هوار محمد سعيد بلو
الحوار المتمدن-العدد: 1924 - 2007 / 5 / 23 - 11:54
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الجزء الثاني : النسيم العقيم
شاء الله تعالى أن يختار العينة الرديئة من بين كل شعوب الارض ليجعل منها حقل تجربة السماء الاولى ، و كان بذلك على الإسلام أن يواجه المجتمع العربي بكلّ تفاصيله و أقذاره وأدرانه .
كان كلّ شيء في هذا المجتمع يُناقض دعوة السمآء و لا يتسق مع مضامينها ، و كان على الإسلام - كدين - أن يفرض تصوّره الجديد والمُناقض على كل العقول و الأذهان و يُعـيد بذلك صياغة العقل العربيّ من جديد .
هناك منطقان لكسب تبعيّة الناس في دُنيا البشر .. منطق العقل و منطق القوّة .
منطق العقل ؛ هو منطق القناعة الذي يُغري العقل بِنشوة اليقين و لذته .
أمّا منطق القوّة فهو منطق التخويف بالبطش و الإيذاء .
الأول حينما يثمر يكســب كُلاًّ من التبعـيّة و الودّ ، لكن الثاني - مهما أثمر - فإنّه قد يكسب التبعيّة و لكن ليس بالضّرورة أن يكسب الودّ والتّعاطف ، أو مرّات كثيرة قد يورّث العداوة والبغضاء في نفس التابع .
إنّ النبيّ (ص) ، و مِن أول إنطلاقة له في الصحراء ، لم يتبنّ منطق القوّة في كسب تبعيّة العرب .. و لم يكن يرى فيه الوسيلة المثلى لنشر المبادئ و الأفكار ، و ذلك أنّ الإنتماء اذا لا يستند على العقيدة إنّما يفضي الى الزّوال عاجلاً أم آجلاً ، لاسيما اذا كان الدّافع وراء هذا الإنتماء هو الخوف و الشعور بالقهر والإنْهزام .
تبنّى النبيّ (ص) منطق العقل و القناعة ، فأراد أن يعرض على أهل البادية آلة نبوّته و يستحكم عقولهم على مصداقيّتها وربّانيّتها ، و أنْ يعرض عليهم الدّليل و البرهان في وضح النّهار و يمنحهم خيار الكفر والايمان .
كانت الحكمة الإلهيّة تقضي على النبيّ (ص) أنْ يغيّر طريقة التفكير في الصحراء و ينفخ الحياة في العقل العربي على ايقاع مغاير و نسق جديد .
كما إقتضت حكمته سبحانه و تعالى أنْ يبدأ بدعوة عشيرته (قريش) وذوي القربى من قومه أولاً ، و يجعل أمره سرّاً بينهم حتى يتكيّف القوم مع وقع الصدمة المحتملة .
و شَرَع النبيّ (ص) يدعو قريشاً الى الدّين الجديد و يواصل نضاله في الظلام الدامس لمدّة ثلاثة اعوام .
كان يلتقي بالناس في سـرّية تامة هـنا و هناك ، مثنى و فرادى ، يقرأ عليهم آيات القرآن الكريم في محاولة منه (ص) لتغيير تصوّراتِهم عن حقيقة هذا الكون و واقع حاله ، و عن الموت و الحياة ، و البعث و النشور .
لم يستطع النبيّ (ص) أن يجمع حوله خلال هذه الأعوام الثلاثة سوى نفراًُ قليلاً من أهالي مكة جُلّهُم من الضّعفاء والعـبيـد والخدم والأعاجم المقهـورين الّذين لم تُخلَق ظهورهم – في نظر اكابر قومهم - إلاّ لتكون مسانداً لأثقالهم أو مَساقِطاً لأسواطهم .
و سواء كان هؤلاء الضّعفاء مع أسيادهم أم عليهم فإنّ ذلك لن يُغيّر شيئاً كثيراً من القسوة التي سيجدونها منهم ، اللهم إلاّ تغييراً في الشكل و ليس في المضمون .
ولا شكّ أنّ لبصيص الأمل الذي كانت تشعّه دعوة الإسلام دوراً أساسياً و مهمّاً في إغراء عقولهم بقبول الاختلاف المتوقّع في نوعية هذه القسوة ، لأنّ الدّعوة كانت صريحة الى المساواة و قمع الظلم و الظلام وإعادة النظر في الحقوق و الواجبات .
كان الجهر بالدّعوة أمراً في غاية الخطورة ، إذ مِن الصّعب جدّاً أن تداهم عقيدة قوم و موروثاتِهم في طُرفة عَين كالصّاعقة ولكنّ التسرّب المتباطئ لأنباء الدّين الجديد يوماً بعد يوم و من هُنا و هناك حتّم على الدعوة أنْ تخرج مِن خفائها الى النور .
إقتضت حكمة الله تعالى بعد ثلاثة أعوام مِن الخفاء أنْ يُعلن أمر الدعوة في وضح النهار و على رؤوس الأشهاد ، و وقفَ الرسول (ص) على الصّفا يصرخ في قريش حتى اجتمعَتْ اليه بطونُها ، و كان الرجل اذا لم يستطع أن يخرج أرسل مكانه قاصِداً ينظر في أمر الصّادق الأمين .
فقال محمّد (ص) :
- يا قوم … أ رأيتُكُم لو اخبرتُكم أنّ خَيْلاً بالوادي تريدُ أن تُغير عليكُم ، أ كُنْتُم تصدّقونني ؟؟
قالوا :
- نعم .. فما جرّبنا عليك إلاّ الصّدق .
فقالها الرسول (ص) بالحرف الواحد :
- فإنّي لكم نذيرٌ بين يَدَيْ عذاب أليم .
و هاجت قريش بأسيادها إثر هذا التصريح الخطير ، و غدى الشكّ الذي طالما همس به الرجال هنا و هناك بالأمر اليقين .
و كان أول من تكلّم مِن الحاضرين عمّ الرسول (أبو لهب) حيث قال :
- تبّاً لك سائر يومك أ لهذا جمعْتَنا ؟
دوّى صوت الإسلام في أرجاء مكة ، و قام الرسول (ص) بعدها يوضّح للناس حقيقة دعوته و يُبيّن لهم خرافات الشرك وأساطيره ، و يشرح لهم حقائق الأصنام و يضرب بعجزها الأمثال .
دعت أسياد قريش الى عقد اجتماع سريع ، ليتدارسوا فيما بينهم أمر هذا الحدث الطارئ و المصاب الجلل الذي فاجأ الناس في مضاجعهم .
أجمعت أسياد قريش على أنْ يبعثوا وفداً لهم رفيع المستوى الى عمّ الرسول (أبي طالب) و يخبروه بما يدعو إليه ابن أخيه وما يقدم عليه ضدّ آلهتهم ودينهم مُحذرين إيّاه مِن مغبّة السماح له بنشر هذه الدعوة بين العرب .
كرّرت قريش و فودها الى عمّ الرسول (ص) عندما لم تجد منه تحركّاً تجاه الأزمة ، و كانوا يقدّرونه أحسن التقدير لسنّه وشرفه و منزلته في القوم ، حتى اشتدّ الكلام بينه و بين أسياد قريش ، فخابت آمالهم فيه و حقَب الأمر و تنابذ القوم و بادى بعضُهم بعضاً .
أجمعت أسياد قريش بعد ذلك على نسج خيوط المؤآمرة والتسرّع بإجهاض دعوة الدين الجديد في أقصر وقت ممكن.
كانت مؤامرتُهم تتبنّى ثلاثة محاور رئيسية :
إضعاف شوكة المعتنقين وضيق الخناق عليهم .
منع امتداد الأزمة الى بقيّة الناس .
تشويه بيّنة الإسلام والتعتيم التام على برهانه .
و في محاولة من أسياد قريش لتقليص أعداد اولئك الذين انضمّوا الى الدين الجديد مِن وراء ظهورهم ، فقد تصدّوا لهم بإرادة مشحوذة و بيد من حديد ، فقد شنّوا حملات التعذيب والترهيب على كلّ من اعتنق الدّين الجديد من قريش ، فقتلَوا معظم مَن وجدَوا في أنفسهم القدرة على قتلهم ، و إن لم يرَوا في أنفسهم القدرة على قتلهم و تعذيبهم لمكانتهم الإجتماعية قاموا بِإهانتهم و تكذيبهم .
كان (أبو جهل) اذا سمع برجلٍ قد أسلم و لهُ منعة و شـرف أنّبهُ و أخزاهُ وأوعَدهُ بإبلاغ الخسارة الفادِحة في أمواله ، وإن كان ضعيفاً مُعدماً سلّط عليه العذاب أشكالاً و ألواناً .
و قد أسْلم الرسول (ص) مِن التعذيب و القتل بفضل عمّه (أبي طالب) حيث كان له السنّ و الشرف و المنزلة فيهم كما أشرنا من قبل .
صُهيب الرّومي :
كان والدهُ حاكماً على (الاُبلّـة) و والياً لِـكسرى .. تربّى في القصور أترفَ ما تـكـون الحياة و أسعَــدَ ما يكون النّـعيم ، وذات يوم تعرّضــت البلاد لهجــوم الرّوم و وقــع الغلام في يدهِــم أسيراً ، فاقتنصَتهُ تـُجّار الرّقيق حتى انتهى به البيع في مكة حيث بِيـعَ فـيها كعبد رخيص بعدَ أن قضـى طفولته و صدر شبابه في التــرفِ و النّعيم ناطِـقاً بالرّوميّة ومُستحسِناً لها .
لقـد تجـرّع مـرارة العبـودية ، و جحيم الـرِّق و الإذلال على يد قـُريش و حــينما ســمعَ بخبر الإســلام اعتنــقه واضعاً روحــه على راحة كفّهِ ، فكان يخرج من دار الأرقم خفيةً حتى لا يراه احد من قريش .
بلال الحبشيّ :
كان عـبداً ينتــمي الى اصول غريبة .. ليس له اهــلٌ أو أقرباء و لا يملك شــيئاً من حـياته .. كان ابناً لأمَــةٍ كانت جارية لبني جُـمَح بمكة و ظلّ عبداً لـِ ( اُميّة بن خلف ) .
اعتنق الإسلام ليعــيش على آماله و يتمتّع بتطـلّعات دعوته وتحمّـل في سبيله أقسى انواع العذاب و أبشع صُوَر الهوان مِن سيّده .
كان يوضَع عُرياناً فوق رمال الصحراء المُلتهِبة و تُنصبُ أثقل الصّخور على صدرهِ و بطنهِ ، و يُخرج به في حرّ الظهيرة حينما تتحوّل الصحراء الى جزء من نار جهنّم و يُلقى به فوق الرّمال السّاخنة ليرتدّ عن دينهِ .
عمّار بن ياسر :
كان مولىً لِـبني مخزوم .. دخل الإسلام و أذاقته قـُريش صنوف العذاب لِيرتدّ عن دينهِ ، و قامت بقـتل والِدَيهِ امام عينيْه دون جدوى .
خبّاب بن الأرتّ :
كان مولىً لـ ( اُمّ أنمار بنت سـباع الخزاعية ) ، اعتنق الإسلام قبل أن تعتقــهُ ، فأذاقَتـْه قريش كلّ مكروه و موجوع .
و استنــجد اكابر قريـش بـ ( اُم أنمار ) لتشــاركهم هي الاخــرى في تعذيبه ، حيث كانت تأخـذ الحـديد المحميّ المـُلتهب و تضعه فوق رأسه و يافوخِهِ ليرتدّ عن الإسلام .
زنيرة و الهنديّة و ابنتُها و اُمّ عُبيس :
كُنَّ إماءٌ أسلَمْنَ ، و كانت قريش تذيقهنّ انواع العذاب بعد إسلامهنّ .
زيْد بن حارثة :
تجرّع مرارة العبودية و آلامها منتقلاً من يدٍ لـِيد ، حتى انتهى به المطاف الى الرسول (ص) فوجدَ على يدَيهِ الرحمة والحنان ولم يتردّد لحظة في اعتناق الإسلام بعد نزول الوحي .
جارية بني مؤمل :
كان (عمر بن الخطاب) في أيام شــركه يضرب جارية لبني مؤمـل – وهــم حـيّ مـــن بني عُــديّ – كــانت قد أسلمَتْ ، كان يــضــربها حــتى تـُصاب يـــدُه بــالإعــياء من شـــدّة الضرب ويقول لها : (والله ما تركتُكِ إلاّ مللاً) .
سعت أسياد قريش بكل جهودها للحيلولة دون تزايد أعداد المعتنقين للدين الجديد ، و خشيت أنّه اذا طالت الحجة بالناس أن يؤمنوا بالدّين الجديد و يعتنقوه ، لذلك حاولوا جاهدين أنْ يحجبوا الحقيقة التي أدركوها عن العامة ، و السبيل الوحيد الى ذلك يكون بمنعهم قدر الإمكان مِن الاستماع الى كلام الرسول (ص) و النظر الى الخوارق التي تصدر منه ، و إن حدث ذلك ، فينبغي إقناعهم بتفسيرات اخرى للموقف .. خوفاً مِن أن تجد هذه البراهين لِنفسها مكاناً في قلوبِهم فيقتنعون بِها .
و هكذا اُصدرت الأوامر بمنع الإستماع الى كلام النبيّ (ص) وحديثه ، و تَجاهُل أيّة خارقة أو معجزة تصدر منه مهما كانت قويّة أو دامغة ، متّهمين إيّاه بالشـّعر والسِّحر والخَبال .
و كان للأكابر على العامة الطاعة العمياء و تنفيذ الأوامر دون نقاش أو اعتراض ، فصار الناس يتفرّقون عن النبيّ (ص) اذا جهر بالقرآن في صلاته ، و يأبون السّماع له .
كان الرّجل منهم اذا أرادَ أن يستمع من النبيّ (ص) بعض ما يتلوهُ من القرآن اثناء صلاتِه إسترق السمع دونَهم ، فإذا رفع النبيّ (ص) صَوته و ظنّ الرجل أنّ أحداً يسمعهُ ، امتنع هو عن الإستماع .. أمّا اذا خفض الرسول (ص) صَوته و اطمئنّ الرجل أنْ لا أحدَ يسمعهُ و هو يسمع شيئاً دونَهم ، استمع اليه في هدوء وتأمّل .
و كان النبيّ (ص) إذا قرأ القرآن على رجالات قريش ودعاهم بدعوته ، زعموا أنّهم لا يفقهون عنه شيئاً وأنّ الله حال بيـنه وبينـهم فلا ينفذ دليله الى قلوبِهم مهما أجهدَ نفسه في دعوتِهم .
و بلغ الخوف بقريش أنّها كانت ترصُد الطريق و توصي كلّ الوافدين الى مكة في مواسم الحجّ و الأسواق بِعدم الاستماع الى الرسول (ص) لأنّ له سحراً على القلوب يأسرها و يرغمها على الإنقياد لِرغباته .
و كان الهول يبلغ بالبعض أقصى درجاته ، بحيث كانوا يتخذون الاحتياطات اللازمة عند المجئ الى مكة .
فعندما توافدَ (الطّفيل بن عمرو الدّوسي) الى مكة في مواسم (عكاظ) حيث كان شعراء العرب ينشدون قصائدهم و الناس يجتمعون و يتحشدّون ليتباهوا بِها .. و كان الرسول (ص) يومها يجهر بدعوتهِ ، فخافت قريش أن يلقاهُ (الطفيل) و يقتنع بحُجّته ويدخل في دينه ، ثم يضع ما يملك من موهبة شِعرية في خدمة دعوته .. فأحاط به أسياد قريش وهيّئوا له من الضّيافة كلّ أسباب الترف و النعيم .. و حّذروه من لقاء محمّد ، و عبّئوا رأسه بالخوف و الهول ، حيث أقنعوهُ بأنّ له كلاماً كالسحر يفرّق به بين الولد و أبيه ، و الرجل و أخيه ، و الزوج و زوجته ، وأنّهم يخشون عليه و على قومه مِن تأثيره .
وما زالوا به يخوّفونه حتى ملأ اُذنيهُ بالقطن قبل أنْ يغدو الى الكعبة ، كي لا يسمع مِن محمّد شيئاً اذا صادف أن تواجدَ هناك .
وهناك أبصرَ النبيّ (ص) يصلّي عند الكعبة وأدهشه قيامهُ وقعودهُ ، فقرّر أن يُزيل القطن مِن اُذُنَيهِ و يستمع اليه .. و لما فَعلَها ، رقّ قلبه و أعلَن اسلامه على الفور .
#هوار_محمد_سعيد_بلو (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟