|
الاستلاب... آفة تغتال الوعي والإدراك
إيمان أحمد ونوس
الحوار المتمدن-العدد: 1945 - 2007 / 6 / 13 - 13:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الاستلاب عملية نفسية، الهدف منها تحويل وعي الإنسان والمجتمع إلى نقيض ما يجب أن يقدمه هذا الوعي لخدمة الإنسانية. ومن الواضح أن الصورة الثقافية المثالية لمجتمعنا اليوم بعيدة كل البعد عن الواقع بكل ما يعتمل فيه من تناقضات وأزمات اجتماعية تكاد تذهب بالبنية الأخلاقية للفرد والمجتمع على حد سواء. فنحن أقل تحضراً، وأقل وعياً مما نتظاهر به، وكذلك أقل عدلاً واستقامة، مع أننا نطالب بالاستقامة وننادي بالقيم الأخلاقية والروحية، في الوقت الذي نتصرف فيه بشكل فظ، ونتلمس المساواة والتكامل دون أن نطبق أياً من هذه المفاهيم والقيم في تعاملنا المادي والاجتماعي، وخصوصاً الجنسي(ذكر- أنثى) نحن في الواقع بالكاد بدأنا نتلمس طريق التطور باتجاهاته المتعددة. دون إغفال أن إحساسنا بالعظمة والقوة مستمد من التطورات والاكتشافات العلمية التي تحققت في العالم، والتي للأسف لم تساهم أبداً في تحسين طبيعة الإنسان الداخلية والروحية في وقتنا الراهن، بل على العكس قد تكون هذه الاكتشافات في أجزاء منها سبباً فيما يعاني منه إنسان اليوم. من هذا المنظور نحن بشر بدائيون- متحضرون، أطفال يركضون عبر دروب الحياة، يعبثون بالمحطات الفضائية، والرؤوس النووية، ويتفننون باختراع أحدث آلات الحروب والقتل والدمار تحت ذرائع ومسميات وشعارات ما أنزل الله بها من سلطان، بعيدة كل البعد عن مضمونها الحقيقي. والشعور المخادع بالعظمة والقوة الذي يولده العلم والتكنولوجيا، يشل قدرة الإنسان على النقد الذاتي ويطمسها، وبالتالي يمنعه من إدراك التناقض الهائل بين الشكل المقبول بصورة عامة للجنس البشري المتحضر، وبين الواقع المؤلم لعالم تسوده الحروب والصراعات، يتناثر فيه الموت جوعاً وحرباً وصراعاً، وأيضاً ممارسة الجريمة والعنف والإرهاب الذي يرخي بظلاله على الكون الإنساني في كل مكان. هذه هي سمة العصر الراهن في كثير من أرجاء المعمورة. إن استلاب الإنسان تجاه القيم والمفاهيم العصرية الحديثة، قد جرده من الإرادة وبُعد النظر الضروريين للتصرف بوعي، حيث أصبح السلوك الميكانيكي المقولب هو المعيار الذي يُفسد ملكات الإنسان العليا وقيمه الروحية والأخلاقية، ويمنعه من إدراك القيمة الحقيقية للإنسان وللأشياء، وبذات الوقت يمنعه من إدراك مدى استلابه. والاستلاب، حالة تخترق فيها وعي الإنسان معلومات غريبة ودخيلة، ليمارس سلوكيات غير معتادة تستحوذ على تفكيره وتعامله، فتجرده من إمكانية التخلص من تأثيراتها الشديدة. والخطورة في هذا الداء(الاستلاب) تكمن في أنه لا يمكن ملاحظة ذلك الاختراق والاستحواذ لأول وهلة في حياة الإنسان العادية واليومية، لأن طبيعة تكيفه تدفعه للمشاركة بصورة إلزامية في نشاطات يعتبرها المجتمع عادية وسوية، كالاستهلاكية بتأثير برامج الدعاية والإعلان للموضات والصرعات والمتغيرات المتلاحقة بشكل سريع جداً في سوق الاستهلاك. وهنا يكمن الخطر والضرر الحقيقي الذي يلحق بالسلامة الصحية والعقلية والنفسية عند الناس نتيجة للإشباع الذي تمارسه وسائل الإعلام والدعاية تلك، وإفراطها في أشكال الاتصال وتوجيه الناس في كافة أنحاء العالم إلى أنماط استهلاكية متشابهة، حيث يفقد هؤلاء المستهلكون رؤيتهم للمكانة الحقيقية التي يستحقها الكائن الإنساني عندما يستجيبون بدون إدراك لوسائل الاتصال المبتذلة أكثر مما يحاولون السيطرة عليها، ويركزون بدلاً من ذلك على الممتلكات المادية وصورة المظهر الخارجي والاعتناء بالجسد على حساب الروح والعقل وإعمال الفكر. وهذا الاتجاه في تقييم الناس من خلال ما يمتلكونه من إمكانيات مادية وسلطوية بدلاً من تقييمهم كما هم عليه في الحقيقة، يؤدي إلى اختلال بشع وفظ وسلبي للقيم والمفاهيم. فالأكثرية الساحقة من الناس باتت تقرن السعادة بالمنفعة والمصلحة الشخصية، وبمقدار ما يتم الحصول عليه من جاه ونفوذ مادي أو معنوي. وعلى الرغم من عدم وجود إجماع حقيقي حول مفاهيم القيم الإنسانية والروحية، إلاَ أن هناك اتفاقاً ضمنياً حول استهلاك سلع ومفاهيم وقيم متشابهة. إن أكبر تهديد يواجه العقل البشري هو(الاحتقان المعلوماتي) المتأتي من خلال الضخ اللامتناهي للمعلومات بشأن فرض العديد من التقانات والثقافات والسلع والأشياء المراد طرحها على الإنسان. ويُعزى هذا الاحتقان إلى عدم التناسب في نمو المعلومات العلمية والثقافية، واستمرار التهميش الحسي، خصوصاً حاستي السمع والبصر من خلال الأسلوب الساحر لوسائل الإعلان. إن كل هذه الأمور مجتمعة تؤدي لازدحام وعي الإنسان، وتعمل بنجاح لسد أفق هذا الوعي باستثناء اتجاهها، وهذا ما يسعى الإعلان لإنجازه بدقة كي يحقق أهدافه. فملايين البشر يتصرفون كالآلات وضمن ما يسمى بغريزة القطيع، حيث يبيعون ويشترون أحدث المنتجات والتقنيات لأن الرسائل الإعلانية التي تطغى على تفكيرهم بأسلوبها المشوق قد أقنعتهم بضرورة الشراء والاقتناء، وهم مستلبون كلياً تجاهها. كل ذلك يتم بطرق علمية نفسية ناجحة. فهناك أفلام مخصصة لشرح كيف يمكن أن يكون الإنسان ناجحاً في السرقة والاختلاس والهجوم وغيرها الكثير من تلك التي تعمل على تشتيت القيم الإنسانية والأخلاقية ، وبالتالي تشويه الإنسان والمجتمع من خلال ما تقدمه المثيرات البصرية والسمعية للمؤسسات الإعلامية والسينما والتلفزيون على أنه تسلية للناس في ذات الوقت الذي تعمل فيه على سرقة أغلى ما يملك الإنسان، وما هو أكثر عرضة للتأثر، ألاَ وهو ذات الإنسان وتفكيره، خصوصاً النقدي والتمييزي. إن عبادة المال والتسلق الاجتماعي، والتجارة السياسية، وحب الترف، واستهلاك المخدرات، والعنف والإرهاب، والبحث عن السلطة والجنس كنتاج استهلاكي، والصور الخلاعية والانحرافات الجنسية بكافة أنواعها. هذه كلها أشكال مختلفة للاستلاب الذي يستحوذ على تفكير الناس، توجهها عوامل خارجية تسحق وتشل إرادتها وعقلانيتها وتشتت مبدأ التمييز العقلاني لديها. ولا يمكن لهذا الاستلاب المقصود والمفروض على الإنسان أن ينجح لولا القصور العقلي والنفسي والثقافي، والذي يؤثر على المجتمع بقيمه وتفكيره ومسلكيته. وإذا كنَا نريد أن نحقق مستوىً أعلى من السيطرة على عقولنا، علينا أن نتحرر من محنة الاستلاب هذه من خلال حرية الفكر والوعي وتعزيز الثقافة الذاتية غير المتماهية والذائبة في ثقافة الآخر، وأيضاً من خلال احترام الذات وتقديرها، ورفض كل ما من شأنه أن يُحَقِرَ انتماءنا وأخلاقياتنا وثقافتنا وقيمنا.
#إيمان_أحمد_ونوس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار الأديان الثلاث بدمشق
-
نحن والسلطة.... والآخر
-
ما يكمن وراء ظاهرة الطلاق المبكر..؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
-
هل يعودون للوراء.. أم نحن نتقدم للأمام في عقوق القيم الاجتما
...
-
سيكولوجية المرأة العاملة
-
دوافع واهية ... وراء الزواج الثاني..!!؟؟؟
-
مفهوم الزواج... بين العرفي والاغتصاب
-
عام آخر... والعراق مازال يتوسد الموت.. ويلتحف الدجى- ملف الع
...
-
إشكاليات الزواج العصري
-
هل الإنسان مجرد فرد...!!!؟؟؟
-
لأجل أمومة حرة... وسعيدة
-
مقالة- إلى أرضٍ لا نستطيع مغادرتها... إلى أمي...
-
الحجاب.. اغتيال للعقل والأخلاق والطفولة
-
آذار احتفالية أنثوية
المزيد.....
-
ماذا فعلت الصين لمعرفة ما إذا كانت أمريكا تراقب -تجسسها-؟ شا
...
-
السعودية.. الأمن العام يعلن القبض على مواطن ويمنيين في الريا
...
-
-صدمة عميقة-.. شاهد ما قاله نتنياهو بعد العثور على جثة الحاخ
...
-
بعد مقتل إسرائيلي بالدولة.. أنور قرقاش: الإمارات ستبقى دار ا
...
-
مصر.. تحرك رسمي ضد صفحات المسؤولين والمشاهير المزيفة بمواقع
...
-
إيران: سنجري محادثات نووية وإقليمية مع فرنسا وألمانيا وبريطا
...
-
مصر.. السيسي يؤكد فتح صفحة جديدة بعد شطب 716 شخصا من قوائم ا
...
-
من هم الغرباء في أعمال منال الضويان في بينالي فينيسيا ؟
-
غارة إسرائيلية على بلدة شمسطار تحصد أرواح 17 لبنانيا بينهم أ
...
-
طهران تعلن إجراء محادثات نووية مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|