|
-الطريق الثالث-: اليسار الجديد والتنظير للدفاع عن سياسات الغرب
حكمت الحاج
الحوار المتمدن-العدد: 1924 - 2007 / 5 / 23 - 11:58
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
منذ البداية، انقسمت الحضارة الانسانية بعد عصر التصنيع الى طريقين اثنين: طريق يفترض ان بناء الحضارة جاء في إطار السياق الطبيعي للاقتصاد بفضل النمو المتواصل للانتاجية التي هي نتيجة أفضال الرأسمالية التي أفرزت الوفرة والحرية بصفة ديمقراطية. أما الطريق الثاني فهو الذي اختار ضرورة التغييرات السياسية لإعادة تعريف هياكل الملكية والانتاج وذلك بهدف تجذير الاشتراكية التي هي شرط تحقيق المساواة المثالية. وبالاستناد الى ما يقوله المفكر البرازيلي الدكتور "كريستو فام بوارك" الاستاذ بالجامعة الوطنية ببرازيليا فقد كان القرن العشرون تتويجا لهذا المسار الذي يبحث في حضارة مثالية تنقسم وجهتها الى طريقين. ولكن السنوات الأخيرة من القرن العشرين كانت زمن عدم الرضا على هذين الطريقين اللذين سلكتهما الحضارة. واليوم ينطلق الكثير في الدفاع عن الطريق الثالث الذي هو ليس اشتراكية الخمسينات الحقيقية كما انه ليس الرأسمالية التحررية الجديدة لعام 2000. انه طريق يوفق بين المنزعين بعودته المندمجة في اتجاه الماضي نحو الرأسمالية القريبة من التحررية الجديدة ونحو الاشتراكية الطوباوية القريبة من التوجه السوفييتي. وإزاء فشل السياسات الليبرالية الجديدة وما صاحبها من زيادة التوتر الاجتماعي الناجم عن تصاعد حدة الاضرابات العمالية التي أصبحت ظاهرة متكررة في بعض البلدان الصناعية المتقدمة خيم على مفكري الغرب شعور عميق بالقلق وكان لابد من البحث عن سياسة اجتماعية بديلة وطريق جديد. ولقد تصدى لهذه المهمة تيار يسار الوسط الذي نادى بالطريق الثالث. وحسبما يورد الباحث المصري "ألفونس عزيز" فإن "بيل كلينتون" هو أول من طرح مقولة الطريق الثالث إذ ظهر هذا الاصطلاح للمرة الاولى في خطابه الرئاسي السنوي الذي ألقاه في كانون الثاني -يناير- عام 1993. ومنذ ذلك الحين وهذا الفكر الجديد يكتسب تأييدا متزايدا في البلاد الغربية. ففي بريطانيا تلقف هذا الفكر بحماس "توني بلير" وعندما تولى زعامة حزب العمال أعلن عن تبني الحزب في توجهه الجديد ايديولوجية الطريق الثالث. ولقد تبنى هذا الفكر أيضا معظم قوى يسار الوسط في بلاد أخرى في مقدمتها ألمانيا وإيطاليا. ولكن "توني بلير" قد ذهب شوطا أبعد عندما خصص العديد من كتاباته لهذا الموضوع ولا شك ان من أهمها كتابه الصادر عام 1998 بعنوان: "الطريق الثالث سياسة جديدة للقرن الجديد". إن التوازنات الجيوستراتيجية الجديدة المتولدة عن نهاية الحرب الباردة وعن عواقب سقوط جدار برلين لم تكن هي التحولات الكبرى الوحيدة التي شهدها العالم أواخر القرن العشرين. إن بروز الفكر التحرري كأيديولوجيا مهيمنة قد أدى هو الآخر الى ظهور مفاهيم جديدة أدخلت بدورها تيارات فكرية سياسية ذات مرتكزات اقتصادية قائمة على اقتصاد السوق وحرية المبادرة ومكرسة أساسا عبر المؤسسات والقواعد القانونية الجديدة التي أفضت الى قيام المنظمة العالمية للتجارة سنة 1994. وحاولت الاتجاهات السياسية المتمثلة في اليمين الجديد واليسار الجديد ووسط اليمين ووسط اليسار والاشتراكية الديمقراطية والليبرالية الجديدة حاولت كل هذه التيارات أن تتموقع بالنسبة الى المقتضيات الجديدة لاقتصاد السوق. وقد قفزت هذه المقتضيات الى المواقع الاولى ضمن الاهتمامات بفعل العولمة وكذلك بفعل الانعكاسات الاجتماعية والثقافية التي قد تتسبب مظاهرها السلبية في تهميش قطاعات كاملة من السكان بل وحتى في اقصائها. ومما يزيد هذا الامر خطورة ان ضحايا هذه العوامل السلبية هي البلدان النامية في العالم الثالث التي ما زالت توازناتها الاجتماعية بحاجة الى التدعيم. ويقول الاستاذ عبد الرحيم الزواري الأمين العام لحزب التجمع الديمقراطي التونسي في تقديمه للكتاب الذي نعرض له اليوم انه في مثل هذا المحيط العالمي يتعين على الاحزاب السياسية ولا سيما تلك التي تضطلع بمسؤولية الحكم أن تقوم بدور هام سواء فيما يتعلق بتحديد اتجاهاتها السياسية أو في مستوى مهماتها التعبوية والتوعوية إزاء الجماهير بخصوص الرهانات والتحديات المستقبلية. "وها نحن نرى اليوم تيارا فكريا فيما وراء البحر الابيض المتوسط يحاول أن يعطي مفهوما جديدا لهذه الأبعاد تحت اسم "الطريق الثالث" بمبادرة من زعماء بعض الأحزاب السياسية في بريطانيا والولايات المتحدة وهولاندا وفرنسا وألمانيا". وسعيا منه الى زيادة تعميق هذا المفهوم المتمثل في "الطريق الثالث" والى تقديم مساهمته في هذا المجال من خلال ما يتوفر لديه من خبرة وتجربة بوصفه الحزب الحاكم في تونس وبما جناه من ثمار مما حققه من مكاسب وانجازات فقد اختار حزب التجمع الديموقراطي التونسي تنظيم ندوة عالمية التأمت فعلا للفترة من 4 ـ 6 تشرين الثاني -نوفمبر- من العام الماضي وخصصت لمناقشة هذا الموضوع وتفريعاته حضرها أكثر من خمس وثلاثين شخصية فكرية وسياسية وجامعية من مختلف أنحاء العالم إضافة الى أكثر من مئة وعشرة أشخاص من المفكرين والأساتذة والسياسيين التونسيين توزعوا على مختلف فعاليات الندوة بين بحث أصيل وتعقيب ومداخلة وإدارة جلسات وأخيرا وبمناسبة صدور أعمال تلك الندوة الفكرية مع مناقشاتها ومداخلاتها في كتاب مستقل نشره مركز الدراسات والتكوين بتونس موفرا بذلك الفرصة الكبيرة في متابعة واحد من أهم الموضوعات التي تشغل الساحة الفكرية والسياسية في العالم الآن، بهذه المناسبة كان لا بد ونحن نستعرض أهم ما جاء في الكتاب المذكور أن نركز بصفة خاصة على الدراسة الافتتاحية والتي هي في الوقت نفسه كما يبدو من الكتاب وكما بدى إبان انعقاد الندوة موضوع الحديث انها محور الموضوع كله ومثار الحديث والتعقيب والاهتمام من جميع المشاركين هي دراسة الدكتور "ستيوارت وود" الأستاذ في كلية ماغدولين جامعة أوكسفورد بالمملكة المتحدة والعقل المدبر للسياسة الفكرية لرئيس الوزراء البريطاني "توني بلير". يقول "صادق شعبان" مدير المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية والمفكر المعروف عن مساهمة "ستيوارت وود" انها متميزة شاملة وعميقة في نفس الوقت من حيث انها "توضح لنا السبيل وتمكننا من معرفة موقعنا من هذه التحولات المتسارعة" على حد تعبير الاستاذ "صادق شعبان" الذي يؤكد ان الأيديولوجيات لم تمت ويستشهد بما قاله "ستيوارت وود" من ان الطريق الثالث هو تنظيم لايجاد تنظير لليسار الجديد الذي سوف يواجه العولمة ولم تبق له ثوابت كبرى.
المبادئ الأساسية للطريق الثالث
يقول الدكتور "ستيوارت وود" عن الطريق الثالث انه اصطلاح خرج من غياهب الظلمات ليصبح على كل لسان دون أن يمر بمرحلة اكتساب المعنى. وهناك اليوم اهتمام دولي حقيقي بالطريق الثالث بل يمكن القول انه بات يمثل حركة فكرية عالمية غير انه يستدرك قائلا انه لا تزال ثمة تساؤلات تحوم حول ماهية الطريق الثالث وقيمها وأولوياتها وسياساتها الرئيسية. يقول البعض ان الطريق الثالث لا يعدو أن يكون تعبيرا عن تحول اليسار في وقت متأخر ولكن بصفة كلية نحو ليبرالية السوق. ويقول آخرون ان هذه العبارة فارغة من كل محتوى، خاوية من أي مضمون فلسفي ولا معنى لها سوى انها مجرد تبرير لما يعتقد "توني بلير" و"بيل كلينتون" و"غيرهارد شرودر" انه يمثل عى الصعيد السياسي حلا وقتيا في بلدانهم هم بالذات. بيد ان هناك أناسا آخرين على حد تعبير "ستيوارت وود" من أمثال "أنطوني غيدينز" الذي يعد من أبرز دعاة الطريق الثالث يرون ان هذا الاتجاه يحمل في طياته بذور تجدد "الديمقراطية الاشتراكية". وإذا كان "غيدينز" على صواب فإن الطريق الثالث يوفر للديمقراطيين الاشتراكيين نوعا من الخلاص الايديولوجي بعد ربع قرن عانت فيها الأسس الانتخابية والاقتصادية والسوسيولوجية للمشروع الديمقراطي الاشتراكي التقليدي معاناة شديدة. وواضح من مساهمة "ستيوارت وود" انه في سياق إمكانية إيجاد تعريف للطريق الثالث يكون جامعا مانعا فإن النقطة المرجعية بالنسبة اليه كمنظر وباحث هي الجدل الجاري في بريطانيا بشأن مفهوم الطريق الثالث منذ انتصار "توني بلير" في انتخابات عام 1997. ويقول "وود" بأن هذا لا يعني القول بأنه يمكن تعريف الطريق الثالث ببساطة بأنه أي شيء يفعله "توني بلير" ولا بأن أحزاب يسار الوسط في البلدان الأخرى ولا سيما في ألمانيا والولايات المتحدة لا تساهم في النقاش حول الطريق الثالث. غير ان ما يجعل من حزب العمال البريطاني بزعامة "بلير" النقطة المرجعية الطبيعية انما هو في اعتقاد شخص مثل "ستيوارت وود" ان هذا الحزب لم يقتصر على إثارة الجدل الواسع والمتعمد حول الطريق الثالث والدخول فيه بل أنتج أيضا جملة من السياسات المتميزة حسب ما يقول خلال السنتين الماضيتين يبررها بإشارة صريحة الى الطريق الثالث. لذلك ودائما مع "وود" فإن بريطانيا تتيح أفضل فرصة للمقارنة بين سياسات الطريق الثالث والجدل القائم حول الطريق الثالث. إن الدافع الرئيسي الى الجدل حول الطريق الثالث يتمثل كما يستشهد الباحث بأنطوني غيدينز في تجديد الديمقراطية الاشتراكية مع الحفاظ على قيمها الجوهرية. وإن ما جعل هذا التجديد ضروريا في أوروبا الغربية هو فقدان الثقة في الأسس العقلانية للفكر الديمقراطي الاشتراكي خلال فترة الثمانينات. لقد ناصرت أحزاب اليمين بقيادة "مارغريت تاتشر" اقتصاد السوق وحرية المبادرة والحرية الفردية. وعندما انهار الاتحاد السوفييتي عام 1991 ساد الشعور لدى اليسار واليمين معا بأن ليبرالية السوق قد قتلت الاشتراكية. وكان على الديمقراطيين الاشتراكيين أن يستسلموا لهذه الهزيمة ويواجهوا أحد خيارين: إما التخلي عن قيمهم وإما الحفاظ عليها وإعادة صياغة السياسات النابعة منها. وكان الطريق الثالث كما يقول "وود" هو أنجح محاولة للابقاء على حياة الديمقراطية الاشتراكية وملاءمتها في عالم مختلف جدا. وهنا يتساءل الباحث الانكليزي الشاب قائلا: ما هو بالضبط الشيء المختلف في هذا العالم وفي الموقف الفلسفي الذي يجب على اليساريين أن يتخذوه إزاءه؟ وعلى الفور يجيب "ستيوارت وود" قائلا: إن الاجابة على هذا السؤال تتوقف طبعا الى حد كبير على المكان الذي تجد نفسك فيه. ففي بلدان مثل السويد وفرنسا وهولندا وبلجيكا لم يعان اليسار قط معاناة حقيقية من الهزيمة الماحقة والفشل الايديولوجي مثلما حدث له في بريطانيا وألمانيا. ففي بريطانيا أجبر النصر الفكري والانتخابي الذي حققته "مارغريت ثاتشر" قوى اليسار وبالأخص حزب العمال على تغيير نظرته الى العالم. وهذه الرؤية الجديدة للعالم يمكن تقسيمها حسب "ستيوارت وود" الى ثلاثة محاور أساسية اقتصادية وسوسيولوجية وثلاثة محاور أساسية أخرى فلسفية:
1 ـ الرؤية الاقتصادية والسوسيولوجية للعالم
أولا والأكثر أهمية يتعين على اليسار أن يواجه تأثيرات العولمة "Glabalizati.n" وهذه هي نقطة البداية بالنسبة الى الطريق الثالث. فالعولمة كما يقال قد فتتت كل اليقينيات القديمة التي اعتمد عليها اليسار. ان عولمة الاقتصاد تعبير عام يشير الى عدد من التطورات منها توسع التجارة الدولية بشكل رهيب عبر العالم ومنها ظهور شركات متعددة الجنسية فائقة القوة وحركة أكبر لرأس المال الاستثماري بفضل التطور التكنولوجي وتزايد أهمية المضاربين على العملات في أسواق الصرف الدولية. وأصبحت الحكومات تواجه ضغوطا كبيرة فيما يتعلق بمستويات الضرائب والانفاق التي تستطيع فرضها دون أن "تعاقب" إن صح التعبير من قبل السوق أي من قبل مضاربين يبيعون عملة البلد. وشركات تنتقل الى مناطق أخرى واستثمارات أجنبية تشح. وهكذا فإن انتصار ليبرالية السوق يجبر اليسار من باب الضرورة على إعادة النظر في سياساته بخصوص قضايا توزيع الثروة وتدخل الدولة والملكية العامة. ثانيا إن اليسار قد أصبح مضطرا الى مواجهة الضغوط السياسية على برامجه التقليدية ولم يعد بوسع اليسار أن يعتبر نفسه تحالفا لغير المحظوظين ضد المحظوظين. ولأسباب كثيرة اكتسب اليسار سمعة لدى الناخبين الأهليين بأنه لا يجيد إدارة الاقتصاد. ان الطريق الثالث منشغل بالحاجة الناتجة عن هذا الوضع الى طمأنة الناخبين على كونه قادرا على إدارة الاقتصاد بنجاح دون تمويل برامجه عبر مستويات اقتراض مضرة أو من خلال زيادة الضرائب على الطبقات المتوسطة والثرية. ثالثا ـ يرى اليسار ان المفتاح لتحقيق الازدهار الاقتصادي في ظل هذا الاقتصاد العالمي الجديد إنما يكمن في "رأس المال البشري" أي بعبارة أخرى في المواهب والمهارات وتدريب العمال. ففي حقبتي الخمسينات والستينات كان النمو الاقتصادي متلائما تماما مع مستويات التشغيل العالية في صفوف ذوي المهارات المتواضعة أو عديمي المهارات. أما في عالم اليوم فلم يعد هذا الأمر ممكنا فأن سوق العمل العالمي قد انقسم الى قسمين: من يتمتعون بتعليم أساسي جيد ومهارات عالية وهم الذين تتزايد حظوظ تشغيلهم وتحسين دخلهم. ومن لا يمتلكون مهارات وهم الذين تتضاءل أمامهم فرص العمل وتوفير الدخل وبالتالي سيجدون أنفسهم مضطرين الى الاعتماد على الدولة لتأمين عيشهم ويعتبر الطريق الثالث هذا النمط الاستقطابي لمكافآت التعليم المتغيرة بمثابة ميزة من ميزات الاقتصادات الحديثة التي لا مفر منها.
2 ـ الرؤية الفلسفية للعالم
بعد الاشارة لمعطيات الحياة السياسية والاقتصادية الثلاث التي يجب على اليسار أن يواجهها. فانه من الناحية الفلسفية فإن الطريق الثالث يمثل أيضا رؤية عالمية مختلفة جدا عما تعنيه الديمقراطية الاشتراكية. فأولا يرفض الطريق الثالث نظرة الاشتراكية العلمية الى العالم على انه مقسم الى طبقات متناحرة حتما حيث الرأسماليون وأرباب العمل من جهة والعمال من جهة أخرى. بل ان للطريق الثالث نظرة أكثر تسامحا الى الطريقة التي تنتظم بها المجتمعات. فهو يرى ان هناك توافقا كبيرا في المصالح بين مختلف الفئات الاجتماعية ومختلف المجموعات العرقية أيضا إذ يمكن للمجتمعات أن تسعى الى مصالح مشتركة وأن تزدهر سوية. وبالتالي فإن السياسة لم تعد تتمثل في خدمة مصالح مجموعة على حساب مجموعة أخرى ولا في أخذ الأموال والفرص من مجموعة وتوزيعها على مجموعة أخرى. كما ان السياسة القائمة على التعاون والتشاور بالنسبة للحكومة مع مجموعات المصالح الواسعة مثل نقابات العمال تفقد الكثير من مبرراتها من وجهة النظر هذه. وثانيا ينظر الطريق الثالث الى المواطنين بطريقة مختلفة عن نظرة اليسار القديم واليمين الجديد. ومن الناحية التقليدية كان الديمقراطيون الاشتراكيون وأنصار ليبرالية السوق يؤكدون على حقوق الأفراد في الحرية الشخصية وكذلك في الحصول على إعانات اجتماعية في حالات البطالة أو المرض. ويسعى الطريق الثالث الى موازنة هذه الرؤية بالقول بأن على الأفراد الذين يتمتعون بحقوق أن يتحملوا المسؤوليات التي تصاحب هذه الحقوق. وهذا معناه في لغة السياسات الاجتماعية ان على الأفراد أن يكونوا على استعداد لمساعدة الذين يعانون من حرمان نسبي ليسوا مسؤولين عنه. ويعلق "ستيوارت وود" قائلا ان هذا يعني أيضا ان على أولئك الذين يتلقون هذه المساعدات من أبناء وطنهم أن يلتزموا مستقبلا ببعض الشروط المصاحبة لها أكثر مما هو حاصل الآن. وأخيرا يؤكد الطريق الثالث على مركزية العمل بعدد من الوسائل. فالعمل هو الوسيلة الوحيدة التي تؤمن الدخل للأفراد. والعمل المتدني الأجر أفضل من تبعية الاعانة الاجتماعية. وهنا ينوه الباحث بأهم مقولات "توني بلير" في هذا الصدد. فأن تعمل هو أنبل لك وأسلم اقتصاديا من أن تكون عاطلا معتمدا على مساعدة الدولة. وفي حين كان اليسار القديم يرى في السياسة الاقتصادية وسياسة الرفاه مجالين منفصلين يتعلق الأول بالثروة ويخص الثاني إعادة توزيعها يرى الطريق الثالث ان تشجيع العمل وتوسيعه أمر من شأنه أن يوحد بين السياسة الاقتصادية وسياسة الرفاه.
أهداف الطريق الثالث
تلك اذن هي الكيفية التي ينظر بها الطريق الثالث الى العالم. وهي طريقة مختلفة جدا عن تلك التي كانت سائدة في سنوات الخمسينات والستينات وما بعدها. فما هي أهداف الطريق الثالث التي تنبع من تلك الكيفية وكيف تختلف عن الأهداف القديمة؟ يقول "ستيوارت وود" ان النقطة الاولى الواجب ملاحظتها هي ان الطريق الثالث لا يبالي بالمساواة بين البشر وهو بهذا المعنى يقطع الصلة بالاشتراكية وبالديمقراطية الاشتراكية وكل ما يهم الطريق الثالث هو إتاحة المزيد من الفرص لأولئك الذين يجدون أنفسهم في أسفل سلم المداخيل وأحط درجات سوق العمل. وبدلا من المساواة ينادي الطريق الثالث بفضائل "الاندماج". فالناس يصبحون في حالة إقصاء عندما لا يشاركون في الحياة الديمقراطية الجماعية وعندما لا يشاركون في النشاط الجمعياتي على المستوى المحلي. وأكثر من ذلك عندما يحرمون من الفضاء المدني في المدن التي يعيشون فيها. ان كل أشكال الإقصاء هذه يجب التغلب عليها بواسطة العمل القيادي الحكومي. وهنا يستدرك "ستيوارت وود" مرة أخرى قائلا انه ليس الهدف من تدخل الدولة هو تحمل المسؤولية عن حياة الناس كما كان يفعل الديمقراطيون الاشتراكيون القدامى في غالب الأحيان بل الهدف هو إيقاف الناس على أقدامهم من جديد بأسرع ما يمكن. وهذا ينطوي على هدفين آخرين بحسب ما يذكر "ستيوارت وود" وهما: إعادة رسم الحدود بين مجال النشاط الحكومي وأنشطة المجموعات والأفراد وهذا ليس معناه بأن على الدولة أن تلقي بمسؤولية المشاكل الملحة على كاهل السوق أو الأفراد بل ان ما يتصوره الطريق الثالث هو كما يعتقد "ستيوارت وود" ما يمكن تسميته بدولة لماحة وذكية وذات نفوذ وفاعلية وعارفة بالمهمات التي ينبغي لها أن تضطلع بها بنفسها وبتلك التي من الأفضل أن تتولاها جهات أخرى. هذا هو الهدف الأول الناتج عن التأكيد على "الاندماج". أما الهدف الثاني فهو تحقيق أقصى حد من التشغيل. ولكن خلافا للديمقراطية الاشتراكية التي لم تلق بالا الى أهمية المهارة في التشغيل الذي أتاحه توسعها الاقتصادي فإن الطريق الثالث يولي بالغ الاهتمام الى النهوض بالموارد البشرية وتحسين مستوى جودتها. وهذا طبعا هو سبب تمسكه بالتعليم وبالكثير منه في وقت ما. أما الهدف الأخير وهو حقا الهدف الذي يؤطر تحقيق كافة الأهداف الأخرى فهو يتمثل في ضرورة الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي ويسعى الطريق الثالث الى إعادة مصداقية اليسار بوصفه قادرا على تسيير اقتصاديات مستقرة.
أصوات خارج السرب
رئيس وزراء الهند السابق السيد "غوجرال" يكتب في مساهمته عن العالم الثالث ومجموعة دول عدم الانحياز وثورات التخلص من الاستعمار وعلاقة كل ذلك بالعولمة والطريق الثالث ويتساءل: هل أنجزت النخب الحاكمة في هذه الدول في فترة ما بعد الاستعمار عملا مرضيا في مجال حقوق الانسان؟ أو في مجال مكافحة الفقر؟ ألم نقع في فخ ما يعرف بالتنمية المحصورة؟ لماذا لا تزال مجتمعاتنا تعاني من شدة انتشار الفقر والأمية وعدم المساواة بين الجنسين وسوء التغذية وارتفاع نسب الوفيات بين الأطفال والتشرد والبطالة؟ ويواصل رئيس وزراء الهند السابق في طرح تساؤلاته قائلا هل لأن معظم بلداننا تواصل أنظمة الحكم الموروثة عن الدول الاستعمارية السابقة؟ أم لأن أنظمة وأساليب حكمنا تتسم بالتغيير المستمر؟ إن الطريق الثالث الذي يروج له نادي الأغنياء والأقوياء هو آخر مشروع ونحن على عتبة القرن الحادي والعشرين يدخل حلبة السباق كما يعلق السيد "غوجرال" الذي يعترف في الوقت نفسه بأنه سيكون من الخــــطأ تجاهل أو ازدراء معالم هذا الطريق. ويؤكد قائلا ان الأفـــكار التي يفصح عنها زعماء مجموعة الدول السبع الكبرى ذات الموارد الضخمة سوف تؤثر لاحقا في اقتصاديات الدول النامية وفي دبلوماسيتها. ويستشهد في كلمته بما قاله "توني بلير" في شرحه للنظرية الجديدة: اننا لا نستطيع أن نحقق ذواتنا كأفراد إلا في مجتمع مدني مزدهر متكون من أسر قوية ومؤسسات مدنية تدعمها حكومة متبصرة فبالنسبة الى معظم الأفراد يجب أن يكون المجتمع قويا كي يحالفه النجاح. وهنا ينبهنا السيد "غوجرال" الى نقطة تسترعي الانتباه في هذا الكلام ألا وهي ان الزعيم الجديد لحزب العمال البريطاني يؤكد على "المجتمع القوي" وليس على "الدولة القوية". ان نظرية الطريق الثالث تحاول أن تلطف الى حد ما من الصرامة القصوى التي تتصف بها تعليمات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. ولكنني أعتقد، والكلام هنا للسيد "غوجرال"، ان الحاجة تدعو الى المزيد من العمل فيما يخص آراء الطريق الثالث المتعلقة بقضايا الاصلاح الهيكلي والعولمة. ان مسألة كيفية الاصغاء الى صوت العالم النامي وهمومه وأخذها بعين الاعتبار ضمن نموذج الطريق الثالث تستحق اهتماما خاصا. ولكن رئيس الوزراء الهندي السابق لا يخفي بعض التخوف من الطريقة التي يتصرف بها القادة الديمقراطيون الجدد فطريقهم الثالث قد يؤدي في النهاية الى تعزيز نفوذ الدول القوية. ويمضي السيد "غوجرال" في قوله متهكما اذ يلاحظ انه رغم ما تتحدث به ديمقراطيات الطريق الثالث عن العدل والانصاف فإنه لم يصدر عنها الى حد الآن أي إقرار صريح بضرورة تقليص الفوارق بين الدول الغنية والدول الفقيرة من ناحية والتخفيف من وطأة الفقر المتفاقم الذي تشكو منه شعوب البلدان النامية من ناحية أخرى.
تحديات
وخـــتاما فإن المطالع لهذا الكتاب الذي يضم بين دفتيه أفكارا متضاربة وأخرى عملـــية وأخرى مثالية وغيرها لم تتحقق ومقاربات لواحـد من أخطر الاشكاليات المطروحة على مستقـــبل البشرية على مشارف الألفية الثالثة لابد أن يلاحظ ان التحدي الأكبر الذي سيواجهه رجال الفكر في العـــالم الثالث قبل رجال السياسة فيه هو الى أي مدى يبدو الطريق الثالث أقرب الى الطريق الوسط الذي دعت اليه حركة عدم الانحياز كفلســـفة ســـياسية واقتصادية؟ وما هو الفرق بين طريق ابتدعته الدول الغنية كنموذج جديد للتنمية والادارة في العالم وبـــين طريـــق تعرض للانتقاد اللاذع بــــعد فشله وكان صوتا لشعوب العالم النامي الفقيرة المناضلة التي لا صوت لها؟
#حكمت_الحاج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حاطب ليل ضجر
-
حوار مع الروائي المصري وحيد الطويلة
-
تَذكارٌ لبحرٍ غيرِ أبيضٍ
-
شكسبير
-
موت كلمة تكلم
-
لا يمكن تطوير المجتمعات وتحديثها بامثلة تسلطية تقصي الانسان
...
-
إِفْرِضْ مَثَلاً
-
تأملات في الديمقراطية وحقوق الإنسان
-
القسم الثاني والأخير من الصلة بين الشعر والسحر 2-2
-
الصلة بين الشعر والسحر 1-2
-
حكمت الحاج.........ما معنى أن أكون موجودا، ولماذا علي أن أمو
...
-
قراءة في أصل التفاوت بين الناس ل جان جاك روسو منقولا الى الع
...
-
د. رجاء بن سلامة: الحجاب مهما تجدّد شكله واستعماله يتناقض مع
...
-
قراءة فلسفية في مجموعة شعرية/ بقلم الناقد التونسي الزاهي بلع
...
-
النِّسْرُ وَالصَّيَاْدُ
-
حجر الجنون للشاعر فرناندو ارابال
-
الفيلسوف التونسي د. فتحي التريكي في حوار مع حكمت الحاج حول ا
...
-
ذلكَ -الْجَازْمَانْ- المُذْهل المُتَحَكّم في الصمتْ
-
نصّ مدهش عائد إلى لغته الأمّ : قصيدة نثر طويلة عن بستانيّ ال
...
-
لا تَتَبَاهَ يَا موتُ بنفْسِكَ
المزيد.....
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|