|
السخرية في زمن الموت الباهت
حسن حمود الفرطوسي
الحوار المتمدن-العدد: 1943 - 2007 / 6 / 11 - 09:08
المحور:
حقوق الانسان
حين يكون الموت باهتاً وبلا هيبة ولا ناموس يشذب مراسيمه، تغدو السخرية وحدها من ينتشل المشهد من حضيضه .. السخرية وحدها وبلا منازع هي من تعيد توازن الاشياء وتضعها شاخصة أمام قلقها الحقيقي في لحظة انعدام أي منطق يلائمها . في بداية التسعينات من القرن الماضي وفي مخيم رفحاء الصحراوي للاجئين العراقيين والذي كان الاسلاميون قد سيطروا عليه تماماً " المجلس الأعلى للثورة الاسلامية وحزب الدعوة تحديداً " تحول كل شئ بفضل تلك الهيمنة الى جحيم تخطى جحيم تجربة الصحراء ذاتها واصطبغ كل شئ هناك بلون النواح ورائحة الخوف وسمة العتمة والسواد . ولأنه مخيم للاجئين وليس فيه ما يستحق الجهاد ضده، فكانت محلات الحلاقين ومحلات تأجير افلام الفيديو المتواضعة جدا والتي يتناسب تواضعها مع تواضع المكان كمخيم مغروس في صحراء، فكانت تلك المحلات هي الفرصة الوحيدة لممارسة عملياتهم الجهادية .. ذات مرّة كنت شاهداً على احدى تلك العمليات ( الجهادية ) التي نفذها خمسة ملثمين بسرعة خاطفة لا تتعدى الدقائق المعدودة، حيث دخلوا على احد محلات الفيديو وضربوا من في داخله بهراوات كانت بحوزتهم وأحرقوا المحل وتفرقوا بسرعة باتجاهات مختلفة، كانوا يعتبرون هذا النوع من العمليات بانها ( عنف مقدس ) لم يكن هناك رد فعل بمستوى الفعل نفسه من قبل اللاجئين تجاه هذا النوع من العنف بحكم طبيعة السلوك الجمعي اثناء غياب القانون لمواجهة من اتخذ من العنف سبيلا مقدساً للوصول الى الله، لكن السخرية و ( النكتة ) كانتا تمثلان ردة الفعل المخففة لما كان يجري، لأنهما يقعان في خانة ( لغو الكلام ) السرّي والمحدود والذي يواجه عادة ( بالحقد المقدّس ) الذي هو اقل وطأة من العنف المقدس . في صباح أحد الأعياد التي مرّت على عمر المخيم دون بهجة ولا روض يفتت جلد الصحراء المتكلس، رأيتهم يخرجون من المسجد على شكل مجاميع يلطمون على صدورهم، حتى خيّل اليّ باننا في اليوم العاشر من محرم الحرام .. سألت أحد جيراني عن سبب هذا العزاء ! فردّ ساخراً : - هذا عيد، بس شادّين له محرّك مال عاشور ؟! أخفيت ضحكتي وعدت الى خيمتي مسرعاً خوفاً من أن ينالني شيئاً من الحقد المقدّس والذي قد يتطوّر الى عنف مقدّس، خصوصاً في ذلك الصباح الذي كنت ابحث فيه عما هو مقدّس يخفف عن كاهلي وحشة المكان . وبعد أكثر من خمسة عشر عاماً من تلك التجربة المريرة، عادت بي الذاكرة وأنا أقرأ ما نقله الأخ الفاضل علي حسن السعدي في مقالة له بعنوان ( حفلة زفاف استفزازية ) نشرها على شبكة الانترنت جاء فيها المقطع التالي : " " قامت مجموعة من الشباب الطيّب في إحدى مناطق بغداد الحبيبة بتمثيل دور تأريخي لزفة عرس إعتبارية تهكما بالعناصر البليدة التي منعت حفلات الزواج واستخفافا بالحكومة التي سمحت لمثل هذه العناصر الموبوءة بالتدخل في حرية المواطن العراقي وتراثه الجميل فأحضرت سيارتين (بيكب) وثالثة نوع صالون مكشوفة , كانت إحدى سيارات البيكب تتقدم حفلة العرس وفيها ستة من الشباب يرتدون الملابس السوداء وفي يد كل واحد منهم حزمة من السلاسل ( الزنجيل ) وهم يضربون ظهورهم بتلك السلاسل , تليها سيارة العروسين المفتعلين (الصالون المكشوفة ) وفيها العريس وهو يقود السيارة وتجلس عروسه بجانبه ويجلس ثلاثة من الشباب خلف العروسين وهم يرتدون (الكفن) الأبيض وبيد كل واحد منهم قامة وهم يضربون رؤوسهم تمثيلا وقد صبغوا أكفانهم باللون الأحمر دليل الدم , أما السيارة الثالثة (البيكب) ففيها مجموعة من الشباب يلطمون فوق صدورهم بأيديهم وكانت السيارات بجمعها متشحة بالسواد ولم يعرف أحد أن ما شاهده هو عبارة عن حفلة زفاف إستفزازية للجماعات الأرهابية والحكومة المكتوفة الأيدي تجاهها فقط كانت بدلة العروس بيضاء كحال أية بدلة ترتديها العروس " " فهذا النوع من السخرية هو بحق يعد انبل واشجع سخرية مارسها الشعب العراقي ازاء ما يجري من عنف واضطهاد وتعسف بلغ أعلى مدياته، لأنها سخرية ليست من قوى الأظلام السياسي فحسب، بل هي سخرية من الموت نفسه وسخرية من كل هذا الخراب .. كما أن هذا السلوك التعسفي في قمع حريات الناس ليس نتاج التاسع من نيسان من العام 2003 كما يظن البعض وليس من مخلفات الاحتلال كما يدعي بعض المتواطئين مع تلك القوى الشريرة وانما هي تأسيس لثقافة عدوانية سبق ذلك التأريخ بزمن طويل . هذا التأسيس الذي تناوب عليه كل من المقبور صدام حسين من خلال حملته الايمانية التي استهدفت البنية الاخلاقية لعراقيي الداخل من جهة والأحزاب الاسلامية التي تبنّت نفس الحملة التي مارسوها على عراقيي الخارج من جهة اخرى وهذه هي نتيجة ذلك التأسيس الفاسد والتحالف المشؤوم بين شرور صدام وشرور الاحزاب الاسلامية .. لنعد الآن الى موضوع السخرية ، لان كل ما ذكرناه هو واضح وجلي ومعروف لكل ذي قلب وضمير ووجدان وبصيرة . ليس غريباً على العراقي أن يسخر من الموت أو يترفع عليه أو حتى أن يخجل منه .. نعم، يخجل منه احياناً .. الخجل من الموت هو اعلى مستويات السخرية منه .. حكى لي أحد الناجين من حادثة تحطم المركب ( سيفكس ) في مياه المحيط بين اندونيسيا واستراليا والذي كان يحمل على متنه بحدود ثلاثمئة وخمس وسبعين لاجئاً عراقياً حاولوا العبور الى الاراضي الاسترالية هرباً من جحيم الحياة في ايران والعراق والاردن في عام 2001 وقد التهم الموت اكثرهم وبقي قلّة منهم بين الحياة والموت .. ثلاثة اشخاص جمعهم الموج والقدر على لوح خشبي واحد، لوح خشبي من بقايا حطام المركب، كانوا رجلان وامرأة وكل منهم فقد زوجه واطفاله وكل ما لديه ، فكان اللوح الخشبي وسترة النجاة الوحيدة اثمن ما يملكون، ورغم ما كانوا يشعرون به من اعياء وتعب وارهاق فقد تعاون الرجلان لكي يرفعا المرأة ويصعدانها فوق اللوح الخشبي بعد ان منحاها سترة النجاة الوحيدة التي يمتلكونها، لانها كانت اكثرهم اعياءً وبقي الرجلان ممسكان باللوح الخشبي بينما بقي جسداهما مغموران في مياه المحيط المالحة .. بقي الثلاثة على هذا الحال لساعات طوال لا يتأملون ولا ينتظرون شيئاً سوى معجزة قد يشفق بها الله عليهم .. وحين وصل الاعياء اشده بأحد الرجلين الى الدرجة التي لم يعد بوسعه ان يتحمل أكثر فضلاً عن ان الاسماك بدأت تقضم بجسمه المرهق الذي لم يعد قادراً على الحراك لطردها، قرر ان يستسلم للموت، لم يكن صعباً عليه أن يستسلم للموت بقدر صعوبة الصمود بوجه الموقف، اذ لا يحتاج الموت الى أكثر من ان يطلق سراح يديه من التشبث باللوح الخشبي وحينها سيهوي جسده في قاع المحيط وينتهي كل شئ .. في تلك اللحظة قال لصديقه : - اودّ أن اقول لكما وداعاً، لم تعد في جسمي طاقة تجعلني أحتمل البقاء ! كان الجواب غير المتوقع وغير المألوف الذي جاءه من صديقه، يشكّل النقطة الأكثر قسوة والأكثر تراجيدية في حالتهم الحرجة برمتها، حيث قال له بلهجته البصرية : - أفا ! أفا عليك يا اخوي .. تتركني وحدي محتار بهاي المرأة المريضة وهي زوجة صديقنا الّي ما نعرف شنو مصيره ؟! عيب عليك تموت هسه ! فعظم عليه العيب في الموت وعكف عن قراره ..... وبعد أكثر من عشرين ساعة وهم على هذا الحال جاءت المعجزة بزورق صيد اندونيسي وانقذ منهم خمس واربعون شخصا فقط . المهم ان صاحبنا خجل من الموت في تلك اللحظة، بل ان الأول عيّره بالموت ! فشعب من هذا الطراز لا يموت ويبقى يسخر من الموت ومن القتلة والظالمين مهما تكالبت عليه جرائم البعثيين والاسلاميين وغيرهم .
#حسن_حمود_الفرطوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لو كان اصبعي اسلامياً لعالجته *
-
القديس المشاكس يقيم الصلاة على تخوم مدنه المقدسة
-
هوب ، هوب، طسّه .. صولاغ نايم بالقصر، ما ينسمع حسّه
-
دعوة مبكرة للتخلّي عن الهيكليات العسكرية الدينية
-
الرئيس الطالباني والفنان راسم الجميلي .. ماراثونات علي شيش
-
المشعل ... و 14 تموز المجيدة ... وصندوق ابي
-
نصل السكّين
المزيد.....
-
ماذا سيحدث الآن بعد إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت
...
-
ماذا قال الأعداء والأصدقاء و-الحياديون- في مذكرات اعتقال نتن
...
-
بايدن يدين بشدة مذكرات اعتقال نتنياهو وجالانت
-
رئيس وزراء ايرلندا: اوامر الجنائية الدولية باعتقال مسؤولين ا
...
-
بوليتيكو: -حقا صادم-.. جماعات حقوق الإنسان تنتقد قرار بايدن
...
-
منظمة حقوقية تشيد بمذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائي
...
-
بايدن يعلق على إصدار الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتني
...
-
وزير الدفاع الإيطالي: سيتعين علينا اعتقال نتنياهو وجالانت لأ
...
-
كندا تؤكد التزامها بقرار الجنائية الدولية بخصوص اعتقال نتنيا
...
-
بايدن يصدر بيانا بشأن مذكرات اعتقال نتانياهو وغالانت
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|