|
جهاز الصحة في وضع غير صحي
ميخال شفارتس
الحوار المتمدن-العدد: 1929 - 2007 / 5 / 28 - 11:03
المحور:
الادارة و الاقتصاد
"الثورة" المزعومة في جهاز الصحة الاسرائيلي تخلق جهازين منفصلين، واحد يوفر الخدمات الطبية المتطورة للقادرين على دفع رسوم التأمين المكمِّل، والثاني لذوي الامكانيات المحدودة الذين سيضطرون للاكتفاء بالخدمات المنقوصة. النتيجة تشجيع الطب الخاص وتنصل الدولة من مسؤوليتها عن توفير الصحة لمواطنيها، والعرب، كالعادة، سيكونون اول المتضررين.
ميخال شفارتس
بشرى جديدة وصلت المواطنين الاسرائيليين، وخاصة اعضاء صندوق المرضى العام "كلاليت"، تفيد بحصول "ثورة صحية جديدة" من شأنها ان تحسن التأمين الصحي.
يأتي هذا التغيير بعد موافقة وزير الصحة، يعقوب بن يزري (حزب المتقاعدين)، على بندين: الاول، توسيع التأمين الصحي المكمِّل، والذي يدعى "بلاتينوم"، مقابل دفع مبلغ اعلى طبعا. وسيشمل خدمات طبية محسّنة وادوية حيوية غير مشمولة في سلة الادوية، مثل الادوية ضد السرطان؛ البند الثاني يتعلق باقرار تأسيس مستشفى خاص لصندوق المرضى العام "كلاليت".
صندوق المرضى العام هو اكبر صندوق في البلاد، اذ ضم في عام 2004 نسبة 54% من المواطنين، ويعالج اكبر نسبة من المسنين والفقراء والمرضى المزمنين، كما ان اغلب العرب (75% منهم) اعضاء فيه، الامر الذي يعني انهم سيتأثرون بشكل خاص بالتغييرات المرتقبة. لهذه الاسباب ارتأينا تركيز المقال على صندوق كلاليت، علما ان تحولات مشابهة تحدث ايضا في صناديق اخرى للمرضى في اسرائيل.
اثارت "الثورة" المرتقبة موجة من الانتقادات الشديدة في اوساط اطباء وخبراء آخرين. ويحذر هؤلاء من انهيار جهاز الصحة العام، الذي من المفروض ان يخدم كل مواطن بغض النظر عن امكانياته الاقتصادية، وينافي الامر مبدأ المساواة في العلاج الطبي. اذ ان التأمين المكمِّل يخلق اقتصادا مغلقا مؤسسا على الرسوم التي يدفعها اعضاؤه، بذلك تشجع الحكومة خلق جهازين اقتصاديين منفصلين، واحد يوفر الخدمات الطبية المتطورة للقادرين على دفع رسوم التأمين المكمِّل، والثاني لذوي الامكانيات المحدودة الذين سيضطرون للاكتفاء بالخدمات المنقوصة.
وبما ان 47% فقط من المواطنين العرب يدفعون رسوم التأمين المكمِّل ويتمتعون بخدماته، (مقابل 79% من مجمل المواطنين في اسرائيل)، فان النسبة التي تستطيع الانضمام الى المكمل الجديد (بلاتينوم) ستكون اصغر كونه اغلى. وبذلك يصبح العرب، كالعادة، الاكثر المتضررين من ال"ثورة" المقبلة علينا.
تراجع الدولة عن الصحة
تعتبر هذه الثورة المضادة خطوة اضافية في المسيرة التي بدأت بمخطط الاصلاحات الاقتصادية الحكومية عام 1985. واشتملت المسيرة على خصخصة جهاز الصحة في اسرائيل وتحويله لمشروع اقتصادي تجاري مربح، وتخلي الدولة عن الحد الادنى من التزاماتها الصحية تجاه المواطنين.
والواقع ان الحملة على صندوق المرضى العام "كلاليت" بدأت قبل ذلك، مع صعود حزب الليكود للحكومة عام 1977، علما ان كلاليت كانت لا تزال جزءا من الهستدروت وحزب العمل المعارضين. وخلال تسع سنوات قلّصت الحكومة مشاركتها في ميزانيات كلاليت من 16% الى 2%. في حينها كان 90% من مواطني الدولة مأمّنين في كلاليت.
في عام 1997 ألغت الحكومة الضريبة المفروضة على المشغِّلين لتأمين صحة العاملين (الضريبة الموازية)، والتزمت الحكومة الدفع عنهم. ولكن ابتداء من عام 1999 لم تعد الحكومة تسجل في ميزانيتها بندا خاصا حول نفقات مشاركتها في الضريبة الموازية، الامر الذي يسهل عليها التهرب من الالتزام. وفي قانون التسويات من عام 1998 قررت الحكومة ان على المرضى المشاركة في نفقات الصحة.
وتجدر الاشارة الى ان الغاء الضريبة الموازية كان جزءا من تشجيع وزارة المالية للمشغلين من خلال التقليص في الضرائب المفروضة عليهم، ومنها ضريبة الشركات من 61% الى 36%، وخفض نسبة رسوم التأمين الوطني المدفوعة عن العاملين من 15.65% الى 4.93%، كما تم الالغاء التام لضريبة المشغلين.
ولا شك ان احد التبعات لهذه التغييرات الجذرية هو التدهور المستمر في مستوى الخدمات الصحية، وزيادة عبء الدفع على الاعضاء انفسهم. وتعتبر اسرائيل الثالثة من ناحية غلاء الادوية والخدمات الصحية، بعد سويسرا والولايات المتحدة. ويحذر خبراء من انزلاق اسرائيل التي اشتهرت في السابق بجهاز صحي ممتاز للجميع على نمط دول الرفاه الاوروبية، والتحول الى النمط الامريكي المشؤوم، الذي يوفر جهازا خاصا متطورا وغاليا للشرائح المتمكنة اقتصاديا، وجهازا عاما منقوصا للفقراء.
ويمكن تتبع هذا التغيير على مدار السنوات في الارقام التالية: في بداية الثمانينات ساهمت الدولة ب81% من النفقات العامة في مجال الصحة، بينما ساهم المواطنون ب19% فقط. اما اليوم فتراجعت نسبة مشاركة الدولة الى 66% فقط، بينما ارتفع قسط المواطنين الى 34%.
ميزانية الصحة لعام 2007 تعتبر اصغر ب14% من حجمها عام 2001، كما ان الميزانية لتطوير الخدمات الصحية مثل شراء الاجهزة لعام 2006، كانت اصغر ب60%! مما كانت عليه عام 2001.
صحيح ان سن قانون الصحة عام 1995 كان خطوة جدية، سبقها تأسيس 59 مركزا لرعاية الام والطفل في المراكز العربية. ولكن من البداية شنت وزارة المالية حربا على هذا القانون في محاولة لتفريغه من مضمونه. من ذلك ان الحكومة امتنعت عن تحديد المقاييس اللائقة لحتلنة ميزانية سلة الادوية، فتتجاهل زيادة معدل الحياة والازدياد الطبيعي للسكان، الامر الذي يقود الى تآكل سلة الادوية سنة بعد سنة. كما يستثني القانون طب الاسنان، وتقديم المساعدة الطبية الملازمة للعجزة.
كما حددت الحكومة سقفا لضريبة الصحة المفروضة على المواطنين، ويصل الى خمسة اضعاف معدل الاجور في اسرائيل اي 35.500 شيكل، ويعني هذا ان الاقلية التي تزيد اجورها عن هذا المبلغ، لن تدفع بشكل نسبي لاجورها بل اقل منه، وبهذه الطريقة تخسر الدولة 350 مليون شيكل سنويا، وهو بالضبط المبلغ الناقص في سلة الادوية.
وقد شهدنا قبل الانتخابات الاخيرة مظاهرات عديدة ضد استثناء ادوية حيوية من السلة. وقد يكون الغضب الشعبي حول هذا الموضوع احد اسباب فوز حزب المتقاعدين الجديد بثمانية مقاعد في الكنيست وتسلمه حقيبة الصحة. ولكن المفارقة ان وزير الصحة بن يزري هو الذي يهاجم حقوق المرضى، الامر الذي يشير الى اجماع حكومي كبير حول خصخصة جهاز الصحة.
نمو جهاز خاص
يرافق هذه العملية نمو جهاز صحي خاص لمعالجة الاغنياء، ويقترح اجورا عالية للاطباء المجربين والممرضات، الامر الذي يجذب الطواقم الصحية الممتازة من الجهاز العام الى الخاص، ويتيح للاطباء امكانية اختيار المريض (ذي الامكانيات) الذي يريدون معالجته، اما الفقراء فسيكون عليهم الاكتفاء بالاطباء الجدد والمتمرنين.
"الخدمات الطبية الخاصة" (المعروفة بالعبرية باسم "شاراف")، كانت تعمل داخل اربع مستشفيات عامة. وكانت جزءا مما يسمى ب"الطب الاسود"، اذ يتم دفع مبلغ معين للطبيب مقابل الحصول على خدمات خاصة في نفس المستشفى، بعد دوامه العادي ضمن عمله في القطاع العام. وكان معروفا انه بعد الظهر "يختفي" الاطباء من العمل، ويتحولون للعمل في وردية خاصة مقابل النقد.
وقد الغي هذا البرنامج عام 2002 بقرار من المستشار القضائي حينها الياكيم روبنشتاين، بقرار من محكمة العدل العليا التي نظرت في التماس قدمته "كلاليت" ضد هذا البرنامج. لكن الغاء البرنامج الخاص لم يحل المشكلة، كما صرح د. بارباش، مدير مستشفى ايخيلوف لموقع واي نت (9/6/2005)، لان الاطباء الذين يبحثون عن الارباح اخذوا يتركون المستشفيات العامة وينضمون الى المستشفيات الخاصة التي بدأت تنمو في كل مكان.
التزام المؤسسات الطبية الخاصة يكون اولا تجاه اصحاب الاسهم، وليس تجاه المريض. وحين تعمل الصحة من منطق تجاري، تبدأ فضائح الرشوة والفساد بين الاطباء، الذين أقسموا اليمين على الالتزام تجاه المرضى بغض النظر عن انتماءاتهم واوضاعهم.
وتنعكس هذه التغييرات التي تضع منطق الربح فوق الصحة، على علاقات العمل ايضا. فيتم تشغيل الممرضات من خلال شركات القوى البشرية او بعقود خاصة، تهربا من التزام المسشتفيات بكامل حقوقهن، وبينها الحق بالتنظيم النقابي. كما يتم نقل خدمات مثل النظافة، التغذية الى مقاولين فرعيين، في محاولة لتقليص النفقات على حساب المرضى.
وكان احد النتائج الخطيرة لهذا الامر ما شهدناه مؤخرا من انتشار الجرثومة الفتاكة (كلابسييلا) في اروقة المستشفيات التي يتم الاقتصاد في نفقات تنظيفها وتعقيمها، مما حولها الى مكان خطير على ارواح المرضى.
في المواجهة بين وزارة المالية التي تقلص ميزانيات الصحة، وبين وزارة الصحة وصناديق المرضى والمستشفيات المتضررة من هذا التقليص والتي تلجأ للبحث عن مصادر تمويل بديلة، يخسر المريض. المشكلة ان كلا الطرفين يتحججان بان موقفهما هو لصالح المريض.
المحامي يوئيل لفشيتس، المسؤول في وزارة الصحة عن صناديق المرضى، والمؤيد للخصخصة، قال ان "كل هذا يشبه حفلة اقنعة، كل طرف يمثل الدور المعاكس لطبيعته: وزارة المالية ترفض ضم ادوية حيوية لسلة الادوية بادعاء اهتمامها بالمساواة، ولكنها في نفس الوقت تعمل على فتح مستشفيات خاصة في اطار صناديق المرضى؛ اما المستشفيات الحكومية فترفض فتح مستشفيات خاصة، يمكن ان يهرب اليها الاطباء الممتازون مما قد يمس بمستوى الطب العام، ولكنهم بالمقابل يطلبون فتح خدمات صحية خاصة ضمن المستشفيات الحكومية القائمة". (هآرتس، 4/4/07)
العرب وفقر الصحة
نشرت الصحف في منتصف شهر نيسان الاخير انباء عديدة تفيد بان الفقراء هم الضحية الاولى للامراض. "يديعوت احرونوت" نشرت في 16/4 بان نسبة الوفاة نتيجة جلطة في الدماغ بين الفقراء تبلغ ضعف نسبتها بين الاغنياء، ونسبة المصابين بمرض الالتسهايمر بين الخُمس الادنى من المجتمع (اي ال20% الافقر منه) تبلغ اربعة اضعاف نسبتها في الخُمس الاعلى.
صحة المواطنين العرب في الدولة اسوأ من صحة بقية المواطنين، ليس فقط بسبب الفقر، بل بسبب انعدام وجود بنية تحتية للمجاري، عدم انتظام في توفير المياه والكهرباء، قلة العيادات، الاكتظاظ في السكن، وغيرها من العواقب الوخيمة المترتبة على اهمال حكومي لاسباب عنصرية. ويساهم في تدني الوضع الصحي للعرب مشاركتهم العالية في العمل البدني الصعب.
ويتجلى الوضع الخاص للعرب في الاحصائيات المخيفة التالية: ففي عام 2005 كان معدل الحياة للرجل العربي في اسرائيل اصغر من معدلها عند اليهودي بثلاث سنوات تقريبا (75 سنة مقابل 78.8). اما معدل الحياة للمرأة العربية فكان اصغر من معدلها عند اليهودية باربع سنوات تقريبا (78.7 سنة مقابل 82.7). وقد ارتفع المعدل على مدار السنوات، ولكن الفجوة بقيت على حالها.
نسبة وفاة الرُضّع عام 2005 بلغت 8 من 1000 طفل رضيع عند العرب، مقابل 3.3 عند اليهود. وكانت نسبة الوفيات في التجمعات السكنية الفقيرة اعلى من نسبتها في مواقع اخرى. في عام 2004 اضطر 39% من المواطنين العرب للاستغناء عن الادوية الضرورية بسبب اسعارها الغالية.
ويبدو ان اتساع الفجوة بين الطبقات في اسرائيل، الهرولة وراء الارباح والشهرة، وتخلي الحكومة عن مسؤوليتها تجاه المريض، كل هذا يخلق جوا يشجع الطب الخاص والطب الاسود على حساب الفقراء والعرب، مهما كانت الاجراءات الجزئية التي تتخذ ضده.
#ميخال_شفارتس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جهاز التعليم الاسرائيلي في انهيار
-
لنبني حركة نسائية نقابية واسعة
-
الدولة تتآكل فسادا
-
قانون تجميد الحب
-
الطلاب الفلسطينيون رهائن الصراع السياسي
-
اختلاف فتح وحماس يجر تصعيدا اسرائيليا
-
حكومة وحدة قبل الهاوية
-
معًا في ندوة دولية عن -حقوق المرأة العاملة
-
قانون الجنسية: خطوة فاشلة في الحرب الديمغرافية
-
السلطة الفلسطينية من فتنة الى حكومة وحدة؟
-
حكومة حماس، تكون او لا تكون
-
حماس والعالم في إرباك
-
فتح تنقلب على منظمة التحرير
-
خلل قيادي في فتح
-
القدس في خطر
-
اخلاء غزة: المنتصر والمهزوم
-
الصهيونية في ازمة ايديولوجية عميقة
-
المرأة الضحية الاولى للفقر
-
كل الاساليب لانتزاع اعتراف من طالي فحيمة
-
الانتخابات الفلسطينية لن تحل المشاكل الاساسية
المزيد.....
-
بعد اجتماع البنك المركزي بتثبيت سعر الفائدة .. سعر الدولار ا
...
-
بسعر المصنعية .. سعر الذهب اليوم بتاريخ 22 من نوفمبر 2024 “ت
...
-
سؤال يؤرق واشنطن.. صنع في المكسيك أم الصين؟
-
-كورونا وميسي-.. ليفاندوفسكي حرم من الكرة الذهبية في مناسبتي
...
-
السعودية: إنتاج المملكة من المياه يعادل إنتاج العالم من البت
...
-
وول ستريت جورنال: قوة الدولار تزيد الضغوط على الصين واقتصادا
...
-
-خفض التكاليف وتسريح العمال-.. أزمات اقتصادية تضرب شركات الس
...
-
أرامكو السعودية تتجه لزيادة الديون و توزيعات الأرباح
-
أسعار النفط عند أعلى مستوى في نحو 10 أيام
-
قطر تطلق مشروعا سياحيا بـ3 مليارات دولار
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|