كل ما نطلبه منكم إنقاذ مركز أبحاث .. وليس العراق أو فلسطين أو العروبة !
أصحاب المعالى وزراء الخارجية العرب :
ستجتمعون اليوم – للمرة المليون – فى مقر الجامعة العربية بالقاهرة
ولعلكم تلاحظون أن المواطن العربى فى شتى البلدان التى جئتم منها ، والتى تمتد من المحيط إلى الخليج ، أصبح يتشاءم كلما سمع أنكم ستجتمعون سوياً.
وليس هذا إقلالاُ من أقداركم المحفوظة او استهانة بشخصياتكم المرموقة.
كل ما هناك ان المواطن العربى المسكين ظل لسنوات اطول من ليل المريض يتابع اجتماعاتكم باهتمام وشغف ، ويعلق عليها الآمال الكبار ، ويصدق كل كلمة فى بياناتكم الختامية الجماعية وتصريحاتكم النارية الفردية ، ثم لا يرى ترجمة لها فى الواقع سوى الخيبة والمهانة والعجز والتراجع والهزيمة والانكسار.
والأخطر ان المواطن العربى المسكين تعود أن يسمع منكم معسول الكلام ثم يفاجأ بأفعالكم عكس أقوالكم على طول الخط.
وواقع الحال فى العالم العربى – الذى تحقق على أيديكم – يغنى عن أى كلام ، فقد ظللتم تصفون إسرائيل بأنها "مزعومة" وتقسمون بأغلظ الايمان أنكم لن تعترفوا بها حتى لو انطبقت السماء على الأرض، وانتهى بكم المطاف إلى "الهرولة" إليها ومحاولة خطب ودها وتسول الصلح معها رغم ما فعلته وتفعله بالشعب الفسطينى ، وبكم جميعاً.
ولم تعودوا تخجلون حتى من محاصرة الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات فى غرفة ونصف ، بل أصبح بعضكم ينفذ المشيئة الاسرائيلية والأمريكية ويمتنع عن الاتصال – حتى تليفونياً - مع أبو عمار !
الحب من طرف واحد
وغم ما يمثله ذلك – حتى من الناحية الرمزية – من إذلال واستسلام فانكم لم تتوقفوا عن ترديد الكلام الفارغ عن السلام الدامس الذى أصبح – فى ظل الغطرسة الاسرائيلية والتواطؤ الأمريكى – نوعاً من الحب العربى من طرف واحد ، بل أن بعضكم شاء ان يذهب أبعد من ذلك ووجه الدعوة إلى وزير الخارجية الإسرائيلى ، سليفان شالوم ، مؤخراً وأمسك يده بود وحنان وهيام وكان الاسرائيليين والفلسطينيين صاروا سمنا على عسل.
ومع ان آخر القمم التى عقدها أصحاب الجلالة والسعادة والفخامة والسمو ملوك ورؤساء وأمراء العرب حظرت تطبيع العلاقات مع إسرائيل ، حتى ترعوى ، فان بعضكم لم يتمالك نفسه فى اجتماع المنتدى الاقتصادى العالمى الذى عقد على شاطئ البحر الميت بالأردن وهرول للقاء المسئولين ورجال الاعمال الإسرائيليين ، حتى أن وزير خارجية إسرائيل نفسه أبدى اندهاشه من أن أحداً من الوزراء العرب الذين طلبوا لقاءه لم "يعاتبه" على العنف المفرط ضد الانتفاضة الفلسطينية والاغتيالات السياسية لقادتها وغيرها من صور البطش والابادة الجماعية التى تقوم بها إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى !
نفاق اللغة العربية
واقع الحال فى العالم العربى – الذى تحقق على أيديكم – يبين أن أطنان الكلام الذى جرى على ألسنتكم تمجيداً فى العرب والعروبة ، لا يستحق ثمن الحبر الذى كتب به ، فالأزمات بين البلاد العربية أكثر من الهم على القلب ، والاستئساد لا تظهر أعراضه على الحكومات العربية إلا عندما يكون خصمها عربياً ، بينما يكون الاستخزاء سيد الموقف إذا كان الطرف الأخر غير عربى ، والعلاقات الاقتصادية العربية – العربية كانت ومازالت تافهة رغم المجالس والاتفاقات والشعارات حيث لا تزيد التجارة العربية البينية عن 8%.
وليس هذا التدهور العام فى المشهد العربى ، خاصة فيما يتعلق بخارطة الفقر والبؤس والتخلف والتبعية ، ناتجاً عن نقص الامكانيات ، بقدر ما هو ناتج عن نقص الإرادة . فلدينا فى العالم العربى الأيدى العاملة (العاطلة) والموارد الاقتصادية الهائلة ( سواء فى بلدان النفط او بلدان الماء) والأموال الطائلة المكدسة فى البنوك وأسواق المال الغربية وبالذات الأمريكية ، والمعرضة لتقلبات تلك الأسواق ، وحتى للمصادرة. وكان يكفى لبضعة مليارات من هذه الأموال العربية الهائمة أن توظف بضعة ملايين من الأيدى العاملة المصرية وغير المصرية فى استثمار ملايين الأفدنة من الأراضى الزراعية المهملة فى السودان ، لكى تسد الفجوة الغذائية التى يعانى منها العالم العربى الجائع ، بل وأن تحول منطقتنا إلى سلسلة غذاء غنية تحقق فائضاً يغنينا عن سؤال اللئيم . لكنكم لم تفعلوا شيئاً من ذلك رغم تشدقكم الممل بالعرب والعروبة .
أعراض عراقية فاضحة
واقع الحال فى العالم العربى – الذى تحقق على أيديكم – يبين أنكم تقولون ما لا تفعلون . ولا حاجة بنا للرجوع إلى الماضى البعيد ، يكفى أن نتأمل سلوكم الحديث بشأن قضية واحدة فقط ، هى الأزمة العراقية .
لقد أعلنتم على الملأ انكم تعارضون الحرب الأمريكية (البريطانية) على بلاد الرافدين . ثم تبين أن بعضكم زود القوات الأمريكية بالقواعد والتسهيلات ، وما خفى كان اعظم.
ثم أعلنتم أنكم لن تعترفوا بنتائج هذا العدوان ، لكن بعضكم تسابق للاجتماع مع ممثل الاحتلال الأمريكى بول بريمر على شواطئ البحر الميت.
ثم أعلنتم أنكم لن تعترفوا بمجلس الحكم الذى عينه بريمر ، لكن معظمكم استقبل وفداً من هذا المجلس بدعوى أن الاستقبال لأفراد هذا الوفد بصفتهم الشخصية وليس بصفتهم أعضاء فى مجلس الحكم . وكان هذا أمراً مضحكاً سخر منه حتى رئيس مجلس الحكم الذى قال أن من استقبلونا كانوا يعرفون أننا لم نذهب إلى بلدانهم للتسوق او السياحة.
ثم أعلنتم أنكم لن تقبلوا بمندوب مجلس الحكم ممثلاً للعراق فى الجامعة العربية ، لكن هوشيار زيبارى يتأهب لحزم حقائبه للانضمام إليكم واثقاً من أنكم لن تصمدوا أمام مطالبة وزارة الخارجية الأمريكية بالاعتراف به كرئيس للدبلوماسية العراقية .. وربما يكون قد وصل بالفعل وقمتم باستقباله وفرش السجادة الحمراء تحت أقدامه قبل مثول الجريدة للطبع.
والأخطر أنه ربما يكون بعضكم قد أعد العدة لإرسال قوات عربية إلى العراق ، كى تكون حائط صد بين المقاومة العراقية وبين قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية ، ولن تعدموا الخطاب السياسى الذى يحاول اسباغ الهالات "القومية" على هذه الخطوة التى لا علاقة لها بالقومية من قريب أو بعيد.
مركز زايد العالمى
وما سبق مجرد جزء صغير من تراث هائل من أسباب خيبة أمل المواطن العربى فيكم وفى اجتماعاتكم التى أصبحت مصدر قلق بدلاً من أن تكون مصدر أمل.
ولذلك فان المواطن العربى لا يحملكم مالا تطيقون ، ولا يطالبكم بمطالب "قومية" كبرى يعرف أن بعضكم لم تعد له فيها ناقة ولا جمل.
كل ما يطالبكم به المواطن العربى المسكين فى اجتماعكم اليوم شئ بسيط جداً نرجو ألا يكون هو الآخر – رغم بساطته – خارج دائرة إرادتكم.
هذا المطلب هو إنقاذ المركز الفكرى التابع للجامعة العربية الذى كان يحمل اسم "مركز زايد العالمى للتنسيق والمتابعة".
وقصة هذا المركز – لمن لا يعرف – أن فكرة إنشائه قد نبتت عام 1997 أثر ندوة عقدت بدولة الامارات العربية المتحدة ، ثم تحولت توصية هذه الندوة إلى فكرة تبنتها حكومة الامارات ووافق عليها المجلس الوزارى لجامعة الدول العربية ، وتأسس المركز فعلياً فى سبتمبر 1999 ، وبدأ يمارس نشاطه كباقى مراكز البحوث والدراسات فى سائر أنحاء العالم.
وفجأة بدأ هذا المركز يتعرض لحملات مكثفة من الهجوم , وكان الملفت للنظر أن هذه الحملات نظمتها جهات صهيونية وأمريكية ، على رأسها معهد بحوث إعلام الشرق الأوسط المعروف اختصاراً باسم "ميمرى" .. وهذا المعهد يوجد مقره فى العاصمة الأمريكية واشنطن ، ويتخذ من إسرائيل مقراً لأحد مكاتبه ، ويرأسه الكولونيل ايجال كارمون مسئول الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية المتقاعد والمستشار السابق لكل من شامير ورابين ، كما يعمل بالمعهد عدد من الموظفين المتقاعدين من القوات المسلحة او المخابرات الاسرائيلية.
والملفت للنظر أن هذا المعهد الصهيونى قد افتتح مكتبا له فى العاصمة العراقية بغداد فى أول أغسطس الماضى وفق الترخيص الذى حصل عليه من سلطة الاحتلال الأمريكى ومن البنتاجون ومن مجلس الحكم العراقى بالتبعية.
وقد نشرت الزميلة والصحفية المتألقة مها عبد الفتاح تفاصيل هذا الاختراق الاسرائيلى للمجتمع العراقى فى جريدة "الأخبار" يوم الأربعاء الماضى.
المهم أن هذا المعهد الصهيونى بدأ فى 11 يوليو الماضى حملة مركزة على "مركز زايد" تتهمه بـ"معاداة الولايات المتحدة" و "تشجيع اللاسامية" و"الترويج لنظرية المؤامرة" و "إنكار الهولوكوست"!
ورغم ان بعض هذه الاتهامات سخيف ، وينتهك حرية الراى وحرية الضمير ، وحرية البحث العلمى ، فان "مركز زايد" أقسم على المصحف والانجيل أنه لا يضمر أى ضغينة للولايات المتحدة بدليل أنه استضاف الرئيس السابق جيمى كارتر ونائب الرئيس السابق آل جور ، ووزير الخارجية السابق جيمس بيكر ، ومدير المخابرات المركزية الأدميرال تيرنر ، ومساعد وزير الخارجية ريتشارد ميرفى ، ومساعد وزير الخارجية ادوارد جيرجيان ، حتى شقيق الرئيس الأمريكى جورج بوش السيد نيل بوش .. كل هؤلاء استضافهم مركز زايد وأتاح لهم فرصة الحديث دون قيد او شرط.
لكن رد مركز زايد لم يشفع له حيث واصلت المنظمات الصهيونية هجومها ، وهذا ليس جديداً.
أنباء زمن الانكسار
الجديد هو أن أبناء الشيخ زايد استجابوا لهذا الابتزاز الصهيونى وأصدروا فرماناً باغلاق المركز الذى يحمل اسم والدهم رغم ان المركز يمثل أحد مؤسسات الجامعة العربية .
وإمعاناً فى المهانة وبعد أن صدر بيان من مكتب الشيخ زايد يقول أن "الشيخ زايد حين علم بأن المركز قد بدأ يهتم بخطابات تتناقض بشكل صارخ مع مبادئ التسامح ، صدرت التوجيهات لغلق المركز على الفور " ، بعدها تبرع الشيخ زايد بمبلغ 2.5 مليون دولار لكلية اللاهوت بجامعة هارفارد . ومع أن الناطقة باسم جامعة هارفارد لوسى ماكنيل قالت "لقد أثنينا على قرار إغلاق مركز زايد" ، فانها أضافت أن "هارفارد قررت إرجاء اتخاذ قرار حول تبرع رئيس دولة الامارات العربية المتحدة حتى السنة الدراسة القادمة".
يعنى لم يكتف الشيخ زايد باغلاق المركز الذى يحمل اسمه ، بل تبرع لجامعة أمريكية ، لكن الجامعة الأمريكية رغم اعجابها بقرار إغلاق مركز الجامعة العربية بالضبة والمفتاح لم تقبل "الهدية"".
أرأيتم ؟!!
ليس المهم الآن التعليق على موقف أبناء الشيخ زايد .. المهم هو إنقاذ مركز الجامعة العربية الذى يحمل اسم والدهم.
وليس المطلوب استرحام هؤلاء الأبناء أو مناشدتهم لاعادة النظر فى قرارهم "السيادى" ، المطلوب من وزراء خارجية العرب المجتمعين اليوم فى القاهرة أن يصدروا توجيهاتهم بنقل المركز إلى القاهرة حيث يوجد مقر الجامعة العربية ، وأن يعاد افتتاحه لاستئناف المهام التى أنشئ للقيام بها بناء على قرار وزارى للجامعة أيضاً.
ونأمل أن تكون هذه مناشدة فى محلها ، وألا نكون قد تجاوزنا الحدود وحملنا وزراءنا العرب الأفاضل بأكثر مما يطيقون . لأنهم – باختصار – إذا لم يستطيعوا فعل شئ إزاء هذه القضية فان معنى ذلك أنهم غير قادرين حتى على التصدى لابتزاز مجرد معهد صهيونى مشبوه ، اذا نجح اليوم فى إغلاق مركز أبحاث عربى لا نستبعد أن يسعى غداً لفرض وصايته وبلطجته على أدق شئوننا الداخلية .. بما فيها علاقاتنا الزوجية !!