|
الله أكثر من أن يكون ماضياً فحسب
هوشنك بروكا
الحوار المتمدن-العدد: 1933 - 2007 / 6 / 1 - 11:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بين الحين والآخر يخرج علينا مصمموا الشرع النصوصي ومشتقاته، العرافون المختصون بماقبل الكلام وما بعده، وبما قبل أسباب ونتائج نزوله وما بعدها، بفتاويهم المفصلة تفصيلاً رجعياً مبيناً، فيثيرون من حولهم الكثير من ردود الأفعال، والزوابع الكلامية، والقال والقيل، فضلاً عن الرهط الكبير من الأسئلة الكبيرة والإجابات الصغيرة، المقفلة، الجاهزة والمصنّعة خصيصاً، لعبور كل زمانٍ، وكل مكانٍ وكل إنسان. هي فتاوى من كلامٍ مضى، أكل عليه الزمان (والمكان أيضاً) وشرب. هي فتاوى من عبادةٍ مضت، يركبونها شيوخ ماضون، يعيشون وإياها في "ماضٍ مستمر"، وفي زمان نصوص باتت في خبر كان وشقيقاتها الماضيات السالفات.
فما تاريخ الإفتاء من أوله إلى آخر فتوى حللت "رضاعة الكبير" على سنة الله ورسوله، حسبما ذهب إليها د. عزت عطية رئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، مروراً بدزينات الفتاوى "الكاملة المكملة" لشيخ الإفتاء الأكبر المعروف بشيخ الإسلام ابن تيمية المتوفي سنة 728ه/1328م ، كل هذه التركة الثقيلة من الفتاوى و"الفتاوى المضادة" ما هي في المنتهى، إلا تاريخٌ للنص المقفل الذي وقع في زمانٍ ومكانٍ مقفلين مضَيا.
فهذا المفتي يحرم "الإستمناء أو ونكاح اليد "، استناداً إلى نصوصٍ من القرآن: "وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ"؛ و"وَالذِّينَ هُم لِفُروجِهمْ حَفِظُون & إِلا عَلى أَزوجِهِمْ أَو مَا مَلكَت أَيمنُهمْ فَإنهمْ غَير مَلومِين & و"فَمنِ ابتَغَى ورآءَ ذَلِك فَأولئكْ هُم العَادُونَ"(المؤمنون5،6،7:23)، وكذا الحديث: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، فإن لم يستطع فعلية بالصوم فإنه له رجاء"/حديث صحيح(يُنظر مثلاً فتاوي اللجنة الدائمة حول العادة السرية & الفتاوى رقم 1376 ، 4470، 3788، 3201، 6412، الصادرة عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية)
وذاك يفتي بتحريم المرأة ترشيح نفسها ودخولها مجالس البلديات أو النواب أو الشيوخ أو الشورى ونحو ذلك، "لأن الإسلام منعها من الأذان العام ، وإمامة الرجال للصلاة ، والإمامة العامة للمسلمين ، وولاية القضاء بين الناس ، وأثَّم من يوليها ، بل حكم ببطلان قضائها على ما ذهب إليه جمهور الأئمة ، ومنع المرأة من ولاية الحروب وقيادة الجيوش ، ولم يبح لها من معونة الجيش إلا ما يتفق وحرمة أنوثتها"(المفتى فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية ، 7/1513، 1515). وحجتهم في منع وحظر وتحريم الإمامة، أو الرئاسة، أو القيادة على المرأة هي لكون هذا الحق "لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة إباحة تولي المرأة لأية ولاية عامة ، والانتخابات والترشيح لها من الولايات العامة ، كما لم ترد إباحة الانتخابات لهن ، لا في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولا في سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم’ بل نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تولي المرأة أية ولاية عامة في قوله: "ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"/ حديث صحيح(أحمد بن محمد جعفري: http://saaid.net/female/f16.htm ). وعليه تم تحريم المرأة على "سنة الله ونبيه العربي"، وفقاً لقراءات "فقهاء الظلام" وأحكامهم الرجعية، من كل القيادة في الدين والدنيا، بما فيها قيادتها للسيارة "لأن قيادة المرأة للسيارة تؤدي إلى مفاسد كثيرة وعواقب وخيمة"، حسبما جاء في فتوى الشيخ ابن باز الرئيس العام في ذلك الوقت لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في السعودية(أكتوبر 1990). وهناك من أحصى هذه المفاسد "الكثيرة والخطيرة" على "الدين الدولة والمجتمع"، بالقول أن "المفاسد المترتـبة على قيادة المرأة للسيارة ، تصل إلى العشرين مفسدة"(راجي رحمة ربه الغفور & ماجد بن سليمان الرسي: عشرون مفسدة من مفاسد قيادة المرأة للسيارة، 1426ه/2005م). وقد أثارت هذه القضية جدلاً واسعاً، في الأوساط الإسلامية، ولا يزال الإختلاف في الحكم عليها، جارياً على قدمٍ وساق، بين محلّلين ومحرِّمين، رغم حسمها جزئياً، وذلك بربطها بحكم "المطلب الشعبي"، حين قُرر: "متى طلب منا الآباء والأزواج والاخوان أن المرأة تسوق ننظر في ذلك.. وإذا هم يطلبون عكس ذلك نحن ما نجبرهم عليه"(الأمير سلطان بن عبدالعزيز، جريدة الرياض، 29 ديسمبر 2005).
أما آخرون فأفتوا بتحريم الإستماع إلى الموسيقى ومشاهدة التلفزيون لأن "الغناء ينبت النفاق في القلب واستماع الغناء من لهو الحديث والركون إليه". وقد قال الله تعالى "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين". قال ابن مسعود في تفسير الآية : والله الذي لا إله إلا هو، إنه الغناء وتفسير الصحابي حجة وهو في المرتبة الثالثة في التفسير . ثم إن الاستماع إلى الأغاني والموسيقى وقوع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف". يعني يستحلون الزنا والخمر والحرير وهم رجال لا يجوز لهم لبس الحرير،والمعازف هي آلة اللهو / رواه البخاري من حديث أبي مالك الأشعري أو أبي عامر الأشعري"(فتوى لابن عثيمين).
وعلى ذات الشرع وذات السنة، حُكم على الرجال ب"أن يمنعوا هؤلاء النساء من السير وراء الموضات الحادثة (موضات الكوافير) التي أراد بها محدثوها وجالبوها إلينا أن ننسى الله عزّ وجلّ، وأن ننسى ما خلقنا له ،وأن لا يكون همنا إلا التثبت بهذه الأشياء والافتتان بهذه الأزياء التي لاتجرّ إلينا إلا البلاء والشر والفساد ، وكون الإنسان لايهمه في هذه الحياة إلا أن يشبع رغبته من شهوة فرجه وبطنه... قال الله عزّ وجلّ: ولا تتبعوا أهواء قوم ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل/سورة المائدة ،الآية :77 ؛ وقال الله عزّ وجلّ :يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق/ سورة الممتحنة ،الآية :1 ؛ وقال تعالى :يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين/ سورة المائدة ، الآية :51، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر وقال: من تشبه بقوم فهو منهم ". "(ابن عثيمين: فتاوى ورسائل الأفراح، ص27:36) .
أما شيخ "الجزيرة" الفضائي يوسف القرضاوي فقد حدد في فتوىً له لباس المرأة المسلمة في حدودٍ أربعة: "1. أن يغطي جميع الجسم عدا ما استثناه القرآن الكريم في قوله: إلا ما ظهر منها. 2. ألاّ يشف الثوب ويصف ما تحته. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أهل النار نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها. 3. ألا يكون لباسا يختص به الرجال. 4. ألا يحدد أجزاء الجسم ويبرز مفاتنه، وإن لم يكن رقيقا شفافا. فإن الثياب التي ترمينا بها حضارة الغرب، قد تكون غير شفافة، ولكنها تحدد أجزاء الجسم.(...) وقد قام التشريع الإسلامي في هذا الجانب على سد الذرائع إلى الفساد، وإغلاق الأبواب التي تهب منها رياح الفتنة كالخلوة والتبرج، كما قام على اليسر ودفع الحرج والعنت بإباحة ما لا بد من إباحته استجابة لضرورات الحياة، وحاجات التعامل بين الناس كإبداء الزينة الظاهرة للمرأة. مع أمر الرجال والنساء جميعا بالغض من الأبصار، وحفظ الفروج: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم، وقل للمؤمنات أن يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين من زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن"(القرضاوي 21.03.07). وهذه الفتوى التي تحكم ب"سجن" جسد المرأة و"زجه" في "لباس شرعي" مفصّل، منذ أكثر من أربعة عشر قرنٍ من الزمان ، يكاد يجمع عليها كل جهات الإفتاء والمشيخات الإسلامية، على اختلاف مشاربها.
لا شك أن هناك آلاف مؤلفة من هذه الفتاوى وأخواتها المبثوثات في فضاءات الله "المسلمة". ولكني سأكتفي بهذا البعض "الرجعي" المثبت بما يكفي من الأسانيد ومن الكلام الهارب إلى نصوصٍ كانت تاريخاً ومضت.
الفتوى لغةً هي الجواب عما يشكل من المسائل الشرعية والقانونية(قاموس المحيط). وفي لسان العرب يقال:" أفتيت فلاناً رؤيا رآها إذا عَبَرتها له وأفتيته في مسألة إذا أجبته عنها". أما الفتوى في الإصطلاح الفقهي فتعني " إخبار بحكم الله تعالى عن الوقائع بدليل شرعي"(إبن حمدان: صفة الفتوى والمستفتي، ص4). والفتوى تعتمد في حكمها على القرآن والسنة. جاء في الحديث: "وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ"(أخرجه الدارمي 2 / 161 . وحسنه النووي والسيوطي). وللفتوى في القرآن شأن عظيم، كما في قوله تعالى: "يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ"(النساء: 176)؛ "فَاستفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا"(الصافات: اا)؛ "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون"(النحل:44 ).
بحسب المصادر الإسلامية بجهاتها المختلفة، فإن المفتي هو "خليفة الرسول" للفصل في حكم الله. فهو، إذن، "الخليفة الشرعي" المختص في صناعة الأحكام من الكلام القديم(كلام الله+كلام الرسول). والعالم على حد قول ابن المنكدر هو "موقع بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم". وعليه فإن "المفتي يجب عليه اتباع الأدلة بعد استقرائها، ويخبر الخلائق بما ظهر له منها"(القرافي: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، اعتنى به عبدالفتاح أبوغدة، مكتب المطبوعات الإسلامية ،ط2، حلب، 1416هـ، ص43). و"المفتي مع الله تعالى كالمترجم مع القاضي ينقل ما وجده عن القاضي واستفاده منه بإشارة أو بعبارة أو فعل أو تقرير أو ترك"(القرافي: الفروق، ضبط وتصحيح خليل المنصور، دار الكتب العلمية، ط1 ـ 1418هـ، ، 4/120). فالفتوى يكاد يُجمع عليها في كونها "إخباراً محضاً عن الله تعالى".
ولكن السؤال الذي يطرح بنفسه، ههنا، كما عند كل فتوى، هو: مالحكمة الأرضية أو السماوية، الفيزيقية أو الميتافيزيقية، البشرية أو الفوقبشرية، الآدمية أو الإلهية من تحويل النصوص الدينية ومخطوطات الله وأنبيائه إلى غيتوهات لأسر الله وعباده فيها؟
لماذا عبادة الله وهو الخالق الواسع اللامحدود، هكذا "محدوداً" و"أسيراً"، في كلامه القديم، المخلوق، في زمانٍ ومكانٍ ضيقين محددين؟ لماذا الدعوة السلفية إلى قراءة الله وعبادته وكأنه بات إلهاً ماضياً خلفنا، بدلاً من أن يكون إلهاً مستقبلاً أمامنا؟ أليس من المعقولية بمكان، أن نسعى إلى كلام "الله الأمام"، بدلاً من الرجوع إلى "الله الخلف"؟...فهل يمكن لله المستمر ولله المستغرق في كل الزمان وكل المكان أن يكون "رجعياً" محبوساً في "كلامٍ رجعي"، إلى هذا الحد الذي يُفتى بسنته في جهات الإفتاء ودورها الرجعية، كما نقرأ ونسمع ونشاهد بين كلّ حينٍ وآخر؟ لماذا كل هذا الإرهاب النصوصي لجعل الله، هكذا محدوداً في كلامه، الذي كان، وكتابه الذي كان، وبعض سمواته التي كانت؟ أليس الله هو أوسع من كلامه وأكبر منه؟ أليست كتبه أو مخطوطاته جزءاً أو بعضاً يسيراً منه ومن كلامه الكبير الكثير؟ هل يعقل أن يسكن الله في كتابٍ واحدٍ أحد أو في بضع مخطوطات "سماوية" كانت وأصبحت تاريخاً؟ ألا يعني القول بالكتاب الخاتمة والكلام الخاتمة والنزول الخاتمة، خاتمةً لله أو نهايةً لتاريخه، على بعض مستوىً؟ لماذا كل هذا الإصرار على تحويل كلام الله إلى نص خارج تاريخي أو لا تاريخي؟ ألم تكن لكل مخطوطات الله أسباباً محددةً(كأسباب النزول مثلاً)، وسياقاتٍ محددة، وبشراً محددين، وأمكنةً وأزمنةً محددةً ل"نزولها"؟ كم من كلام الله الذي كان والأزمنة والأمكنة والأسماء التي كانتها، يمكن لها أن تكون اليوم؟ فهل يمكن للإبل مثلاً(مع أسباب وروده) في ذاك الكلام الذي كان، أن يكون قطاراً في كلام اليوم؟ هل يمكن أن يكون "البوراق" الماضي، صاروخاً راهناً مثلاً؟ هل يُعقل للخليفة الماضي أن يكون مرجعيةً للحكم الراهن، في خلافةٍ راهنةٍ، كما يذهب إليه دعاة "الإسلام هو الحل"؟ ما العقل في أن يحكم النساء الراهنات، بعد أكثر من أربعة عشر قرنٍ من الزمان، بأحكام النساء الماضيات اللواتي أصبحن في خانة حكم التاريخ الماضي، والمجتمع الماضي، والتقاليد الماضية؟ أين الحكمة "الإلهية" في تصدير حروب دولةٍ كانت لرسولٍ أو أمير كان، إلى الدولة المدنية الراهنة، التي يجب أن يكون فيها "مالله لله وما لقيصرٍ لقيصر"؟ لماذا كل هذا "الإرهاب النصوصي" وكل هذا "اللي للأعناق"، لأجل "فرض" الله على عباده(سواء شاؤوا أم أبوا)، فرضاً مبيناً، وبالتالي إدخالهم في غيتوهات عبادته خوفاً منه لا حباً فيه، وكرهاً لا طواعيةً؟...أولم يرد في البعض من كلامه التاريخي الكبير "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"(الكهف29:18) & "لكم دينكم ولي دين"(الكافرون 6:109)؟ ما العدل الإلهي في أن تغزو جماعات الله وأنصاره وجيوشه وكتائبه وقواعده، مدججةً بتاريخ غزوة "تبوك" أو "بدر"، أو "أحد" أو "بني قينقاع" أو أية غزوةٍ أخرى راحت ومضت، مالعدل في أن تغزو تلك الطوابير المسلحة بثقافةٍ كانت، تحت يافطة "الإنتقام لله"، تاريخ الآن، ومدن الآن، وثقافة الآن، وقبائل وشعوب الآن؟ هل يعقل "أنفلة" بشر اليوم وأنفلة زمانهم ومكانهم الراهنين، ب"أنفال" تاريخٍ كان، وانتقامٍ كان، وكلامٍ كان؟ فهل من إلهٍ يرضى ب"انتقامٍ بشري" محض له ولدينه؟ أوليس الله "رحماناً رحيماً"، و"عزيزاً حكيماً"، و"غفوراً كريماً"؟ هل يمكن لله الواسع أن يكون إلهاً ل"خير أمةٍ أخرجت للناس"، وهو الذي "خلق كل الناس من ذكرٍ وأنثى، وجعلهم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمهم عند الله أتقاهم"؟ ماعلاقة السماء ومخطوطاته وبالتالي الفتاوى المترتبة عليها بأحوالٍ هي محض أرضية، باتت تدخل في صميم الحريات الفردية؟ لماذا كل هذا الجهاد وهذا العنف ل"تزوير" العبادة ومسخها من شأن فردي وعلاقة فردية بين الخالق ومخلوقه، إلى شأن جماعي وعلاقة بالجملة؟ فماذا سينقص(أو يزيد) من الدين والله وذكرهما مثلاً، لو مارس "المؤمن"(أو عكسه) "نكاح اليد"، ولبست المرأة ماتشاء وتزينت بما تشاء وقصت شعرها كما تشاء، وتمكيَجت بما تشاء، وساقت السيارة، ودخلت معركة الإنتخابات، وقادت الدولة والمجتمع، وعاشت مالها وما عليها كنصف مجتمعٍ(بدلاً من نصف عقلٍ ونصف دين)، كمواطنة متساوية الحقوق والواجبات أسوةً بالنصف الآخر، كما تشاء؟ ما الحكمة في أن يتزوج "مؤمن" اليوم، وأن يمارس الجنس ويختلي بالنساء، على طريقة زاوج النبي وصحابته وآل بيته، وطريقة ممارستهم للجنس واختلائهم بنسائهم، قبل أكثر من 1400 سنة؟ كيف لعقلٍ أن يتقبل كلاماً دينياً يصنع من "بول الجمل" دواءً؟ وما العقلٍ في أن يشرب الصحابة من "بول" نبيهم، "مؤمنين مطواعين"، تيمناً به؟ ألم تمضي دولة الرسول وخلفائه إلى الزمان القديم، والحكم القديم، والكلام القديم، بعد أكثر من أربعة عشر قرنٍ من الزمان وأحواله؟ كيف يمكن تصدير مجتمع زمان "يثرب" إلى مجتمع زمان الحاسوب والإنترنت؟ تأسيساً على كل ما سبق، يمكن القول: أن الفتوى أساً وأساساً، بمفهومها ك"إخبارٍ بحكم الله"، وسبلها ووسائلها وأدواتها وغاياتها ومقاصدها وأسبابها ونتائجها، باتت أكثر من"موضة" قديمة ومتخلفة عن ركب حضارة الله المفتوحة، في هذا الزمان المفتوح، والدين المفتوح، والعبادة المفتوحة. الفتوى هي، بالتالي، "إخبار رجعي" بحكمٍ كان، بدلاً من حكمٍ يجب أن يكون. فهي ومشتقاتها، بتوابعها ومتبوعاتها، والحال هذه، تقتل الدين بدلاً من أن تحييه، وتغلق النص القديم بدلاً من أن تفتحه، وتكرس ل"الله في كلامه الماضي" بدلاً من التكريس ل"الله في كلامه الحاضر والمستقبل".
والحال، فإنّ الفتوى، متناً وهامشاً، بالإضافة إلى كل ما من شأنه أن يساهم في التأسيس لكلام الله، باعتباره كلاماً مقفلاً، هي محاولة رجعية يائسة، لأسر "حكم الأرض" ومغاليقه في "حكم السماء"، وأسر الإنسان في "غيتوهات" الله، بدلاً من تحريره به وفيه.
تاريخ الدين/ كل الدين، الذي هو في المنتهى "تاريخ لله"، يشهد بأنّ كل كلام الله كان كلاماً تاريخياً، أي كان كلاماً خارجاً من فم الله، في زمانٍ ومكانٍ محددين، لناسٍ محددين تاريخياً.
فكيف لكلامٍ تاريخيٍّ "نزل" لأسبابٍ محددةٍ، في شئونٍ محددةٍ، زماناً ومكاناً، أن يكون "حكماً" مستمراً لليوم، وأسباب "نزوله" قد زالت وانمحت؟
هذه السطور، بالطبع، ليست محاولة لإلغاء "كلام" الله، أو شطبه، كما قد يُعتقد، وأنما هي محاولة لتحييده تاريخياً، وذلك من خلال قراءته، ك"كلام تاريخي" مؤسس لزمان ومكان تاريخيين، أقام فيهما عبادٌ أو أناسٌ تاريخيون. إنّ القول ب"تاريخية" كلام الله، يعني أن الله أوسع من الكلام، أي هو الواسع الذي لا تسعه النصوص والكتب والمخطوطات واللغات، سماويةً كانت أم أرضيةً. فأي "حقٍ سماوي" هو الذي نعطيه لأنفسنا، كي نقفل به كلامه الكبير الكثير، أو نغلق كتاباً بعينه أو نصاً محدوداً بعينه عليه؟
القول ب"تاريخية" كلام الله، يعني أن الله أكبر من كلامه، فهو كان ويكون وسيكون. القول ب"تاريخية" كلام الله، يعني أن الله يستمر ويتجدد ويتجاوز القديم من الكلام/ قديمه وقديمنا، قديم السموات وقديم الأرضين. القول ب"تاريخية" كلام الله، يعني أن الله حرٌ مفتوح، ولا يمكن "سجنه" في غيتوهات كلامٍ تاريخيٍّ، أو كتابٍ، أو دينٍ محددٍ ومحصنٍ بعينه. القول ب"تاريخية" كلام الله، يعني أننا نتجدد ونتحرر في الله وفي حريته المستمرة العابرة للماضي إلى الحاضر والمستقبل، بقدر ما نسعى إلى تجديده تحريره فينا. القول ب"الكلام التاريخ" لله، يعني أن الله ليس ماضياً فحسب، وأنما هو زمان كبير كثير: ماضي وحاضر ومستقبل كثير، وحرية كثيرة لإنسانٍ أكثر.
#هوشنك_بروكا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كاسك يا غوار الطوشة
-
بعض سؤالٍ برسم رئيس برلمان كردستان
-
العربية نت في فخ الخطاب التفخيخي
-
حاذروا -بغددة- كردستان
-
كفاكم احتلالاً وطنياً: لكم بعثكم ولسوريانا دين!
-
القتل -الشريف-!!!
-
علماء في ذمة السكوت
-
كردستان العراق برسم الفتنة!
-
الإسلام فضاء عروبي فصيح , ليس للأعجمي فيه محل من
الإعراب -
...
المزيد.....
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|