ثلاث وقفات ليس إلا.
الوقفة الأولى:
إن أمل الخروج من دوائر التخلف ومواكبة عالم الألفية الثالثة يمر بالضرورة وحتما عبر التمكن من مجال الكمبيوتر وتكنولوجيا الاتصالات. ولن يتأتى هذا إلا بتمكين المواطن متوسط الدخل في البداية والمواطن العادي في مرحلة قريبة موالية من استعمال والتأقلم مع هذه التكنولوجيا في حياتهم العادية. وهنا يكمن الإشكال العويص، إذ أن مدخول أغلب المواطنين لا يسمح بالبتة على الحصول على كمبيوتر عائلي. وما دام الأمر كذلك، فكيف يمكن ضمان مسايرة العلم والمعرفة في الألفية الثالثة؟ لاسيما وأن البعض بدأ يفكر في استعمال الدرهم الإلكتروني وهو الذي بواسطته بإمكان المرء تأدية مقابل مشترياته والخدمات من قاع داره أو مكتبه أو من سيارته أو من أي مكان وفي أي وقت. خصوصا وأن بلادنا ولجت مرحلة جديدة في مجال الاتصالات بانفتاحها على المستثمرين الأجانب وترغب في الاندماج مع العالم تماما في عام 2010. ولن يتأتى هذا إلا عبر بلورة استراتيجية وطنية في مجال تكنولوجيا المعلوميات والاتصالات اعتبارا لكونها من المستلزمات الحيوية للتطور في جميع المجالات.
ولعل أن الوقت قد حان للتفكير بجدية في تمكين المواطن بأي شكل من الأشكال من الحصول على كمبيوتر عائلي بسعر مناسب أو بتسهيلات في متناول دخله.
الوقفة الثانية:
إن الاقتصاد المغربي يعاني من أكثر من أزمة...هذه حقيقة لا يتناطح عليها كبشان كما يقال.
ويقال كذلك أن الحلول لمختلف الأزمات الاقتصادية موجودة، وتختلف هذه الحلول باختلاف وتنوع السياسات الاقتصادية المعتمدة..ونقول للحكومة ن الحلول موجودة وقد تم الشروع في تطبيقها، ولكن تحتاج إلى قليل من الصبر والوقت وقدر من المزيد من المعاناة...فهل فعلا تم اتخاذ القرارات اللازمة لتطبيق الحلول لتجاوز الأزمات التي يتخبط فيها اقتصادنا الوطني ؟
لكن لا يخفى على أحد أن وجود الحلول وحده لا يكفي إذا كانت الأيادي غير قادرة على توقيع القرارات اللازمة لتطبيقها..فما جدوى وجودها إذا كانت أيادي أصحاب القرار ترتعش أو تتردد أو أنها غير راغبة فعلا وفعليا في اتخاذها ؟!
الوقفة الثالثة:
" الإدارة والتدبير" من الأسس الفاعلة في نجاح أو فشل أي مشروع أو عمل وعلى كل المستويات والأصعدة. فليس هناك مشروع ناجح أو إنجاز متميز بدون إدارة وتدبير ناجحين...فالإدارة والتدبير جعلا من اليابان قوة اقتصادية رغم افتقارها للمواد والثروات الطبيعية ورغم الانتكاسات التي تعرضت لها، والإدارة والتدبير هما اللذان جعلا من الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الأولى في العالم.
ولا يخفى على أحد أن احتضان نهائيات كاس العالم لكرة القدم يعتبر من المشروعات الضخمة التي تمتد تأثيراتها إلى مختلف المجالات وإلى كافة نواحي الحياة، وذلك قبل وأثناء وحتى بعد انتهاء التظاهرة وربما عبر سنوات.
وبالضبط تنظيم نهائيات كاس العالم لسنة 210 يلزمه ضمان وجود " إدارة وتدبير " ناجحين قبل التفكير في الملاعب لاحتضانها، وبه وجب الإعلام اعتبارا لما جنيناه من التجارب السابقة في هذا المضمار.
المعضلات الاجتماعية:
علينا معرفة من أين يبدأ العلاج
حاول القائمون على أمور مدينة القنيطرة التصدي لجملة من الإشكاليات، مثل الباعة المتجولين وعدم احترام قانون السير، وذلك بمنطقهم الأمني المعهود: دوريات الشرطة والقوات المساعدة والدرك حاولوا بهذا المنطق محاصرة تلك الظواهر ومدافعتها لكنهم لم يفلحوا في ذلك، وهذا يدعونا إلى التساؤل عن جدوى وأهمية وفعالية كل الإجراءات المتخذة من طرفهم في هذا الصدد، لاسيما وأنها كلها تعد إجراءات أمنية متكررة.
ونعتقد أن فشلهم في إيجاد حل لتلك المعضلات ناتج بالأساس عن تصورهم الخاطئ الذي يحكم نظرتهم للأمور وعدم استعدادهم لتغيير هذه النظرة، ربما لأسباب سياسية ومصلحية تهمهم أو تهم نافذين في جهاز الدولة وغيرهم.
إن محاولة حصر مسؤولية تفشي ظاهرة عدم احترام قانون السير أو استفحال الباعة المتجولين في رجل الأمن أو القوات المساعدة باعتباره أنه ليس حازما بالشكل الكافي مع الباعة المتجولين أو الخارقين لقانون السير، تعتبر منهجية غير وجيهة لأن الأمر في الحقيقة أكبر من رجل الأمن أو القوات المساعدة وأفراد الشرطة، لأن تلك المشاكل وصلت إلى حجم الظاهرة الاجتماعية وكذا علاج فردي لأي ظاهرة اجتماعية يصبح مضيعة للوقت والجهد وبدون نتائج مرضية ما دامت الظاهرة الاجتماعية بطبيعتها أقوى من الفرد وأنها قادرة على احتواء ذلك الفرد وجعله عنصرا من مكوناتها وفاعلا في استمراريتها وديمومتها، ومن هنا ليس من الغريب أن ينساق البعض من أولئك مع الظاهرة ويغضون الطرف لسبب أو لآخر عن التجاوزات.
لكن الأفضع والأخطر في الأمر أن تصبح المخالفات والآفات الاجتماعية تعتبر " فضيلة " أو " حق" من حقوق شريحة اجتماعية معينة تتغذى باستمرارها وتحيا باستدامتها، وبذلك سيكون من الصعب محاصرتها والتصدي إليها ما دام هذا التصدي وتلك المحاصرة سيكونان بمثابة الدخول في مواجهة صريحة وحرب مباشرة مع تلك الشريحة التي غالبا ما تملك من أسباب القوة والسلطة. وبالتالي فإن المطالبة بوضع حد لتلك الظواهر يعني البحث عن التصدي للذين يريدون استمرار الصيد في المياه العكرة، ويناهضون التغيير نحو إقرار دولة الحق والقانون بصفة شاملة وكاملة غير منقوصة لي اعتبرا كان.
الشعب يمول أحزابا لا تخدمه.
هل من المشروع والمعقول والمنطقي، في ظل الأوضاع التي تعيشها البلاد حاليا أن يتحمل المجتمع التكاليف المادية للأحزاب ولجرائدها، إذ أنها تستفيد من دعم يقتطع من أموال الشعب اقتطاعا.
إن فئات الشعب تساهم رغما عنها وربما دون موافقتها، في الدعم المالي للأحزاب، والذي يقتطع أحيانا من جوعها ومن خصصها. فهل يمكن استساغة هذه الحالة في ظل التبجح بالليبرالية، وفي ظرف نلاحظ فيه أن أغلبية الشعب المغربي خارج الأحزاب المدعمة ؟ وهل يمكن قبول مثل هذا الوضع في وقت ينتشر فيه نوعا من عدم الرضا وأحيانا كثيرة من السخط على الأحزاب ؟ إن المال الممنوح والموهوب للأحزاب السياسية هو مال الشعب، ومن حق هذا الخير أن يتعرف على جدوى صرف أمواله على الأحزاب السياسية لاسيما وأن فئات واسعة منه تتحمل ضائقة العيش وفي وقت تعود جزء من مسؤولية تلك الأوضاع لتلك الأحزاب السياسية المدعمة من أموال الشعب.
فإذا كان الدعم المالي للأحزاب قضية مشروعة اقتراضا، فإنه من الصعب قبول وتقبل دعم أحزاب لا يظهر لها أثر إلا عندما تقترب الانتخابات ويكثر الطلب على التزكيات. أليست هذه حالة من حالات إهدار المال العام؟
أولاد القنيطرة" يتكلمون.
عبد الحي المودن، أستاذ العلوم السياسية هو أحد أبناء مدينة القنيطرة، وهو من أوائل تلاميذ مدرسة التقدم الذين تابعوا دراستهم الجامعية العليا بالولايات المتحدة الأمريكية، يدلي برأيه بصدد الرسالة الملكية حول الاستثمار الموجهة إلى الوزير الأول.
" من الواضح أنه من أولوية الأولويات حاليا، في إطار المفهوم الجديد للسلطة، رد الاعتبار إلى العامل الاقتصادي الذي كان مغيبا لحساب ما هو سياسي رغم أن سيرورة التغيير والتحول في الظرف الحالي تفعل فعلها بالأساس على الصعيد السياسي. فنظريا نحن أمام ثلاث أنماط للتدبير والتسيير.
النمط الأول هو النمط الديمقراطي ـ الليبرالي ويتطلب تزكية الاختيارات الاقتصادية من طرف الشعب المغربي والمؤسسات المنتخبة. والنمط الثاني، وهو النمط السلطوي ويرتكز على فرض نهج الدولة ويعني إخضاع الاختيارات الاقتصادية لمصالح القائمين على الأمور بالبلاد.
والنمط الثالث، وهو النمط الذي تطور بأمريكا اللاتينية وهو نمط يتميز بممارسة ماركتينغ (Marketing) السياسة من طرف الأحزاب السياسية في المجال الاقتصادي وبديمقراطية الواجهة.
عندنا بالمغرب، القصر اختار المسار، إلا أن الأحزاب السياسية ما زالت مشغولة البال بالحسابات الانتخابية الضيقة. واختيار النمط الديمقراطي كان من شأنه أن يؤدي إلى نوع من تقارب وتحالف المصالح بين الأحزاب السياسية والفاعلين الاقتصاديين، في وقت نلاحظ فيه اقتراب أهم أحزابنا من النقابات، وهذا أمر من شأنه عرقلة التوصل إلى الهدف. لذلك قام الملك باختيار نمط يضمن قوة الدولة على الصعيد الجهوي، دون المرور عبر المؤسسات المنتخبة.
الأزمة
إن الأزمة الخانقة وظروف عيش أوسع الفئات بالمغرب لا تزداد إلا تدريا، ورغم ذلك لا يعطي البرلمان ولجانه الاهتمام اللازم بمناقشة قضايا أوسع الجماهير، لاسيما العاجلة منها، وهذا في وقت مازال فيه نوابنا يبحثون عن النجومية للظهور أطول مدة ممكنة على الشاشة ولو أدى إلى خلق محطة تلفزية خاصة بهم، كيف لا وبلادنا بلد المفارقات " أش خصك يا عريان خاتم الماس يا مولاي" عوض مناقشة الواقع المعيش والعمل على المساهمة الفعلية في حل مشكلات المواطنين وتخفيف العبء عنهم يفضل نوابنا الهروب إلى الأمام واعتبار الحالة وردية رغم أن هناك أوضاع قد تدعو إلى الانفجار هنا وهناك، سواء في صفوف الموظفين أو الشغيلة أو المعطلين حاملي الشهادات أو الشباب عموما..فماذا يمكن الانتظار من هؤلاء النواب؟ غليان في كل مكان ولم يجرأ أحد منهم على طرح القضايا الاجتماعية العويصة للنقاش الفوري لأن السيل قد يكون وصل الزبى، والقضية أضحت بذلك استثنائية ومستعجلة، ولا يحتمل أي انتظار، والحالة هاته، والغليان في كل مكان ولا صدى لكل ذلك تحت قبة البرلمان وبين نواب الأمة. فهل هذه حالة طبيعية أم لا؟ ربما إنها طبيعية بامتياز ما دام النواب لا يعبرون فعلا عن مشاعر الجماهير وهمومهم وبعيدين كل البعد عن ذلك..فإلى أي نحن ذاهبون؟ وألم يجب التفكير في الأمر قبل فوات الأوان؟
إن واقع قانون الضريبة على الدخل المطبق حاليا أضحى يثير جملة من التساؤلات، لاسيما فيما يتعلق بدوره في بناء " مجتمع ضريبي" يقوم على العدالة والإنصاف الضريبيين ويحقق مبدأ تخفيف الأعباء على ذوي الدخل المحدود، حيث بدون ذلك لا يمكن الحديث بأي وجه من الوجوه عن أي نوع من أنواع العدالة الاجتماعية ولو الشكلية منها.
إن الضريبة على الدخل ببلادنا لازالت تثقل كاهل المواطنين ومختلف الفعلين الاجتماعيين بدرجة قد لا تطاق مستقبلا، لاسيما ذوي الدخل المحدود، وهو الذين يشكلون أكبر ضحايا الغول الضريبي ببلادنا وهم كثيرون.
وفي الواقع إن الجزء الأكبر من الثقل الضريبي يتحمله الشغيلون والفقراء وهذا حيف اجتماعي بارز لم يعد مقبولا حاليا بأي وجه من الوجوه، ولعله سيشكل أهم المطالب الأساسية التي تتطلب حركة اجتماعية واسعة المدى من أجل الإقرار بهذه الحقيقة التصدي لها قصد العمل على التقليل من فداحة هذا الحيف بجميع الوسائل، فكيف يعقل الاستمرار بقبول تمويل خزينة الدولة بما تقتطعه من الحاجيات الحتيتة لأغلب المغاربة في حين يتم غض الطرف بشكل مفضوح على التهرب الضريبي الذي ينعم فيه أصحاب الثروات الطائلة ببلادنا وهم قلائل ؟ فكيف يسمح نوابنا ووزراؤنا لأنسفهم الاستمتاع بأجور عالية و " طيطانيكية" تقتطع اقتطاعا من حاجيات أغلب فئات الشعب المغربي وربما على حساب حرمانهم وجوعهم وتهميشهم ؟
مجرد تساؤلات
هل سيظل الحال هو الحال ؟
نواب ومستشارون ...ماذا يعملون..؟ وماذا يفعلون؟... والمشاكل والمعضلات تتراكم وتزداد تراكما . فلو كل نائب أو مستشار وهو يناقش تشريعا جديدا قبل صدوره وضع لنفسه تصور واقيعا عن كيفية تنفيذ هذا التشريع وعن آثاره في المجتمع وعلى عباد الله لما حدث ما هو حاصل الآن..ثبوت قصور وربما فساد أكثر من تشريع...ولما عشنا في دوامة الحاجة إلى تشريعات أخرى تعالج فيما فشلت فيه الشتريعات المعمول بها حاليا....
هناك تشريعات كثيرة مليئة بالثغرات... إلى حد أن بعضها كاد يشبه الغربال من كثرتها..وخطورة هذه الثغرات لا تكمن فقط في عجز النص على مسايرة حركية الواقع المعيش، وإنما تكمن بالأساس في أن تمكن كل من يريد الإفلات من أحكام التشريع أو القانون أن يحقق غرضه وأحيانا باسم القانون..سواء بالتحايل والحيل التي توفر تلك الثغرات أو بالممارسة التي لا تعبأ بنصوص القانون ما دام هناك ثغرات تؤدي إلى المخرج.
هناك ثغرات في قوانين التعمير والبناء ومجال الضرائب وأدائها وفي القانون الجنائي وفي غيرها...ولعل أكبر مجال تظهر فيه الثغرات بجلاء، هو مجال تطبيق الأحكام أو العقوبات وتنفيذها على من يستحقها مهما كان وضعه في المجتمع، في هذا الصدد حدث ولا حرج..فلا يخفى على أحد أن العقوبة تنتج أثرها بقدر السرعة التي تتم بها، والعدالة البطيئة هي في الحقيقة نوع من أنواع الظلم. وفي هذا الإطار هناك ضحايا بالمئات، فرغم أنهم أصحاب حق ثابت، لكنهم لازالوا مظلومين مرتين على الأقل: ضرر حرمانهم من حقوقهم وضرر انتظار الاستفادة من آثار تطبيق القانون على من ظلموهم واعتدوا عليهم وسلبوا حقوقهم فإلى متى سيظل حالنا في هذا المجال هو نفس الحال ؟ وهذا مجرد تساؤل أول.
2 ـ دعوة للقائمين على الأمور لترك كراسيهم الدوارة المريحة ومكاتبهم المكيفة والنزول إلى مواقع العمل والوقوف ولو برهة على ركح الواقع المعيش، في زيارات مفاجئة لمعاينة الحال عن قرب ومباشرة والتعرف على الحقيقة العارية...فلقد أثبتت التجربة هنا وهناك أن مثل هذه الممارسات تخلق نوعا من حالة الترقب والاستعداد. فقد تنكشف خلال الجولات أو الزيارات المفاجئة، مخالفات وما أكثرها عندنا في مختلف المجالات والميادين، كما قد تظهر صور متعددة من سوء السلوك والاستهتار والإهمال واللامبالاة وعدم احترام القانون أو الالتزام بالقواعد والنصوص.
لقد اعتاد أغلب المسؤولين على الاعتماد في تقييمهم للأمور والأشخاص على التقارير التي يحررها ويقدمها لهم مرؤوسهم عن سير العمل وتتبع إنجاز المشاريع وما تم تحقيقه من منجزات. فما يكتب من تقارير عن كفاءة الأشخاص أو تقصيرهم ، وما يحرر سواء عن العمل أو الكفاءات فإن معظمه غير مطابق للحقيقة والواقع، لأنه يظل في غالب الأحيان خاضع لأغراض ولربما لأهواء شخصية، ولا يعطي صورة صادقة وآمنة عن الواقع المعيش الفعلي.
ولعل من أسهل الوسائل وأقصر السبل للوقوف على بعض الحقائق والإطلاع على جانب من جوانب الواقع المعيش هو الزيارات المفاجئة والتعرف على ما يجري ويدور عن قرب الاستماع إلى من يعملون وبحث شكاياتهم وشكواهم ومشاكلهم واتخاذ الإجراءات الفورية الهادفة لإصلاح الأمور وإزالة أسباب المشاكل والشكاوى.
فإلى جانب ما تحدثه الزيارات المفاجئة من إصلاحات وترميمات وانضباط فإن تأثيرها يكون عميقا في نفوس العاملين والمواطنين ويحفزهم على المزيد من العمل، كما يساهم في تقوية أرضية تجسيد مفهوم المواطنة.
فمتى تنقلب الآية ببلادنا، فيصبح عمل القائمين على الأمور أكثر خارج مكاتبهم المكيفة وبعيدا عن الكراسي الدوارة المريحة ؟
المسألة الزراعية بالمغرب قضية سياسية
إن الحديث عن المسألة الزراعية بالمغرب يجرنا بإلحاح إلى الحديث عن مكونات البنيات الزراعية ومشاكلها ومعوقات تطورها.
فمن المعلوم أن بلادنا لا تزال بلدا فلاحيا بامتياز إلا أن الفلاحة به تحولت منذ عهد الحماية إلى زراعة تنتج بالأساس من أجل سد حاجيات الأسواق الخارجية وخاصة سوق الدولة المستعمرة آنذاك: فرنسا عوض إدخال حاجيات السوق الداخلية في اهتمامها. وبعد الاستقلال ظلت أحسن الأراضي وأخصبها في يد المعمرين، ظلوا يتحكمون في أخصب الأراضي وأكثرها إنتاجية علما أنهم كانوا قد استحوذوا عليها في فترة الحماية بعد سلبها من أصحابها الأصليين، وبذلك كان من المنتظر أن تعود هذه الأراضي إلى أصحابها الأصليين بعد أن كافحوا وضحوا بالغالي والنفيس من أجل طرد المستعمر وتخليص البلاد من براثين الذل والاحتلال، إلا أنه وبجرة قلم أصبحت تلك الأراضي الخصبة بيد زمرة قليلة لا كاد تبين، وبعضها منحت لمؤسسات شبه عمومية أقيمت لهذا الغرض بالذات تتحكم فيها تلك الزمرة القليلة. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ استقلال في عام 1956 وحتى فجر ستينات القرن الماضي، كان عدد من المعمرين الذين اضطروا لمغادرة المغرب لأسباب سياسية يفوتون أراضيهم للخواص لبعض الأعيان والمحظوظين بثمن بخس بمباركة وتواطؤ الإدارة المغربية لاسيما مديرية الأملاك المخزنية المسؤولة عن تدبير وتسيير أراضي الدولة بالمغرب.
ورغم إصدار قانون يمنع تفويت تلك الأراضي إلا بالحصول على رخصة خاصة من دوائر عليا بالبلاد فإن ذلك لم يمنع البعض من الزمرة من الحصول على تلك الرخصة بطريقة أو بأخرى بتفعيل الوساطة والمحسوبية والرشوة، إذن كل تلك الأراضي والتي هي أخصب الأراضي الزراعية بالمغرب، كان المعمرون الفرنسيون والإسبان قد سلبوها بقوة الحديد والنار من مالكيها الأصليين سواء كانوا أفراد وجماعات. وبعد الاستقلال استرجعتها الدولة المغربية وفوتتها لزمرة من المحظوظين دون مقابل يذكر، وهي قلة لا تكاد تبين وسط عرمرم الفلاحين الذين لا أرض لهم كما أن القائمين على أمور الشركات الفلاحية العمومية وشبه العمومية والمتصرفين فيها عتوا فيها فسادا إلى أن أوصلوها إلى مشارف الجرف الهاري وأسقطوها في الهاوية بعد أن أنفقت عليها الدولة من مال الشعب الملايين من الدولارات، هذه الملايين كانت في واقع الأمر تقتطع من جوع الفئات الواسعة من الشعب المغربي ومن قوتهم اليومي، كانت توظف توظيفا لخدمة وتنمية المصالح الخاصة والفئوية الضيقة على حساب الصالح العام وضد مصلحة الأجيال القادمة.
وحتى تلك الأراضي التي كانت تشرف عليها الشركات بعد أن صرفت عليها أموال الشعب تم تفويتها بأثمنة رمزية بواسطة الخوصصة لكمشة من المحظوظين وكلهم بدون استثناء في غير حاجة لها، في حين يحتضن فيه المغرب فئات واسعة من الفلاحين الفقراء ذوي العائلات المتعددة الأفراد لا يملكون أرضا يحرثونها ويرتبطون بها، ومن ضمنهم ذوي الحقوق المشروعة في تلك الأراضي ما دام آباءهم وأجدادهم أصحاب الأراضي الأصليين قبل الاستحواذ عليها من طرف المستعمر.
وما دام الأمر كذلك فإنهم يرون فيهم أناسا استولوا على أراضي أجدادهم أهديت لهم بجرة قلم أو بأوامر وتعليمات وهكذا ذهب الاستعمار وظلت أراضيهم مغتصبة على مرأى أعينهم لا يستفيد منها ذوي الحق الشرعي الأكيد فيها. وهذا في وقت كثر فيه اللغط عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية للعالم القروي بالمغرب واعتبار البادية من أولوية الأولويات، علما أن هذه التنمية مرتبطة بالأرض ومن يحرثها، وتنمية العالم القروي لها سبيل واحد لا ثاني له وهو ربط الفلاح بالأرض التي يحرثها ورغم هذا فإن أغلب الأحزاب السياسية أصبحت لا تلي هذه الإشكالية الأهمية التي تستحقها إذ لم تعد فعلا تطالب باعتماد مبدأ الإنصاف بإرجاع الأرض لذويها الحقيقيين.
ويزداد الطين بلة إذ علمنا أن المعمرين الذين استولوا على تلك الأراضي بالقوة والسلاح استفادوا من تعويضات مالية مهمة سلمتها لهم الدولة المغربية أما أصحاب الأرض الأصليين فظلوا محرومين من أراضيهم حتى بعد خروج الاستعمار.
وكانت أحزاب اليسار والتنظيمات الممنوعة في السبعينات والثمانيات من القرن الماضي تنادي بإلحاح بإصلاح زراعي وتطالب بقوة بتوزيع الأراضي على الفلاحين الصغار. وعندما قامت الدولة بتوزيع بعض الأراضي كانت قد فعلت ذلك لإخماد الغضب العارم. وفي هذا الصدد كانت هناك دراسة خلصت إلى ضرورة تحديد سقف للملكية وقد أجريت في عام 1963 بعد انتفاضة قبيلة أولاد خليفة احتجاجا على حرمانهم من أراضيهم، وكان وراء تلك الدراسة أحد صناديق الأمم المتحدة. وقد تضمنت اقتراح توزيع الأراضي على الفلاحين الصغار بعد انتظامهم في شكل شركات تتولى تسيير تلك الأراضي. إلا أن هذا المشروع رفض تحت ضغط الجهات التي لم ترقها مسألة تحديد سقف الملكية لاسيما من طرف الزمرة التي استفادت من الأراضي المسترجعة بسخاء، وبذلك تظل المسألة الزراعية بالمغرب ليست مجرد مسألة قطاعية أو اقتصادية وإنما هي مسألة سياسية بامتياز ولن تستقيم الأمور فعلا بالبلاد إلا باعتبار كذلك مادامت أنها مؤسسة على أساس ظلم اجتماعي مفضوح.
علاقة المصالح الدولتية بالفلاح في أفق التنمية
هل السياسات الفلاحية المعتمدة بالمغرب حققت فعلا الأهداف التي رسمت لها، علما أن الفلاحة كانت دائما تعتبر من أولويات الأولويات؟
إنه سؤال شغل جميع المهتمين بشؤون التنمية ببلادنا، لقد كان على الفلاحة أن تشكل قاطرة السيرورة التنموية للبلاد، فإذا كان الجفاف له تأثير على مسار الفلاحة المغربية، فإن هناك عوامل أخرى تكمن وراء الوضع الذي آلت إليه فلاحتنا وباديتنا عموما، ولعل من أهم هذه العوامل سياسات التعامل مع الفلاح والعالم القروي.
لقد اهتمت الدولة بمجموعة من الأحواض والسهول اعتبارا للمساحات المهمة القابلة للسقي وأهمية المخزون المائي بها وضرورة حماية بعضها من الفيضانات، الشيء الذي تطلب تجهيزها على امتداد أربعة عقود تحت إشراف المكاتب الجهوية للاستثمار الفلاحي والمحافظة العامة على الأملاك العقارية والرهون وبتنسيق مع بعض الجمعيات المهنية، إلا أنه ظلت هناك جملة من معوقات التنمية الفلاحية والقروية الحقة...ظلت فاعلة على أكثر من مستوى، سواء عل مستوى الأراضي المعدة أو على مستوى المصالح الدولتية أو على مستوى المعني بالأمر الأول: الفلاح.
وما أصبحنا نلاحظه بجلاء حاليا هو محاولة المصالح الدولتية للتخلص من مختلف المهام على عاتقها، وذلك منذ التسعينات من القرن الماضي، قصد إشراك السكان في التنمية المحلية اعتمادا على الشراكة و " الحوار البناء " وتحسيس السكان بالمسؤوليات المنوطة بهم. لكن هل تم فعلا تأهل السكان للقيام بهذه المهمة ف ظل سيادة عقلية الاتكالية على الدولة منذ أمد طويل ؟
هذا في وقت أصبحت فيه الأوضاع متردية بالبوادي من جراء تمركز الملكية العقارية وصيرورة " بلطرة " الفلاح والقروي واستفحال الهجرة القروية ".
ولقد أكد أكثر من بحث ميداني أن الخلل يكمن في انعدام الثقة بين المصالح الدولتية والفلاحين وفي انعدام التواصل التشاركي الديمقراطي، وفي هذا الصدد ركز بعض الباحثين عن دور الوسيط الاجتماعي والاقتصادي والإداري وأهمية تمكين الأطر والفعاليات التقنية التابعة للمصالح الدولتية من توظيف خبراتهم العلمية والمعرفية على أرض الواقع مدعمة بتجارب وخبرات الفلاحين وذلك بهدف ضمان استمرارية بقاء أهل البادية بأرضهم في إطار تصور جديد لهيكلة السكان في أفق استراتيجية تنموية جهوية لرفع الرهانات المستقبلية.
المستقبل للدين الإسلامي الحنيف، رغم القهر والحيف أراد من أراد وكره من كره
هناك من حين إلى آخر، هنا وهناك حملة واسعة موجهة ضد تحكيم وتطبيق الشريعة الإسلامية وضد الذين يطالبون بتحكيمها. والسلاح الأكثر استعمالا في هذه الحملة هو التلويح بالديمقراطية والتعددية واحترام الرأي الآخر والحرية السياسية أو التناوب أو تدوال الحكم. وهناك من وصل به الأمر إلى اعتبار أن تطبيق الشريعة سوف يحرم الأمة من ممارسة حقوقها السياسية ويحرم المعارضة من التعبير عن مواقفها.
لكن الدين الإسلامي عنصر أساسي لتحديد الهوية والاعتقاد. الدين هو محور الهوية سواء تم الإعلان عن ذلك أم لا. وفي عصرنا الحالي، وفي هذه المرحلة بالذات تشبثهم بدينهم بامتياز..إنهم أصبحوا يبادرون بالقول " أنا مسلم" قبل أن يقول " أنا مغربي " من الأكيد أن انفضاح وهمية الإيديولوجيات الوضعية بجميع تلاوينها ساهم يف ذلك. لاسيما وأنها كانت مصرة إصرارا وبقوة على إرساء مجتمع دولي من نوع جديد يسعد فيه الإنسان لكن مشروعها عرف فشلا صارخا على جميع المستويات : السياسي ، الاقتصادي، الاجتماعي ، الأخلاقي ، الثقافي والحضاري عموما.
هذا الفشل الذريع دفع للبحث عن بديل، ولم يكن المرء يحتاج لوقت أو مجهود، لأنه وجد البديل في الدين سعيا وراء حل مختلف المشاكل التي عجزت عن حلها الاشتراكية والشيوعية والرأسمالية والليبرالية. ورغم أن الصراع بين الشرق والغرب أسفر على منتصر وهو الغرب فإن هذا الأخير يعيش أزمة حادة كنموذج ومنظومة رغم انتشارهما في أنحاء العالم راميا أطرافه كالأخطبوط. أزمته هاته تمتد كل يوم كلما عجز على حل معضلات العصر: البطالة، الفقر، الانحراف، المخدرات الجريمة والإجرام، الاستغلال اللاإنساني وهذا من شأنه أن يدعم أكثر التوجه نحو البحث عن حلول هذه المعضلات ضمن المنظومة الدينية لإرساء مجتمع جديد.
الشباب حاليا أمام اختيارين: إما أن ينجر وراء النموذج الغربي بنمط حياته وبتقدمه العلمي والتكنولوجي، إلا أنه حاليا ببلادنا لا وجود لتنظيم سياسي فعلي يؤطره في المنحى وانطلاقا من هذا المنظور مع مراعاة الهوية الوطنية لذا تظل الهجرة إلى " فردوس الغرب" هو المآل ما عدا ثلة المحظوظين منهم الذين يتوفرون أصلا على شروط العيش في جزر النعيم العائمة في بحر الفقر الممتدة أطرافه في كل الأنحاء وبين مختلف الفئات.
وغما التوجه إلى الدين للبحث عن الخلاص والانفلات من انسداد الأفق والظلم واللامبالاة والحيف والبطالة والتهميش.
وهذا المنحى يتأكد يوما بعد يوم من جراء:
ـ فشل الاشتراكية والشيوعية.
ـ فشل النظريات " العالمثالية "
ـ أزمة النموذج الغربي بمختلف تلاوينه.
وتزيد العولمة من تسريع هذا المنحى واتساع مداه والدين بإمكانه تحقيق درجة مهمة من الملاءمة ما بين البحث عن هوية ذاتية ومتطلبات الشمولية التي تفرضها العولمة في العصر الحديث، والمقصود بالدين هنا هو النهج الرباني. فالدين يتعالى على مختلف الحدود المصطنعة وحتى الطبيعية منها ويتجاوز الانتماءات القومية والعرقية والاجتماعية، إنه يجسد الكونية بامتياز أكثر من أي منظومة أو نموذج وضعي على امتداد التاريخ، وهي " كونية" أو " عالمية " أكثر تجدرا في الإنسان وأكثر ارتباطا به لكونها نابعة من قناعاته الراسخة.
لذا قيل ولازال يقال أن المستقبل للدين، والخلاص هو إتباع النهج الرباني.