محمد بن سعيد الفطيسي
الحوار المتمدن-العدد: 1931 - 2007 / 5 / 30 - 11:58
المحور:
حقوق الانسان
إن المتمعن فيما يحدث من صراعات دموية مستشرية في جميع أنحاء العالم , ونحن بعد لم نتجاوز السنوات العشر الأولى من القرن الحادي والعشرون , ليأخذ انطباع أولي مخيف , بان هذا القرن سيشهد انقلاب وانفلات لم يحدث من قبل على مستوى الإرهاب والعنف بحق الإنسان وحرياته , بحيث باتت الجريمة المنظمة والقمع والاضطهاد والظلم , وكبت الحريات وغيرها من الانتهاكات السافرة والصارخة في حق الإنسانية , أهم الصور البشعة لحضارة القرن الحالي , وعلى رأس تلك الانتهاكات التي ينفطر لها القلب , وتدمي لها العين , وتشكل وصمة عار على جبين أفراد الأسرة الدولية بلا استثناء , والدول الكبرى كالولايات المتحدة الاميريكة والدول الأوربية المتحضرة على وجه الخصوص , انتهاك حق الإنسان في الحياة او ما يطلق عليه بجريمة إبادة الجنس البشري , أكان ذلك على مستوى الأفراد او الجماعات , بحيث باتت الروح الإنسانية لا قيمة لها ولا احترام , مع أنها الأهم والأغلى والأقدس , ولعل اصدق وصف يمكن أن نصف فيه حضارة القرن الحادي والعشرون , بأنها حضارة القتل عن بعد 0
وباختصار شديد لمعنى هذا الحق , فان حق الإنسان في الحياة هو الحياة نفسها , فان فقد وهضم , تلاشت معه قيمتها ومعنى وجود هذا الكون بما فيه , وبالتالي فان الإنسان هو الروح التي تحرك هذا الكوكب , وتعطيه طابع البقاء والاستمرار , وهو صمام الأمان والرئة التي يتنفس بها هذا الكون , فان سلب منه هذا الحق بأي شكل من الأشكال , او صورة من الصور , كانت النتيجة الحتمية والطبيعية لذلك , هو فقدان هذه الحياة لقيمتها الطبيعية , وأهميتها التي خلق الإنسان من اجل تعميرها وبناءها , وقد كفلت هذا الحق المقدس لهذا الكائن , جميع الشرائع السماوية والمواثيق الدولية والقوانين الوضعية , ( فهو الحق الذي لا يمكن أن نتصور من دونه ما مـوجود على الأرض , من حـضارة وعـمران وثقافة وازدهــار ، فالحق فـي الحياة هو مرادف لوجـود الإنــسان , ومن دونه لا وجود للمعاني الجميلة التي يصنعها , بل انعدامه يعني تماماً انعدام الحياة , ومن هنا جاءت التشريعات والمفاهيم لتقديسه ) وتجريم انتهاك حرياته بجميع أشكالها , وعلى رأسها سلبه حقه في الحياة , أكان ذلك من ضمن إطار فردي او جماعي كإبادة بشرية 0
ويقصد بجريمة إبادة الجنس البشري " " Genocide قتل الجماعة ( او المجموعة البشرية بوسائل مختلفة وتعتبر من الأعمال الخطيرة التي تهدد أمن وسلامة المجتمع , لأنها تؤدي إلى إبادة أو اضطهاد كائنات إنسانية كليا او جزئيا , بسبب طبيعتهم الوطنية او العرقية او السلالية او الدينية , وهي ترتكب بصورة عمدية , أي مع وجود القصد الجنائي , ولا تنحصر أثارها على الوضع الداخلي للدولة التي تقع في نطاق حدودها الإقليمية , وإنما تمتد حتى إلى الأسرة الدولية بسبب أثارها الشاملة , وهي ليست من الجرائم السياسية , وإنما تعد من الجرائم العمدية العادية , حتى وان ارتكبت بباعث سياسي , لآن هناك فرقا في قانون العقوبات بين الجريمة التي ترتكب بباعث سياسي وتلك التي ترتكب بباعث غير سياسي )0
وبالطبع فبالإضافة إلى هذا الحق الأساسي للإنسان , فان هناك حقوق أخرى لا تقل أهمية عن حقه في الحياة , حيث أنها ترتبط ارتباط وثيق بكونه إنسان , كحقه في تقرير مصيره , والتعبير عن رأيه , وحصوله على تعليم مناسب يكفل له التواصل وفهم الآخرين , وضمان حصوله على علاج مناسب يحفظ له جسمه وعقله , وحقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وغيرها من الحقوق المدنية , مع عدم التفريق في ذلك بين رجل او امرأة , او حاكم ومحكوم , وبدون أي تميز في ذلك الحق , بين لون او جنس او دين او لغة او وطن , ومن دون ذلك سيكون من الاستحالة بناء الأمم والشعوب على أساس عادل وصادق , فالإنسان قبل العمران , والعقل قبل الجسم , وإلا فان النتيجة لذلك سيكون خلل في بناء المجتمع وتطور الحضارة , وصيرورة الحياة 0
وانطلاقا من هذا المبدأ الأخلاقي والإنساني والقانوني , سنحاول من خلال هذا الطرح , إعادة بناء وهيكلة هذا الحق في ضوء الأوضاع السيئة والمتردية التي تعاني منها البشرية في مختلف أرجاء العالم , مسلطين الضوء على ما نتصوره - من وجهة نظرنا الشخصية - بأنه أهم تلك الحقوق الإنسانية الواجب المحافظة عليها قبل كل شي , وهو حق الإنسان في الحياة , ومن دونه بالطبع فانه لا أهمية لبقية حقوقه الأخرى ,( لذا نجد حرصا على كفالة حماية هذا الحق في الدساتير الداخلية , وفي المواثيق الدولية كذلك , ففي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يحددها بقوله " كل إنسان له الحق في الحياة والحرية والأمن للفرد " - مادة 3 - كما نجد أيضا أن العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية يقول " أن لكل كائن بشري التمتع بحق الحياة المتأصل فيه " وهذا الحق يحميه القانون , ولا يحرم أي شخص من هذا الحق بطريقة تعسفية ) - الفقرة 1 من المادة 6 0
وما نشهده اليوم من انتهاك سافر لذلك الحق في العديد من دول العالم , كالعراق وفلسطين وأفغانستان وغيرها من الدول الرازحة تحت وطأة الاستعمار , ليعطينا اصدق برهان على أن هذا القرن هو القرن الذي وصل فيه الإنسان المتحضر كما يدعي إلى السماء , في حين لا زال يرزح في أوحال حضارة ومدنية لا أخلاقية ولا إنسانية , كما يبين لنا وبكل جلاء تلك الادعاءات الكاذبة للدول الكبرى , كرعايتها لحقوق الإنسان و حرياته , في حين نجد أنها أول من يقوم بخرقها وانتهاكها , وقد عرفت المجتمعات الدولية قديما صورا كثيرة من تلك الانتهاكات والجرائم التي مورس فيها العدوان على حق الحياة ( كما أن ذلك يتم في العادة باستعمال شديد للقسوة والتعذيب , وقد تم ذلك أساسا في الحروب والنزاعات المسلحة بوجه خاص , ولكن المجتمع الدولي يشهد صورا من هذه الجرائم في أوقات السلم , وقد تم تقنين العديد من هذه الجرائم , وتقوم لجنة القانون الدولي بهذه المهمة منذ إنشائها في عام 1947 م , ولا زالت تقوم بهذه المهمة حتى الآن ) ومن أهم تلك الجرائم التي تمارس في حق الإنسان , جريمة إبادة الجنس البشري , والتي تصورت الإنسانية أنها بتحضرها وتقدمها ووعي أفرادها سيتم القضاء عليها , في حين - وللأسف - زادت بل وتطورت بتطور تلك التكنولوجيا , لتشهد أساليب ووسائل جديدة لم يشهدها العالم من قبل , تستخدم فيها الآلات والأزرار والأقمار الصناعية , واصدق مثالين حيين واضحين على ممارسة تلك الجريمة الأخلاقية البشعة , هو ما يعيشهما الشعبين العراقي والفلسطيني هذه الأيام 0
ففي العراق وحده ومنذ دخول القوات الاميركية إلى أراضيه في العام 2003 م , وحتى صدور تقرير الأمم المتحدة في شهر يناير من العام 2007 م , قد تجاوز عدد القتلى من المدنيين العراقيين الأبرياء 34452 مدنياً ، وورد في تقرير الأمم المتحدة أن عدد إصابات المدنيين بين 1 يناير/ كانون الثاني 2007 و31 مارس/ آذار ظل مرتفعاً ، وخاصةً في بغداد ومحيطها ، ويعزو التقرير ارتفاع مستوى العنف إلى " القتل العشوائي واسع النطاق ، والاغتيالات الموجهة التي تقوم بها جماعات الميليشيات وغيرها من الجماعات المسلحة " , وجاء في التقرير أن العنف أدى إلى مقتل عددٍ كبيرٍ من المدنيين من بينهم نساءٌ وأطفال ، سواءٌ كان ذلك في الأحياء السنية او الشيعية , وذلك فيما نستطيع أن نطلق عليه بأنه اكبر انتهاك لحقوق الإنسان , تشهده البشرية منذ الحربين العالميتين , لا بل أننا نستطيع أن نطلق على ما يحدث في العراق الحبيب , بأكبر جريمة لإبادة بشرية تشهدها الإنسانية خلال فترة قصيرة منذ قرون خلت , وما يزيدها بشاعة وسوداوية هي أن تقع تحت أنظار الأمم المتحدة والدول المتقدمة بشكل عام , و الإمبراطورية الكبرى - أي - الولايات المتحدة الاميريكة على وجه التحديد , والتي كانت احد أهم أسباب وقوع هذا الانتهاك الجماعي للجنس البشري بهذا الشكل المريع , في حين أنها تدعي دخولها إلى العراق لإحلال السلام والعدالة و الديموقراطية , فأين هي تلك العدالة والديمقراطية ؟0
وأما في فلسطين وهي المثال الآخر على ارتكاب ذلك النوع من الجرائم في حق الإنسانية , فانه لا يعدو كونه إرهاب منظم تقوم به المستعمرة الإسرائيلية الكبرى , او ما يسمى بإرهاب الدولة في القانون الدولي , والذي يقوم على إبادة الجنس البشري وسلب الإنسان حقه في الحياة والبقاء , ورغم إدراك إسرائيل لذلك الجرم الفادح في حق الإنسانية , إلا أنها وبسبب وقوف الولايات المتحدة الاميريكة معها , لا زالت تواصل جرائمها وفظائعها مخالفة بذلك القانون الدولي برمته , والشرائع السماوية بأكملها والإنسانية والقانونية اجمعها ومن نواح عديدة 0
فعلى سبيل المثال قد خالفت الإعلان الصادر عن الجمعية العامة لعام 1975 بشأن حماية جميع الأشخاص من التعرض للتعذيب , وغيره من صنوف المعاملات التي تتم بالقسوة, والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وحرياته الصادر عن الجمعية العامة في عام 1948, وقرار الجمعية العامة الصادر في عام 1946 والذي يعتبر إبادة الجنس البشري جريمة دولية , وكذلك نذكر بقرار الجمعية العامة الصادر في عام 1977 والذي أكد على ضرورة الاحترام الكامل لحقوق الإنسان , والحريات الأساسية لجميع الأشخاص أو المسجونين بسبب نضالهم ضد الاستعمار والعدوان والاحتلال الأجنبي , وغيرها الكثير من التوصيات الدولية والقرارات الأممية والتي تعجز الأوراق والمقالات عن حصرها , فأي من هذه القرارات لم تخالفها إسرائيل, وتحت أي قانون على وجه الأرض تستطيع أن تضع هذه المستعمرة ما تقوم به من أفعال وأعمال خارجة عن الأنظمة والقوانين الدولية التي ما فتئت تتمسك بها وتطالب بتحقيقها في حال أحست بسلب أي من حقوقها, هذا إن كان لها أي حقوق على ارض غيرها وهي من سلبها بالقوة.
وكون هذه الجريمة هي من أبشع الجرائم التي قد ترتكب في حق الإنسان , كونها تسلبه حقه في الحياة , فقد اعتبرت جريمة دولية يدينها العالم المتحضر , ويوجب إنزال اشد العقوبات على مرتكبيها , دول كانوا أم جماعات او أفراد , كما جاء ذلك في القرار رقم - 96 " د- 1 " الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة , كما وقد تم إدخال هذه الجريمة في حيز القانون الملزم في ديسمبر من العام 1948 م , وتم فعلا دخوله في دور التنفيذ في ديسمبر من العام 1951 م , بحسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم - 1260 " د- 3 " , وعليه فانه بات من الضرورة القصوى , أن يتم تطبيق تلك العقوبات الملزمة والصارمة , على جميع الدول والجماعات والأفراد الذين ارتكبوا هذا الجرم في حق البشرية والإنسانية وفي أي مكان من العالم , ودون استثناء او محاباة لأحد , وإلا فانه لا فائدة من وجود ذلك القانون وتلك المواثيق والاتفاقيات الدولية العرجاء 0
#محمد_بن_سعيد_الفطيسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟