عايد سعيد السراج
الحوار المتمدن-العدد: 1950 - 2007 / 6 / 18 - 11:46
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هل محمد جاءته النبوة في غار حراء فعلاً , وماذا كان يفعل وهو منصرفا لنفسه هناك 0
( 000كان من نسك قريش في الجاهلية أن يذهب من أراد التحنث منهم ممن كان من المتألهين أو المتحنفين إلى حراء , وأن يأخذ معه الزاد فيطعم هناك من جاءه من المساكن , وكانوا يفعلون ذلك في شهر رمضان , قال ابن الأثير وأول من تحنث بحراء عبد المطلب فكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين 0 ثم تبعه على ذلك من كان يتأله كورقة بن نوفل وأبي أمية بن المغيرة (1)0
وكان محمد بعد تزوجه خديجة – كما صرح به صاحب السيرة الحلبية – يذهب إلى حراء ويطعم المساكين جرياً على هذه العادة (2) , وقد ذكروا أن محمداً حببت إليه الخلوة , وإن ذلك كان في المدة التي كان فيها مبشراً بالنبوة 0 وقد علمت أن هذه المدة هي الأشهر الستة التي هي النصف الأخير من السنة التاسعة والثلاثين من عمره 0
ومن حبه للخلوة في هذه المدة يستدل على أنه قد صمم على القيام بالدعوة , وكانت فكرة النبوة قد اختمرت في نفسه ونضجت كما تقدم بيانه 0 فحبه للخلوة أمر طبيعي لأنه أصبح في حاجة إلى التفكير في وضع الأساس الذي تقوم عليه الدعوة 0 /216/
وفي هذه المدة التي حببت فيها إليه الخلوة اتفق أن جاء شهر رمضان الذي كان يخرج فيه إلى حراء جرياً على عادة المتألهين من قريش , فرأى محمد أن مجيء رمضان وهو في تلك الحالة من حب الخلوة فرصة له ينتهزها للاختلاء في حراء والانقطاع فيه عن الناس ليتسنى له التفكير فيما يريد 0 فخرج إلى حراء كما ذكروا في كتب السير في هذا الشهر , أعني شهر رمضان الذي ينبغي أن يكون آخر الأشهر الستة الأخيرة من السنة التاسعة والثلاثين , أو أول شهر من السنة الأربعين , لأنهم ذكروا أنه تنبأ على رأس الأربعين كما جاء ذلك في حديث أنس بن مالك , وهنا غلطة من الرواة يجب تصحيحها وهي أنهم ذكروا أنه خرج إلى حراء ومعه أهله أي خديجة أما مع أولادها أو بدونهم , ولا يجوز أن يكون ذلك صحيحاً لأنه ينافي الغاية المقصودة من خروجه إلى حراء وهي الخلوة, ولا تتأتى له الخلوة ولا الانقطاع عن الناس إذا كان أهله معه في حراء , وقد صححنا ذلك في غير هذا الموضع , انظر مقالنا بعنوان (( قوة خياله )) (1) 0
قضى محمد في غار حراء ست عشرة ليلة من شهر رمضان , فلما كان في الليلة السابعة عشرة جاءه جبريل 0 ولنذكر لك كيف جاءه كما ذكره ابن إسحق من رواية وهب بن كيسان عن عبيد بن عمر بن قتادة عن رسول الله : قال رسول الله : فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب , فقال : أقرأ , قلت : ما أقرأ , قال : فغتني به حتى ظننت انه الموت , ثم أرسلني فقال : اقرأ , قال : قلت : ماذا اقرأ , ما أقول ذلك إلا افتداء منه أنه يعود لي بمثل ما صنع بي , فقال : ( اقرأ /217/ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم ) (2) قال : فقرأتها ثم انتهى فانصرف عني , وهببت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتاباً , قال : فخرجت حتى إذا كنت في وسط الجبل (3) الخ 000 الحديث 0
إن قوله جاءني جبريل وأنا نائم , وقوله في الأخير وهببت من نومي , صريح في أن ما رآه هو رؤيا منامية , وأنها ليست من قبيل تلك الرؤيا الخاصة به التي يراها في أثناء نوبته العصبية 0
وإذا علمت ما كان يتفكر فيه وهو في حراء لم تتعجب من رؤياه هذه , بل لم ترَ شيئاً طبيعياً أكثر منها 0
لاريب أن محمداً بعد تصميمه على القيام بالدعوة ما كان يفكر إلا في وضع الأساس الذي تقوم عليه الدعوة , وهذا الأساس يدلنا عليه القرآن , فنحن إذا تدبرنا القرآن جيداً عرفنا هذا الأساس ما هو 0
وذلك أننا إذا صرفنا النظر عمّا في القرآن من قصص الأنبياء وأخبار الأولين , وجدناه يضرب على وترين , ويتكلم عن أمرين عليهما مدار الكلام فيه دائماً وأبداً , أحدهما وحدة الإله وترك الشرك ونفي الأنداد , والثاني الحياة الأخرى وما يتعلق بها من البعث بعد الموت والجزاء والجنة وجهنم 0 فإن محمداً جعل هذين الأمرين أساساً للدعوة , إذ كان يقول للناس آمنوا بالله وحده لا شريك له , فإن آمنتم فأنتم في الجنة , وإن لم تؤمنوا فأنتم في جهنم , فإنكم مبعوثون بعد الموت لا محالة 0 ولم يفتكر فيما عدا ذلك في أول الأمر بل تركه لما تجيء به الحادثات من البواعث والدواعي , وذلك يسمونه بأسباب النزول 0
وبعد وضع الأساس على هذا النحو أخذ محمد يفتكر في الصورة التي /218/ تقوم بها الدعوة , وبعبارة أخرى في الواسطة التي يؤدي بها الدعوة , ومعلوم أن الدعوة إنما تؤدى بالكلام ولكن بأي صورة من الصور الكلامية يصاغ ويسبك كلام الدعوة , أيجعل شعراً منظوماً , أم نثراً مسجوعاً , أم ماذا , إن هذا هو أهم ما كان يفتكر فيه محمد في غار حراء 0
وهنا يتجلى لك دهاء محمد وما له من فطنة وذكاء حيث يجعله شعراً يروى وينشد , بل جعله قرآناً يقرأ ويحفظ , وسواء كان محمد يحسن قرض الشعر أم لا يحسنه , يبعد كل البعد عن دهائه وذكائه أن يجعل الكلام في الدعوة شعراً منظوماً لأنه يعلم أنه لو جعله شعراً منظوماً لما كان فيه إلا كأحد الشعراء الذين هم في زمانه أكثر من أن يحصوا , ولما كان له من التأثير في نفوس القوم أكثر من أشعار الشعراء المتألهين الذين رآهم وسمع شعرهم كزيد بن عمرو بن نفيل وأمية بن أبي الصلت , وغيرهما 0 وكيف يجعله شعراً منظوماً وقد سمع كثيراً من شعر أمية بن أبي الصلت وفهم ما فيه من العظات الدينية والصفات الإلهية , وما انطوى عليه من قصص الأنبياء وأخبارهم حتى قال عنه لما سمع بعض شعره بعد النبوة أنه آمن شعره وكفر قبره , وهو مع ذلك قد علم أن شعر أمية هذا لم تقم له قائمة في نفوس العرب أكثر من شعر غيره من سائر الشعراء , فلذلك قد قرّ قراره أن تقوم الدعوة بالقرآن , والقرآن في اللغة بمعنى القراءة , أي تقوم دعوته بكتاب يقرأ ويحفظ لا بشعر يروى وينشد 0
ولعمري أن محمداً أصاب فيما أفتكر فيه , وقد نجح كل النجاح , إذ جاء بقرآن لا هو من الشعر المنظوم كشعر المتألهين , ولا هو / 219/ من الكلام المسجوع ككلام الكهان , وسنتكلم عن أسلوب القرآن فيما سيأتي إن شاء الله 0
وإذا علمت أن محمداً إنما كان في غار حراء يفتكر في هذا , لم يتعجب من رؤياه التي رآها , ولا من مجيء رَئـِية جبريل , وقوله له أقرأ , بل كيف لا يرى هذه الرؤيا وهو يصبح ويمسي ونفسه لكل ما فيها من قوة متجهة في تفكيرها إلى الأمر الذي أتاه في رؤياه , وكثير ما يقع للإنسان إذا نام وهو يفتكر في أمر أن يراه في منامه , فقد ذكر صاحب السيرة الحلبية عن بعضهم , قال : أمرني المأمون أن أكتب بالاستكثار من المصابيح في المساجد , فلم أدر ما أكتب لأنه شيء لم أسبق إليه , فرأيت في المنام إني أكتب (( أكثروا من المصابيح فإن فيها أنساً للمجتهدين , ونفياً لوحشة الظلام عن بيوت الله )) فانتبهت وكتبت بذلك (1) 0
لقد قلنا إن هذه الرؤيا هي من الرؤى الاعتيادية التي يراها الناس في منامهم كما يدل عليه ظاهر عبارة الحديث , ويجوز أن يكون محمد قد انتابه نوبته العصبية وهو نائم فرأى ما رأى من مجيء رئيّه جبريل وقوله له اقرأ , فتكون هذه الرؤيا حينئذ من قبيل رؤياه الخاصة به , وهي الرؤيا التي يراها عندما تعتريه حالته العصبية , وقد علمت ما هي 0 أما بقية الحديث من أنه خرج بعد هذه الرؤيا من الغار إلى وسط الجبل , وأنه رأى جبريل في أفق السماء إلى آخر ما هنالك , فقد تكلمنا عن ذلك فانظر مقالنا تحت عنوان (( قوة خياله )) (2) 0
ومما يناسب المقام أن نتكلم شيئاً عن أساس الدعوة , فنقول : إن عرب الجاهلية كانوا مع عبادتهم للأصنام يعرفون الله ويؤمنون به , وإنما يتخذون الأصنام شفعاء عنده يتقربون بهم إليه كما حكاه عنهم القرآن ( ما نعبدهم إلا ليقربونا /220/ إلى الله زلفى ) (3) ففي النتيجة تكون عبادتهم لله أيضاً ولكن لا مباشرة بل بواسطة الأصنام , فمن هذه الحالة استمد محمد الركن الأول من أساس دعوته , أعني وحدة الإله بترك الشرك ونفي الأنداد , وصار يدعوهم إلى عبادة الله وحده مباشرة من دون وسيط ولا شريك , وهو يقصد بذلك وحدتهم هم أنفسهم فإذا قلوبهم إذا اتجهت في العبادة إلى إله واحد وكانوا كلهم مؤمنين به خاضعين له حصلت لهم بذلك وحدة روحية , فكانوا متحدين في أفكارهم , متحابين في قلوبهم متعاونين في أعمالهم , ومتى كانوا كذلك استطاعوا أن يجدوا إلى السعادة في حياتهم سبيلاً , وهذه هي أكبر فائدة يستفيدها الناس من الدين , إلا أن هذه الفائدة قد ضاعت ووا أسفاه على ضياعها باختلاف الأديان وافتراق المذاهب المتفرعة من الأديان حتى صار الإنسان يعادي أخاه الإنسان لمجرد أنه يخالفه في دينه أو يفارقه في مذهبه كما قال شاعر البشر أبو العلاء المعري :
إن الشرائع ألقت بيننا راصناً وعلمتنا أفانين العداوات ) 0
* عن كتاب – الشخصية المحمدية – منشورات الجمل - للأديب الشاعر – معروف الرصافي 0
(1) السيرة الحلبية , 1/237 0
(2) السيرة الحلبية , 1 / 237 0
(2) سورة العلق , الآيات 1-5 0
(3) السيرة الحلبية , 1/238 باختصار 0
(1) السيرة الحلبية 1/246 0
سورة الزمر , الآية : 3 0
#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟