نائب الرئيس ومسئول العلاقات السياسية
بالمنبر الديمقراطي التقدمي- البحرين
يمتاز أهل الجزر بشكل عام بطيبة قلبهم وانفتاحهم على الآخر لسبب بسيط وهو أن الجزر بطبيعتها تكون مرفأ لعبور مختلف الأجناس والثقافات منهم من يحط رحاله إن وجد طيب الإقامة ومنهم من يشد الرحال بعد حين. لذلك تكون طبيعة هذه المجتمعات منفتحة ومتعددة الثقافات بسبب التلاقح الذي يتم بين أهل الجزر الأصليين والوافدين.
وشعب البحرين أحد هذه الشعوب الجزيرية التي تمتاز بالطيبة والتسامح لأبعد الحدود حيث كانت البحرين منذ القدم محطة وميناء مهم وكانت محط انجذاب للآخرين منذ أيام دلمون إلى العصر الراهن، ولنا في أسطورة جلجامش ورحلة البحث عن زهرة الخلود في دلمون ومجموع القبور الأثرية نموذجاً لذلك التأثير والتجاذب. فشعبنا، ومنذ القدم، متكافل ومضياف، وقد ظلت هذه الخصال كامنة فيه برغم ما شاب المجتمع من سيادة قيم الفردية والأنانية. ولا يستطيع أحد أن ينسى كيف فزع شعب البحرين إبان كارثة تحطم الطائرة التابعة لطيران الخليج حين هبت الناس لمواساة المكلومين دون أن يعرفوهم وكان المعزون ينتقلون جموعاً بالعشرات من مقبرة لأخرى ومن مأتم إلى آخر لتقديم التعازي لأهالي ضحاياالطائرة المنكوبة.
لقد قدمت الناس نموذجاً حياً لهذه الطيبة وأثبت الشعب بأن قلبه كبير، والتفت حول الملك منذ انطلاق الحملة الإصلاحية مروراً بالتصويت على ميثاق العمل الوطني حيث قدم الشعب مثلاً رائعاً عن تطلعه للأمام وكيف أن الشعب البحريني مستعد للتسامي على الجروح والنظر للمستقبل، وكان أهالي سترة الذين كادوا أن يحملوا سيارة الملك على أكتافهم من الفرح بسبب الانفراج الذي حصل هم أنفسهم الذين كانوا في المظاهرات الاحتجاجية التي كانت تطالب بعودة الحياة النيابية وتفعيل الدستور قبل ذلك لسنوات.
ومنذ انطلاق هذه المسيرة الإصلاحية تحققت على الأرض العديد من المنجزات إذ تم تبييض السجون وعاد المنفيين من منافيهم وتم تأسيس المجالس البلدية وعادت الحياة النيابية برغم بعض التحفظات الجوهرية فيما يتعلق بصلاحيات المجالس البلدية والبرلمان، كما تم تحقيق تقدم حقيقي في مجال حقوق الإنسان والحريات. ولكن الواقع يشير إلى أن هذا الوهج قد بدأ يخفت وأن المشروع الإصلاحي قد بدأ يفقد جذوته حيث يجري الالتفاف على الكثير من المكتسبات ولا زالت الكثير من الملفات عالقة دون أن يجد المواطنين خطوات عملية لحلها كقضايا البطالة والإسكان والتعليم والفساد المالي والإداري وتكافؤ الفرص والمساواة في التعيينات الإدارية والوظيفية في كافة أجهزة الدولة بصيغة لا طائفية ومسألة استمرار التجنيس العشوائي والمشاكل الصحية والبيئية وغيرها من الملفات التي تطرح نفسها بإلحاح وتتطلب حلولاً ناجعة تجتثها من الجذور.
إحدى هذه الملفات التي بحاجة لمعالجة جادة والتي قد تكون إحدى المداخل الحقيقية لإعادة الجذوة للمشروع الإصلاحي هي مسألة الشهداء وضحايا التعذيب، إذ أن للمسألة أبعاد وتبعات إنسانية ونفسية واجتماعية وسياسية وحتى اقتصادية. بات مطلوب غلق هذا الملف ولكن السؤال الذي يتبادر للذهن هو كيف يمكننا القيام بذلك؟ لا شك أن الأمر صعب لمن فقدت زوجها وعانت الأمرين من فقد الزوج والحبيب وحمل كاهل تربية الأبناء، كذلك الحال لذلك الابن أو الابنة التي لم تشعر بحنان الأبوة ولم تعرف والدها إلا من خلال الصور وما تسمعه من أمها أو من الأهل والأصدقاء. ناهيك عن معاناة تلك الأم الثكلى وذلك الوالد الذي وارى جثمان ابنه الثرى، ومعاناة من لا يزال على قيد الحياة وقد تسبب ما تعرض له من قسوة المعاملة بعاهة جسدية أو ذهنية حيث لا يزال بعضهم يتلقى العلاج من هول ما تعرض له ورآه من مناظر. كيف ينسى ذلك الذي فقد عزيز عليه وهو رهن الاعتقال ومنعته ظروف السجن من حضور الجنازة؟ ثم ما جريرة ذلك الذي تعرض للنفي والتشريد وعاش خارج الوطن لسنوات عديدة محروم من رؤية الأهل والأحبة؟ قس على ذلك أمثلة ومآسى كثيرة تدمع لها المآقي.
لقد جمعت اللجنة الوطنية للشهداء وضحايا التعذيب توقيعات 33 ألف من أبناء البحرين على عريضة شعبية تطالب بوضع حل عادل ومنصف حسب ما ورد في دستور البلاد وميثاق العمل الوطني والقوانين والمعاهدات الدولية، وهذه مسألة ومؤشر من المهم الالتفات إليه، فهو يدل من جهة على حجم التعاطف الشعبي الذي تحظى به هذه القضية ويدل من جهة أخرى على أهمية أن يتم غلق هذا الملف. لا تحل القضية بجرة قلم بل بمجموعة إجراءات يتم بموجبها تطييب الخواطر وتهدئة النفوس وطي الملفات ومعها الحقبة السابقة إلى الأبد.
من الإنصاف القول بأن العريضة الشعبية لم تطالب بالقصاص من مرتكبي جرائم التعذيب ولم يكن هذا الغرض أو الدافع وراء البدء بها من الأساس ولكنها طالبت بأن يتم حل الموضوع بصورة مرضية وعادلة تعيد لمن أصابه الأذى كرامته وحقه الذي تم هدره. ولنا في تجارب الدول التي مرت بظروف مشابهة دروس وعبر في كيفية حل هذه المعضلة وتحقيق مصالحة وطنية ترضي جميع الأطراف وتنهي القضية.
في جنوب أفريقيا- حسب علمي- كانت تعقد المحاكمات لمرتكبي جرائم التعذيب وتتم الإدانة ثم يصدر قراراً بالعفو برضا الضحية حيث تغفر الضحية عن الجلاد ويتم غلق الملف وهكذا. أما في المملكة المغربية فقد تم تطبيق نظام مختلف لتحقيق المصالحة الوطنية إذ تم حصر الضحايا وتوزيعهم على فئات ودرجات مختلفة بحسب السنوات ودرجات الضرر وتم صرف التعويضات على المتضررين وأسرهم كشكل من أشكال التصالح.
ليس هناك من حل مثالي لهذه المسألة ولكن من المهم ألا ندفن رؤوسنا في الرمال ونتعامى عن المآسي والمشاكل التي يتعرض لها هؤلاء الضحايا وأسرهم من لوعة وحرمان. فباستطاعة الدولة على سبيل المثال رعاية عقد مؤتمر عام بالتعاون مع اللجنة الوطنية للشهداء وضحايا التعذيب يتناول الحقبة وتتم الادانة دون توجيه الاتهام لأحد بعينه ويتم فيه غلق الملف. كما أنه من الممكن أن تعلن الدولة في هذا المؤتمر بتكفلها لتوفير وتغطية تكاليف العلاج الجسدي والنفسي للمتضررين، كذلك بإمكانها أن تتكفل بتعليم أبناء العائلات التي فقدت عائلها للمرحلة الجامعية، وأن تقوم بتوفير السكن للمحتاجين وكذلك العمل اللائق لأفراد هذه العائلات كشكل من أشكال التسوية التي تضمن لهم الفرصة في العيش الكريم.
إن العمل الذي تبذله اللجنة الوطنية للشهداء وضحايا التعذيب والقائمون عليها عمل رائع يستحق كل تقدير وثناء وعلى المسئولين مد يد العون لها وتشكيل لجنة تضم جميع الأطراف تكون مهمتها الوصول لحل يرضي جميع الأطراف وينهي حقبة تاريخية بصورة مشرفة تؤكد على جدية المشروع الإصلاحي لتجاوز الماضي.