الثروة لم يكونوا يعتبرون صفقات ما مربحة إلا تلك التي تجلب في النهاية نقودًا سائلة إلى البلاد. وللتحقق من ذلك كانت تتم مقارنة الصادرات بالواردات، وحين تزيد الصادرات عن الواردات، كان المعتقد أن الزيادة جاءت إلى البلاد في شكل نقود سائلة، وأن البلاد قد ازدادت غني بمقدار هذا الفارق. ومن هنا كان فن الاقتصاديين يتألف من ضمان أن يكون التوازن في نهاية العام لصالح الصادرات على الواردات، ومن أجل هذا ذبح الآلاف من الناس. فلقد كان للتجارة أيضًا حملاتها الصليبية ومحاكم تفتيشها. وأدى القرن الثامن عشر – قرن الثورة – إلى إضفاء طابع ثوري على الاقتصاديات كذلك. ولكن تمامًا كما كانت كل ثورات هذا القرن ثورات أحادية الجانب انتهت إلى تناقضات – تمامًا كما وضعت المادية المجردة في مقابل الروحية المجردة، والجمهورية مقابل الملكية، والعقد الاجتماعي مقابل الحق المقدس – فإن الثورة الاقتصادية بالمثل لم تمض إلى أبعد من التناقض. وظلت المقدمات سارية في كل مكان، فالمادة لم تنازع المسيحية في احتقارها للإنسان وامتهانه، وإنما اكتفت بأن وضعت الطبيعة بدلاً من الإله المسيحي باعتبارها المطلق الذي يواجه الإنسان. وفي السياسة لم يكن أحد يحلم بدراسة قضية الدولة باعتبارها دولة. ولم يخطر للاقتصاديات أن تتشكك في صحة الملكية الخاصة. ومن هنا لم تكن الاقتصاديات الجديدة سوى نصف تقدم، لقد أجبرت على أن تخون مقدماتها هي وتتنكر لها، وعلى أن تلجأ إلى المغالطة والنفاق حتى تخفي التناقضات التي وقعت في شراكها، وحتى تصل إلى تلك الاستنتاجات التي لم تكن تدفعها إليها مقدماتها وإنما الروح الإنسانية للقرن. وهكذا اتخذت الاقتصاديات طابعًا خيريًا، لقد سحبت خدماتها من المنتجين ومنحتها للمستهلكين. وتظاهرت بالنفوق البالغ من الإرهاب الدموي للمذهب التجاري، وأعلنت التجارة رابطة صداقة واتحاد بين الأمم، كما هي بين الأفراد، لقد كان كل شيء إشراقًا وروعة خالصة – بيد أن المقدمات سرعان ما فرضت ذاتها، وتوصلت بدلاً من هذه الخيرية الزائفة إلى نظرية مالتس عن السكان – وهي أكثر النظريات التي وجدت فجاجة وقسوة، إنها مذهب من اليأس يمحو كل تلك العبارات الجميلة عن حب الجار وعن المواطن العالمي. لقد ولدت المقدمات وغذت نظام المصنع والعبودية الحديثة، التي لا تقل أبدًا في قسوتها ولا إنسانيتها عن العبودية القديمة، وكشفت الاقتصاديات الحديثة – مذهب التجارة الحرة القائم على كتاب آدم سميث "ثروة الأمم" – أنها نفس النفاق وعدم الاتساق واللا أخلاقية التي تواجه البشرية الآن في كل مجال. ولكن ألم يكن مذهب سميث إذن تقدمًا؟ أجل كان تقدمًا، بل تقدمًا ضروريًا. لقد كان ضروريًا للتطويح بالمذهب التجاري باحتكاراته وعرقلته للتجارة، حتى يمكن أن تظهر في الضوء النتيجة الحقيقية للملكية الخاصة، كان ضروريًا حتى تنزاح كل هذه الاعتبارات الصغيرة والمحلية والقومية إلى الخلف، حتى يصبح صراع عصرنا صراعًا إنسانيًا كليًا: وكان ضروريًا لنظرية الملكية الخاصة أن تترك الطريق التجريبي المحض الذي يقتصر على البحث الموضوعي، وأن تكتسب طابعًا أكثر علمية يجعلها أيضًا مسئولة عن النتائج، وبذلك تنقل الموضوع إلى مجال إنساني كلي. وكان من الضروري أن نصل باللا أخلاقية التي تحويها الاقتصاديات القديمة إلى أقصى درجاتها بمحاولة إنكارها وبتغليفها بالرياء (كنتيجة ضرورية لهذه المحاولة). وكان هذا كله من طبيعة الأمور. وإننا لنسلم بسرور بأننا بفضل إقامة التجارة الحرة وتطورها وحدها أصبحنا في مركز نستطيع منه أن نمضي إلى أبعد من اقتصاديات الملكية الخاصة، بيد أنه يجب أن يكون لنا في نفس الوقت الحق في أن نبين البطلان النظري والعملي الكامل لهذه التجارة الحرة. وبقدر ما يقترب الاقتصادي الذي علينا أن نحكم عليه من عصرنا بقدر ما يجب أن يكون حكمنا قاسيًا، لأنه في حين لم يكن لدى سميث ومالتس سوى شذرات مبعثرة ينطلقان منها فإن أمام الاقتصاديين الحديثين كل النظام بأسره: لقد استخلصت كل النتائج، وظهرت التناقضات بوضوح كاف تحت الضوء، بيد أنهم لم يصلوا على فحص المقدمات – وما زالوا يتحملون مسئولية النظام بأسره. وبقدر ما يقترب الاقتصاديين من عصرنا بقدر ما يبتعدون عن الأمانة، ومع كل تقدم للزمن تزيد السفسطة بالضرورة، حتى تمنع الاقتصاديات من التعثر خلف الزمن. وهذا هو السبب في أن ريكاردو مثلاً أشد ذنبًا من آدم سميث، وأن ماككلوخ وميل أشد ذنبًا من ريكاردو. إن الاقتصاديات الحديثة لا تستطيع حتى أن تحكم حكمًا صحيحًا على المذهب التجاري، لأنها هي ذاتها أحادية الجانب، ولا تزال حتى الآن محصورة بمقدمات هذا المذهب ذاته. ولا يمكن أن تضع الاثنين في مكانهما الصحيح إلا تلك النظرة التي تنتقد المقدمات المشتركة بينهما، والتي تنطلق من أساس إنساني كلي خالص. وسيصبح من الواضح أن دعاة حرية التجارة احتكاريون أكثر تأصلاً من التجاريين القدامى ذاتهم، سيصبح من الواضح أن الإنسانية الزائفة للاقتصاديين المحدثين تخفي بربرية لم يكن أسلافهم يعرفونها، وأن خلط المفاهيم لدى الأسلاف يعد بسيطًا ومتسقًا بالمقابلة بالمنطق ذي اللسانين لمهاجميهم، وأن أحدًا من الجانبين لا يستطيع أن يعيب على الآخر شيئًا لا يمكن أن يرتد عليه ذاته. وهذا هو السبب في أن الاقتصاديات الليبرالية الحديثة لا تستطيع أن تفهم إعادة ليست ([97]) للمذهب التجاري في حين أن الأمر بالنسبة لنا بسيط للغاية، فعدم اتساق وازدواجية الاقتصاديات الليبرالية لا بد بالضرورة أن يذوب ثانية في مكوناتها الأساسية. وتمامًا كما أن اللاهوت لا بد أن يتقدم إما إلى الإيمان الأعمى وإما إلى الفلسفة الحرة، فإن التجارة الحرة، لا بد أن تؤدي إلى عودة الاحتكارات من ناحية وإلغاء الملكية الخاصة من الناحية الأخرى. والتقدم الإيجابي الوحيد الذي حققته الاقتصاديات الليبرالية هو كشف قوانين الملكية الخاصة، وهذه القوانين على أي حال محتواه فيها وإن لم تتكشف بعد كلية وتجد تعبيرًا واضحًا. وينتج عن ذلك أنه في كل النقاط التي تكون المسألة فيها هي تحديد أي الطرق أقصر إلى الثروة – أي في كل المجادلات الاقتصادية بالمعنى الضيق – فإن الحق يكون إلى جانب دعاة التجارة الحرة. وذلك بالطبع في المجادلات مع الاحتكاريين – وليس مع خصوم الملكية الخاصة، لأن الاشتراكيين الإنجليز، قد أثبتوا منذ أمد طويل – سواء عمليًا أو نظريًا – أنهم في وضع يمكنهم من أن يحلوا المسائل الاقتصادية بصورة أصح حتى من الزاوية الاقتصادية. ومن هنا ففي نقد الاقتصاد السياسي سندرس المقولات الأساسية، ونكشف التناقض الذي أدخله مذهب التجارة الحرة، ونستخرج نتائج كلا جانبي التناقض. * * * لم تظهر عبارة "الثروة القومية" إلا نتيجة لولع الاقتصاديين الليبراليين بالتعميم. فليس لهذه العبارة معنى طالما توجد الملكية الخاصة. إن "الثروة القومية" للإنجليز كبيرة للغاية، ورغم هذا فإنهم أفقر شعب تحت الشمس. والمرء إما أن يستبعد هذا التعبير كلية، وإما أن يقبل المقدمات التي تعطيه معناه. والأمر كذلك بالنسبة لتعبيري "الاقتصاد القومي"، و"الاقتصاد السياسي أو العام". ففي الظروف الحالية ينبغي أن يسمى هذا العلم الاقتصاد الخاص لأن علاقاته العامة لا توجد إلا لصالح الملكية الخاصة. * * * والنتيجة المباشرة للملكية الخاصة هي التجارة – تبادل الطلب – البيع والشراء. وهذه التجارة – ككل فاعلية – لا بد في ظل سيطرة الملكية الخاصة أن تصبح مصدرًا مباشرًا للكسب بالنسبة للتاجر، أي أن كل أمرئ يجب أن يسعى لأن يبيع بأعلى ما يمكن ويشتري بأرخص ما يمكن. وهكذا ففي كل عملية شراء وبيع يتواجد رجلان تتعارض مصالحهما تعارضًا كاملاً. والمواجهة هنا عدائية تمامًا – لأن كلا منهما يعرف نوايا الآخر – ويعرف أنها تتعارض مع نواياه. وبالتالي فإن النتيجة الأولى هي عدم الثقة المتبادلة من ناحية، وتبرير عدم الثقة هذا – استخدام وسائل غير أخلاقية للوصول إلى أغراض غير أخلاقية – من الناحية الأخرى. وهكذا فالمبدأ الأول في التجارة هو "التكتم" – إخفاء كل شيء يمكن أن يخفض قيمة الشيء المعنى. والنتيجة هي أن من المسموح به في التجارة أن تستغل إلى أقصى حد جهل الطرف المقابل وثقته، وبالمثل أن تضفي على سلعتك صفات لا تمتلكها. وباختصار فإن التجارة تدليس مقنن، وكل تاجر يحترم لصدق يمكن أن يشهد معي على أن الممارسة الفعلية تتوافق مع هذه النظرية. والمذهب التجاري لا يزال يحتفظ ببعض الصراحة الكاثوليكية الساذجة، وهو لا يخفي بأي حال الطبيعة غير الأخلاقية للتجارة، وقد رأينا كيف يستعرض صراحة جشعها الدنيء. لقد كان الموقف العدائي المتبادل بين الأمم في القرن الثامن عشر، والحقد اللعين والغيرة التجارية نتائج منطقية للتجارة بما هي تجارة. ولم يكن الرأي العام قد اصطبغ بالصبغة الإنسانية. فلماذا إذن نخفي أشياء نتجت عن الطبيعة المعادية غير الإنسانية للتجارة ذاتها؟ ولكن حين انتقد آدم سميث – لوثر الاقتصاد – الاقتصاديات الماضية كانت الأمور قد تغيرت إلى حد كبير، لقد كان القرن قد اصطبغ بالصبغة الإنسانية، والعقل قد أكد ذاته، وبدأت الأخلاق تطالب بحقها الأبدي. وكانت المعاهدات التجارية الغاضبة، والحروب التجارية. والعزلة الفظة للأمم، تسيء كثيرًا إلى الوعي المتقدم. وحل النفاق البروتستانتي محل الصراحة الكاثوليكية. وأثبت سميث أن الإنسانية بدورها تمتد بجذورها إلى طبيعة التجارة وأن التجارة بدلاً من أن تكون "أكثر مصادر الخلاف والعداء خصوبة" يجب أن تكون "رابطة من الاتحاد والصداقة بين الأمم وبين الأفراد. (أنظر "ثروة الأمم" الكتاب الرابع – الفصل الثالث – البند الثاني)، وأنه على أي حال فمن طبيعة الأشياء – إذا ما أخذت في مجموعها – أن تكون التجارة مربحة لكل الأطراف المعنية. وكان سميث على حق في تمجيده التجارة كشيء إنساني. فليس في العالم شيء لا أخلاقي بصورة مطلقة. وللتجارة أيضًا جانب تكرم فيه الأخلاق والإنسانية. ولكن أي تكريم! إن قانون اليد القوية، السرقة الصريحة في العصور الوسطى، قد اكتسب طابعًا إنسانيًا حين تحول إلى التجارة، واصطبغت التجارة بالصبغة الإنسانية حين تحولت – في مرحلتها الأولى التي اتسمت بمنع تصدير النقود – إلى المذهب التجاري. والآن صبغ المذهب التجاري ذاته بالصبغة الإنسانية. فمن مصلحة التاجر بالطبع أن يكون على وفاق مع الشخص الذي يشتري منه بسعر رخيص، ومع ذلك الذي يبيع له غاليًا. فإن أمة ما تكون متهورة في تصرفاتها إذا هي غذت مشاعر العداء لدى مورديها وعملائها. فكلما زاد الود، زادت الأرباح، تلك هي إنسانية التجارة، وهذه الطريقة المرائية لإساءة استخدام الأخلاق من أجل غايات غير أخلاقية هي ما يعتز به مذهب التجارة الحرة. ويصيح المراءون "ألم نطوح ببربرية الاحتكار؟ ألم نصل بالمدنية إلى أنحاء نائية من العالم؟ ألم نتوصل إلى المؤاخاة بين الشعوب ونقلل عدد الحروب؟" أجل، لقد فعلتم هذا كله – ولكن كيف! لقد حطمتم الاحتكارات الصغيرة حتى يمكن للاحتكار الواحد الكبير الأساسي – الملكية – أن يعمل بحرية ودون قيود. لقد وصلتم بالمدنية إلى أطراف الأرض كي تكسبوا أرضًا جديدة لنشاط جشعكم الدنيء. لقد توصلتم إلى المؤاخاة بين الشعوب – لكنها مؤاخاة اللصوص. لقد قللتم عدد الحروب – كي تحققوا أرباحًا أكبر في السلام، كي تضاعفوا إلى أقصى حد العداوة بين الأفراد، حرب المنافسة الشائنة! متى فعلتم شيئًا بدافع الإنسانية الخالصة، بدافع الوعي ببطلان التضاد بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة؟ متى كنتم أخلاقيين دون أن تكون لكم مصلحة، دون أن تكون في مؤخرة ذهنكم دوافع أنانية لا أخلاقية؟ وبعد أن بذلت الاقتصاديات الليبرالية أقصى ما في وسعها لتعميم العداوة عن طريق حل القوميات حتى تحول البشرية إلى قطيع من الوحوش المفترسة (فماذا يكون المتنافسون غير هذا؟) يلتهمون بعضهم البعض لمجرد أن لكم منهم مصالح متطابقة مع الآخرين جميعًا – بعد هذا العمل التمهيدي لا تبقى سوى خطوة واحدة قبل بلوغ الهدف – تحلل العائلة. ولأداء هذه المهمة هب نظام المصنع – ابتداع الاقتصاد الجميل – لمساعدتها. فالأثر الأخير للمصالح المشتركة – وحدة الحيازات التي تمثلها العائلة – يتقوض على أيدي نظام المصنع، وهو بالفعل – على الأقل هنا في إنجلترا يمر بعملية التحلل. ولقد أصبح من الممارسة الشائعة للأطفال – حالما يستطيعون العمل (أي حالما يصلون إلى سن التاسعة) أن ينفقوا أجورهم بأنفسهم، وأن ينظروا إلى منزل آبائهم كمجرد مسكن، وأن يعطوا والديهم قدرًا من المال مقابل الغذاء والسكنى. وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟ وهل ثمة شيء آخر يمكن أن يترتب على الفصل بين المصالح الذي يشكل أساس مذهب التجارة الحرة؟ فما أن يبدأ مبدأ ما الحركة حتى يعمل بفعل قوته عبر كل نتائجه، سواء راق ذلك للاقتصاديين أم لم يرق. لكن الاقتصادي نفسه لا يعرف أي قضية يخدم. أنه لا يعرف أنه مع كل تدليلاته الأنانية فإنه لا يشكل سوى حلقة في سلسلة تقدم البشرية الكلي. أنه لا يعرف أنه بحله لكل المصالح الطائفية فإنه إنما يعبد الطريق نحو التحول العظيم الذي يتحرك نحوه القرن – مصالحه البشرية مع الطبيعة ومع ذاتها. * * * والمقولة التالية التي تقيمها التجارة هي القيمة، وليس ثمة نزاع بين الاقتصاديين المحدثين وأسلافهم حول هذه المقولة، تمامًا كما ليس هناك نزاع حول كل المقولات الأخرى، لأن الاحتكاريين في جنونهم المتسلط من أجل تحقيق الثروة ليس لديهم وقت لكي يهتموا بالمقولات. وكل المجادلات حول هذه النقاط تنبعث من الاقتصاديين المحدثين. ولدى الاقتصادي الذي يعيش بالتناقض كذلك بالطبع قيمة مزدوجة – قيمة مجردة أو حقيقية وقيمة تبادلية. وقد كان هناك نزاع طويل حول طبيعة القيمة الحقيقية بين الإنجليز – الذين حددوا تكاليف الإنتاج كتعبير عن القيمة الحقيقية – وبين الفرنسي ساي الذي قال بقياس هذه القيمة بمنفعة الشيء. وظل النزاع معلقًا بالشك منذ بداية القرن، ثم رقد دون الوصول إلى قرار. فالاقتصاديون لا يستطيعون أن يقرروا شيئًا. وهكذا يزعم الإنجليز – ماككلوخ وريكاردو بشكل خاص – أن القيمة المجردة لشيء ما تحدد بتكاليف الإنتاج... القيمة المجردة بالطبع وليس القيمة التبادلية، "قيمة التبادل" ([98]) القيمة في التجارة – فهذا – على حد قولهم – شيء مختلف تمامًا. فلماذا كانت تكاليف الإنتاج مقياس القيمة؟ لأن – واستمع إلى هذا! – لأن أحدًا في الظروف العادية – منحيًا جانبًا ظرف المنافسة – لا يمكن أن يبيع شيئًا بأقل مما كلفه إنتاجه. لا يمكن أن يبيع -؟ وما علاقتنا "بالبيع" هنا إذا لم تكن المسألة مسألة قيمة تجارية؟ وهكذا نجد التجارة ثانية، وكان من المفروض أن ننحيها جانبًا – وأي تجارة! التجارة التي لا يؤخذ في الاعتبار فيها العامل الرئيسي، ظرف المنافسة! فأولاً قيمة مجردة، ثم ها نحن الآن أمام تجارة مجردة – تجارة دون منافسة، أي إنسان دون جسد، فكر دون ذهن لإنتاج الأفكار، أفلا يقف الاقتصادي أبدًا ليدرك أنه طالما أبعدت المنافسة عن الاعتبار فليس هناك ما يضمن على الإطلاق أن يبيع المنتج سلعته مقابل تكلفة الإنتاج فقط؟ أي خلط! وفضلاً عن ذلك: فلنسلم لحظة أن كل شيء هو كما يقوله الاقتصادي. ولنفترض أن شخصًا ما يصنع شيئًا لا فائدة له على الإطلاق بجهد هائل وتكلفة ضخمة – يصنع شيئًا لا يريده أحد: فهل هذا الشيء أيضًا يساوي تكاليف إنتاجه؟ كلا بالتأكيد، هكذا يقول الاقتصادي: فمنذا الذي سيريد شراءه؟ وهكذا لا نجد أمامنا فجأة المنفعة المحتقرة التي يقول بها ساي وحدها بل إلى جوارها كذلك – مع "البيع" – ظرف المنافسة. هذا أمر لا يمكن أن يحدث – فالاقتصادي لا يمكن أن يتمسك لحظة واحدة بتجريده. إذ يقفز في كل لحظة لا ما يسعى جاهدًا لإزالته فحسب – المنافسة – بل كذلك ما يهاجمه – المنفعة. فالقيمة المجردة وتحديدها بتكاليف الإنتاج ليسا في نهاية الأمر سوى تجريدات، عدم. ولكن لنفترض مرة أخرى أن الاقتصادي على حق – فكيف إذن سيحدد تكاليف الإنتاج دون أن يضع المنافسة في الاعتبار؟ فحين ندرس تكاليف الإنتاج فسنرى أن هذه المقولة أيضًا تقوم على المنافسة، وهنا يصبح من الواضح مرة أخرى مدى ضعف مقدرة الاقتصادي على أن يدعم مزاعمه. وإذا عدنا إلى ساي فسنجد نفس التجريد. فمنفعة شيء ما أمر ذاتي تمامًا، أمر لا يمكن أن يقرر بشكل مطلق. وهو بالتأكيد أمر لا يمكن أن يقرر – على أي حال – طالما ظل المرء يحوم في التناقضات. ووفقًا لهذه النظرية فإن من المفروض أن تكون لضرورات الحياة قيمة أكبر من سلع الترف. والطريقة الوحيدة الممكنة للوصول إلى قرار موضوعي يبدو عامًا إلى هذا الحد أو ذاك حول زيادة أو قلة منفعة شيء ما – في ظل سيطرة الملكية الخاصة – هو من خلال ظرف المنافسة، بيد أن هذا الظرف بالتحديد هو الذي يجب أن ينحى جانبًا، ولكن إذا اعترفنا بظرف المنافسة فإن تكاليف الإنتاج تتدرج فيه بالمثل، لأن أحدًا لن يبيع مقابل ما يقل عما أنفقه في الإنتاج. وهكذا فهمنا أيضًا ينتقل أحد جانبي التضاد – رغمًا عنه – إلى الجانب الآخر. ولنحاول أن ندخل شيئًا من الوضوح على هذا التخبط. إن قيمة شيء ما تتضمن كلا العاملين، الذين يفصل بينهما الطرفان المتنازعان بمثل هذه الوحشية؛ وكما رأينا دون نجاح. فالقيمة هي العلاقة بين تكاليف الإنتاج وبين المنفعة. والتطبيق الأول للقيمة هو تقرير ما إذا كان شيء ما ينبغي أصلاً أن ينتج، أي ما إذا كانت المنفعة توازن تكاليف الإنتاج. وعندئذ فحسب يستطيع المرء أن يتحدث عن تطبيق القيمة على التبادل. وإذا تساوت تكاليف إنتاج شيئين فإن العامل الحاسم الذي سيحدد قيمتها النسبية سيكون هو المنفعة. وهذا الأساس هو الأساس الوحيد العادل للتبادل. ولكن إذا انطلق المرء من هذا الأساس فمن ذا الذي يقرر منفعة الشيء؟ مجرد رأي الأطراف المعنية؟ إذن ففي أي الحالات سيتعرض المرء للغش. أم أن القرار تحديد يقوم على أساس المنفعة الكامنة للشيء مستقلة عن الأطراف المعنية ولا تبدو لهم؟ إذا كان الأمر كذلك فإن التبادل لا يمكن أن يتم إلا بواسطة القسر، وكل طرف يعتبر نفسه ضحية غش، ولا يمكن تخطي التضاد بين المنفعة الحقيقية الكامنة للشيء وبين تحديد هذه المنفعة، بين تحديد المنفعة وبين حرية من يقومون بالتبادل، دون تخطي الملكية الخاصة، وحالما نتخطى الملكية الخاصة فلن تكون هناك مسألة تبادل كما تقوم اليوم. وسيكون التطبيق العملي لمفهوم القيمة قاصرًا – بشكل متزايد – على تقرير الإنتاج، وهذا هو مجاله الصحيح. ولكن كيف تقف الأمور الآن؟ رأينا كيف أن مفهوم القيمة قد مزق بعنف، وكيف أن كلا من الجانبين المنفصلين قد أحل محل الكل. فتكاليف الإنتاج – التي شوهتها المنافسة منذ البداية – تفترض أنها القيمة ذاتها، وكذلك المنفعة الذاتية المحضة – إذ لا يمكن أن يوجد نوع آخر من المنفعة في هذه المرحلة. وعلينا لكي نوقف هذه التعريفات العرجاء على قدميها أن نلجأ في الحالتين إلى المنافسة، وأفضل ما في الموضوع هو أن المنافسة لدى الإنجليز تمثل المنفعة، المتناقضة مع تكاليف الإنتاج، في حين أنها على العكس لدى ساي تدخل تكاليف الإنتاج المتناقضة مع المنفعة. ولكن أي نوع من المنفعة وأي نوع من تكاليف الإنتاج تدخله؟ إن منفعتها تتوقف على الصدفة، على الطراز السائد، على هوى الأغنياء، وتكاليف الإنتاج لديها تتذبذب مع العلاقة العارضة بين العرض والطلب. والاختلاف بين القيمة الحقيقية والقيمة التبادلية يقوم على حقيقة هي أن قيمة شيء ما تختلف عما يسمى معادلاً له يعطى له في التجارة، أي أن هذا المعادل ليس معادلاً. وهذا المعادل المزعوم هو ثمن الشيء، ولو كان الاقتصادي أمينًا لاستخدام هذا التعبير بدلاً من القيمة التجارية. إلا أنه ما زال عليه أن يحتفظ بنوع من التظاهر بأن الثمن يرتبط بشكل ما بالقيمة، وإلا لأصبحت لا أخلاقية التجارة واضحة للغاية. غير أنه من الصحيح تمامًا – وهذا قانون أساسي للملكية الخاصة – أن الثمن يحدده الفعل المتبادل بين تكاليف الإنتاج والمنافسة. وكان هذا القانون التجريبي الخالص هو أول ما اكتشفه الاقتصادي، ومن هذا القانون جرد بعد ذلك "القيمة الحقيقية" عنده أي الثمن حين تكون المنافسة في حالة توازن، حين يغطي العرض والطلب كل منهما الآخر. وحينئذ فإن ما يبقى بعد ذلك بالطبع هو تكاليف الإنتاج، وهذه هي التي يبدأ الاقتصادي في تسميتها "القيمة الحقيقية" في حين أنها ليست سوى تحديد الثمن. وهكذا فكل شيء في الاقتصاديات يقف على رأسه. فالقيمة – وهي منشأ أو مصدر الثمن – تجعل تابعة لما هو من نتاجها. وكما هو معروف فإن هذا القلب هو جوهر التجريد. وأنظر في ذلك فيورباخ. ووفقًا للاقتصاديين فإن تكاليف إنتاج سلعة ما تتألف من ثلاثة عناصر: قطعة الأرض اللازمة لإنتاج المادة الأولية، ورأس المال وربحه، وأجر العمل اللازم للإنتاج والصناعة. بيد أنه يصبح من الواضح فورًا أن رأس المال والعمل متطابقان، لأن الاقتصاديين أنفسهم يعترفون بأن رأس المال هو "عمل مختزن". وهكذا لا يتبقى أمامنا سوى جانبين – الجانب الطبيعي الموضوعي، الأرض، والجانب الإنساني الذاتي، العمل، الذي يتضمن رأس المال، وإلى جانب رأس المال عامل لا يفكر فيه الاقتصاديون – وأنا أعني العنصر الروحي للاختراع، للفكر، إلى جانب العنصر الجسدي، للعمل الخالص. فماذا على الاقتصادي أن يفعل بروح الاختراع؟ ألم تصل إليه كل الاختراعات طائرة دون أي جهد من جانبه؟ هل كلفه واحد منها شيئًا؟ فلماذا إذن يضايق نفسه بها عند حساب تكاليف الإنتاج؟ إن الأرض ورأس المال والعمل هي لديه شروط الثروة، وهو لا يحتاج إلى أكثر من ذلك، وليس العلم أحد مشاغله. فماذا يعنيه أن يكون قد تلقى منحة من خلال بيرشهوليت ودافي ولييج ووات وكارترايت إلخ... وهي منح أفادته وأفادت إنتاجه إلى درجة لا تقاس؟ أنه لا يعرف كيف يحسب مثل هذه الأشياء، فتقدم العلم يتجاوز أرقامه. ولكن في نظام عقلاني مضى إلى أبعد من تقسيم المصالح كما هو لدى الاقتصاديين فإن العنصر الروحي ينتمي بالتأكيد إلى عناصر الإنتاج، وسيجد مكانه أيضًا في الاقتصاديات بين تكاليف الإنتاج. وأنه لشيء سار بالتأكيد أن نعرف أن تطور العلم يجلب أيضًا جائزته المادية، أن نعرف أن إنجازًا واحدًا للعلم مثل آلة جيمس وات البخارية قد درت على العالم في السنوات الخمسين الأولى من وجودها أكثر مما أنفقه العالم على تطوير العلم منذ بداية الزمن. وهكذا فإن لدينا عنصرين للإنتاج يعملان – الطبيعة والإنسان – الإنسان النشط بدنيًا وروحيًا – ونستطيع أن نعود ثانية إلى الاقتصادي وتكاليف إنتاجه. * * * يقول الاقتصادي إن ما لا يمكن أن يحتكر ليست له قيمة. وتلك قضية سندرسها عن قرب أكبر فيما بعد – ولو أننا قلنا "ليس له ثمن" لكانت القضية صحيحة – سندرسها بالنسبة للنظام الذي يقوم على الملكية الخاصة. فلو أننا نستطيع أن نحصل على الأرض بالسهولة التي نحصل بها على الهواء لما دفع أحد ريعًا. ولما لم تكن هذه هي الحالة، بل كانت مساحة قطعة الأرض التي يمكن تملكها محدودة في كل حالة خاصة فإن المرء يدفع ريعًا للأرض المملوكة أي المحتكرة، أو يدفع ثمن شراء لها. ويعد هذا الإيضاح لمصدر ريع الأرض فإن من الغريب جدًا أن نسمع من الاقتصادي أن ريع الأرض هو الفارق بين ما تغله الأرض المؤجرة وما تغله أسوأ قطعة أر ض تستحق الزراعة. وكما هو معروف فإن هذا هو تعريف الريع الذي طوره بشكل كامل ريكاردو للمرة الأولى. وهذا التعريف صحيح بلا شك في الممارسة إذ أفترض المرء مسبقًا أن هبوطًا في الطلب سيكون له رد فعل فوري على الريع، ويؤدي على الفور إلى إخراج كمية مماثلة من أردأ الأراضي من الزراعة. غير أن هذه ليست هي الحالة، فقد أحيا الكولونيل ت.ب. تومبسون بطل رابطة القانون المضاد للقمع تعريف آدم سميث ودعمه. ففي رأيه أن الريع هو العلاقة بين منافسة أولئك الذين يسعون إلى استخدام الأرض وبين الكمية المحدودة المتاحة من الأرض؛ لكن هذا التفسير لا يأخذ في اعتباره خصوبة التربة، تمامًا كما ينحي التفسير السابق المنافسة جانبًا. ومن هنا فإن لدينا من جديد تعريفين كل منهما ذو جانب واحد ومن هنا غير كاملين لموضوع واحد. وكما في حالة القيمة سيكون علينا من جديد أن نجمع هذين التعريفين حتى نجد التعريف الصحيح الناشئ عن تطور الشيء ذاته، وبذلك يشمل الممارسة. فالريع هو العلاقة بين إنتاجية الأرض – بين الجانب الطبيعي (الذي يتألف بدوره من الخصوبة الطبيعية والزراعة الإنسانية – العمل الذي يستخدم لإجراء التحسين) وبين الجانب الإنساني، المنافسة. وقد يهز الاقتصاديون رؤوسهم أمام هذا "التعريف"، لكنهم سيكتشفون ويا للهول إنه يشمل كل ما يتعلق بهذا الموضوع. وليس لدى مالك الأرض ما يلوم عليه التاجر. إنه يمارس السرقة في احتكاره للأرض، وهو يمارس السرقة في استغلاله لمصلحته الزيادة في السكان التي تزيد المنافسة، وبذلك تزيد قيمة مزرعته، وفي تحويله إلى مصدر للمنفعة الشخصية شيئًا لم يكن من صنعه – شيئًا أصبح ملكًا له بالصدفة المحضة. أنه يمارس السرقة في تأجيره لأرضه، حين يستولى لنفسه في النهاية على التحسينات التي يجريها مستأجره. وهذا هو سر الثروة المتزايدة على الدوام لكبار ملاك الأرض. أن المبادئ التي تصف بالسرقة منهج مالك الأرض في استخراج دخل – وهي أن لكل إنسان الحق في ناتج عمله، أو أن أحدًا لا ينبغي أن يحصد حيث لم يبذر – ليست شيئًا وضعناه نحن. والمبدأ الأول يستبعد واجب تربية الأطفال، والثاني يحرم كل جيل من حق الحياة، لأن كل جيل يبدأ بما يرثه من الجيل السابق، فهذان المبدآن هما بالأحرى من تضمينات الملكية الخاصة. فإما أن يعمل المرء تضمينات الملكية الخاصة أوي يتخلى عنها كمقدمة. الحق أن فعل الامتلاك الأصلي ذاته يبرره تأكيد حق الملكية المشتركة السابقة. وهكذا فحيثما نتحول فإن الملكية الخاصة تقودنا إلى التناقضات. أن تحويل الأرض بل موضوع للمتاجرة – الأرض التي هي لكل واحد منا، والشرط الأول لوجودنا – كان هو الخطوة الأخيرة نحو تحويل المرء إلى موضوع للمتاجرة، ولقد كان هذا ولا يزال حتى يومنا هذا لا أخلاقية لم تتجاوزها سوى لا أخلاقية اغتراب الذات. والتملك الأصلي – احتكار الأرض من جانب قلة، واستبعاد الآخرين مما هو شرط لحياتهم – لا يزيد في لا أخلاقيته عما أعقبه من اتجار في الأرض. وإذا نحن هنا أيضًا تخلينا عن الملكية الخاصة فإن الريع ينتهي إلى حقيقته، إلى الفكرة العقلانية التي تكمن أساسًا في جذره. وهكذا فإن قيمة الأرض المفصولة منها كريع تعود إلى الأرض ذاتها. وهذه القيمة – التي تقاس بإنتاجية مساحة مساوية من الأرض تخضع لنفس تطبيقات العمل – ينبغي أن توضع في الاعتبار كجزء من تكاليف الإنتاج عند تحديد قيمة المنتجات، وهي كالريع العلاقة بين الإنتاجية والمنافسة – وإنما المنافسة الحقة، كتلك التي ستتطور حين يأتي زمنها. ***** رأينا كيف أن رأس المال والعمل متطابقان في البداية، ثم رأينا من تفسيرات الاقتصادي ذاته كيف أنه في عملية الإنتاج فإن رأس المال – ناتج العمل – يتحول مباشرة ثانية الجوهر، إلى مادة العمل، كيف أنه بالتالي فإن الانفصال الذي يقوم مؤقتًا بين رأس المال والعمل يخلى المكان فورًا إلى وحدة الاثنين. بيد أن الاقتصادي يفصل رأس المال عن العمل، ورغم ذلك يصر على التقسيم دون أن يقدم اعترافًا أخر بوحدتهما سوى تعريف رأس المال بأنه "عمل مختزن". والانفصال بين رأس المال والعمل، الناشئ عن الملكية الخاصة، ليس سوى الانقسام الداخلي للعمل الذي يتفق مع هذا الظرف المقسم وينشأ عنه. وبعد أن يكتمل هذا الانفصال فإن رأس المال يقسم نفسه من جديد على رأس المال الأصلي والربح – زيادة رأس المال التي يحصل عليها في عملية الإنتاج، رغم أن الربح في الممارسة يندمج فرزًا مع رأس المال ويتحرك معه. ولحق أنه حتى الربح ينقسم بدوره إلى الفائدة والربح بالمعنى الضيق. وبالنسبة للفائدة فإن حماقة هذه الانقسامات تصل إلى منتهاها. فلا أخلاقية فائدة القروض، لا أخلاقية الحصول على شيء دون عمل، مقابل مجرد الإقراض، وأن كانت كامنة في الملكية الخاصة، واضحة للغاية، وقد اعترف بلا أخلاقيتها هذه منذ أمد طويل الوعي الشعبي غير المعقد، وهو عادة ما يكون على حق في مثل هذه الأمور. وكل هذه التقسيمات والانقسامات الدقيقة تنبع من الانفصال الأصلي لرأس المال عن العمل، ومن اكتمال هذا الانفصال – انقسام البشرية إلى رأسماليين وعمال – وهو انفصال يصبح كل يوم أكثر حدة، ومقيض له – كما سنرى – أن يتعمق. غير أن هذا الانفصال – كذلك الانفصال الذي رأيناه من قبل بين الأرض وبين رأس المال والعمل – وهو في التحليل الأخير انفصال مستحيل. فلا يمكن تحديد مدى نصيب كل من الأرض ورأس المال والعمل في أي ناتج خاص. فهذه المقادير الثلاثة غير قابلة للقياس بنفس المعايير. فالأرض تخلق المادة الأولية، ولكن ليس بغير رأس المال والعمل. ورأس المال يفترض مسبقًا الأرض والعمل، والعمل يفترض مسبقًا الأرض على الأقل وعادة أيضًا رأس المال. ووظائف هذه العناصر الثلاثة مختلفة كلية، ولا يمكن قياسها بمعيار رابع مشترك. ومن هنا فحين نصل إلى تقسيم العائدات بين العناصر الثلاثة في ظل الظروف القائمة، فليس هناك معيار كامن، والذي يقرر هو معيار غريب كلية وعارض بالنسبة لها هو – المنافسة، والحق المبتذل للقوى. فالريع يتضمن المنافسة، وربح رأس المال لا تحدده سوى المنافسة، أما عن موقف الأجور فسنراه الآن. ولو أننا تخلينا عن الملكية الخاصة فستختفي كل هذه التقسيمات غير الطبيعية، وسيختفي الفارق بين الفائدة والربح، فرأس المال ليس شيئًا دون العمل، دون الحركة. وستنتهي دلالة الربح إلى الوزن الذي يمثله رأس المال في تحديد تكاليف الإنتاج، وهكذا يظل الربح كامنًا في رأس المال، بنفس الطريقة التي يعود بها رأس المال إلى وحدته الأصلية مع العمل. *** أما العمل – العامل الأساسي في الإنتاج، "مصدر الثروة" الفاعلية الإنسانية الحرة – فهو ليس على وفاق مع الاقتصادي. وتمامًا كما فصل رأس المال فيما سبق عن العمل فإن العمل بالمثل يقسم الآن بدوره للمرة الثانية، فناتج العمل يواجه العمل كأجور، وينفصل عنه، ويتحدد مرة أخرى كالعادة بواسطة المنافسة – لأنه لا يوجد – كما رأينا – معاير ثابت يجدد نصيب العمل في الإنتاج. ولو أننا أنهينا الملكية الخاصة فإن هذا الانفصال غير الطبيعي يختفي أيضًا. ويصبح العمل جزاءه الخاص، وتظهر في الضوء الدلالة الحقيقية لأجور العمل التي كانت حتى الآن منسلبة – وهي دلالة العمل بالنسبة لتحديد تكاليف إنتاج شيء ما. *** رأينا أنه في النهاية ينتهي كل شيء إلى المنافسة طالما توجد الملكية الخاصة. أنها المقولة الرئيسية للاقتصادي – وأبنته المحبوبة للغاية التي يدللها على الدوام – ويتطلع إلى رأس ميدوس التي ستكشف له عنها. والنتيجة المباشرة للملكية الخاصة هي انقسام الإنتاج إلى جانبين متضادين – الجانب الطبيعي والجانب الإنساني، الأرض التي تكون دون إخصاب الإنسان لها ميتة ومجدبة، والفاعلية الإنسانية وشرطها الأول هو هذه الأرض. وفضلاً عن هذا فقد رأينا كيف تحللت الفاعلية الإنسانية بدورها إلى عمل ورأسمال، وكيف يواجه هذان الجانبان بعضهما مواجهة عدائية. وهكذا فإن لدينا بالفعل الصراع فينا بين العناصر الثلاثة، بدلاً من تساندها المتبادل، ومما يزيد الأمر سوءًا أن الملكية الخاصة تجلب في أثرها تمزق كل من هذه العناصر، فكل مزرعة تقف في مواجهة الأخرى، وكل جزء من رأس المال يواجه الآخر، وكل وحدة من قوة العمل تواجه الأخرى، وبعبارة أخرى فلأن الملكية الخاصة تعزل كل امرئ في وحدته الفجة، ولأنه ورغم هذا فإن لكل امرئ المالك الآخر، والرأسمالي مع الرأسمالي الآخر، والعامل مع العامل الآخر. وفي هذا النزاع بين المصالح المتطابقة الناشئ عن هذا التطابق تكتمل لا أخلاقية ظروف البشرية حتى الآن، وهذا الاكتمال هو المنافسة. وتفيض المنافسة هو الاحتكار. وقد كان الاحتكار هو صيحة الحرب للتجاريين. والمنافسة صيحة القتال للاقتصاديين الليبراليين. ومن السهل. أن نرى أن هذا التضاد هو بدوره تضاد أجوف تمامًا. فكل منافس لا يمكن إلا أن يرغب في أن يكون له احتكار، سواء كان عاملاً أو رأسماليًا أو مالك أرض. وكل مجموعة أصغر من المنافسين لا يمكن إلا أن ترغب في أن يكون لها احتكار ضد الآخرين. والمنافسة تقوم على المصلحة الذاتية، والمصلحة الذاتية بدورها تولد الاحتكار، وباختصار فإن المنافسة تتحول إلى احتكار. ومن ناحية أخرى فإن الاحتكار لا يمكن أن يوقف تيار المنافسة – والحق أنه هو ذاته يولد المنافسة، تمامًا كما أن يوقف تيار المنافسة – والحق إنه هو ذاته يولد المنافسة، تمامًا كما أن التعريفات الجركية المرتفعة مثلاً أو حظر الواردات يولد بشكل قاطع منافسة المهربين. وتناقض المنافسة هو بالدقة نفس تناقض الملكية الخاصة. فمن مصلحة كل واحد أن يمتلك كل شيء، لكن من مصلحة الكل أن يمتلك كل واحد كمية متساوية... وهكذا فإن المصلحة العامة والمصلحة الفردية متناقضتان تناقضًا كاملاً. وتناقض المنافسة هو أن كل واحد لا يمكن إلا أن يرغب في الاحتكار، في حين أن الكل ككل مقيض لهم أن يخسروا بسبب الاحتكار ولا بد بالتالي أن يؤيلوه. وفضلاً عن ذلك فإن المنافسة تفترض مسبقًا بالفعل الاحتكار – وبالتحديد احتكار الملكية، طيلة هذه المدة بالدقة تكون حيازة الاحتكار مبررة بالمثل – لأن الاحتكار – حالما يوجد – هو أيضًا ملكية. وإنه لإجراء غير كامل يثير الرثاء إذن أن نهاجم الاحتكارات الصغيرة ونترك الاحتكار الأساسي دون أن يمس! ولو إننا استخدمنا هنا قضية الاقتصادي التي أشرنا إليها من قبل، وهي إنه لا يمكن أن تكون هناك قيمة لشيء لا يمكن أن نحتكر – وإنه بالتالي لا يمكن لشيء لا يسمح بمثل هذا الاحتكار أن يدخل حلبة المنافسة – فإن تأكيدنا إن المنافسة تفترض مسبقًا الاحتكار يكون مبررًا كلية. *** وقانون المنافسة هو أن العرض والطلب يسعيان إلى استكمال بعضهما، ومن هنا لا يصلان أبدًا إلى ذلك. فالجانبان ينفصلان من جديد ويتحولان إلى معارضة صريحة. فالعرض دائمًا يتبع الطلب عن كتب دون أن يغطيه تمامًا أبدًا، فهو أما أكبر مما يجب أو أصغر مما يجب، ولا يتجاوب أبدًا مع الطلب، لأنه في هذا الظرف غير الواعي للبشرية فإن أحدًا لا يعرف مقدار العرض أو الطلب، وإذا كان الطلب أكبر من العرض فإن الثمن يرتفع، ونتيجة لذلك فإن العرض ينشط إلى حد ما. وما أن يصل إلى السوق حتى تهبط الأثمان، وحين يصبح أكبر من الطلب فإن الهبوط في الأثمان يصل إلى حد ينشط الطلب ثانية، وهكذا يمضى الأمر على ما لا نهاية – وضع غير صحي على الدوام – تعاقب مستمر بين النشاط الزائد والانهيار يمنع كل تقدم – حالة من الذبذبة الدائمة التي لا تحل أبدًا. ويبدو أن هذا القانون – بتوازنه الدائم حيث كل ما يفقد هنا يكسب هناك – ويبدو أن هناك القانون – بتوازنه الدائم حيث كل ما يفقد هنا يكسب هناك – هو أعجوبة الاقتصادي، إنه مفخرته الرئيسية – وهو لا يمل رؤياه، ويدرسه في كل تطبيقاته الممكنة وغير الممكنة، بيد أنه من الواضح أن هذا القانون قانون طبيعي خالص وليس قانونًا من قوانين الذهن، أنه قانون ينتج ثورة. أن الاقتصادي يأتي إلينا، ومعه نظريته الجميلة عن العرض والطلب، ويثبت لك أن "أحدًا لا يمكن أن ينتج أكثر مما يجب"، والممارسة ترد بأزمات التجارة التي تعود للظهور بانتظام كالنيازك، والتي لدينا منها الآن في المتوسط واحدة كل خمس أو سبع سنوات. وطيلة الثمانين عامًا الماضية حلت الأزمات التجارية بنفس الانتظام الذي كانت تأتي به الطواعين في الماضي – وجلبت في أث4رها من البؤس واللا أخلقية أكثر مما جلبت هذه الطواعين (أنظر ويد: "تاريخ الطبقات الوسطى والعاملة" – لندن 1835، ص 211). وبالطبع فإن هذه الأزمات التجارية تؤكد القانون، وتؤكده بشكل كامل – وإنما بطريقة تختلف تمامًا عما يريدنا الاقتصادي أن نعتقد. فماذا يمكن أن يكون رأينا في قانون لا يمكن أن يؤكد ذاته إلا خلال الأزمات الدورية؟ إنه قانون طبيعي عادل يقوم على عدم وعي المشاركين. فلو أن المنتجين كمنتجين عرفوا مقدار ما يحتاج المستهلكون، ولو أنهم نظموا الإنتاج، ولو أنهم تقاسموه فيما بينهم، لكانت ذبذبات المنافسة وميلها إلى الأزمة مستحيلة. فلتنتجوا بوعي ككائنات إنسانية – وليس كذرات مشتتة دون وعي بنوعكم – وستتجاوزون كل هذه التناقضات المصطنعة التي يصعب الدفاع عنا. ولكن طالما ظللتم تنتجون بالطريقة الحالية غير الواعية المفكرة، تحت رحمة المصادفة – فستبقى أزمات التجارة، ومقيض لكل أزمة أن تكون أكثر شمولاً من سابقتها، ومن هنا أسوأ منها، ومقيض لكل أزمة أن تكون أكثر شمولاً من سابقتها، ومن هنا أسوأ منها، مقيض لها أن تفقر عدد أكبر من صغار الرأسماليين، وأن تزيد بنسبة متزايدة عدد تلك الطبقة التي تعيش من عملها وحده، وبذلك توسع بوضوح كمية كتلة العمل التي يمكن استخدامها (وهي المشكلة الكبرى لدى اقتصاديينا) وأخيرًا تسبب ثورة اجتماعية لم تحلم بها من قبل الحكمة المدرسية للاقتصاديين. إن الذبذبة الدائمة للأثمان كما يخلقها ظرف المنافسة تنزع عن التجارة كلية آخر بقايا الأخلاقية. له تعد ثمة أشارة للقيمة، ونفس المذهب الذي يبدون أنه يعلق مثل هذه الأهمية على القيمة، والذي يضفي على تجريد القيمة في شكل النقود شرف أن يكون له وجوده الخاص – هذا المذهب يدمر عن طريق المنافسة القيمة الكامنة لكل الأشياء، ويغير كل يوم وكل ساعة علاقة القيمة بين كل الأشياء بعضها البعض، فأين يمكن أن تبقى هناك أية أمكانية لتبادل يقوم على أساس أخلاقي في هذه الدوامة؟ إن على كل امرئ في هذا الصعود والهبوط الدائمين أن يسعى لانتهار أكثر اللحظات مواتاة للبشر والبيع، على كل امرئ أن يصبح مضاربًا – أي أن عليه أن يحصد حيث لم يبذر، أن يثري نفسه على حساب الآخرين، أن يعتمد على نكبات الآخرين، أو يترك الصدفة تحقق له الكسب. ويعتمد المضارب دائمًا على الكوارث وبخاصة على سوء المحاصيل. وهو يستخدم كل شيء – وعلى سبيل المثال حريق نيويورك عند وقوعه – ونقطة تتويج اللا أخلاقية هي المضاربة في البورصة، حيث ينحدر التاريخ – والبشرية معه – إلى وسيلة من وسائل جشع المضارب الماكر المغامر، ولا تدعوا التاجر الأمين "الموقر" يتسامي على المقامر في البورصة بعبارة فريسية مرائية "أشكرك أيها الرب الخ..."، فهو سيء كالمضاربين بالأسهم والسندات، أنه يضارب تمامًا كما يفعلون، وهو مضطر إلى ذلك: فالمنافسة تجبره عليه، ومن هنا فإن نشاطه التجاري يتضمن نفس لا أخلاقيتهم. فحقيقة علاقة المنافسة هي علاقة قوة الاستهلاك بقوة الإنتاج. وفي كل عالم جدير بالبشرية لن تكون هناك منافسة غير هذه وسيكون على الجماعة أن تحسب ماذا تستطيع أنو تنتج بالوسائل المتاحة لها، وفي ضوء علاقة هذه القوة الإنتاجية بكتلة المستهلكين ستحدد إلى أي مدى عليها أن ترفع الإنتاج أو تخفضه، إلى أي مدى عليها أن تطلق العنان للترف أو تكبحه. ولكن حتى يستطيع القراء أن يصدرا حكمًا صحيحًا عن هذه العلاقة وعن الزيادة التي يمكن توقعها في القوة الإنتاجية من الوضع الرشيد داخل الجماعة فإنني أدعوهم لأن يرجعوا إلى كتابات الاشتراكيين، وجزئيًا إلى كتابات فورييه كذلك. وفي ظل هذه الظروف ستنتهي المنافسة الذاتية – نزاع رأس المال ضد رأس المال، والعمل ضد العمل الخ... – إلى روح المباراة الراسخة في الطبيعة الإنسانية (هو مفهوم لم يطوره حتى الآن بشكل مقبول إلا فورييه) التي ستقتصر بعد تخطي المصالح المتعارضة على مجالها الصحيح الرشيد. *** إن صراع رأس المال ضد رأس المال، والعمل ضد العمل، والأرض ضد الأرض، يدفع الإنتاج إلى فورة من الحمى يقلب فيها الإنتاج رأسًا على عقب كل العلاقات الطبيعية والعقلية. فلا يمكن لرأسمال أن يتحمل منافسة آخر ما لم يصل إلى أعلى فورة لنشاطه. ولا يمكن لمزرعة أن تزرع بطريقة مربحة إذا لم تكن تزيد قوتها الإنتاجية باستمرار. ولا يمكن لعامل أن يقف على قدميه في مواجهة منافسيه ما لم يكرس كل قواه للعمل. ولا يمكن لأي شخص ينغمس في صراع المنافسة أن يتحمل التوتر دون أن يبذل أقصى قواه، ودون أن يتخلى عن كل غاية إنسانية حقًا. ونتائج هذا الجهد الزائد من ناحية هي حتمًا الانهيار في الناحية الأخرى. وحين تكون ذبذبة المنافسة صغيرة حين يكون الطلب والعرض، الاستهلاك والإنتاج، متساوية تقريبًا، فلا بد أن نصل إلى مرحلة في تطور الإنتاج يتوفر فيها قدر كبير من القوة الإنتاجية الزائدة بحيث لا يكون لدى الكتلة الكبيرة من الأمة شيء تعيش عليه، بحيث يتضور الناس جوعًا نتيجة الوفرة الخالصة. ولفترة طويلة من الزمن وجدت انجلترا نفسها في هذا الوضع، في هذه الحماقة الحية، وحين يتعرض الإنتاج – كنتيجة ضرورية لمثل هذا الوضع – لتذبذبات أكبر، يبدأ التعاقب بين الرخاء والأزمة، بين فائض الإنتاج والكساد. ولم يتمكن الاقتصادي أبدا من أن يفسر لنفسه هذا الوضع المجنون. ولكي يفسره أبتدع نظرية السكان، وهي في نفس حماقة – بل في الحقيقة أكثر حماقة – من التناقض بين الثروة والبؤس المتعايشين، والاقتصادي لا يستطيع أن يتحمل رؤية الحقيقة، أنه لا يستطيع الاعتراف بأن هذا التناقض هو نتيجة بسيطة للمنافسة، لأنه لو فعل لتمزق مذهبه كله شذرًا. أما بالنسبة لنا فتفسير الأمر سهل. فالقوة الإنتاجية المتاحة للبشرية غير محددة، وإنتاجية الأرض يمكن أن تزاد إلى ما لا نهاية باستخدام رأس المال والعمل والعلم. ووفقًا لأقدر الاقتصادي والإحصائيين (أنظر أليسون "مبادئ السكان" – المجلد الأول – الفصل الأول والثاني ([99]) . فإن بريطانيا العظمى "المتضخمة سكانيًا" يمكن الوصول بها إلى أن تنتج الحالي. ورأس المال يزيد يوميًا، وقوة العل تنمو مع السكان، ويومًا بعد يوم يجعل العلم قوة الطبيعة خاضعة للإنسان بشكل متزايد. وهذه الطاقة الإنتاجية غير المحدودة – إذا ما عولجت بوعي ولصالح الجميع – ستهبط سريعًا إلى الحد الأدنى بنصيب البشرية من العمل، وإذا ما ترك الأمر للمنافسة فإنها تفعل نفس الشيء، ولكن داخل إطار من التناقض. فجانب من الأرض يفلح بأفضل طريقة ممكنة في حين أن جانبًا آخر – يبلغ في بريطانيا العظمى وأيرلندا ثلاثين مليون أكر من الأرض الجيدة – يبقى مجدبًا. وجانب من رأس المال يتداول بسرعة مذهلة، ويرقد جانب آخر ميتًا في الخزانة. وجانب من العمال يعمل ما بين أربع عشرة وست عشرة ساعة في اليوم، في حين يقف جانب آخر ساكنًا بلا نشاط ويتضور جوعًا. أو يترك التقسيم مملكة التواقت هذه: فالتجارة اليوم جيدة، والطلب كبير للغاية، وكل إنسان يعمل، ورأس المال يتداول بسرعة مذهلة، والزراعة تزدهر والعمال يقطعون أنفاسهم في العمل، وغدًا يبدأ الكساد، ولا تعود زراعة الأرض تستحق ما ينفق فيها من جهد، وتبقى مساحات من الأرض دون فلاحة، ويتجمد فيض رأس المال، ولا يعود لدى العمال عمل، وترزح البلاد كلها تحت وطأة فائض الثروة وفائض السكان. ولا يستطيع الاقتصادي تحمل قبول هذا العرض للموضوع باعتباره عرضًا صحيحًا، وإلا لكان عليه – كما قلنا – أن يتخلى عن كل مذهبه عن المنافسة. وسيكون عليه أن يعترف بأن التناقض الذي يعرضه بين الإنتاج والاستهلاك، وبين فائض السكان وفائض الثروة، هو تناقض أجوف. وللوصول بالواقع وبالنظرية إلى التوافق فيما بينهما – إذ لا يمكن إنكار هذا الواقع – ابتدعت نظرية السكان. ويزعم مالتس – واضع هذه النظرية – أن السكان يضغطون دائمًا على وسائل المعيشة، وأنه حالما يزيد الإنتاج فإن السكان يزيدون بنفس النسبة، وأن الاتجاه الكامن للسكان وهو التضاعف زيادة عن الوسائل المتاحة هو جذر كل بؤس وكل رذيلة، لأنه حين يكون هناك عدد أكبر مما يجب من الناس فلا بد من التخلص منهم بطريقة أو بأخرى، فإما أن يقتلوا عن طريق العنف أو يتضوروا جوعًا. ولكن حينما يحدث ذلك تظهر مرة أخرى هوة تبدأ العوامل الأخرى لمضاعفة السكان فورًا في ملئها من جديد، وهكذا يبدأ ثانية البؤس القديم. وبالإضافة على ذلك فإن هذا هو الوضع في كل الظروف – لا في الظروف المتمدينة وحدها، بل في الظروف البدائية كذلك. ففي هولندا الجديدة ([100]) – حيث تبلغ كثافة السكان بقدر ما تعاني انجلترا. وباختصار – فإذا أردنا أن نكون متسقين – لابد أن نعترف بأن الأرض كانت مزدحمة بالسكان بالفعل حين لم يكن يوجد سوى إنسان واحد. ودلالات هذه الطريقة في التفكير هي أنه ما دام الفقراء هم الزائدون فلا ينبغي أن تفعل شيئًا لهم إلا أن نجعل تضورهم أيسر ما يمكن، وأن نقنعهم بأنه أمر لا يمكن تجبنه، وأنه ليس من خلاص لطبقتهم بأسرها إلا بالإبقاء على التكاثر عند الحد الأدنى المطلق. وإذا لم يأت هذا بنتيجة فإن من الأفضل دائمًا أن نقيم مؤسسة دولة تقوم بقتل أبناء الفقراء دون ألم – مثلما أقترح "ماركوس ([101]) " حيث يسمح لكل عائلة من عائلات الطبقة العاملة بأن يكون لها طفلان ونصف وتقتل كل زيادة دون ألم. وتعد الصدقة جريمة لأنها تدعم زيادة فائض السكان، والحق أنه ليكون من المفيد للغاية أن نعلن أن الفقر جريمة، وأن نحول ملاجئ الفقراء إلى سجون، كما حدث بالفعل في انجلترا نتيجة لقانون الفقراء "الليبرالي" الجديد. وإننا لنقر بأن هذه النظرية لا تتفق مع مذهب الكتاب المقدس عن كمال الرب وخليقته، لكنها "حجة ضعيفة أن نضع الكتاب المقدس في مواجهة الحقائق". هل أستمر أكثر من ذلك في عرض هذه النظرية الوضيعة الشائنة، هذا التجديف المنفر ضد الطبيعة ولبشرية؟ هل أتابع نتائجها أكثر من ذلك! ها نحن قد وصلنا في النهاية إلى لا أخلاقية الاقتصادي، وقد بلغت أعلى درجاتها. فماذا تكون كل حروب وأهوال نظام الاحتكار بالمقارنة بهذه النظرية. وهذه النظرية بالدقة هي حجر الزاوية للمذهب الليبرالي عن حرية التجارة، والتي يستتبع انهيارها انهيار البناء كله. لأنه إذا ثبت هنا أن المنافسة هي السبب الجذري للبؤس والفقر والجريمة فمنذا الذي سيظل يجرؤ على أن يدفع عنها؟ وقد هز أليسون في كتابة سالف الذكر نظرية مالتس بالاستشهاد بالقوة الإنتاجية للأرض، وبمقابلة المبدأ المالتسي بحقيقة أن كل بالغ يستطيع أن ينتج أكثر مما يحتاجه هو نفسه – وهي حقيقة لم تكن البشرية تستطيع أن دونها أن تتضاعف، بل لم تكن تستطيع حتى أن توجد، إذ علام كان يمكن لأولئك الذين لا يزالون في مرحلة النمو أن يعيشوا. لكن أليسون لا يمضى إلى جذر الموضوع، ومن هنا فإن يصل في النهاية إلى نفس نتيجة مالتس. صحيح أنه يثبت أن مبدأ مالتس غير صحيح، لكنه لا يستطيع أن ينكر الحقائق التي دفعت مالتس على مبدئه. ولو لم يكن مالتس قد درس الموضوع من جانب واحد إلى هذا الحد لما كان قد عجز عن رؤية أن فائض السكان أو قوة العمل ترتبط دومًا بفائض الثروة وفائض رأس المال وفائض ملكية الأرض. فالسكان لا يكونون كثيرين للغاية إلا حيثما تكون القوة الإنتاجية ككل كبيرة للغاية، وظروف كل بلد قبه فائض سكان – وبخاصة انجلترا – منذ أن نشر مالتس نظريته توضح ذلك تمامًا. وتلك هي الحقائق التي كان ينبغي على مالتس أن يدرسها في كليتها، والتي كان يمكن لدراستها أن تقوده على النتيجة الصحيحة. وبدلاً من ذلك فإنه أنتقى حقيقة واحدة، ولم يعط اعتبارًا للحقائق الأخرى، ومن هنا توصل إلى نتيجته الضعيفة. وكان الخطأ الثاني الذي وقع فيه هو أنه خلط بين وسائل العمالة – كون عدد الناس الذي يتم إنتاجهم يختلف عن عدد الناس الذين يمكن استخدامهم – وباختصار كون إنتاج قوة العمل قد نظمه حتى الآن قانون المنافسة، ومن هنا تعرض أيضًا للأزمات الدورية والذبذبات – تلك حقيقة يمثل أقرارها حسنة مالتس. لكن وسائل العمالة ليست هي وسائل المعيشة. ولا تزيد وسائل العمالة نتيجة زيادة القوة الآلية ورأس المال إلا في نتيجتها النهائية. أما وسائل المعيشة فتزيد حالما تزيد القوة الإنتاجية أدنى زيادة. وهنا يظهر في الضوء تناقض جديد في الاقتصاديات. "فطلب" الاقتصادي ليس هو الطلب الحقيقي، و"استهلاكه" استهلاك مصطنع. فبالنسبة للاقتصادي ليس من طالب حقيقي، ليس من مستهلك حقيقي، إلا ذلك الذي لديه معادل يقدمه مقابل ما يحصل عليه. ولكن إذا كان حقيقًا أن كل بالغ ينتج أكثر مما يستطيع هو نفسه أن يستهلك، وأن الأطفال كالأشجار التي تعطي غلة وفيرة للنفقات التي تستثمر فيها – وتلك بالتأكيد حقيقة أم تراها ليست كذلك؟ - فإن على المرء أن يؤمن بأن كل عامل لابد أن يكون قادرًا على أن ينتج أكثر كثيرًا مما يحتاج، وأن الجماعة من هنا لابد أن يسعدها أن تزوده بكل ما يحتاجه، على المرء أن يؤمن بأن على الجماعة أن ترعى كل عائلة كبيرة كعطية ترحب بها كل الترحيب. لكن الاقتصادي – بنظرته الفجة – لا يعرف معادلاً آخر غير الذي يدفع له كنقود سائلة ملموسة. وهو مستغرق تمامًا في تناقضاته بحيث أن أوضح الحقائق لا تعنيه تمامًا كأكثر المبادئ علمية. ونحن نحطم التناقضات ببساطة بتخطيها، فمع اندماج المصالح التي تتعارض الآن مع بعضها البعض يختفي التضاد بين زيادة السكان وزيادة الثروة، تختفي تلك الحقيقة التي تبدو كالمعجزات (وهي أكثر أعجازًا من كل معجزات الأديان معًا) وهي أن على أمة ما أن تتضور جوعًا نتيجة للثروة الخالصة والوفرة، ويختفي ذلك الزعم الأحمق بأن الأرض لا يستطيع أن توفر الغذاء للإنسان، وهذا الزعم هو الاقتصاديات المسيحية – ولقد كان في وسعي أن أثبت أن اقتصادياتنا أساسًا هي اقتصاديات مسيحية من كل قضية، من كل مقولة، وسأفعل ذلك في الواقع عندما يحي الأوان. فليست النظرية المالتسية إلا التعبير الاقتصادي عن العقيدة الدينية بشأن التناقض بين الروح والطبيعة وما يترتب عنه من فساد للاثنين. وفيما يتعلق بالدين فقد حل هذا التناقض منذ أمد بعيد. وآمل أن أ:ون قد أثبت بالمثل في مجال الاقتصاديات الحماقة الكاملة لهذا التناقض. وفضلاً عن ذلك فلن أقبل كدفاع كاف عن النظرية شيئًا لا يفسر لي منذ البداية على أساس مبادئه هو كيف يمكن لشعب أن يتضور جوعًا نتيجة الوفرة الخالصة، وأن يجعل ذلك ينسجم مع العقل والواقع. وفي نفس الوقت كانت النظرية المالتسية نقطة انتقال ضرورية تمامًا إلى الأمام بصورة لا نهائية. وبفضل هذه النظرية – والاقتصاديات بأسرها – تنبهنا إلى القوة الإنتاجية للأرض والبشرية. وبعد أن تغلبنا على هذا اليأس الاقتصادي تحصنا إلى الأبد من الخوف من فائض السكان. إننا نستمد منه أقوى الحجج الاقتصادية للتحول الاجتماعي، لأنه حتى إذا كان مالتس على حق تمامًا، فإن هذا التحول ينبغي أن يتم على الفور، لأن هذا التحول، وما يستطيع هو وحده أن يوفره من تربية للجماهير، هو الذي يجعل من الممكن فرض هذا القيد الأدبي على غريزة التكاثر الذي عرضه مالتس نفسه باعتباره أشجع وأسهل علاج لفائض السكان. وخلال هذه النظرية توصلنا إلى أن نعرف أشد انحطاط للإنسان، وهو اعتماده على مملكة المنافسة. لقد أوضحت لنا كيف أن الملكية الخاصة في نهاية الأمر قد حولت الإنسان إلى سلعة يعتمد إنتاجها وتدميرها أيضًا على الطلب، وكيف أن نظام المنافسة بهذه الطريقة قد ذبح – ويذبح كل يوم – ملايين الناس، كل هذا رأيناه، وكل هذا يدفعنا إلى إلغاء هذا الانحطاط للجنس البشري عن طريق إلغاء الملكية الخاصة والمنافسة والمصالح المتضادة. ولكن فلنحاول أن نعود ثانية إلى العلاقة بين القوة الإنتاجية وبين السكان حتى نحرم الخوف الشامل من فائض السكان من أي أساس ممكن. لقد وضع مالتس معادلة أقام عليها مذهبة كله. فهو يقول أن السكان يزيدون وفق معادلة هندسية (1- 2 – 4 – 8 – 16 – 32 الخ...) أما القوى الإنتاجية فتزيد وفق معادلة حسابية (1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6). والفارق واضح، ومرعب، ولكن أهو صحيح؟ أين ثبت أن إنتاجية الأرض تزيد وفق معادلة حسابية. أن مساحة الأرض هذه تزيد مع زيادة السكان. بل لنفترض أن الزيادة في الغلة نتيجة الزيادة في العمل لا ترتفع دائمًا بنفس نسبة العمل: فسيظل هناك عنصر ثالث لا يعني بالطبع شيئًا أبدًا للاقتصادي وهو العلم الذي يتقدم دون توقف وعلى الأقل بنفس سرعة زيادة السكان. وأي تقدم تدين به زراعة هذا القرن للكيمياء وحدها – بل في الحقيقة لرجلين اثنين، سير همفري دافي وجوستوس ليبيج. لكن العلم يزيد على الأقل بنفس قدر السكان. فهؤلاء يزيدون في تناسب مع حجم الجيل السابق، ففي ظل أكثر الظروف طبيعية يزيد وفق معادلة هندسية. وماذا يستحيل على العلم؟ لكن من الحماقة أن نتحدث عن فائض السكان طالما أن "هناك من الأرض البور في وادي المسيسيبي ما يكفي لأن ينقل إليه كل سكان أوروبا ([102]) ، طالما أن ما يمكن اعتباره منزرعًا من الأرض لا يزيد عن الثلث، وطالما أن إنتاج الثلث ذاته يمكن أن يزيد ستة أضعاف وأكثر باستخدام التحسينات المعروفة بالفعل. *** وهكذا فإن المنافسة تضع رأس المال ضد رأس المال، والعمل ضد العمل، وملكية الأرض ضد ملكية الأرض، وتضع بالمثل كلاً من هذه العناصر ضد الآخر. وفي الصراع يفوز الأقوى، وحتى نستطيع أن نتنبأ بنتيجة الصراع سيكون علينا أن نبحث قوة المتنافسين. وفي البداية تكون الأرض ورأس المال أقوى من العمل، لأن العامل لابد أن يعمل ليعيش، في حين أن مالك الأرض يمكن أن يعيش على فائدته، أو إذا دعت الضرورة على رأسماله أو ملكيته الرأسمالية في الأرض. والنتيجة هي أن نصيب العامل ينتهي إلى اشد الضروريات، إلى مجرد وسائل العيش، في حين يتقاسم رأس المال وملكية الأرض الجزء الأكبر من المنتجات. وفضلاً عن هذا فإن العامل الأقوى يطرد العامل الأضعف من السوق، تمامًا كما يطرد رأس المال الكبير رأس المال الأصغر، وتطرد ملكية الأرض الكبيرة ملكية الأرض الأصغر. وتؤكد الممارسة هذه النتيجة. والمزايا التي يتمتع بها الصناعي أو التاجر الأكبر على الصناعي أو التاجر الأصغر، ومالك الأرض الكبير على مالك الآكر الواحد، معرفة جيدًا. والنتيجة هي أنه في ظل الظروف العادية – ووفقًا لقانون الأقوى – يبتلع رأس المال الكبيرة وملكية الأرض الكبيرة ورأس المال الصغيرة وملكية الأرض الصغيرة – أي مركزة الملكية. وفي أزمات التجارة والزراعة تسير هذه المركزة بسرعة أكبر. فالملكية الكبيرة باعتبارها هذا تزيد بسرعة أكبر من الملكية الصغيرة لأن جزءًا أقل منها هو الذي يختصم من دخلها كنفقات ملكية. وقانون مركزة الملكية الخاصة هذا ملازم للملكية الخاصة ككل القوانين الأخرى. ولا بد أن يزيد اختفاء الطبقة الوسطى حتى ينقسم العالم إلى مليونيرات ومعوزين – ملاك كبار للأرض وعمال زراعيين فقراء – ولا جدوى لكل القوانين وكل تقسيم لملكية الأرض وكل تمزيق لرأس المال، فهذه النتيجة لا بد أن تأتي وستأتي، ما لم نستبقها بتحويل كامل للظروف الاجتماعية، بدمج المصالح المتضادة، بتخطي الملكية الخاصة. والمنافسة الحرة – كلمة السر ألاقتصادياتنا المعاصرة – استحالة. فالاحتكار على الأقل كان يعتزم حماية المستهلك من الغش حتى ولو لم يستطع في الواقع أن يفعل ذلك. بيد أن إلغاء الاحتكار يفتح الباب واسعًا أمام الغش. أنتم تقولون أن المنافسة تحمل معها علاج الغش، لأن أحدًا لن يشتري بضائع سيئة. لكن هذا يعني أن على كل أمرئ أن يكون خبيرًا في كل بضاعة، وهو أمر مستحيل. ومن هنا جاءت ضرورة الاحتكار التي تكشف عنها في الواقع كثير من البضائع. فمواد الصيدلة الخ... لا بد أن يكون فيها احتكار. وأهم البضائع – النقود – تحتاج احتكارًا أكثر من غيرها. فإينما كف وسيط التداول عن ان يكون احتكار للدولة فقد خلق ذلك دائمًا أزمة تجارية. ويسلم الاقتصاديون الانجليز – ومن بينهم الدكتور ويد... بضرورة الاحتكار في هذه الحالة. ولكن حتى الاحتكار ليس حماية ضد تزييف النقود. ويمكن للمرء أن يتخذ موقفه في أي من جانبي المسألة: فكل منهما عسير كالآخر. فالاحتكار يخلق المنافسة الحرة، وهذه بدورها تنتج الاحتكار. ومن هنا فإن الاثنين لا بد أن يسقطاه، وهذه الصعوبات لا بد أن تحل من خلال تخطي المبدأ الذي ولدهما. *** لقد تغلغلت المنافسة في كل علاقات حياتنا، وأكملت العبودية المتبادلة التي تربط الناس الآن. والمنافسة هي (الزنبرك) الذي ينشط مرة بعد الأخرى نظامنا الاجتماعي – أو بالأحرى لا نظامنا – الهرم الذابل، لكنه مع كل جهد جديد يستنزف جزءًا من قوة هذا النظام الواهنة. والمنافسة تحكم التقدم العددي للبشرية، وهي تحكم بالمثل تقدمها الأخلاقي. فكل من لديه معرفة بإحصاءات الجريمة لا بد أن يكون قد لفت نظره ذلك الانتظام الغريب الذي تتقدم به الجريمة عامًا بعد عام، والذي تنتج به أسباب معينة جرائم معينة. لقد تبع أتساع نظام المصنع في كل مكان زيادة في الجريمة. ونستطيع أن نتنبأ بدقة لا تخطئ بعدد عمليات القبض والقضايا الجنائية – وفي الحقيقة عدد جرائم القتل والسرقة والسرقات الصغيرة... الخ.. بالنسبة لمدينة كبيرة أو إقليم – وكثير ما تم ذلك في انجلترا. وهذا الانتظام يثبت أن الجريمة – بدورها – تحكمها المنافسة، وأن المجتمع يخلق طلبًا على الجريمة يقابله عرض مماثل، وأن الهوة التي يخلقها القبض على عدد معين أو نفيه أو إعدامه يملؤها آخرون على الفور، تمامًا كما أن كل هوة في السكان يملؤها قادمون جدد. وبعبارة أخرى فإن هذا الانتظام يثبت أن الجريمة تضغط على وسائل العقاب تمامًا كما يضغط الناس على وسائل العمالة. وأنا أترك لحكم القارئ مدى عدالة معاقبة المجرمين في ظل هذه الظروف، بغض النظر تمامًا عن أي اعتبار آخر. وكل ما يعنيني هنا هو أن أبين أتساع المنافسة إلى المجال الأخلاقي، وأوضح إلى أي انحطاط وصلت الملكية الخاصة بالإنسان. وفي صراع رأِس المال والأرض ضد العمل يتمتع العنصران الأولان بميزة خاصة أخرى على العمل – هي مساعدة العلم. لأن العلم أيضًا – في ظل الظروف الحالية – موجه ضد العمل. فكل الاختراعات الميكانيكية تقريبًا – على سبيل المثال – قد سببها نقص في قوة العمل، وبخاصة آلات غزل القطن التي اختراعها هارجريف وكروميتون وأروكرايت. ولم يحدث أبدًا طلب متزايد على العمل لم يؤد إلى اختراع ما يزيد إنتاجية العمل كثيرًا، وبذلك يحول الطلب بعيدًا على العمل الإنساني. وتاريخ انجلترا منذ عام 1770 حتى الآن هو برهان طويل على ذلك. والاختراع الكبير الأخير في مجال غزل القطن – المغزل الآلي ذو التشغيل الذاتي – كان سببه البسيط والوحيد هو الطلب على العمل وزيادة الأجور. وقد ضاعف هذا الاختراع العمل الآلي، وبذلك خفض العمل اليدوي إلى النصف، وألقى نصف العمال خارج العمل، وبذلك هبط بأجور النصف الآخر، وسحق خطة مشتركة للعمال ضد ملاك المصانع، ودمر آخر بقايا القوة التي كان العمل لا يزال يختفظ بها في الصراع غير المتكافئ مع رأس المال (أنظر الدكتور أوري "فلسفة الصناعيين" المجلد الثاني) – غير أن الاقتصادي يقول الآن أن الآلات في نتيجتها الأخيرة لمنتجاتها، لأنها إذ تفعل ذلك تعيد في النهاية أستخدام العمال الذين طردوا من العمل. وهذا صحيح تمامًا. ولكن هي ينسى الاقتصادي عندئذ أن إنتاج قوة العمل تنظمه المنافسة وأن قوة العمل تضغط دائمًا على وسائل العمالة، وأنه بالتالي فحين يأتي أوان حلول هذه المزايا يكون هناك بالفعل فائض من المتنافسين على العمل، الأمر الذي يحول هذه المزايا إلى وهم، في حين أن الإضرار – السحب الفجائي لوسائل المعيشة من نصف العمال وهبوط أجور النصف الآخر – ليس وهمًا؟ هل ينسى الاقتصادي أنه مع تقسيم العمل، الذي طورته مدينتنا إلى هذه الدرجة، فإن العامل لا يستطيع أن يعيش إلا إذا كان يمكن استخدامه على هذه الآلة الخاصة، ولهذه العملية التفصيلية الخاصة، وإن الانتقال من طراز للعمالة إلى طراز آخر أحدث يكاد يكون دائمًا استحالة مطلقة بالنسبة للعامل البالغ. وعندما حولت اهتمامي إلى آثار الآلات وصلت إلى موضوع آخر لا يتصل به بنفس الدرجة المباشرة وهو – نظام المصنع، وليس لدى الميل ولا الوقت لأن أعالج هذا الموضع هنا، وفضلاً عن ذلك فإنني آمل أن تتاح لي فرصة مبكرة لأن أعرض بالتفصيل اللا أخلاقية المشينة لهذا النظام، وأن أفضح بلا رحمة الاقتصادي الذي يبدو هنا بكل بريقه ([103]) . كتبها ف. أنجلز بين أواخر 1843 ويناير 1844 ونشرت في مجلة "الحوليات الألمانية الفرنسية" في عام 1884.
([1] ) "الحوادث الألمانية الفرنسية" صحيفة أصدرها ك. ماركس و"1" روج بالألمانية، وكان العدد الوحيد الذي صدر منها عدد مزدوج ظهر في باريس فبراير 1844. وقد نشر فيه مقالاً ماركس "عن المسألة اليهودية" و"مساهمة في نقد فلسفة الحقوق عند هيجل – مقدمة" ومقالاً أنجلز "تخطيط لنقد الاقتصاد السياسي" و"مركز انجلترا" ومقال "الماضي والحاضر" بقلم توماس كارليل. وتمثل هذه الأعمال الانتقال النهائي لماركس وانجلز إلى المادية والشيوعية. وكانت الاختلافات المبدئية بين ماركس وروج البورجوازي الراديكالي هي المسئولة أساسًا عن عدم أستمرار الصحيفة – الناشر. ([2] ) يشير ماركس هنا إلى برونو باور الذي نشر في مجلة “Allgemeine Literatur - Zeitung” مقالين طويلين تعرض فيهما للكتب والمقالات والكتيبات عن المسألة اليهودية. وأغلب العبارات المقتبسة مأخوذة عن هذين المقالين في "الجيميني ليتيراتور – زايتونج" العدد الأول ديسمبر 1843والعدد الرابع مارس 1844. ونجد تعبيري "العبادة الطوبوية" و"الجمهور الكتلي المتراص" في مقال برونو باور: “Was ist jetzt der Gegenstrand der kritik? العدد الثامن يوليو 1844. وكانت مجلة Allgemeine Literatur –Zeitiung (المجلة الأدبية العامة) مجلة ألمانية شهرية أصدرها الهيجل الشاب برونو باور في شارلوتنبرج من ديسمبر عام 1843 إلى أكتوبر عام 1844. وقد قدم ماركس وأنجلز تقويمًا نقديًا تفصيليا لهذه المجلة الشهرية في كتابهما "العائلة المقدسة أو نقد النقد النقدي" – الناشر. ([3] ) العبارات الواردة بين مثل هذين القوسين (( )) شطبها ماركس في مخطوط – الناشر. ([4] ) الاسم الكامل لهذه المجموعة من المقالات هو “Einundzwanzig Bogen aus der Schweiz” واحد وعشرون بحثًا من سويسرا – زيوريخ وفينتر ثور – 1843 – الناشر. ([5] ) انجلز "تخطيط لنقد الاقتصاد السياسي" أنظر ملحق الكتاب الحالي – المترجم. لودفيج فيورباخ “Grundsatz der Philosophie der zukunft” ([6] ) لودفيج فيورباخ “Grundsatz der Philosophie der zukunft” (مبادئ فلسفة المستقبل) – زيوريخ وفينترثور 1843 – الناشر. ([7] ) لودفيج فيورباخ “Vorlaufige Thesen zur Reformation der Philosophie” (قضايا أولية عن أصلاح الفلسفة) المنشور في (الانيكدوتا) الجزء الثاني – الناشر. ([8] ) هكذا يختصر ماركس “Anecdota zur menesten deutschen philosophie und Publicistik” (مواد غير منشورة عن الفلسفة والكتابات الألمانية الحديثة)، وهي مجموعة من مجلدين نشرها 1. روج في سويسرا وتضم مقالي ماركس "ملحوظات عن التعليمات البروسية الأخيرة للرقباء" و"لوثر – الحكم بين شتراوس وفيورباخ" ومقالات لبرونو باور ولودفيج فيورباخ وفريدريش كوبين وأرنولد روج وغيرهم – الناشر. ([9] ) في ذهن ماركس هنا برونو باور وأتباعه الذين كانوا يرتبطون بمجلة “Allgemeine Literatur – Zeitung” ([10] ) "اللحظة" تعبير فني من تعبيرات الفلسفة الهيجلية يعني عنصرًا حيويًا من عناصر الفكر، وتستخدم الكلمة لتاكيد أن الفكر عملية وبالتالي أن العناصر في مذهب فكري هي أيضًا مراحل في حركة – الناشر. ([11] ) يشير "الشعور (Emphindung) لدى هيجل إلى شكل منخفض من الحياة الذهنية لا يزال فيها الذات والموضوع مختلطين معًا. أما "الوعي" (Bewusstsein) – وهو الاسم الذي أطلقه هيجل على القسم الرئيسي الأول من "فينومينولوجيا الروح" فيشير إلى تلك الأشكال من النشاط الذهني حيث تسعى الذات للمرة الأولى لفهم موضوع ما. ويشير "وعي الذات" و"الروح" إلى مراحل تالية أعلى في تطور "المعرفة المطلقة" أو "المطلق" – الناشر. ([12] ) خلال فترة قصيرة نفذ ماركس هذا الوعد في كتابه "العائلة المقدسة أو نقد النقد النقدي" الذي كتبه بالاشتراك مع أنجلز. أنظر ماركس وأنجلز "العائلة المقدسة أو نقد النقد النقدي" – موسكو 1956 – الناشر. ([13] ) قارن ما يقوله ماركس هنا عن تحديد الأجور والاتحاد بين العمال الخ.. بكتاب "ثورة الأمم" بقلم آدم سميث (طبعة أيفريمان ليبراري – المجد الأول ص 58 – 60). وفي الأقسام الثلاثة الأولى من هذا المخطوط يستمد ماركس – كما أوضح هو نفسه فيما بعد – كلماته من الاقتصاد السياسي الكلاسيكي ومن آدم سميث بشكل خاص. وهذا صحيح حتى حين لا يشير ماركس بوضوح – كما هو الوضع هند – إلى أنه يقتبس أو يستعير. وكان نص "ثروة الأمم" الذي أستخدمه ماركس هو ترجمة جارنييه إلى الفرنسية في عام 1802 – الناشر. ([14] ) آدم سميث "ثورة الأمم" طبعة أيفريمان المجلد الأول ص 60 – 61 – الناشر. ([15] ) نفس المصدر ص 71 – 72 وص 50 – 51 – الناشر. ([16] ) آدم سميث "ثروة الأمم – المجلد الأول ص 77 – الناشر. ([17] ) أنظر "ثروة الأمم" – المجلد الأول ص 230 وأنظر كذلك ص 61 – 65 حيث يوضح سميث هذه الظروف الممكنة الثلاثة للمجتمع بالإشارة إلى الظروف المعاصرة في البنغال والصين وأمريكا الشمالية (وقد نشر كتاب"ثورة الأمم" للمرة الأولى في عام 1776) – الناشر. ([18] ) أنظر سميت من ص 230. وفي مخطوطات ماركس جاءت نهاية الجملة بالفرنسية مأخوذة مباشرة من ترجمة جارنييه الجزء الثاني ص 162 – الناشر. ([19] ) أنظر آدم سميث "ثروة الأمم" المجلد الأول (جارنييه – المجلد الأول ص 193) ورغم أن ماركس يضع هذه العبارات بين أقواس إلا أنها ليست اقتباسًا دقيقًا عن سميث بل هي صيغة مركزه لبعض عباراته – الناشر. ([20] ) أنظر آدم سميث "ثورة الأمم" المجلد الأول ص 70 – الناشر. ([21] ) في هذه الجملة استخدمنا عبارة "النظام الاقتصادي" لترجمة الكلمة الألمانية “Nationalokonomie” التي استخدمها ماركس في هذه المخطوطات بمعنى "الاقتصاد السياسي". وغير أنه يبدون أن ماركس هنا وفي بعض الأماكن يستخدم هذه الكلمة لا بمعنى الاقتصاد السياسي ككيان نظري وأنما بمعنى النظام الاقتصادي، النظام الصناعي الرأسمالي المتطور، الذي صوره ودافع عنه رجال الاقتصاد السياسي الكلاسيكي – الناشر. ([22] ) أنظر آدم سميث "ثورة الأمم" المجلد الأول ص 57 ([23] ) الكلمة الألمانية المستخدمة هنا هي “Eigentum” وهي تعنى كلمة “Property” بالانجليزية بمعنى الحيازة لا بمعنى "الخاصية" التي تعني بالألمانية “Eigensihaft” – الناشر. ([24] ) الساموديون شعب سيبيري منغولي يعيش على القنص وصيد الأسماك – المترجم. ([25] ) كرونوس: إله الزمن في الآساطير اليونانية – المترجم. ([26] ) "نظرية جديدة الاقتصاد الاجتماعي والسياسي أو دراسة عن تنظيم المجتمعات بقلم ك. بيكوير – باريس 1843 – والاقتباسات المأخوذة عن بيكوير وبوريه ولودون في هذا القسم بالفرنسية في مخطوط ماركس". ([27] ) "حل مشكلة السكان والعيش مقدم إلى طبيب في سلسلة من الرسائل" بقلم شارل لودون – باريس 1842. وكان هذا الكتاب ترجمة إلى الفرنسية – مختصرة قليلاًَ لمخطوط بالانجليزية يبدو أنه لم ينشر. غير أن لودون نشر في عام 1836 في ليمنجتون كتيبًا قصيرًا بالانجليزية بعنوان "إيضاح توازن السكان ووسائل المعيشة" إلا أن الكتاب الفرنسي المشار إليه كتاب يتألف من 336 صفحة – الناشر. ([28] ) أيوجين بوريه. عن بؤس الطبقات العاملة في انجلترا وفرنسا. – جزءان – باريس 1840 – الناشر. ([29] ) جان بابتيست ساي “Traite deconomie politique” – الطبعة الثالثة من جزاين – باريس 1817 – الناشر. ([30] ) "ربحًا شريفًا معتدلاً معقولاً" – المترجم – وهي بالانجليزية عند سميث – الناشر. ([31] ) يستخدم ماركس هنا التعبير الفرنسي. “Capital fixe” و”Capital circulant” الناشر. ([32] ) أضاف ماركس هنا الملحوظة التالية بالفرنسية "وكما هو معروف فإن الزراعة الكبيرة لا توفر العمل عادة إلا لعدد صغير من الأيدي" – الناشر. ([33] ) بالنسبة لمن يملكون هذه المادة، هذا الموضوع نعمل – الناشر. ([34] ) هذه الفقرة كلها (بما فيها الاقتباسات المأخوذة عن كتاب ريكاردو "مبادئ الاقتصادي السياسي والضرائب" وعن كتاب سيسموندي "مبادئ جديدة للاقتصاد السياسي" مقتبسة عن كتاب أ. بوريه "عن بؤس الطبقات العاملة في انجلترا وفرنسا" – المجلد الأول – باريس – 1840 – ص 6 – 7 – الناشر. ([35] ) "منطقة مناجم برمنجهام" في "المجلة الفصلية الألمانية" العدد 3 – عام 1838. المترجم. ([36] ) يشير ماركس هنا إلى الفقرة التالية "ففي يانصيب نزيه تمامًا فأن أولئك الذين يحصلون على الجوائز ينبغي أن يكسبوا كل ما يخسره من يسحبون الأوراق الخاسرة. وفي مهنة يفشل فيها عشرون وينجح واحد فأن هذا الواحد ينبغي أن يكسب كل ما كان سيكسبه هؤلاء العشرون غير الناجحين" (سميث – مصدر سابق – المجلد الأول الجزء الأول ص 94). ([37] ) "لا أرض بلا سيد" – المترجم. ([38] ) "لا أرض بلا سيد" – المترجم. ([39] ) "ليس للنقود سيد" – المترجم. ([40] ) طبيعة النوع (ومن قبل الكائن النوعي) Gattungswesen: طبيعة الإنسان الجوهرية – menschtichen Wesen ويمكن للفقرات القصيرة التالية من كتاب فيورباخ "جوهر المسيحية" أن تساعد القارئ على فهم الخلفية الإيديولوجية لهذا الجزء من فكر ماركس – وبشكل عارض على أن يرى كيف تقبل ماركس – وأن أضفى عليها محتوى جديدًا – المفاهيم التي أشاعها فيورباخ فعلاً عن هيجل ورجال الاقتصاد السياسي: - فما هذا الفارق الجوهري بين الإنسان والحيوان؟..... أنه الوعي – وإنما الوعي بالمعنى الضيق للكلمة، لأن الوعي المتضمن في الشعور بالذات كفرد، في التمييز عن طريق الحواس، في الإدراك الحسي، وحتى الحكم على الأشياء الخارجية وفقًا لعلامات محسوسة محددة، لا يمكن أن ينكر على الحيوانات. أما الوعي بأضيق معانية فلا يوجد إلا لدى كان يكون نوعه – طبيعته الجوهرية – موضوعًا للفكر. فالحق أن الحيوان يعني نفسه كنوع... وفي الحياة العملية علينا أن نتعامل مع أفراد، أما في العلم فمع أنواع... لكن الكائن الذي يكون نوعه – طبيعته – موضوعًا للفكر لديه هو وحده الذي يستطيع أن يجعل الطبيعة الجوهرية للأشياء أو الكائنات الآخرى موضوعًا للفكر... فالحيوان ليس لديه سوي حياة بسيطة، أما الإنسان فلديه حياة داخلية وحياة خارجية. والحياة الداخلية للإنسان هي الحياة التي ترتبط بنوعه – بطبيعته العامة كشيء متميز عن طبيعته الفردية... ولا يستطيع الحيوان أن يمارس وظيفة ترتبط بنوعه دون فرد آخر خارجه، لكن الإنسان يستطيع أن يؤدي وظائف الفكر والكلام التي تتضمن تمامًا مثل هذه العلاقة دون فرد آخر... فالإنسان هو في نفس الوقت أنا وأنت، فهو يستطيع أن يضع نفسه مكان آخر لهذا السبب... أن نوعه – طبيعته الجوهرية – وليس مجرد فرديته هي بالنسبة له موضوع للفكر... والموضع الذي ترتبط به الذات ارتباطًا جوهريًا، ضروريًا، ليس سوى طبيعة هذه الذات نفسها، وإنما طبيعتها الموضوعية... وهكذا فالعلاقة بين الشمس والأرض هي في نفس الوقت علاقة الأرض بذاتها، أو بطبيعتها لأن مقياس حجم وكثافة الضوء الذي تتملكه الشمس كموضوع للأرض هو مقياس المسافة الذي يحدد الطبيعة الخاصة للأرض... ومن هنا فالإنسان يتعرف على ذاته في الموضوع الذي يتأمله... وقوة الشيء عليه هي من هنا قوة طبيعته الخاصة (جوهر المسيحية "بقلم لودفيج فيورباخ" ترجمة ماريان ايفانز عن الطبعة الألمانية الثانية – لندن 1854 – ص 1 – 5) – الناشر. ([41] ) عند هذه النقطة ينتهي المخطوط دون أن يكتمل. الناشر. ([42] ) تبدأ الصفحة 40 من مخطوطة ماركس الثانية بهذه الكلمات. وبداية الجملة غير معروفة لأن الصفحات التسع والثلاثين الأولى ضائعة – الناشر. ([43] ) "ثورات فرنسا وبرايان" بقلم كاميل ديموني – الربع الثاني الذي يحوي شهور مارس وأبريل ومايو – باريس – السنة الأولى عدد 16 ص 139 وما بعدها وعدد 23 ص 245 وما بعدها وعدد 26 ص 580 وما بعدها – الناشر. ([44] ) أنظر فإنك اللاهوتي الهيجلي القديم المغرور الذي يحكي على حد قول ليو والدموع في عينيه كيف رفض أحد العبيد عند الغاء القنانة أن يكف عن أن يكون مملوكًا للنبيل. وأنظر كذلك "رؤى وطنية" بقلم جوستوس موزار التي تتميز بإنها لا تتخلى لحظة واحدة عن الأفق الضيق العادي المبتدل البرجوازي الصغير "المصنوع محليًا" للسوقي، والتي تظل مع هذا محض خيال. وقد جعلها هذا التناقض سائغة إلى أقصى حد للذوق الألماني. ([45] ) هنا ينتهي المخطوط الثاني – الناشر. ([46] ) "لذاته" (fuer sich) تعبير هيجلي يستخدم نقيضًا لعبارة "في ذاته" (an sich). وتعني "في ذاته" بالتقريب "كامن" أو حتى "غير واعي"، وبالمثل يمكن فهم "لذاته" على أنها تعني "موجود لذاته" أو "بوعي" – الناشر. ([47] ) أنه حركة للملكية الخاصة تصبح مستغلة لذاتها في الوعي – أنه الصناعة الحديثة كذات. ([48] ) “Wesen” ترجمت هنا إلى substance (جوهر) وترجمت في مكان آخر في نفس الصفحة “Essence” (ماهية) – المترجم. ([49] ) أنظر ف. أنجلز "تخطيط لنقد الاقتصاد السياسي" الملحق بهذا الكتاب – المترجم. ([50] ) “superseded” تجاوز “aufhob” (ترجمت في نهاية الفقرة "الفيت") – المترجم. ([51] ) تخارج الإنسان في الشيء reale Entauscerung des Menschen عملية الانسلاب Verasserung ([52] ) Aufheben تخطي... ألغى... إزال. ([53] ) ليس البغاء سوى تعبير محدد عن البغاء العام للعامل، ولما كان البغاء علاقة لا تدخل فيها البغي وحدها، بل كذلك من يعاشرها – بل أن انحطاط الأخير أكبر – فإن الرأسمالي الخ... يندرج أيضًا تحت هذا العنوان. ([54] ) وهو لهذا السبب متنوع تنوع تحديدات الماهية الإنسانية والفاعليات الإنسانية. ([55] ) “Einundzwanzig Bogenaus des Sweiz” أيرست تيل – زيوريخ وفينتر تور – 1843 – ص 329 الناشر. ([56] ) وفي الممارسة لا أستطيع أن أربط نفسي بشيء إنسانيًا إلا إذا ربط الشيء نفسه بالكائن الإنساني أنسانيًا. ([57] ) ([58] ) يعني ماركس "بالشيوعية باعتبارها هذا" الشيوعية الفجة القائمة على المساواة كما عرضها بابوف واتباعه. ([59] ) قوى الطبيعة الإنسانية menschlichen wesenkraft الطبيعة الإنسانية menschlichen wesens ([60] ) جيمس ميل "عناصر الاقتصاد السياسي" – الناشر. ([61] ) الزاوية اليسرى من أسفل الصفحة في المخطوط ممزقة، ولا يتبقى لدينا سوى النهايات المنى للسطور الستة الأخيرة مما يجعل أعادة إنشاء النص مستحيلاً . غير إنه من أن نستخلص أن ماركس ينتقد هنا "تخطي" هيجل المثالي للاغتراب. ([62] ) الكلمات المتبقية واردة في الهامش التالي – الناشر. في حالة "تخطي" الاغتراب "بالطريقة الألمانية القديمة – طريقة فينومونولجيا هيجا" تخطيها في "وعي" الذات فحسب – الناشر. ([63] ) أسفل الصفحة ممزق. وهناك ثلاثة أو أربعة أسطر ناقصة – الناشر. ([64] ) أنظر "الريع" – الناشر. ([65] ) "ثروة الأمم" – الكتاب الأول الفصل الثاني والثالث (لكنه مقتبس مع بعض الإغفالات ومع نقل بعض النصوص) – الناشر. ([66] ) آدم سميث – المجلد الأول – ص 20 – الناشر. ([67] ) ديستوت دي تراسي: "عناصر الايديولوجيا. بحث عن الإرادة وأثارها" باريس 1826 ص 68 – 78 – الناشر. ([68] ) ساي – المرجع السابق ص 300 وص 76 – وما بعدها – الناشر. ([69] ) في سكاربيك "نظرية الثروات الاجتماعية يتبعها عرض لتطور الاقتصاد السياسي" – الجزء الأول والثاني – باريس 1829 ص 25 وما بعدها – الناشر. ([70] ) "عناصر الاقتصاد السياسي" بقلم جيمس ميل (لندن 1821) ص – 5 – 9 – الناشر. ([71] ) ينتهي هذا القسم من المخطوط الثالث الذي يعد ملحقًا للصفحة رقم 39 من المخطوط الثاني عند هذه النقطة في الجانب الايسر من الصفحة 38. والجانب الأيمن من الصفحة 38 خال. ثم تأتي بعد ذلك المقدمة (ص 39 – ص 40) وفقرة عن النقود (ص 41 – ص 43) – الناشر. ([72] ) ([73] ) جوته "فاوست – الجزء الأول – مكتب فاوست – المشهد الثالث. أنظر جوته "فاوست" الجزء الأول – ترجمة فيليب واين (ينجوين 1949 – ص 91) – الناشر. ([74] ) شكسبير "تيمون أثينا" – الفصل الرابع – المشهد الثالث (وقد أقتبس ماركس عن ترجمة شيلجيل – تيك) – الناشر. ([75] ) المصدر السابق – الناشر. ([76] ) نهاية الصفحة ممزقة في المخطوط – الناشر. ([77] ) الإشارة هنا إلى القسم الختامي من الجزء الذي يسبق هذه الكلمات مباشرة والذي قدمناه هنا (لأن الفصل الخاص بهيجل الذي وصفه ماركس في المقدمة بأنه "الفصل الختامي" قد وضع في نهاية هذا الكتاب) تحت عنوان "الملكية الخاصة والشيوعية. مختلف مراحل تطور الأفكار الشيوعية، الشيوعية الفجة والشيوعية القائمة على المساواة والشيوعية كاشتراكية تتوافق مع الإنسانية" – الناشر. ([78] ) ج. ف. هيجل “System der Wissenschaft” المجلد الأول “Phanomenologie des Geistes” و”Wissenschaft der Logik” جزءان – 1812 – 1816 – الترجمات الإنجليزية "فينومينولوجيا الروح" ترجمة وتقديم ج. ب بيلي – الطبعة الثانية عام 1931 وأعيد طبعه عام 1949، و"علم المنطق. ترجمة جونستون وستروثرز – في مجلدين (كمبريدج – 1929). ([79] ) برونوباور “Kritik der evangelischen Geschichte der Synoptiker” "نقد الأناجيل المتوافقة" الجزء الأول والثاني – ليبزيج 1841، الجزء الثالث براونسشويج – 1842 وفي الكتابات الأدبية تسمى الأناجيل الثلاثة الأولى بالمتوافقة – الناشر. ([80] ) برونوباور Das Enredeckre Christentum. Eine Erinnerung des Achtzehnten Jahrhundert und eine Beitrag zur krisis des Neunzchnten "اكتشاف المسيحية: ذكرى القرن الثامن عشر وإسهام حول أزمة القرن التاسع عشر" – زيوريخ وفينتر ثور – 1843. ([81] ) برونوباور “Die Gute Sache der Freiheit und meine Eigene Angelegenheit” (خير الحرية وقضيتي) – زيوريخ وفينتر ثور – 1843 – الناشر. ([82] ) الإشارة إلى صحيفة “Allgemeine Literatur – Zeitung”. ([83] ) فيورباخ ينظر إلى نفي النفي – المفهوم المحدد – باعتباره فكرًا يتخطى في الفكر، وفكرًا يريد بشكل مباشر أن يكون إدراكًا، طبيعة، واقعًا (ماركس يشير إلى ملحوظات فيورباخ النقدية عن هيجل في الفقرة 29 – 30 من كتابه “Grundsatze der Philosophie der Zukuntt” – الناشر. ([84] ) ج. ت. ف. هيجل “Enzyklopadie der Philosophischen Wissenschaften”. وتتألف "السكلوبيديا العلوم الفلسفية" لهيجل من مجلد واحد يضم ثلاثة أقسام: موضوع الأول هو المنطق، وموضوع الثاني فلسفة الطبيعة، والثالث فلسفة الروح – الناشر. ([85] ) "الوعي التعس" إلخ.. أشكال للذهن ومراحل وعوامل في التاريخ الإنساني ميزتها وحللتها الأقسام الخاصة من كتاب هيجل "الفينومينولوجيا" – الناشر. ([86] ) الفقرة التالية مأخوذة حرفيًا عن الفقرة الثانية والثالثة من الفصل الأخير "لفينومينولوجيا" هيجل – الناشر. ([87] ) Entausserung ([88] ) Wesen ([89] ) أن تكون حسيًا يعني أن تعاني “Sinnlich sein ist leidend sein” وينبغي أن نفهم "تعاني" هنا بمعنى "تتحمل" أي أن تكون موضوعًا لفعل آخر. ولاحظ الانتقال في الجملة التالية من “Leiden” (المعاناة) إلى “leidenschafilich” (الانفعال). ([90] ) أخذ ماركس الضمير (es) هنا على أنه عائد على “Bewusstsein” (الوعي). ولكن يبدو أن بيل في ترجمته الإنجليزية لكتاب هيجل كان أكثر صحة حين أخذه على أنه يعود على “Selbstbewusstsein” (وعي الذات). وقد استخدم ماركس في أول اقتباس لهذه الفقرة الضمير دون تحديد من يعود عليه فاتبع المترجم الإنجليزي بيل في ترجمته على أنه يعود على "وعي الذات" أما عند إعادة الاقتباس هنا فقد اتبع المترجم ماركس وعاد بالضمير على "الوعي" – المترجم. ([91] ) يشير ماركس هنا إلى الفقرة 30 من كتاب فيورباخ “Grudsatze der Philosophie der Zukunft” "مبادئ فلسفة المستقبل" التي تقول "إن هيجل مفكر يتخطى ذاته في الفكر" – الناشر. ([92] ) يقدم هذا التسلسل "المقولات" أو "أشكال الفكر" الرئيسية في أنسكلوبيديا هيجل بالترتيب الذي تحدث به ويتم تجاوزها. وبالمثل فإن التسلسل السابق (ص 148) من "الحق الخاص" إلى "تاريخ العالم" يقدم المقولات الرئيسية في كتاب هيجل "فلسفة الحق" بالترتيب الذي يظهر به هناك – الناشر. ([93] ) أي التصور الجاري للاهوت والفقه والعلم السياسي والعلم الطبيعي إلخ. الناشر. ([94] ) "منطق هيجل" ترجمة والاس الفقرة 244 "والحدس" يستخدم هنا ترجمة لكلمة “Anschauen” التي تعني في الاستخدام الجاري "التأمل" لكن هيجل يستخدم الكلمة هنا – كما استخدمها كانت – كتعبير فني يعني في الفلسفة – تقريبًا – "الإدراك من خلال الحواس" كذلك ينبغي فهم كلمة "الحدس" هنا لا بمعناها الشائع وإنما بمعناها الفلسفي الذي يعتبر معادلاً لكلمة (Anschauen) – الناشر. ([95] ) ويعني هذا أن ما فعله هيجل هو أنه وضع مكان هذه التجريدات المثبتة فعل التجريد الذي يدور في دائرته هو. وكان له – وهو يفعل ذلك – أولا فضل أنه أوضح مصدر كل هذه المفاهيم غير الملائمة التي تنتمي – كما عرضت في الأصل – لفلسفات متباينة، وأنه جمعها معًا، وأنه جعل كل محيط التجريد بكل اتساعه، موضحًا للنقد بدلاً من تجريد محدد ما (وسنرى فيما بعد لماذا يفصل هيجل الفكر عن الذات، غير أنه من الواضح في الوقت الحالي أنه حين لا يوجد الإنسان، فإن تعبيره المميز لا يمكن أيضًا أن يكون إنسانيًا، كما لا يمكن أن يدرك الفكر كتعبير عن الإنسان من حيث هو ذات إنسانية وطبيعية مزودة بعيون وآذان.. إلخ... ويعيش في المجتمع وفي العالم وفي الطبيعة). ([96] ) الزمن والحركة والمادة والضوء إلخ.. أشكال متميزة في "فلسفة الطبيعة" لهيجل، والصيرورة إلخ.. هي بالطبع مقولات في "المنطق" – الناشر. ([97] ) فريدريك ليست (1789 – 1846) اقتصادي ألماني مشهور، دعا إلى إلغاء الحواجز الجمركية داخل ألمانيا، لكنه دعا في الوقت نفسه إلى حماية الصناعة الألمانية من المنافسة الخارجية عن طريق التعاريف الجمركية إلخ... – الناشر. ([98] ) “exchangeable value” – تعبير إنجليزي اقتبسه إنجلز – الناشر. ([99] ) أليسون "مبادئ السكان وعلاقتها بالسعادة الإنسانية" المجلد الأول والثاني – لندن 1840 – الناشر. ([100] ) الاسم القديم لاستراليا "الناشر. ([101] ) ظهرت ثلاثة كتبيات باسم مستعار هو "ماركوس" وهي: "عن امكانية الحد من زيادة السكان" بقلم ماركوس وطبعه جون هيل – بلاك هورس كورت – شارع فليت 1838 (46 صفحة) و"كتاب القتل! مرشد المفوضين والمشرفين على تنفيذ قانون الفقراء الجديد... صورة دقيقة من البحث الشهير عن إمكانية الحد من زيادة السكان بقلم ماركوس، وواحد من ثلاثة كتب.. يعاد طبعها الآن لتوجيه العامل" بقلم ويليم دوجدال – 37 شارع هوليويل – ستراند و"نظرية الإبادة دون ألم" بقلم ماركوس. أنظر ن.م. و"الإعلانات" 29/8/1840. وهناك كتيب بقلم مجهول بعنوان "بحث عن السكان. مطبوع للتداول الخاص لحساب المؤلف" – 1838 – (27 صفحة) ويحوي الأفكار الأساسية في كتيب "ماركوس" – أنظر كذلك توماس كارليل "الميثاقة" – لندن 1840 – ص 110 وما بعدها. ([102] ) ا . اليسون – المصدر السابق – ص 548 الناشر. ([103] ) يشير انجلز هنا إلى مؤلف كان يعتزم كتابته عن التاريخ الاجتماعي لانجلترا وكان يجمع مواده أثناء إقامته هناك (من نوفمبر 1842 حتى أغسطس 1844). وكان انجلز يعتزم أن يخصص فصلاً في هذا الكتاب لظروف العمال الانجليز. لكنه فيما بعد غير راية وقرر أن يضع كتابًا خاصًا عن البروليتاريا الانجليزية وفعل ذلك عند عودته إلى ألمانيا وقد صدر كتاب "ظروف الطبقة العاملة في انجلترا" في ليبرج عام 1945 – الناشر.
#كارل_ماركس (هاشتاغ)
Karl_Marx#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النضال الطبقي في فرنسا 1848 -1850
-
حول الديالكتيك الثوري
-
في نقد الدين والاستغلال
-
راس المال الفصل- 29- نشوء المزارع الراسمالي
-
من ماركس الى انجلس
-
اكتشاف علمي/تناقض معنى قيمة الانتفاع وقيمة التبادل
-
اضرابات واتحادات العمال
-
الحرية والعمل
-
مقدمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل
-
الفلسفة وليدة عصرها
-
محاكمة اللجنة الديمقراطية لمنطقة الراين - مرافعة كارل ماركس
-
العمل المغترب
-
نقد فلسفة الحقوق عند هيغل
-
بؤس الفلسفة ...... (6)...و الأخيرة
-
بؤس الفلسفة ...... (5)
-
بؤس الفلسفة ...... (4)
-
بؤس الفلسفة ...... (3)
-
بؤس الفلسفة ...... (2)
-
بؤس الفلسفة ...... (1)
-
قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية
المزيد.....
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
-
تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل
...
-
في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو
...
-
التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل
...
-
السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي
...
-
الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو
...
-
بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
-
محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان
...
-
المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
-
القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟
...
المزيد.....
-
مقدمة في -المخطوطات الرياضية- لكارل ماركس
/ حسين علوان حسين
-
العصبوية والوسطية والأممية الرابعة
/ ليون تروتسكي
-
تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)*
/ رشيد غويلب
-
مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق
...
/ علي أسعد وطفة
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين
/ عبدالرحيم قروي
-
علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري
...
/ علي أسعد وطفة
-
إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك
...
/ دلير زنكنة
-
عاشت غرّة ماي
/ جوزيف ستالين
-
ثلاثة مفاهيم للثورة
/ ليون تروتسكي
-
النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج
/ محمد عادل زكى
المزيد.....
|