د. سيّار الجميل
مؤرخ عراقي / تورنتو - كندا
فضائه الاجتماعي الديني :
مارس سماحة السيد محمد باقر الحكيم رحمه الله انشطته الاجتماعية منذ وقت مبكر من حياته، وقد منحته المواصفات الذاتية التي يمتلكها، وانتمائه للمرجع الأعلى كابن بار بوطنه واهله فرصة واسعة للتحرك في الأوساط الاجتماعية المختلفة. فكانت له زياراته المتعددة للمدن ، كما كان يولي المجالس الحسينية والمواكب والجهود المبذولة لتطويرها من ناحية المحتوى والمضمون والتنظيم اهتماماً خاصاً، ونذكر على هذا الصعيد عنايته الخاصة بالمشاركة في مواكب الطلبة ممثلاً عن والده المرجع الاعلى السيد محسن الطباطبائي الحكيم اذ شارك الرجل مشاركة فعلية منذ منتصف عقد الستينيات في تطوير التفكير والتقاليد الشيعية في العالم الاسلامي وحتى توقفها بعد مجيء حزب البعث العراقي وبدأ النظام السياسي بمضايقته في اداء الشعائر والتقاليد في حين كانت الحوزة تسعى لتطوير محتوى جميع هذه الشعائر من اجل التعبير عن أهمية هذا المشروع بكل ما يهدف اليه الخطاب الشيعي وكل ملحقاته وحاجاته خصوصا ما يخص تأسيس المكتبات والجمعيات الاسلامية لما لها من دور كبير في نشر الوعي الاسلامي وكونها تمثل منتدى لتجمع المؤمنين في كل المدن العراقية.
والمشاركة باقامة الاحتفالات الدينية ذات الطابع الجماهيري والسياسي والعقائدي .. وهي احتفالات كانت تقام تحت رعاية السيد والده المرجع الأعلى الامام آية الله العظمى محسن الحكيم ويحضرها عادة وجوه المجتمع العراقي من علماء كبار ومجتهدون وساسة، ومثقفون وشعراء وادباء العراق، حيث كانت تلك الاحتفالات تتحوّل إلى تظاهرات سياسية تعبر فيها المرجعية الشيعية الدينية عن مواقفها تجاه الأحداث المحلية والدولية وخصوصاً فيما يتعلق بأمور الاسلام والمسلمين في العراق والعالم الاسلامي . وكان للسيد المترجم دور المساهمة في التأسيس لهذه الاحتفالات، كما كان إلى جانب شقيقه الشهيد العلامة السيد مهدي الحكيم يتناوبان في القاء كلمة المرجعية في مثل هذه الاحتفالات .. باختصار ، لقد ساهم الراحل محمد باقر في التحولات الكبرى التي شهدتها النجف الاشرف في القرن العشرين . وكان الى جانب الراحل في هذا المشروع جماعة من السادة العلماء الأفاضل، امثال العلامة السيد مهدي الحكيم والعلاّمة الدكتور السيد محمد بحر العلوم، والعلاّمة السيد هادي الحكيم في بغداد وآية الله الشيخ علي سماكة في الحلة، وحجة الاسلام والمسلمين الشيخ علي الصغير والعلاّمة السيد مرتضى العسكري في بغداد، والعلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين في الديوانية وغيرهم وكان لهذه المهرجانات دور كبير في تعبئة الامة ثقافياً وسياسياً وروحياً وتشخيص موقفها العام تجاه الاحداث والمطالبة بحقوقها، وكان لها تأثيرات سياسية واجتماعية وثقافية مهمة حتى جاءت سلطة 17 تموز 1968 ومنعت تلك الانشطة وبدأت بسياسات القمع .
حركته السياسية
وعلى الصعيد السياسي، فقد دخل الراحل منذ البداية في دائرة الاهتمام بايجاد التنظيم السياسي الاسلامي الذي يكفل ايجاد القدرة على التحرك السياسي المدروس في أوساط الشعب العراقي. وبهدف ردم الهوة بين الحوزة العلمية والشرائح الاجتماعية المثقفة، حيث كان هناك شعور بالحاجة لتنظيم ديني يتبنى النظرية الاسلامية المأخوذة عن أهل البيت ومرتبط بالحوزة العلمية ومشاريعها من ناحية، ولمواجهة التنظيمات الاخرى على الساحة من ناحية أخرى، وضرورة الارتباط بالاوساط المثففة الحديثة وغيرهم، وكذلك التحولات السياسية المهمة في المنطقة عموماً والعراق خصوصاً بعد سقوط الاسرة الهاشمية الملكية وقيام النظام الجمهوري وهي الاسباب التي تشكل خلفية اتخاذ قرار تأسيس التنظيم الديني سنة 1958م، الذي شارك فيه مع آخرين من العلماء أمثال : السيد محمد باقر الصدر ، والسيد محمد مهدي الحكيم، والسيد مرتضى العسكري وهو التنظيم الذي أصبح يعرف فيما بعد بـ (حزب الدعوة الاسلامية)، اذ استمر مشاركاً في مرحلته التأسيسية وكان يقوم خلالها بدور فكري وثقافي وتنظيمي لمدة سنتين، الا أن حراجة الظروف املت على هؤلاء ان يتركوا العمل داخل الاطار الحزبي، ويتفرغوا للعمل الجماهيري بقيادة المرجعية الدينية. وعلى الرغم من تركه العمل الحزبي إلاّ انه أبقى علاقته بالعمل السياسي المنظم على مستوى الرعاية والاسناد والتوجيه من خلال جهاز مرجعية والده الكبرى الامام محسن الحكيم ، وبعد ذلك بشكل مستقل، أو من خلال الموقع القيادي العام الذي كان يمارسه الشهيد السيد محمد باقر الصدر . وكان الراحل قد مارس في حياة والده الامام الحكيم دوراً مشهوداً في دعم واسناد الحركة الدينية الشيعية بكل فصائله ، خصوصا وان كلا من الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين شهدتا تطورا بالغا في اثراء التقاليد الشيعية الاثني عشرية في العالم الاسلامي ، وبما اضيف من اجتهادات واسعة المدى على يد والد الراحل الامام الكبير .
وعلى الصعيد الرسمي فقد مثل سماحته والده الامام في عدد من النشاطات الرسمية، كحضوره عدة مؤتمرات واجتماعات منها حضوره مع العلامة السيد محمد مهدي الحكيم ممثلان عن والدهما في المؤتمر الاسلامي الذي عقد في مكة المكرمة سنة 1965 والمؤتمر الاسلامي الذي عقد في عمان بالأردن في أعقاب نكسة 5 حزيران / يونيو عما 1967م - 1387هـ. وقد اتصف الراحل في نشاطه السياسي بالاقدام والشجاعة والجرأة والتدبير منذ أيام المد الشيوعي في العراق عندما وضعت النجف تحت رقابة مشددة .. وكانت المواجهة يوم ذاك على اشدها بين الامام الوالد وبين الحكم القائم، والشيوعيين الملتفين حول الحكم... بعد أن أصدر الامام الحكيم فتواه الشهيرة (الشيوعية كفر والحاد ) . في تلك الظروف التي لم يتجاوز فيها السيد الراحل العشرين من عمره وكان يعيش تلك الظروف وهو يراجع كتاب فلسفتنا الذي ألفه السيد الصدر لمناقشة الفكر المادي والماركسي مع السيد الصدر في بيته في أحد أزقة النجف القديمة المظلمة.. ولقد وصف السيد الصدر الراحل بـ " العضد المفدى " في مقدمة كتابه ( اقتصادنا ) .
وعندما اشتدت المواجهة بين الامام الحكيم الاب وبين البعثيين في العام 1969م وبعد اختفاء أكثر العناصر من حول الامام الاب ، تولى الراحل إدارة شؤون والده المرجع الاعلى، وكان بيت الامام الحكيم في الكوفة محاصراً ومحاطاً بعناصر الأمن والمخابرات، فكان الراحل يلتقي ببعض الوفود ويخطب بهم ويوضّح الحقيقة بالرغم من قساوة الظروف.. كما كان قد أتخذ موقفاً صلباً وشجاعاً تجاه محاولات الرئيس البكر ونائبه صدام للقاء الامام الحكيم . فقد كانت خطة الامام الاب في مواجهة الحكام البعثيين تتمثل بتعبئة الامة ضدهم وكشف زيفهم وانحرافهم وتآمرهم على مقدراتها ومصالحها، وكان القياديون في السلطة يحاربون المشاعر الاسلامية والنزعات الدينية والتقاليد والشعائر الشيعية وضرب كل القوى السياسية وفي مقدمتها المرجعية الدينية والحوزة العلمية لما لها من أهمية دينية وثقافية وسياسية وتعبوية تقف ازاء استراتيجية نظام الحكم .. وقد نص على هذا الموقف السياسي ضد المرجعية قرار للمؤتمر القطري السابع لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم وكان يسمي حركة المرجعية الدينية والاجهزة والمؤسسات المرتبطة بها بـ(التيار الرجعي الفاطمي) ولكن في الوقت نفسه كان القرار المذكور يؤكد على أن يتم التعامل بحذر شديد مع ذلك التيار لاحساسه بالخطر من المواجهة العلنية المباشرة مع هذا التيار وهو خطر العزلة عن الشعب.
العراق وايران
وبعد الأزمة التي حدثت بين نظام البعث في العراق ونظام بهلوي في ايران حول السيادة على شط العرب، حاول البعثيون الاستفادة من موقع المرجعية في هذه الأزمة. ولذلك طُرح منذ البداية أن يقوم أحمد حسن البكر أو صدام حسين بزيارة للامام الاب محسن الحكيم للظهور بمظهر التقرب من المرجعية، وطرح موضوع الخلاف المفتعل مع ايران الشاه في ذلك الوقت على المرجعية الشيعية، ولكن الامام الحكيم لم يوافق على هذه الزيارة حتى قام أحمد حسن البكر (رئيس الجمهورية) آنذاك بزيارة مفاجئة للامام الحكيم في مدينة الكوفة دون تنسيق أو من دون خبر مسبق، وحاول النظام البعثي أن يستغلّ هذه الزيارة للدعاية السياسية الماكرة من اجل جعل المرجعية امام امر واقع ، فقام باعلان خبر الزيارة في وسائله الاعلامية، ولكنه عاد بعد تهديد المرجعية بتكذيب هذه الزيارة إلى القول انها كانت زيارة مفاجئة ومن دون ترتيب سابق، ثم قام النظام بعملية تسفير واسعة لعلماء واساتذة وطلاب الحوزة العلمية والايرانيين المقيمين في العراق، والعراقيين ذوي الأصول الايرانية الأمر الذي أدى إلى احتجاج الامام محسن الحكيم الذي كان يؤدي زيارة الاربعين للامام الحسين (ع ) في كربلاء في العشرين من صفر عام 1389هـ، حيث عاد مسرعاً الى النجف وتم اعلان ذلك على الناس، وعقد اجتماعاً كبيراً للعلماء لمتابعة هذا الأمر، فيما اضطر النظام إلى أن يرسل وفداً كبيراً من بغداد للتفاوض حول الأحداث، وهنا قدم سماحة السيد الراحل في محضر الوفد الادلة الثبوتية على وجود قرار للنظام بمحاربة الاسلام والدين بعد ان أنكر الوفد ذلك وكان الوفد برئاسة خال صدام حسين وابو زوجته المدعو خير الله طلفاح محافظ بغداد وعضوية الوزير حامد علوان الجبوري، ومتصرف كربلاء في ذلك الوقت عبد الصاحب القرغولي وبعض المسؤولين الآخرين، وعلى أثر هذا اللقاء تم ايقاف التسفيرات ولو بصورة مؤقتة. ثم شن النظام مرة أخرى حملة اعتقالات واسعة، فكان سفر الامام الاب إلى بغداد للاحتجاج على موقف النظام . ولكن النظام قام بهجوم جديد من خلال اعلان الاتهام للعلامة السيد مهدي بالتعاون مع الحركة الكردية في شمال العراق، وقامت قوة مخابراتية في مساء ذلك اليوم باقتحام الدار التي كان ينزل فيها الامام الاب في بغداد لاعتقال العلامة السيد مهدي الحكيم، كما قام في نفس الوقت باعتقال عدد من العلماء والشخصيات وتهديد عدد آخر منهم.
وصمدت المرجعية الشيعية العراقية وعاد الامام الاب إلى النجف الأشرف وتحرك طلبة الحوزة العلمية ودخلوا في مواجهة عنيفة مع النظام البعثي الحاكم في النجف الأشرف وأعلن الامام الاب احتجاجه الشديد على هذه المواقف إلاّ انّ المؤسف له قد تمّثل بموقف بعض العلماء حين قرروا الخروج من العراق بسبب شعورهم بالخطر وعدم قدرتهم على فعل شيء. في المواجهة .. كما اختفى بعضهم بسبب التهديد والخوف، وبعضهم نسبت إليه تصريحات مؤيدة لحكومة البعث من دون أن يصدر منهم تكذيب بشأنها.. وهنا حاول صدام حسين بزيارة الامام الاب .. وكان صدام مسؤولاً عن جهاز المخابرت المسمى بالعلاقات العامة لمجلس قيادة الثورة من اجل ان تستسلم المرجعية للأمر الواقع وتعنزل الحركة السياسية مع ادانة لمواقفها السابقة .. ووجهت ضغوط صعبة وكبيرة ضد المرجعية الدينية من قبل النظام وعلى اعلى المستويات ! وكانت الناس ترتعب من سياسات النظام القمعية ، وهو النظام الذي كان يمارس البطش وزراعة الخوف والارهاب في عموم ارجاء المجتمع .. وفي تلك الاجواء المتوترة المنذرة بخطر داهم ، كان الراحل ملازماً لابيه الامام الكبير في بيته بالكوفة من أجل مراقبة الوضع بدقة ومعالجة هذه الضغوط بطريقة مناسبة. وقد فشلت كل محاولات النائب صدام حسين العديدة وقد واجهه الراحل شخصياً بالرفض.
ولقد مارس صدام حسين بعد ذلك جملة من التهديدات القاسية ضد السيد مهدي الحكيم وضد الراحل ثم بدأ بعدة محاولات لاغتيال الراحل بطريقة غير مثيرة لم تتحقق ، اذ باءت كلها بالفشل اذ عاش الراحل حتى سقوط النظام بعد سنوات طوال ويا للاسف ، فذهب السيد محمد باقر الحكيم ضحية مؤامرة يحتمل ان يكون الطريد المخلوع صدام حسين من ورائها وذلك يوم 29 آب / اغسطس 2003 . .
المهم أنه بعد وفاة والده الاب آية الله العظمى الامام محسن الحكيم سنة 1970م، استمر الراحل على منهجه الى جانب الشهيد السيد محمد باقر الصدر وازداد ثقل المسؤولية التي تحملها كل منهما ، فتصاعد نشاطه السياسي بالرغم من الرقابة الشديدة السرية عليه من قبل أجهزة السلطة واعوانها متحينين الفرص لإعتقاله . ولقد خلق وعي عراقي بأن النظام البعثي قمعي ويخطط للدخول في تفاصيل حياة الناس، ولكن الجماهير غير متكاملة ولا منظمة وتحتاج إلى جهد متواصل يهتم بالنوعية أكثر من اهتمامه بالاعداد الكمية .وانّ النظام يدرك طبيعة ما احدثه الامام الاب وانجاله من تطورات واسعه في مفاهيم المجتمع العراقي في جنوب العراق ووسطه من خلال قوة المرجعية وتأثيرها ، فلابد من القضاء على دورها أو تحجيمه والضغط عليها لإرجاعها إلى العزلة أو التعاون مع النظام.ّ وادرك الراحل واقرانه بأن ثمة حاجة حقيقية لتوحيد المرجعية في العراق من اجل ما تحقق من انجازات الاب الحكيم ، ولذلك اهتم بارجاع الأوساط الشعبية إلى الامام الخوئي حيث كان هو المرشح لذلك. وعليه ، فانّ المرجعية لابد أن تعتمد اساسا على جهازها وتشكيلاتها الخاصة بها فضلا عن القوى والتشكيلات الثقافية والسياسية الاسلامية الأخرى. اضافة الى فصل المرجعية والحوزة وجهازها العام عن العمل المنظم الاسلامي العام. مع ضرورة وضوح العلاقة الداخلية بين المرجعية والحوزة من ناحية والتنظيم الاسلامي الخاص من ناحية أخرى، وهي علاقة قيمومة المرجعية على العمل التنظيمي الاسلامي وقيادته وتوجيهه وارشاده.
حركته الجهادية خارج العراق
وفي أوائل الثمانينات السابقة تعرضت اسرة آل الحكيم الى حملة إعتقال وإبادة واسعة من قبل نظام صدام حسين مما لم يشهد له تاريخ العراق مثيلاً ، ففي ليلة واحدة اعتقل النظام أكثر من سبعين شخصاً من هذه الأسرة رهائن بينهم من قارب الثمانين من العمر كآية الله العظمى السيد يوسف الحكيم ، وآية الله السيد محمد حسن الحكيم وبينهم من لم يبلغ الحلم بعد، وزج بهم جميعاً في السجون من دون أن توجه لهم أي تهم، إلاّ لأنهم من أقرباء (السيد محمد باقر الحكيم) ولأنهم رفضوا الخضوع للنظام وتنفيذ سياساته ! وفي فترات لاحقة قتل منهم النظام أكثر من ستة عشر شخصاً، بينهم مجتهدون وعلماء كبار، كما ان عدد الشهداء منهم على يد النظام زادوا على العشرين، ولازال قسماً منهم لا يعلم له أثر حتى اليوم ! لقد جسدت هذه الأسرة المصائب والآلام بسبب صمودها الثابت في مواجهة الطاغية .
منذ اللحظات الاولى التي تمكن فيها السيد محمد باقر الحكيم الخروج من العراق في تموز / يوليو 1980، وضع استراتيجية ثابتة للعمل، مشخصا اسلوب المواجهة، وتعبئة الطاقات العراقية وتنظيمها في الداخل والخارج من اجل دفعها لمواجهة النظام الحاكم ، وأمضى ثلاثة اشهر في سوريا يعمل فيها بصورة غير علنية، وبعد ان توصل الى نتائج مثمرة بالاتفاق مع اطراف الساحة وشخصياتها ، توجه نحو ايران حيث دخلها في أوائل تشرين الاول / اكتوبر 1980 بعد بدأ اندلاع الحرب العراقية - الايرانية بأيام قليلة، وفي أول وصوله نزل ضيفاً على الامام روح الله الخميني ، حيث خصص له منزلاً مجاوراً لمقره ، واولاه عناية بالغة .
المجلس الاعلى للثورة الاسلامية
وفي طهران ، تحركت نحوه حشود عراقية موجودة في ايران بوفود شعبية ، فاستقبلها في جماران التي اعلن منها المواجهة الشاملة ضد نظام صدام حسين ، فكان أول شخصية عراقية معروفة تعلن عن اسمها بصراحة عبر الصحف والاذاعات وصلاة الجمعة في طهران عن تصديها لمواجهة النظام في بغداد واكد الراحل على ضرورة الوحدة بين العاملين للاسلام، ومن أجل ذلك اجرى الحوارات مع كل الاطراف السياسية الاسلامية العراقية للوصول نحو تحقيق هدف الوحدة، وكان يهتم من خلال ذلك بايجاد مؤسسة سياسية تتولى ادارة التحرك العراقي وتوحيد مواقفه التي اسفرت عن تأسيس "جماعة العلماء المجاهدين في العراق" التي تجمدت لأسباب ، فتأسس "مكتب الثورة الاسلامية في العراق".. وبعد مخاضات متعددة وجهود كبيرة انبثق (المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق) في أواخر عام 1982م - 1402هـ، وانتخب الراحل ناطقاً رسمياً له ، حيث أوكلت اليه مهمة ادارة الحركة السياسية لذلك المجلس وتمثيله على الصعيد الميداني والاعلامي .
ومنذ العام 1986م أصبح الراحل رئيساً لهذا المجلس وتحمل مسؤوليته، بعد انتخابه للرئاسة وبصورة متكررة من قبل اعضاء الشورى المركزية. وقبل أن يتشكل المجلس الاعلى سعى الراحل نحو ايجاد قوة عسكرية مدربة تدريباً جيداً تحمل السلاح في مقاومة نظام صدام حسين .. فوجّه نداءاته فانخرط في (التعبئة الاسلامية) تانب اولاها عنايته الخاصة ، ويؤكد العديد من الدارسين والمراقبين بأن تلك القوات العسكرية كانت لها عملياتها العسكرية فقط ضد عناصر صدام وانها لم تمارس اية انشطة ارهابية ضد المدنيين .
فيلق بدر
وبعد انبثاق المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق اتخذت الحركة ضد نظام صدام حسين طابعاً أكثر وضوحاً عسكريا وسياسيا، اذ تشكلت في البداية، أفواج الجهاد، ثم تطورت لتصبح فيلقاً عرف باسم (فيلق بدر)، اما في الداخل فقد تشكلت قوات المقاومة الاسلامية والجهاد، حيث نفذت عمليات كبيرة داخل العراق وكان لها صدى أكبر في مناطق الأهوار خلال الحرب العراقية - الايرانية، لكنها بعد انتفاضة شعبان عام 1991 تطورت وانتشرت الى داخل المدن العراقية المهمة حيث قامت بعمليات كبرى، منها قصف القصر الجمهوري بصواريخ الكاتيوشا ثلاث مرات خلال عام 2000 و2001 . وكانت للراحل جهوده في رعاية شؤون الاسرى العراقيين اذ تم بسعيه تشكيل لجنة خاصة لرعايتهم تحت اشراف مجلس الدفاع الاعلى وتشكيل لجنة ثقافية لهم. وقد تجسّدت تلك التحولات حينما أبدى عشرات الآلاف منهم استعداده وبإلحاح للمشاركة في القتال، ، وبعد سنوات من الاصرار والمطالبة انتهى ذلك الى اصدار قرار بقبول تطوعهم في العمل العسكري ضمن التشكيلات القتالية العراقية، وقد تطوع الآلاف منهم في قوات بدر في ثمانية عشر دورة عسكرية، واشتركوا في المعارك ضد نظام الطاغية صدام واستشهد العديد منهم في ساحات القتال. أما على الصعيد السياسي، قد تحول المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق الى مؤسسة سياسية مهمة ومعروفة دوليا، ومازال يواصل مسيرته حتى اندلاع الحرب من قبل التحالف ضد نظام الحكم في العراق .
المركز الوثائقي لحقوق الانسان في العراق وغيره
لقد قدم الراحل أبعد حدود الدعم لتأسيس المركز الوثائقي لحقوق الانسان في العراق، وهو مركز يعتني بجمع الوثائق عن انتهاكات نظام صدام لحقوق الانسان في العراق والاستفادة منها في فضح النظام في اوساط المجتمع الدولي، كما شجع على التحرك في أروقة الامم المتحدة، وتحرك بنفسه حتى التقى بالأمين العام (خافيير بيريز ديكويلار) في العام 1992م. وشجع كذلك على ارسال الشهود والوثائق المرتبطة بالسجناء الى مؤسسات الامم المتحدة المعنية، وكذلك التوجه لمنظمات حقوق الانسان في البلدان الاوربية والآسيوية.. وقد أجبرت تلك الحركة الامم المتحدة على الاستجابة للاصوات المطالبة بايقاف القمع عن العراقيين وايلاء قضية الشعب العراقي ومعاناته أهمية خاصة ترجمت بشكل علني من خلال البيانات والنداءات التي أصدرتها الامم المتحدة في مواقع متعددة تتعلق بادانة انتهاكات النظام لحقوق الانسان في العراق. كما قام الراحل بتأسيس المنظمات والمؤسسات التي تهتم بالخدمات الانسانية والثقافية كالاغاثة والتعليم والصحة والتوثيق، فقد قام بتأسيس مؤسسة الشهيد الصدر والمستوصفات الطبية التابعة لها، كما ودعم تأسيس المدارس الابتدائية في المدن والمخيمات التي يسكن فيها العراقيون، ومدارس الحوزة العلمية، وارسال المبلغين الدينيين، ورعاية حركة حفظ القرآن وتلاوته، وتأسيس المساجد والحسينيات والمراكز الثقافية.
الادوار الدولية
وعندما تعرض الشعب العراقي للعقوبات الاقتصادية بعد احتلال نظام صدام حسين للكويت في 2 آب / اغسطس 1990م، أدرك الراحل حجم المأساة التي سوف يعاني منها الشعب العراقي، فوجه نداء الى كل العراقيين في الخارج، ودعاهم الى تشكيل لجان الاغاثة استعداداً للمرحلة القادمة. وتشكلت بعض اللجان للاغاثة حملت المساعدات الغذائية والالبسة وتمكنت في ظروف الحرب من ايصال بعض المساعدات إلى داخل العراق. وعند انطلاق الانتفاضة الشعبية في 15 شعبان 1412هـ (اذار / مارس 1991م)، تحركت لجان الاغاثة التي تشكلت في مناطق متعددة من العالم لجمع وارسال المساعدات . وما زال الراحل يولي اهتمامه الخاص بقضايا العراقيين اللاجئين في كل مكان وخصوصاً في ايران والسعودية. أما على صعيد حركته السياسية الدولية، فقد تحرك بشكل واسع من اجل هدف سامي وهو اسقاط نظام صدام حسين والخلاص من المحنة الطويلة ، فتحرك في الامم المتحدة والتقى بالأمين السابق خافيير بيريز ديكويلار كما اهتم بدول الجوار فزار السعودية، وسوريا، والكويت والتقى الملوك والرؤساء فيها والتقى رئيس الوزراء التركي، ورئيس الوزراء السوداني، وتحادث مع الملك حسين وولي عهده السابق الأمير حسن بن طلال، فضلاً عن علاقاته ولقاءاته المتميزة مع القادة الايرانيين، كما زار بريطانيا استجابة لدعوة العراقيين هناك وسويسرا، ولبنان، وإلتقى سفراء دول المجموعة الاوروبية عدة مرات لدعم هذا التحرك الدولي. وفي كل مكان كان يذهب إليه الراحل تكون مأساة الشعب العراقي وقضيته هي القضية الجوهرية التي تدور حولها المباحثات. كما أرسل الوفود والمبعوثين للمنظمات الدولية والدول المعنية في مناسبات عديدة. ويستقبل في مكتبه عادة عشرات السفراء للدول الاوربية والعربية والافريقية. .
محاولات اغتياله ورحيله
تعرَّض السيد محمد باقر الحكيم لعدة محاولات إغتيال بطرق متعددة، وقع بعض هذه المحاولات داخل العراق وبعضها الآخر وقع في خارج العراق بعد هجرته وقيادته للعمل المعارض للنظام ويقول البعض بأنها اكثر من تسع محاولات كلها باءت بالفشل .. لكي يرحل الامام السيد محمد باقر الصدر عن العراق بعد اشهر من وصوله اليه وبعد غياب عنه دام 23 سنة .. يرحل في اسوأ حادث تفجير اجرامي ظهيرة يوم الجمعة 29 أب / اغسطس 2003 وبعد خروجه من ادائه الامامة لصلاة الجمعة وخطبة الجمعة التي دعا فيها الى الوئام والسلام من اجل ان يحيا العراق آمنا ومستقرا بعيدا عن كل اعمال التخريب والفوضى والقتل والتدمير .. ولكن انفجارا هائلا مدبرا من قبل جماعات لا تريد للعراق الاستقرار ابدا .. اودى بحياة الامام الراحل الكبير والعشرات من تابعيه الابرياء وذلك عند الباب الجنوبي من الصحن الشريف قرب مرقد الامام علي بن ابي طالب ( كرم الله وجهه ) فيذهب شهيدا مع صحبه من تابعيه المصلين رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جنانه .
وأخيرا : ماذا يمكنني القول ؟
اقول ، بأن الراحل الكبير كان قد امضى من معترك حياته الزاخرة اكثر من اربعين عاما وهو يجاهد في العراق وخارجه من اجل ان يثبت للعالم بأنه كان على حق وان الدكتاتور الهارب وحزبه كانا على ضلالة ! وبدأت احترم كل افكاره ، ونتيجة اتساع افق تفكيره اذ لم يكن يمتلك اية حساسيات مركبّة او عقد نفسية طائفية فضلا عن المرونة الفكرية ومبادىء التسامح التي يتحلى بها ويفتقدها الاخرون الذين اتمنى عليهم ان يتعلموا منها ، ويتعلم من تفكيره كل العلماء المعممين في العالم الاسلامي سواء كانوا من السنة والشيعة والذين هم بأمس الحاجة اليوم الى التضامن والتسامح والمرونة والاعتدال والوسطية والعمل المشترك بعيدا عن التعصب والتشنج والهياج والصياح والتطرف والهرطقة والارهاب والغباء السياسي .. الذي سيودي بنا الى المهالك والردى !
هذه كلمة عابرة اسجلها من الاعماق للتاريخ في مناسبة فقدان العراق والعراقيين والعالم الاسلامي قاطبة لهذا الرمز الكبير ، وساكما ما بدأته من دراسة في تحليل ادبياته العلمية والفكرية ، وامتلك اليوم بعض الوثائق النادرة والمهمة عن الرجل التي تحكي قصته الصعبة مع العراق ايام محنته التاريخية الاليمة .. رحم الله الفقيد رحمة واسعه واسكنه فسيح جنانه وسيبقى ذكره خالدا مع مرور السنين .