ما أن علمت خبر وفاة المناضل والقائد العمالي مصطفى عبد الغفار صباح يوم الجمعة 5/9/2003توجهت إلى مستشفى القوات المسلحة بالمعادى لنقل الجثمان من هناك إلى حلوان ، وكنت أظن أنى سأجد أهل الفقيد وبعض أصدقائه السياسيين وما أن وصلت ،حتى اكتشفت أنى آخر الذين وصلوا إليها حيث سبقنى الجميع إلى هناك ، وفوجئت بأربعة أتوبيسات كبيرة مكتظة بعمال الشركة التابعة لها و التى يرأس مصطفي لجنتها النقابية والذين حرصوا على مرافقته من المستشفى إلى مثواه الأخير وما أدهشنى هو وجود ما يقرب من ثلاثين عربية (ملاكى وأجرة) مكتظة أيضا بالعديد من السياسيين والنقابيين من مختلف الألوان والمشارب . وتوجهنا إلى مسجد أنس ابن مالك بعزبة الوابور بحلوان وهو المسجد المقابل لشركة مصر حلوان للغزل والنسيج وهى الشركة التي قدم لها مصطفي عمره وناضل مع عمالها من أجل حقوقهم النقابية والعمالية
هناك فقط أمام المسجد أيقنت أنى لم أكن أعرف هذا القائد العمالى الذى رحل عنا ،وأيقنت أيضا فداحة هذا المصاب حيث وجدت مئات من عمال حلوان من كل المصانع والشركات وعند خروج الجثمان من عربة نقل الموتى بدأ البكاء يعلو من الجميع واختلطت أصوات البكاء بأصوات قراءة القرآن والدعاء له
وقبل دخول الجثمان إلى المسجد تقدم أحد عمال المصنع ـ ويدعى الشيخ خلف ـ نزع علم مصر من فوق النعش فإذا بأحد العمال يصرخ (سيب العلم يا شيخ خلف) فيرد الشيخ خلف (سيبوه يقابل ربه بدون حواجز) ، فدخل الجثمان إلى المسجد بدون العلم ولم يعلق أحد فأيقنت أن كلاً منا كان يودع مصطفي بطريقته ، فتوجهت إلى الشيخ خلف وأخذت منه العلم واحتفظت به حتى نهاية الصلاة وما أن خرج من المسجد حتى وضعت العلم عليه ، وتوجهنا إلى مقابر 15 مايو حيث وجدت أتوبيسات الشركة قد زاد عددها إلى سبعة أتوبيسات وكذلك العربات الصغيرة قد زاد عددها إلى ما يقرب من خمس وأربعون عربة وتوجهنا خلفه فى موكب مهيب لم أشاهد مثله من قبل.
وما أن وصلنا إلى المقابر وتم إيداع الجثمان بها بدأ أحد المشايخ فى إلقاء خطبة فحرصت على أن أقف بالصفوف الأخيرة للمشيعين وبجوار الوجوه التى لا أعرفها حتى أستمع إلى تعليقاتهم فإذا بأحد العمال يحدث زميله (شوف الشركة كلها خرجت لمصطفى عمرى ما شفتهم عملوا كده مع حد تانى) فيرد عليه (مصطفى يستاهل هو اللى عمله شويه) وانتقلت إلى مكان آخر فإذا بأحد العمال يسبح ويدعو لمصطفى وبالقرب منه جاء أحد العمال ويدعى عم سيد وجدته يحتضن بعض العمال وعلمت من الحوار أنه كان من عمال الشركة وخرج على المعاش وعندما علم بوفاة مصطفى توجه إلى المسجد فلم يتمكن من اللحاق بنا فاستأجر عربية وجاء إلى المقابر فإذا بأحد العمال يقول له(0 ياعم سيد المشوار بعيد عليك كنت استنى للعزى) فيرد عليه (مصطفى كان راجل ودى أقل حاجة أعملها) ويرد عامل ثالث( شوف ياعم سيد بالرغم من أن مصطفى شيوعى بس كل مشايخ الشركة جم وراه) فيرد عم سيد (شيوعى شيوعى مصطفى أتحبس عشان كل دول وكان بيحاول يساعد الكل...)
فإذا بصوت الشيخ الذى كان يخطب يعلو بالدعاء للفقيد فينتبه إليه الجميع ويرددوا خلفه (آمين) وما أن انتهى منه أعلن أحد العمال أن ( العزاء بمقر اللجنة النقابية بتاعه الشركة فى شارع محمود خاطر ) ثم عامل أخر يعلن (اللى داخل القاهرة فيه أتوبيس هيودى الناس التحرير ورقمه فى الآخر 290)
ثم وجدت عمنا المناضل العمالى فتح الله محروس الذى جاء من الإسكندرية لتوديع مصطفى يتوجه نحو الأستاذة/ رحمة رفعت ليحتضنها ويخفف عنها فإذا به يبكى هو الآخر، وبدأ الجميع يتجه نحو الأتوبيسات والعربات للعودة وطوال الطريق أسأل نفسى لماذا كانت الصلاة فى مسجد أمام الشركة وليس أمام منزل مصطفى؟ لماذا كان سرادق العزاء باللجنة النقابية وليس بالمنقطة التى يعيش فيها مصطفى؟؟ ماذا فعل مصطفى حتى يقف الأستاذ/ على فتح الباب وهو من قيادات الأخوان المسلمين وعضو مجلس الشعب عن عمال حلوان ليخطب فى سرادق العزاء ويقول (أختلف أنا والفقيد فى توجهنا السياسى وفى أشياء أخرى إلا أننى لا أنكر دوره كأحد أهم قيادات حلوان النقابية والعمالية والسياسية فقد ضرب الفقيد المثل كيف يكون النضال من أجل مصر .....)؟؟
ماذا فعل مصطفى وجعل كل هذه الألوان والمشارب السياسية والنقابية والعمالية تحرص على وداعه حتى مثواه الأخير؟
فلم تكن جنازة مصطفى عبد الغفار مجرد جنازة عادية كانت موكب عرس وتظاهره سياسية عمالية ضرب فيها الفقيد المثل كيف يكون النضال …… وأعتقد أن المناضل والقائد العمالى وجه لنا رسالة تقول (إن عمال مصر مع من يصدقهم … لا مع من يتاجر بهم وأنهم قادرون على التفرقة بين هذا وذاك )
لن أتحدث عن مصطفى عبد الغفار فكل المتابعين للحركة العمالية والسياسة يعرفون من هو أكثر منى.لكننى أوضح للذين لا يعرفونه أن الفقيد كان أحد أهم قيادتنا العمالية والنقابية المعاصرة وله تاريخ نضالى (عمالى وسياسى) مشرف فاعتقل فى نهاية السبعينات ورفض المدعى الاشتراكى ترشيحه للجنة النقابية ولكنه فى نهاية المطاف أصبح رئيس لجنتها النقابية رغماً عنه ورغماً عن أمن الدولة وقيادات اتحاد العمال الرسمية ، كما شارك فى تأسيس وإدارة أول مركز للحقوق العمالية والنقابية فى مصر(دار الخدمات النقابية) وشارك فى تأسيس اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة الفلسطينية وقاد المظاهرات التى خرجت العام الماضى لتأييد حقوق الشعب الفلسطينى فى مدينة العريش عند إرسال قوافل اللجنة الشعبية وفى حلوان أيضا عند خروج المظاهرات في الشوارع ، كما ساهم فى تأسيس اللجنة القومية للدفاع عن حقوق العمال وكذلك اللجنة التنسيقية للحقوق والحريات النقابية والتى تأسست فى بداية انتخابات النقابات العمالية الأخيرة دورة 2001-2006 وكان صاحب أداء متميز فى هذه اللجنة وساهم فى توعية العمال بحقوقهم وكذلك فضح ممارسات وزارة القوى العاملة والاتحاد العام لنقابات العمال والتى كانت تهدر ديمقراطية العملية الانتخابية ،ولم يمنعه منصبه النقابى من مهاجمة قيادات التنظيم النقابي الرسمية التى أيدت قانون العمل الجديد وكان يعارضه وخرج فى تظاهرة إلى مجلس الشعب ودخل إلى المجلس بصحبة وفد من العمال وقابلوا رئيس المجلس وقدموا اعتراضاتهم على القانون ومقترحاتهم بالتعديل
وفي النهاية لم يسعنا غير القول بأن القائد والمناضل العمالى مصطفى عبد الغفار منذ معرفتى به ومشاهدتى لأدائه فى كل الفاعليات النقابية والعمالية والسياسية كان صاحب أداء نقابى وعمالى وسياسى متميزاً ومتفرداً.فلم يغلق أى باب للحوار ولم يقف عند القوالب الثابتة والجامدة ولم يكن حكراً على أحد فقد كان نموذج للأداء المنفتح والمستعد لتلقى كل الآراء لمناقشتها وبلورتها والمساهمة فى تنفيذها متى اقتنع بها مهما كان مصدرها مما جعله يكتسب حب وثقه الجميع .
خالد على عمر
محام