|
دور عدن: التركز الاقتصادي، اللا تركز السياسي وحكم السَّرَق
محمد القاهري
الحوار المتمدن-العدد: 1943 - 2007 / 6 / 11 - 12:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي مرت اليمن كغيرها من بلدان العالم الثالث بمنعطف تسارعت فيه نسبياً خطى التحول الاقتصادي والسياسي. حدث ذلك ضمن خيار للتطور الاقتصادي تولت فيه الدولة دور المحرك في التخطيط والتصنيع ومهمة توفير البني الأساسية والتعليم. على الصعيد السياسي ارتكزت السلطة على ماسمي بالشرعية الثورية أو الوطنية. وقد حدث أن تم تحقيق نمو اقتصادي ونوع من الامن على مدى العقدين. لكن لأن مسيرة تطور الشعوب تمر بمنعطفات متتالية فقد وجدت اليمن منذ مطلع التسعينات في منعطف جديد ولكن بدون خيار جديد واضح ومطابق لحاجة عبوره. ولو استخدمنا مجاز طريق السيارات فإن مسيرة التطور توجد أمام احتمالين إما الخروج عن المنعطف للوقوع في خطر (كما حدث في الصومال والعراق وغيرهما) أو التوقف عند المنعطف بما يعني ذلك من توقف حركة التطور وسيادة مناخ تتفاقم فيه شروط الأزمات.
من وجوه عديدة وضع اليمن الاقتصادي والسياسي الحالي شبيه بهذين الاحتمالين. فالنمو الاقتصادي الفعلي خارج قطاع النفط توقف تقريباً منذ بداية التسعينات. وبسبب جعل الوحدة والديموقراطية خيارين شكليين فقط فإن شرعية السلطة القائمة تآكلت واضطرب استقرارها عند المنعطف ليهيمن الفساد الذي يستنفذ الزاد الموجود كالنفط ويمارس التطفل على المستثمرين. غياب أو إهمال الخيارات التي تلائم منعطف التطور يبدو إشكالياًً مما يبرر طرح (او اعادة التذكير ب) خيار التركزالاقتصادي واللاتركز السياسي ضمن خيارات التطور القابلة للتحقق، وهو خيار يعتمد على دور رائد لمدينة عدن. التركز الاقتصادي مبرراته بعد النجاح النسبي الذي أشرنا إليه أعلاه دخلت اليمن في وضع مختلف الآن. فالدور الرئيسي في التنمية موكل إلى اقتصاد السوق حيث يعول على شركات وأفراد القطاع الخاص أن يساهموا بالحصة الرئيسية من الإستثمار. ونركز على الاستثمار باعتباره الوسيلة لتوظيف العمل والرأسمال وتوطين التكنولوجيا في سبيل تحقيق الإنتاج والرفاه وخلق إقتصاد سوق يمتلك مقومات التطور اللاحق. عملية التطور بهذه الطريقة تحتاج لإطارمادي وقانوني مكتمل حاضن لاقتصاد السوق وهو شيئ يفتقر إليه اليمن حالياً ولابد من إيجاده بسرعة. غير أن اليمن بلد فقير وبنيانه المؤسسي ضعيف ومنعدم في بعض الجوانب وسيصعب، مالياً و تنظيمياً، على الحكومة خلق هذا الإطار في كل أرجاء اليمن. لكن سيسهل عليها البدأ بعمل ذلك في نطاق جيوغرافي أضيق تتركز فيها الأنشطة الاقتصادية، من هنا يأتي مفهوم التركز الاقتصادي، وهو أثرى من نموذح المنطقة الحرة، ويمكن أن يغدو نموذجاً متكاملاً لتطور اليمن كماتدل آليات عمله التي نبرزها لاحقاً. الحكومة والناس عموماً يعرفون أن منطقة عدن تتوفر على ميزات مقارنة أفضل من غيرها مثل الميناء، موارد مياه كافية، موقع يُسَهِّل الوصول إلى السوق الداخلي والخارجي، تقاليد انفتاح وميل إلى استتباب الأمن والقانون والحريات...الخ. ويمكن أن تبدأ الحكومة بتوفير الإطار القانوني والمادي على نطاق منطقة عدن والذي سيجذب إليها عوامل الرأسمال والعمل والتجديدات التكنولوجية كمحرك لإطلاق مسيرة التطور الإقتصادي لليمن عموماً. الاطار القانوني يمكن أن تثبته السلطة المركزية أو سلطة محلية والمهم هو أن يوفر القواعد المؤسسية مثل الأمن، الادارة، الحريات، السياسات الضرائبية والضبطية المرنة الجاذبة لعوامل الانتاج والنمو. بالنسبة للاطار المادي، الحكومة المركزية ستكون أقدر في البداية على بناء الطرق، ووسائل الاتصال، الموانئ، الكهرباء في نطاق أضيق. ولو عادت المهمة الى الحكومة المحلية فإنها بسبب ميزاتها المقارنة ستتوفر على موارد كافية لعمل ذلك. إن خيار التركز ليس ضد المساواة بين المناطق لأن اليمن في البداية فقير وسيبقى كذلك إذا لم ينطلق به. زيادة على ذلك يمكننا أن نحقق ذلك بترك السلطة المحلية تطور هذه البنى من مواردها وبذلك لن نخفض منافع المناطق الأخرى وسنحافظ على الامثلية الاجتماعية. كما ان عملية التطور لن تتوقف على عدن حيث ستمتد لاحقاً إلى المناطق الأخرى عبر آليات العدوى، المنافسة، وانتقال عوامل الانتاج. امتداد التطور عملية حتمية لأن نموذج التركز يخضع لقانون الحدية (مثلاً : ارتفاع التكلفة العقارية، تكلفة المعيشة، عدم كفاءة الخدمات العامة والخاصة وإرتفاع التكلفة غير المباشرة مثل آثار التلوث والضجيج مع زيادة التركز). ويعنى ذلك أن مختلف العوامل، كرأس المال والعمل، ستستمر في التدفق إلى المنطقة حتى اللحظة التي سيبدأ مردود عملها بالتناقص، ثم ستنصرف إلى مناطق أخرى وغالباًً مايؤدي ذلك إلى التوسع في المناطق المحيطة ليشمل التطور في نهاية المطاف معظم أرجاء البلاد. تعريف التركز الاقتصادي التركز الإقتصادي يعني تجمع عدد كبير من السكان والأنشطة الاقتصادية الحديثة في نطاق جيوغرافي معين. نستخرج من هذا التعريف الابعاد التالية التي سندرك دلالتها لاحقاً. 1. كي يكون هناك تركز سكاني يجب ان تكون هناك كثافة سكانية عالية في الـ كم المربع. 2. كي يكون هناك تركزللانشطة الاقتصادية (صناعة، تجارة وخدمات) يجب أن يكون هناك عدد كبير من الشركات يتخذ من المنطقة مقراً رئيسياً له ويحقق فيها رقم اعمال عال. 3. الصفة حديثة في التعريف تعني بالظبط أن هذه الانشطة تستخدم التجديدات التكنولوجية وأن إناجيتها عالية. 4. هناك تركز إذا كان عدد الافراد العاملين في الانشطة الحديثة عالياً، هنا نستبعد التظخم السكاني بدون أنشطة حديثة والمميز لبعض الحواضر مثل القاهرة وساو باولو. كيف يلعب التركز الإقتصادي دوره الايجابي؟ من البداهة في الاقتصاد أنه كي يكون هناك تنمية او نمو يجب ان يكون هناك زيادات في الانتاجية، وكي يكون هناك زيادات في الانتاجية يجب ان يكون هناك تجديدات تكنولوجية وقوة عمل مؤهلة. يعول على التركز في حالتنا أن يساهم في الانتشار الواسع والسريع للتجديدات التكنولوجية وفي خلق شروط مؤسسية ومالية لتأهيل قوة العمل. التجديدات التكنولوجية هي في الاصل عبارة عن افكار ومعلومات ومخططات (صناعية وادارية) قابلة للانتقال بين الناس، ويتم انتقالها على شكل رسائل مما يعني وجود مرسل ومستقبل. وما يهمنا وراء هذا الجانب الفني او الاجرائي لعملية الانتقال هو اثرها الاقتصادي والتنظيمي (او المؤسسي). فعملية الاستقبال كوسيلة لاكتساب المعلومات لها شقين، فهي من ناحية عفوية (اي تحدث من خلال المخالطة والسماع والتكرار) ومن ناحية أخرى مقصودة (تحدث بواسطة بحث منهجي منظم). في الحالة العفوية يتم اكتساب المعلومات من طرف عدد واسع من الناس دون تكلفة مالية مباشرة مما يرفع مردودها الاقتصادي، في الحلة المقصودة العملية مكلفة وتتطلب وجود مؤسسات ابحاث متخصصة. وعليه فان اي بلد في بداية تطوره سيستفيد أكثر من الجانب العفوي.غير ان ذلك يتطلب وجود عدد كبير من المرسلين والمستقبلين وتردد او تكرر الرسائل بوتيرة عالية. التركز في حالتنا وبالابعاد البشرية والتكنولوجية التي اوردناها سابقاً هو الوسيلة الوحيدة لذلك. ومن وجهة النظر الاقتصادية الجوهرية لطرحنا فان التركزالعالي للعاملين في الانشطة الحديثة كما افترضنا اعلاه سيعني توسع قاعدة وعدد المستقبلين للتجديدات الشيئ الذي سيترجم بارتفاع انتاجيتهم ومن ثم تسارع وتوسع عملية التطور. أهمية اللامركزية السياسية الابعاد الاقتصادية للتركز اللتي اشرنا اليها اعلاه لايمكن ان تتجسد بشكل مستقل وانما تحتاج لاطار سياسي حاضن. المعرفة المتراكمة تبين ان النظم السياسية المركزية غالباً مااعاقت و-أودمرت مشاريع التحول ذات الجوهر الاقتصادي والتكنولوجي. وقد تتعدد دوافع ذلك ذاهبة من مجرد الممانعة لاعتبارات نفسية كأن يحز في نفس الساسة ان ياتي التجديد من الوسط الاقتصادي والتكنولوجي ويرفع من شأن افراده معنوياً، إلى الاعاقة عندما يشعر الساسة بأن التجديد يتطلب معرفة لايمتلكونها، الى المقاومة الشرسة والتخريب عندما ينظرون الى مشروع التحول كوسيلة لقلب ميزان القوى في غير صالحهم. والمميز لهذه الحالة هو ان الساسة يستخدمون السلطة عنوة كوسيلة وحيدة للكسب والاثراء غير المشروعين وهي حالة يصنف نظام الحكم فيها كـ"كليبتوقراطية" أي سلطة السّرَق. بالنسبة لهذه السلطة يغدوالحفاظ على ميزان القوى القائم مسألة حياة او موت ليس فقط للإبقاء على الامتيازات وانما للافلات من العقاب المحتمل. اللامركزية النافذة القرارات تقدم اذاً كحل، اذ تسمح بفضل آليات عديدة * بازالة او تخفيف المقاومة التي تصدر عادة عن سلطة مركزية. لكن السلطة التي تقاوم التركز الاقتصادي ستقاوم اللامركزية مما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة، وهو فعلاً حال اليمن. فمنطقة عدن الحرة لم تر النور منذ 1990 واللامركزية ظلت حبراً على ورق بينما كان يمكن على الاقل منحها لعدن مجاراة للضرورة الاقتصادية. غير ان ماحدث هو العكس، فالمقومات الاقتصادية لعدن مثل الاراضي والمباني والساحات العامة نهبت واثقل سكانها بتكاليف المعيشة والخدمات الضرورية، وغدت المدينة بامتياز اولى ضحايا الكلبتوقراطية بدلاًمن ان تكون طليعة تطور اليمن. وعليه فان الوفاء بشروط التركز الاقتصادي يمر عبر إرغام الكلبتوقراطية على سحب المعسكرات والمسئولين المعينين وترك عدن تنتخب قيادتها محلياً كما يكفل ذلك الدستور. ---------------------------------------. * في اوراق اخرى تطرقت الى بعض من هده الآليات. انظر: www.adenpress.com/modules.php?name=News&file=article&sid=58 www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=81227
#محمد_القاهري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن العلاقة بين النقابات والاحزاب والمجتمع المدني
-
عن القوالب الحضارية وتفعيل القالب اليساري
-
.عدم الاتساق في خطاب الدكتور أحمد صبحي منصور: ملاحظات
-
في الذكرى الخامسة لانطلاق الحوار المتمدن: مساهمة في فهم إشكا
...
-
تناقض الديمقراطية الغربية ماوراء البحار
-
في تعريف الفساد وسبل الحد منه: حالة اليمن
المزيد.....
-
بدولار واحد فقط.. قرية إيطالية تُغري الأمريكيين المستائين من
...
-
عوامل مغرية شجعت هؤلاء الأمريكيين على الانتقال إلى أوروبا بش
...
-
فُقد بالإمارات.. إسرائيل تعلن العثور على جثة المواطن الإسرائ
...
-
واتسآب يطلق خاصية تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص
-
بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل إسرائيلي في الإمارا
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام المختفي في الإمارات
-
هكذا يحوّل الاحتلال القدس إلى بيئة طاردة للفلسطينيين
-
هآرتس: كاهانا مسيحهم ونتنياهو حماره
-
-مخدرات-.. تفاصيل جديدة بشأن مهاجم السفارة الإسرائيلية في ال
...
-
كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|