على جميع القوى الوطنية العراقية أن تفكر وتعمل من أجل الدولة والمجتمع المدني وفق جوهر الديمقراطية
لا شك أن مصطلح المجتمع المدني أصبح شائعاً منذ العقــــد الرابع من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، و كنا نادراً ما نجد ذكر هـــــذا المصطلح في الأدبيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكــــان المرادف لهذا المصطلح الحديث يدور حول عدة تسميات لقيام المجتمع الحر الــــــــذي يتمتع بحقوق دستورية وحريات للتعددية والفكرية والمعتقد والانتماء، وكثيراً ما كـــــان يشاع عن تبديل في قمة السلطة بالحديث عن انتهاك حقوق المواطنين وبناء الوطن والابتعاد عن القضايا المركزية التي شخصت وفي بدايتها القضية الفلسطينية ثم بالتالي محاربة القوى اليسارية وفي مقدمتها الاحزاب الشيوعية على اساس اتهامهم بالالحاد والكفر والاباحية والبغاء.. مع العلم أن الوقائع اثبتت بما لا يقبل الشك أو الجدل وخلال مسيرة هذه الدول على الرغــــــــم من شموليتها وعدم تحويل المجتمعات فيها إلى مجتمعـــات مدنية وديمقراطية والتي كانت تحكمها هذه الاحزاب فقد منع البغاء والاباحية وغيرها من المفسدات والموبقات بقوانين صارمة لم نجدها في كثير من البلدان الغربية وحتى في العديد مـــــن البلدان الاسلامية والعربية حينذاك..
أن القضية الاساسية كانت وما زالت هي السلطة وضرورة المحافظة عليها بالقوة أو تزيف الوقائع وتزوير الحقائق وخداع وعي الجماهير، وبتغيب دور المجتمع بقوانين تسن لهذا الغرض تمنح الحق للحكام الظالمين بالبقاء على كراسيهم طـــوال حياتهم وبخاصة في الدول ذات النظام الجمهوري أو الدول التي تسيطر عليها فكرة الحزب الواحد بروحية الانقلاب والمؤامرة ، هـــــذه القوانين التي تُفَصل حسب القياسات المطلوبة والمرغوبة والتي قال عنها تقريباً صدام حسين " القانون عبارة عن ورقة مكتوبة نستطيع تمزيقها متى نشاء ونكتب غيرها، اذاً لا يوجد قانون ثابت " الفكرة واضحة وذات هدف تآمري لتزيف وتشويه وتسفيه فكرة القانون والحق المدني في القضاء والعدالة الحقيقية.
وإذا تجردنا من الموقف المضاد إلى الموقف الحيادي النسبي نقول بكل صراحة ان القانون الوضعي ليس بالثابت وهو يتغير ولكن كيف يجري التغيير هل مثلما اشار صدام كلمة حق يراد من خلفها عمل باطل؟ .. ولمـــــــاذا ومن هو أو هم الذين يغيرونه وما هي مصلحتهم من التغيير؟..
إذا كان التغيير منفعة فردية ومصلحة ضيقة انانية فالقوانين ستكون حتماً جائرة وإرهابية تخدم الطغاة من الحكام وتجعلهم في مصاف الآلهة مثلما هو حالة العراق في زمن النظام الشمولي، هذه القوانين التي وضعت بالضد من المجتمع وجعلته مجتمعاً مطيعاً إطاعة عسكرية لخدمة توجهات السلطة الحاكمة وأغراضها السياسية والأمنية، ولا يمكن ان تتوافق مع أهداف ومبادئ المجتمع المدني الديمقراطي.. ومن هنا تصح المقولة بضرورة تغيير هذه القوانين الضارة بعدما سقطت الديكتاتورية الفردية والحزبية والارهاب بالقوانين التي تحدد من حريات الناس وتجعل القمع والرعب ادوات لتحقيق ما ترمي وتهدف إليه..
اما الفكرة الاخرى الهادفة والصحيحة في ظاهرة التغيير الطبيعية عندما تصبح القوانين الوضعية المرحلية حجر عثرة في تطور المجتمع المدني ولكي يتم تبديلها تجري عملية سن قوانين أخرى بواسطة المجتمع لأنه هو المسؤول الوحيد الذي يجب استشارته في التغيير، عن طريق الاستفتاء او البرلمان أو عن طريق هيئات تمثله بشكل حر ومستقل وديمقراطي..
وعلينا أن لانكون متفائلين بالشكل المرئي دون المضمون من خلال ما يقال عن البرلمانية وحرية الانتخاب وديمقراطية التوجهات فحسب لأننا نسمع ونرى دولاً لها مثل هذه المؤسسات التي تبدو ظاهريا واعلامياً وكأنها تمثل ارادة الشعب لكنها في الحقيقة ومن خلال الممارسة الفعلية للسلطة في تسير شؤون المجتمع نلاحظ ابتعاد هذه الدول عن روحية واهداف ومبادئ الدولة والمجتمع المدني الديمقراطي التعددي وأن كانت هناك احزاباً تشترك في هذه العملية وتتفاعل معها لكن ضمن خطوط لا يمكن تجاوزها، ولهذا نجد قوانيناً تسن بعدم السماح لأحزاب اخرى للظهور العلني فتضطر لممارسة العمل السري، وتعمل في السر تلاحقها اجهزة الشرطة والامن والقوانين التي اعدت لهذا الغرض وصولاً إلى السجن والتعذيب لمجرد وجود خلاف فكري حول ممارسة الديمقراطية وخلود الزعماء ، ونستطيع ان نذكر العديد من هذه الدول في اسيا او افريقيا وحتى امريكا واوربا.. فمجرد اضراب مدني سياسي سلمي تظهر ادوات القمع والارهاب والعصى الغليظة وإذا تطور الامر فهم يسخرون قواتهم المسلحة لكي يقمعوا مظاهرة أو عصياناً أو أضراباً حتى وان كانت جميعها سلمية من أجل أن لا تتضرر مصالح القلة ولتذهب مصالح الأكثرية في المجتمع إلى الجحيم..
إذن فالدولة والمجتمع المدني لا يمكن قيامهما إذا كانت الديمقراطية السياسية مفقودة أو مفقود جزء منها تحت حجج ومسوغات يحتاجها الحكام أو الاحزاب الحاكمة التي تدعي أنها تمثل الشعب كله ، وبما أن المجتمع المدني والديمقراطية توأمان لا يمكن فصلهما عن بعضهما، وإذا لم تكن كذلك فسوف تفقد الدولة والمجتمع المدني صفتيهما القانونية والتشريعية وتنقلب الدولة إلى دولة عادية وأداة للتسلط السياسي في المجتمعات الطبقية والأنظمة الشمولية والدكتاتورية والديمقرطية الشكلية، وهنا تتنوع اشكال هذه الدول وانماط حكوماتها وحكامها ويلغى المجتمع المدني أو الكثير من أجزائه بذرائع عديدة، عند ذلك لا يستطيع المجتمع ان يقرر شكل القوانين التي تفيده بل تفرض عليه بالقوة ليكون ملزماً بتنفيذها وطاعتها مرغماً على الرغم من أنها ضد مصالحه.
لقد مر العراق بفترات عديدة منذ تأسيس الدولة العراقية المركزية منذ ثمانين عاماً وحتى انهيارها في 9 نيسان 2003 بواسطة القوات الاجنبية، حيث احتل العراق واصبح الاحتلال قانونياً بواسطة قرار مجلس الأمن 1483 .. ولم تكن الدولة العراقية الملكية ثم الجمهورية بجميع ظروفها واتجاهاتها السياسية دولة للمجتمع المدني الحقيقي على الرغم من بعض المحاولات الغير محسوسة هنا وهناك لأبعاد سيطرة العسكر والفرد الواحد والقلة الذين لا يمثلون إلا أنفسهم، وبالتالي قيام دولة البعث الدموية الاولى في 1963 وعهد الاخوين عارف ثم مجئ حزب البعث بعقلية الانقلاب والمؤامرة وسيطرته على السلطة.. لو دققنا في فترة الحكم الملكي للاحظنا ان الدولة كانت تحكم بواسطة الشرطة والتحقيقات الجنائية والجيش والقوانين الجائرة والانتخابات المزورة والمزيفة والمعاهدات الاستعمارية التي كانت تفرض على العراق والمجتمع العراقي وبوجود القواعد الاستعمارية العسكرية، ولو راجعنا فترة ما بعد ثورة 14 تموز 1958 وحتى اثنائها لوجدنا أن العراق عاش طوال فترة 45 عاماً بدون دستور دائم وتحت رحمة الانقلابات العسكرية وتسلط القوى القومية وحزب البعث العراقي على الشعب بواسطة الانقلاب والمؤامرة وفرض نفسه وكأن العراق والشعب العراقي ملكاً لشخص قائده صدام حسين وحزبه الذي أنهى كل تطلع للمجتمع المدني التعددي بقوله " كل العراقيين بعثيون وان لم ينتموا" ثم ما شرع وسُن في زمنه من قوانين ظالمة وجائرة ألغت دور الفرد والمجتمع معاً في اتخاذ القرارات التي تخدمهما وتنفعهما بل بالعكس فُرِضَتْ هذه القوانين على المجتمع حتى لو كانت تضره والتي يستطيع صدام حسين متى يشاء تمزيقها حسب مزاجه والحالة المطلوبة أو كتابة غيرها وابقائها فترات طويلة جداً، وهو فرد واحد بينما لا حق لـ 25 مليون عراقي رفضها وعدم القبول بها، لقد اسبغ صدام حسين على مقولاته وقوانينه صورة المنفعة واسترشد بها بطريقة ذاتية وانطلق في نظرته ان كل شيء نافع وصحيح إذا أدى إلى هذه المنفعة الضيقة لشخصه وسلطته ولهذا انتهج سياسة براغماتية ودموية مُخَلّفاً من ورائها دمار وخراب شاملين ومئات الالاف من الضحايا في حربين بررهما بمقولات نفعية أدت إلى المقابر الجماعية وتغيب المعارضين وفق قوانينه الخاصة.
اليوم ونحن نرى قيام دولة عراقية بشكل تدريجي ومما يؤسف له تحت نير الاحتلال نجد من الضرور ان يتمكن مجلس الحكم العراقي الانتقالي ومجلس الوزراء الجديد تجاوز المحنة الحالية التي ستحسم قضايا كبيرة ومهمة للشعب العراقي ، وان يضع نصب عينيه قيام دولة تكون لمجتمع مدني ديمقراطي تعددي على اساس دستور دائم يفصل ما بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وقوانين انسانية تضمن حقوق الإنسان وقضاء مستقل وحقوق سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية لجميع المواطنين لاستقرار المجتمع وتمتعه بالامان والسلام وحقوق الإنسان والحفاظ على استقلال البلاد بإنجاز تشكيل الجيش العراقي الجديد الذي يجب أن يكون هدفه الحقيقي حماية هذا الاستقلال لا الانقلابات العسكرية لمنفعة حفنة من المغامرين للوصول للسلطة والحكم..
ان الهدف والفكرة من طرح وتبني مفهوم المجتمع المدني الوصول إلى صيغة ملائمة تفيد الجميع وبخاصة الذين تهمهم الديمقراطية وبالضد من الدكتاتورية وبالتالي معرفة العالم الخارجي لكي يجعلنا بلوغ معرفة الموضوع معرفة شاملة وعميقة من أجل ضمان نجاح الخطط للوصول إلى الهدف في التغيير المرتقب في بنيان الدولة الجديدة
والمجتمع المدني الذي نهدف إليه.
ان تُنقل البلاد من حالة الفوضى وعدم الاستقرار إلى موقع مستقر لكي تجري الانتخابات الحرة لانتخاب الحكومة الوطنية والتخلص من الاحتلال وبالتالي أن نحكم أنفسنا بأنفسنا بدون أية وصاية أو ذيلية أوتبعية، وان تكون الديمقراطية اساس العلاقة في تنظيم حياة المجتمع بمنحه الحرية بشكلها الملتزم النافع للجميع وان تراعى فيه قضية الأخاء فيما يخص الانتماء للوطن وعدم الاضرار بمصالح الشعب العراقي ..
لقد آن الآوان لكي تفكر وتعمل جميع التجمعات والاحزاب والقوى الوطنية العراقية في بناء الدولة والمجتمع المدني وبالجوهر الديمقراطي الحر الذي تبنى عليه مثل هذه الدولة وكذلك المجتمع لأنهما الشكل والمضمون للعملية الديمقراطية، الطريق الحقيقي لفائدة الأكثرية من ابناء شعبنا العراقي وبناء البلاد ومؤسساته الدستورية التشريعية والتنفيذية والقضائية والأمنية والمؤسسات الانتاجية ( الصناعية والزراعية ) والتعليمية والخدمية وغيرها.. وهو الطريق الوحيد الذي سوف لا يسمح لقوى التآمر وروحية الانقلابات والمؤامرة بالعودة ثانية لأن المجتمع سيكون بالمرصاد لكل من يريد العبث بمقدراته وحريته وحقوقه المشروعة وبمؤسساته المنتخبة بشكل حر وطوعي بعيداً عن الجبرية والآمرية والارهاب.