الخلاف الدائر بين مؤسستي الرئاسة ورئاسة مجلس الوزراء، والذي أسماه "أبو مازن" بالخلل في العلاقات الوظيفية بين مؤسسات السلطة الواحدة ـ بين الحكومة والرئاسة وبين السلطة والمنظمة، وبالرغم من أن الخلافات والاجتهادات هي مسألة طبيعية، والاتفاق على القواسم المشتركة يضيق مساحة الخلاف ويؤدي إلى صيغة من التقارب في وجهات النظر وتحقيق التفاهم، إلا أنه يفتح الباب على مصراعيه، أمام المزيد من التدخلات الأمريكية والإسرائيلية في شؤون الساحة الفلسطينية، وتحقيق الاختراقات فيها، وفرض الإملاءات بالقوة على الفلسطينيين.
بات معروفاً أن إسرائيل تسعى دوماً لنقل أزمة عملية التسوية السياسية إلى الجانب الفلسطيني، للتملص من الاستحقاقات المطلوبة منها في في إطار "خارطة الطريق" ولتوسيع دائرة الخلاف بين السلطة الفلسطينية والمعارضة، وتهميش دور القيادة الفلسطينية التاريخية للشعب الفلسطيني، وإظهارها دولياً وإقليمياً بمظهر العاجز، وجر الفلسطينيين إلى ردات فعل توظفها كمبررات لإطلاق "رصاصة الرحمة" على "الخارطة". لذا سارعت إسرائيل إلى التدخل في هذا الصراع، في مسعى منها لإنشاء قيادة فلسطينية بديلة، طالما اشتغلت إسرائيل عليها، وساندتها الولايات المتحدة، التي كان من المفترض أنها راعٍ لعملية السلام، إلا أنها جارت المخططات الإسرائيلية، فهي تتحمل المسؤولية الكبرى عن إستئناف دوامة العنف من جديد، وعودة الأمور إلى نقطة الصفر مرة أخرى.
يمر الشعب الفلسطيني بمرحلة حساسة وحرجة من تاريخه، ولا شك في أن أي شق في وحدة الصف الفلسطيني، سيفتح الباب واسعاً أمام إسرائيل لتحقيق مراميها في تحويل الصراع إلى فلسطيني- فلسطيني، بما يمكنها من تنفيذ كل مخططاتها التي أخفقت في تحقيقها طوال السنوات الماضية.
ولا شك بأن هذا التدخل الإسرائيلي والأمريكي، والتذرع دائماً بشعار "الإصلاح"، الذي هو في الأساس مطلب فلسطيني، ليس من أجل سواد عيون الفلسطينيين، بل محاولة لإستغلال هذا الطرح لإذكاء وتأجيج الخلاف الحاصل بين المؤسستين، ونقل الأزمة إلى داخلهم، وتفتيت صفوفهم، بهدف المجيء بقيادة طيعة تلبي الإملاءات الأمريكية والإسرائيلية، الأمر الذي يستوجب من جميع القوى الفلسطينية، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة وقفة صادقة مع النفس، واستيعاب اللحظة السياسية الراهنة، وتوحيد جهودها ومواقفها لتفويت هذه الاستهدافات وإفشالها، وذلك بتحقيق أقصى قدر ممكن من التوافق السياسي والميداني، وعدم الوقوع مرة ثانية، في الفخ الإسرائيلي، الذي وقعت فيه بعض الفصائل في السابق، حين تعاملت بردة فعل غير محسوبة أثناء الهدنة، مما أعطى إسرائيل المبررات لضرب بعض الرموز السياسية والقيادية الفلسطينية، وتحقيق مكاسب إعلامية أمام الرأي العام العالمي، مدعيةً بأن الفلسطينيين هم الذين خرقوا "الهدنة"- كما حدث في عملية القدس الأخيرة، التي أعطت إسرائيل ذريعة لتعطيل اتفاق الإنسحاب من أربع مدن فلسطينية أخرى، والتوقف عن مطاردة من تسميهم بالمطلوبين.
ويخطئ أي فصيل فلسطيني، كائناً من كان، إذا اعتقد أنه يستطيع أن يدير الصراع مع إسرائيل من خلال رؤية سياسية خاصة به، وأن برامجه السياسية ورؤيته هي الزاوية الوحيدة والناجعة لإدارة الصراع. ويجب على الجميع أن يأخذوا بالحسبان ظروف الصراع المعقدة، وأن يقدم الجميع التنازلات لخدمة المشروع الوطني الفلسطيني، وإعلان موقف سياسي بعيد عن التشنج وردات الفعل الانفعالية، وهذا يمكن تحقيقه فقط من خلال قيادة موحدة، تتفق على الأقل مبدئيا على برنامج سياسي مؤقت، لحين إجراء انتخابات سياسية عامة، تتولى القيادة المنبثقة عنها إعتماد استراتيجية نضالية تحظى على موافقة جميع القوى السياسية.
عندما أعلنت الفصائل الفلسطينية "الهدنة" ألقت بكرة النار الملتهبة في المرمى الإسرائيلي، ووضعت إسرائيل حينها، في موضع اختبار جاد وحقيقي أمام المجتمع الدولي والعرب، حول ما إذا كانت جادة فعلاً في قبول تسوية سلمية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي خاصة، والصراع العربي- الإسرائيلي! واليوم يجب إعادة كرة اللهب إلى المرمى الإسرائيلي ثانية، وذلك من خلال صياغة رؤية سياسية وطنية واضحة تراعي التغيرات في المنطقة واختلاف موازين القوى، والدفاع المستميت عن هذا المشروع، المتمثل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشريف، على الأراضي الفلسطينية التي احتلت في الرابع من حزيران 67، وتأمين حق العودة لجميع اللاجئين وفق القرار (194).
من المهم بمكان إبراز حديث "أبو مازن" أمام المجلس التشريعي، والتذكير بأهمية استخلاص العبر من الهدنة، ليس باتجاه القيام بعمليات ثأرية يمارسها كل فصيل وفق اجتهاده رداً على الأفعال الإسرائيلية، مما يوفر لإسرائيل غطاء لنسف كل شيء، وإغلاق طرق الحل السياسي لمصلحة فتح طريق التصعيد العسكري(ولا بالتغاضي عن معادلة مدمرة، قوامها ردود أفعال انفعالية قد تسفر عن تحطيم زجاج منزل في مستوطنة لقاء تدمير حي فلسطيني بكامله.. وقتل عشرات الفلسطينيين الأبرياء وتجريف الآلاف من الدونمات المزروعة).
جاء اجتماع المجلس التشريعي في ظل تحريض وضغط إسرائيلي ـ أميركي على الحكومة الفلسطينية، لكي تتجاوب مع المطالب الشارونية، التي تستهدف ضرب روح المقاومة الفلسطينية، وتحجيم نفوذ الرئيس ياسر عرفات، الذي سيظل رمزاً لمسيرة الكفاح الفلسطيني، وتحقيق آمال الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الحرة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وفق حدود 4 حزيران 67.
لقد وضع "أبو مازن" النقاط على الحروف في بيان الحكومة أمام المجلس التشريعي، حيث حدد بوضوح نظرة حكومته إلى الشرعية الفلسطينية، وشدد على أن الرئيس ياسر عرفات هو الرئيس المنتخب وأن منظمة التحرير الفلسطينية بكافة مؤسساتها هي الإطار السياسي الذي يمثل كل الشعب الفلسطيني، كما أنها القيادة السياسية العليا للشعب الفلسطيني.
نعم من الضروري جداً، والملحّ أكثر من أي وقت مضى، أن يتم التعامل مع قضية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على أساس عدم انفراد أي طرف بممارسة استراتيجيته الخاصة، مما يمزق الوحدة الوطنية، ويتيح المجال أمام ضعف وانهيار الجبهة الداخلية.. وإنما يجب التعامل مع هذه القضية على أساس الإستفادة من إنجازات الصمود الشعبي العظيم وتحويلها إلى حقائق سياسية، والتحلي بالرؤية الدقيقة للواقع المحلي والتوازنات الدولية، وإبراز قضيتنا كقضية شعب في مواجهة احتلال ظالم، وليس كمسألة ا صراع وقتال بين جيوش وقوى عسكرية متكافئة.
• كاتب وصحافي فلسطيني/ غزة
• 06/09/2003