سلطان الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 1946 - 2007 / 6 / 14 - 13:00
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قضية الألم عبر التاريخ :
إن قضية الألم قضية قديمة فرضت نفسها منذ زمن بعيد على جميع مؤمني الأديان السماوية . فالألم لدى الإنسان الملحد يُشكل جانبا ً من جوانب الحياة لا أكثر ولا أقل ، لأن الملحد لا يشغل نفسه بشرح هذه المسألة في ضوء وجود إله صالح وقدير ، بل يقبل وجود الألم في الحياة ويحاول أن يُخفف من سطوته ، إلا أنه ليست لديه ((ضحية إلهية )) يوجه إليها اللوم على المأزق الذي وصل اليه العالم .
أما من يؤمن بالثنائية ، فلديه حل آخر : فهو يؤمن بأن في العالم مبدأين أزليين يتعايشان معاً ، مبدأ الخير ومبدأ الشر ، النور والظلام ، وهما يتحاربان للسيطرة على العالم حرباً لا هوادة فيها ولا هُدنة ؛ إن التاريخ الإنساني هو ميدان هذه الحرب التي لا تنتهي . ومن هنا ياتي الألم الذي ورثه الإنسان .
وعلى النقيض ، فمن يؤمن بوجود إله لهذا الكون ، لن يجد مهرباً سهلاً من مواجهة قضية الألم . وغالباً ما تُطرح الإشكالية على النحو التالي : إما أن يكون الله كلي القدرة وبإمكانه وضع حد لجميع ألام البشر ولكنه لا يريد ذلك ، وبالتالي فهو ليس إله الخير ؛ وإما أن الله خير وكلي الحب ، ولهذا يود أن يضع حداً لجميع آلام البشر ولكنه لا يستطيع لأن سلطانه محدود على الكون .
الا أن المؤمن بوجود الله يرفض أن يقبل هذا العرض للقضية ، عرضاً ساذجاً مغلوطاً ، وإنه يُعلن أن الله موجود وخير وكلي القدرة . ويبقى السؤال الكبير : إذن لماذا الألم ؟ هذا هو السؤال التقليدي عن قضية الشر ، وقد حاول اللاهوتيون في جميع العصور أن يجدوا له حلاً .
وأما المؤمن الأسود ، فيعرض مسألة الألم بشكل يختلف كثيراً عن الطرح الكلاسيكي التقليدي .
الألم الأسود :
منذ البداية نؤكد أن الإنسان الأسود لم يحتج قط الى المرور بالإيمان الثنائي أو الموقف الالحادي ليصل الى الإيمان بالله ، لأن الإيمان بإله متسامِ قد رضعه مع لبن أمه . ومع هذا لا يجوز لوم الإنسان الأبيض المؤمن إذلا يجد صعوبة في فهم جملة غاية في البساطة أولا وهي : (( الله يحبك )) . لقد أمضى اللاهوتيون الغربيون وقتا طويلا لشرح هذه المعتقدات اللاهوتية للمؤمنين في الغرب ، ونحن لا نستطيع أن نلوم المؤمن الغربي بسبب هذه القضية الإيمانية التي يتكرر طرحها تكراراً دورياً ، ولا أن نلوم المؤمن الأسود بسبب إيمانه العنصري بالله . فهذا هو الواقع ويجب أن نسلم به .
إن كان المؤمن الأسود لم يشك قط في أن الله كُلي القدرة وفي أنه محبة ، فكيف طُرحت عليه قضية الألم ؟ وكيف أثرت في إيمانه بالله تأثيراً حاسماً ؟
إن كيفية طرح السؤال عند الأسود مختلفة ، فالمؤمن الأسود لا يطرح السؤال على هذا المنوال : لماذا يوجد الألم في عالم يوجد فيه إله صالح كلي القدرة ؟ ولكن يطرحه هكذا : لماذا نحن السود نتألم أكثر من غيرنا في عالم يوجد فيه مثل هذا الإله الصالح الكلي القدرة ؟ .
ويتساءل الإنسان الأسود : في أية جهة يقف الله ؟ . فهو يشعر بأنه يخسر على طول الخط في مواجهة الإنسان الأبيض . وأن الإنسان الأبيض أثبت دائماً أنه متفوق على جميع الجبهات : فلديه طاقة أكبر وذكاء أحد وصحة أفضل ------ . إن إحساس الإنسان الأسود هذا جعل قضية الألم نظرة معقدة ، لأنه تصور أن للإنسان الأبيض ميزة فطرية تجعله متفوقاً عليه ؛ وبالتالي تُظهره وكأن الله يفضله ، وتجعل من الإنسان الأسود إنساناً من الدرجة الثانية لدى هذا الإله .
هذه هي المشكلة الكامنة في قلب تجربة الإنسان الأسود :
إذا وقع حادث قطار في جنوب أفريقيا ، وأدى الى مقتل عدد كبير من السكان ، فإنهم لا يطرحون السؤال المعتاد : لماذا هذه الألام في العالم ؟ ولماذا يُقتل العديد من الناس عشوائياً في حوادث القطارات ؟ . ولكنهم يصيغون السؤال بطريقة أخرى : لماذا لا تحدث هذه المصائب الا لنا نحن السود ؟ . ويبدو أن هذه الصياغة تشبه الى حد كبير موقف اليهود الذي عبرت عنه شخصية شيلوك اليهودية في قصة وليم شكسبير في (تاجر البندقبة ) . ففي هذه القصة يرد على لسان شيلوك : (( أصبح الألم رمزاً لكل عشيرتنا )) . فنستنتج من ذلك أن هناك قضية وجودية بتمام معنى الكلمة . وهي مشكلة تؤرق السود في حياتهم اليومية .
ومن هنا نطرح السؤال وإن بدا غريبا للبعض : هل من الممكن أن يكون المرء أسودا ومسيحيا في الوقت نفسه ؟ . ليس الغرض من طرح هذا السؤال تعقيد الموقف أو هو مجرد سؤال نظري محض ، ولكنه بمثابة صرخة مؤلمة نابعة من القلب ومن صميم الوجدان . ولكي نجد جوابا على هذا السؤال ، علينا أن نتكلم بكل تواضع ومعايشة وتفهم .
كم من المرات جّدف على الله من يمكن أن نسميهم اليوم أحباب وأصدقاء وأتباع الله المقربين !
علينا إذا أن نعترف بعجزنا المطلق عن تفسير المشكلة ، وبأن قضية الشر والألم ما زالت سراً . لأن الاجابة العميقة عن السؤال : (لماذا الألم ) ، تعني أننا قد صرنا ألهة ، لا بشر . فلن نعرف قط كل ما هو موجود وقابل للمعرفة في عالمنا لأننا بشر محدودون . ولكن ذلك لا يعني أن نتوقف عند هذا الحد ، فنحن نستطيع أن نبدا برفض جميع الحلول المعروضة غير المرضية وغير المقبولة .
الألم غضب من الله :
سيرفض السود تماماً وباشمئزاز الحل الذي يقول لهم إن ما يعانونه الآن من آلام هو جزاء ما اقترفوه من كفر .
إن أحدا منهم لن يشك في أن هناك علاقة بين الشر والخطيئة من جهة ، وبين الألم من جهة أخرى ؛ ولكن تطبيق نظرية (التعويض) لتفسير قضية الألم يُسطح المشكلة ؛ فالمسألة أكثر تعقيداً من أن تُفسرها نظرية (التعويض) .
وربما يتلقى السود بارتياح أكثر وجهة نظر القديس أوغسطينوس في شرح قضية الألم ؛ فهو يرى أن الألم سببه خطأ وقع في طفولة الجنس البشري المبكرة--
وتروي احدى الأساطير الأفريقية التي تفسر أصل العالم ، أن هناك زمناً كانت فيه السماء أكثر اقترابا من الأرض مما هي عليه الآن . ولكن نساء القرية ، وهن يهرسن الحبوب في الهاون ، كُن يصوبن يد الهاون الى عين الاله ، حتى إن الاله رأى من باب الحكمة أن ينسحب من المكان ، تاركا بينه وبين هؤلاء النسوة مسافة مضمونة .
ولكن إذا كانت وجهة النظر الأوغسطينية أكثر إقترابا من الحقيقة ، فإنها لا تحل معضلة معرفة الأسباب الحقيقية للألام التي يتكبدها الإنسان الأسود ، أكثر من غيره من البشر ، بسبب هذا السقوط الأول .
إذا مالذي بقي لدينا للإجابة عن السؤال ؟ قد نتفق مع أيريناوس أكثر .
للقديس ايريناوس نظرة لاهوتية متكاملة ، وبالتالي نظرة أخروية الى قضيتي الألم والشر . وهذه النظرة لا تتمركز حول الخطيئة الأصلية ، بل تجذبنا الى الأمل في المستقبل والنهاية الممجدة التي ستتم في ملكوت الله .
إن هذه الظرية الإريناوية تُعبر عن المعنى نفسه الذي نجده في نشيد عيد القيامة في الطقس الغربي : ((أيتها الخطيئة المباركة ) . ويؤكد النشيد أنه من خلال الشر والألم أتانا وسيأتينا خير عظيم . كما يؤكد أنه من خلال حياة وموت المسيح وقيامته اتخذ الألم صفة جديدة ودورا جديدا ووضعا جدبدا ، فالألم جزء لا يتجزأ من قصد الفداء الإلهي : (( إذا أراد أحد أن يتبعني فليتخل عن ذاته ويحمل صليبه ويتبعني )) (مر8-34) . فعلى من يريد أن يكون صديقا للمسيح أن يتشبه بسمعان القيرواني ، هذا الأفريقي الذي ساعد يسوع على حمل صليبه . وهكذا نبتعد عن المفهوم السابق ، والذي سيأخذ صيغة : (( أنت ابن الله من الدرجة الثانية )) . فالمشاركة في آلام المسيح تعلن أن المتألمين من أصدقاء يسوع وأحبائه معذورون ، هؤلاء الذين يتممون في أجسادهم ما ينقص من شدائد المسيح ، هؤلاء الذين عليهم أن يكتشفوا أن الوصول الى فرح القيامة مع المسيح لن يتم الا من خلال المرور بالجمعة العظيمة .
#سلطان_الرفاعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟