أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هوار محمد سعيد بلو - مأساة السماء في الصحراء ..... الجزء الأول : حضارة الرماد















المزيد.....



مأساة السماء في الصحراء ..... الجزء الأول : حضارة الرماد


هوار محمد سعيد بلو

الحوار المتمدن-العدد: 1922 - 2007 / 5 / 21 - 11:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


إنّ للعرب مع الاسلام قصّة مؤامرة غريبة تضاهي قصص اليهود وحكاياهم مع أنبياء الله و رسله .. و لاعجب في ذلك ، فهم أبناء العمومة تجمعهم صلات نسب قريبة .
إنّ قصة المؤامرة هذه طويلة وعريضة ، تترامى بأطرافها ممتدّة بامتداد صحراء جزيرة العرب و قفارها .
لقد تنزّل الوحي في صحراء الجزيرة ، و اصطدمت مضامينه بكل ما هو موجود فيها .. اصطدمت بعاداتها وموروثاتها و طبيعة العقل و التفكير فيها .
لقد جاء كل ما هو موجود على ارض هذه الجزيرة مناقضاً للوحي وغير متسق مع مضامين فلسفته في الحياة .. و على إثر ذلك توعّد أهل البادية بأن يواثبوا على قبر نداءات هذا الدين والوقوف على إجهاض دعوته بشتى السّبل و الطرق .
كانت مؤامرة أهل البادية تحمل في ثناياها روح العقيدة الساذجة والقومية العمياء ، فقد نادوا بانقاذ عقيدتهم التي ورثوها عن آبائهم و إن كانت في حقيقتها ساذجة لا يهواها العقل الناضج و المنطق السليم ، و نادوا بحماية قوميتهم من الضياع و إنْ كانت حقيقة في حالة صراع داخلي ونزاع قبلي ينهشان في لحمها و عظمها .
دخل الاسلام مع العروبة في معركة غير متكافئة و خرج منها بخسارة فادحة ، بينما خرجت العروبة منها بربح وافر و انتصار عظيم ، فقد وهب الاسلام - في معركته هذه - كل مزاياه الحميدة للعروبة و أعادها الى حظيرة العصر و الزمان ، بينما خرج هو من معركته و قد اكتسب من العرب الرجعيّة والتخلف وسوء الطريقة في التعقل و التفكير .
إنّ الاسلام من يومها دائب على أنْ يتبرّأ من هذه التهم والافتراءات التي اُلصقت به ظلماً على يد العروبة ، و لكنّ صورته النقية شوّهت في عيون الغرباء و من الصعب جداً اعادة صقلها و صياغتها من جديد .
كانت مؤامرة العروبة على الاسلام تتقولب في اشكال وصور متعددة بما يلائم الاجواء والظروف ، فقد بدأت من فكرة تآمرية ثم تحولت الى حركة عدوانية طاغية على أتباع الدين الجديد ثم الى حملة جماهيرية شرسة تعنف وتقسى عليهم ومِن ثم الى انخراط متواصل معهم في قتال شبه متكافئ ، و عندما مُنيت المؤامرة بهزيمة مؤقتة تحولت الى طابور سرّي يعمل في الخفاء و يمارس سياسة الطعن في الظهر ، وفي النهاية حققت المؤامرة انتصارها المنشود و الكاسح على الاسلام ، فقد تمكنت من تجنيد جنود لها من المسلمين أنفسهم يعملون لصالحها ويقفون على تنفيذ أجزائها من حيث يدرون أو لا يدرون .

كان شبه جزيرة العرب من اكثر أشباه الجُزر القارية و أشدّها جفافاً وصحراوية ، ممّا أضفت الى الحياة هناك طابعاً فاحشاً ومخيفاً (1) .
كما أدّت ضخامة الكتلة الصحراوية وجفاف المناطق الواسعة الى تضييق آفاق الإستثمار القديم امام سكان المنطقة ، فلم تكن هناك حركة عمرانية ، ولا وفرة في المحاصيل الزراعية ، ولا رواجاً صناعياً يُذكر .. في الوقت الذي أقامت فيه شعوب الهلال الخصيب القريبة منها - في ارض الشّام - صرح حضارتِهم الرّاقية و منبر تراثهم العريق .
كانت الموارد المائية متبعثرة في أنحاء الجزيرة و كانت مناطق الرّعي و الكلأ متغيّرة باستمرار ، ممّا أجبرَت القـبائل الى التسابق مِن أجل استغلالها تارة ، والى التناحر والتقاتل تاراتٍ اخرى .
ونتيجة هذا الصراع الدؤوب تضطرّ القبائل المغلوبة الى النزوح عن مواطنها الى حيث يتوفر الأمن و الحياة .
إنّ هجرات القبائل البدويّة القديمة ضمن إطار الجزيرة من جهة الى اخرى و بين حينٍ قصير و آخر بحثاً عن الكلأ و الأمان ، و من ثمّ هجرات بعض جماعاتِها الى ما يجاورها من مناطق الهلال الخصيب بين كلّ حين طويل و آخر بحثاً عن الحياة و الوجود ، إنّ هذه الهجرات الواسعة النّطاق لم تكنْ في حقـيقتها إلاّ إنعكاساً لمدى الفحشآء الذي تجرّعته هذه القـبائل في طبيعة حياتِـها و نمط عيشها .
كما أنّ تحوّل الطرق التجارية عن مسالكها الرّئيسية لسببٍ أو لآخر ساهم أيضاً في تشجيع هذه الهجرات المستمرّة والمتواصلة التي قامت بِها القبائل القاطنة الى خارج أرضها .
إنّ طبيعة الحياة في جزيرة العرب حرّمت أهلها من الإنصهار في حضارات الاُمم القريبة ، أو حتى التفاعل معها والإستفادة من خبراتِها ؛ وإن لم تكن قد حرّمتهم تماماً من الإحتكاك بِها عن طريق حوافها الحدودية المتمثـلة بنقاط إستلام البضائع التجارية و تسليمها .
كان العرب يعيشون في عزلة موحشة من الدّنيا وأهلها ، وفي جفاء تام عن الحضارات الإنسانية الشـامخة التي كانت تعاصرهم كحضارات الهند و الفرس و الصين و الرّوم ، تلك الحضارات التي أقامت اُسس التفكير البشريّ مُعانقة بِها صرح الخلود في الكثير من مناحي الحياة .
و قد ورد في حديث الرسول (ص) :
(مَن سكَن البادية جفا )(1)
لأن أهل البادية مشهورون بالغِلظة والجفاء ، و لِما في طباع الأعراب من الجفاء(2).
وقيل: لأنهم أقسى قلباً وأجفى قولاً وأغلظ طبعاً وأبعد عن سماع التنزيل(3).
و كانت هذه الحقارة و غلاظة الطبع ملتصقة بالطبيعة البشرية للعرب بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعقائدية .
فحتى بعد اسلامهم و إنتمائهم الى عقيدة السماء لم يستطيعوا أن يتخلوا عن قذارة طبائعهم و بلادة تفكيرهم ، و قد ذكر القرطبي في تفسيره أن إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة لجهلهم بالسنة وتركهم الجمعة .. و كره أبو مجلز إمامة الأعرابي ، وقال مالك: لا يؤم وإن كان أقرأهم .
و أجاز البعض الصلاة خلف الاعرابي حيث قال سفيان الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي: الصلاة خلف الأعرابي جائزة ، واختاره ابن المنذر إذا أقام حدود الصلاة .

لقد أقام الصينيّون القدماء حضارتهم العريقة مِن حـوالي سنة (1766 ق.م) و الى سنة (221 ق.م) .. و يشير تراثهم أنّهم اكتشفوا الحرير لأوّل مرّة بـ (2690 سنة) قبل الميلاد ، حيث لاحظوا دودة القزّ و هي تنسج الحرير بعد تناولها لأوراق شجرة التوت .. واستعمل الصينيّون القدماء الحرير كعملة رسميّة للـبلاد و تمكنت سيّدات الصّين من ارتداء الملابس الحريرية الثمينة في ذلك الزمان القديم .
و ظلّ الصينيّون القدماء يتفرّدون بمعرفة أسرار الحرير زهاء ثلاثة آلاف عام ، كما بنوا رائعة (سور الصّين) خلال عشر سنين بحوالي (200 سنة) قـبل الميلاد .. و ظلّ هذا السور حتى يومـنا هذا من روائــع الزمان ، حتى قيل أنّه يُرى من سـطح القمر.
كما أقام المصريّون القدماء حضارتَهم من حوالي سنة (3200 ق.م) و الى سنة (332 ق.م) و مدّوها بنشاط متواصل لا فتور فيه ، لتصلنا منها روائع الآثار و التّحف الحضارية التي تنطق لنا بمدى التقدم الذي أحرزه هذا الشعب في مضمار التطوّر و التقدّم .
فما تمثال (رمسيس الثاني) الموجود الآن في متحف (ممفيس) الخـاص و الكتابات و النقوش القديمة على جدران معابدهم و معبد (رمسيس الثاني) ومعبد (آمون- رَع) وآثار معبد (حورس) و وادي الملوك و تمثال (أبي الهول) بالجيزة والأهرامات الخالدة و أطلال معبد (كوم أمبو) و غيرها الكثير من الآثار و التُُّحف الحضارية ، إلاّ دلائل باهرة على سنين متواصلة من العطاء و الهبة في ميادين الحياة المختلفة .
أمّا حضارة الهنديين القدمآء ، فتعود بأصولها الى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد ، و قد تسامَت حضارتُهم في الكثير من مجالات الحياة حتى إلتقَت بالمثال .
و عندما غزوهم الآريون في ديارهم وجدوهم شعباً عريقاً بلغوا درجات عالية من الرّقيّ و التطوّر .. و يبرهن هذه الحقيقة تلك اللُُّقى الأثريّة التي تمّ العثور عليها أثناء أعمال التنقيب و كان منها أختام رائعة من الذهب والفضّة و العاج ، وُجدَت في أطلال منازلهم ممّا يدل على أنّ جمهرة الناس في ذلك الوقت كانوا صُنّاعاً ماهرين ، و كانوا أوّل من استخدموا العجلة في صناعة الخزفيّات و زهريّات الصلصال(1) .
كما لم تمنعهم بشرتُهم الدّاكنة و انوفهم الكبيرة و شعرهم المتموّج مِن أن يبنوا حضارتَهم ، حضارة وادي السّند ، أو أن يخلقوا النهضة العمرانيّة الرائعة في ظلّ الديانة البوذيّة .
و بنى اليونانيّون القدماء الحضارة الهلنستيّة التي بدأت بفتوحات (الإسكندر الكبير) عام (333 ق.م) و انتهت بفتوحات الرّوم في القرن الأول قبل الميلاد .. كانت حضارة متطوّرة ومزيجة من الحضارة اليونانية و الحضارة الشرقية القديمة .
كما أصدروا تطوّرهم الى الشرق في ظلّ هذه الحضارة وأسّسوا فيه ممالك عظيمة ، و لعلّ مدينة الإسـكندريّة في مصـر تعتبر اكبر دليل على ذلك .
كما إن صَرْح الستاد الملعب الاولمبي في اليونان و الذي أقيم في ظـل هذه الحضارة ، و الذي اُعتمدت قياساته بعد ذلك لكل الملاعب العالمية الحديثة ، يعتبر اكبر دليل على الشموخ المبكر لهذه الحضارة و إشراقاتِها السريعة في كل مجالات الحياة(2).
كانت حضارتهم حضارة التمازج العرقيّ و التبادل الثقافي بين الشرق و الغرب .
والرومانيّون القدماء شيّدوا حضارتهم أيضاً في عصور مُبكرة ، من حوالي سنة ( 753 ق.م ) و حتى سنة ( 476 للميلاد) ، و أفرزت هذه الحضارة عطائاتِها لأزمنة طويلة من عمر التآريخ ، و يكفينا من هذه الحضارة طريق رومانيا الذي يبهر بتصميمه العقول و مـدينة الشمس (بعلبك) التي ترتفع اعمدتها بعلوّ يعادل سبعة طوابق و المسرح المدرّج (الكوليزوم) الذي يشهد و ينطق بمدى التطور الفنّي و المعماري الذي ارتقت اليه هذه الحضارة ، وكذلك مسرح بُصرى في الشام والجسر الروماني في جنوب فرنسا المؤلف من ثلاثة طوابق وكانت وظيفة الطبقة العليا نقل المياه الى مدينة (نيم) الفرنسية حيث يُبْهر الخيال المعاصر من ذلك الزمان السحيق.
كما افاضت هذه الحضارة بروائع الفن الروماني القديم من ملابس و الواح و ساعات و مواصلات وأدوات حرب (1).
أمّا الفرس ، فقد بنوا حضارتهم في ظل امبراطوريّتهم مِن سنة (559 ق.م ) و الى سنة (331 ق.م) ، و ابدعوا في الكثير من عطاءاتِهم .. ولعل ما وصلنا مِن آثارهم ومخلفاتِهم الحضارية يبيّن لنا مدى علو المنحدر الذي تسلّق اليه العقل الفارسي القديم ، فقد كتبوا لُغتهم ذات الأصل الهندو- اوربي بالخط المسماري المؤلف من (51) مقطعاً .
ولم يكن الفرس أول شعبٍ يستوطن المرتفعات الإيرانية ويؤسّس فيها مملكة ذات حضارة ، فقد سبقهم اليها الميديّون بحضارتِهم و هم يمُتون اليهم بِصلات نسب عريقة ، وتم العثور على مخلفاتِهم الحضارية هناك أيضاً(2).

ولسْتُ هنا لأتحدّث عن حضارات بلاد الرافدَيْن ، حضارة سومر (3500 سنة ق.م تقريباً) و حضارة أكّاد (2350-2150 سنة ق.م) و حضارة الامبراطورية البابلية الأولى (1792-1650 سنة ق.م) .
كما لست هنا لأسرد عطائاتِهم أو أتحدّث عن لُقاهُم الأثرية التي تحكي لنا قصة شعوب عظيمة صنَعَت الحضارات وأجناس راقية سبقت الدّنيا في كُلّ مجال.
فاللوحة السّومرية المكتوبة عليها و التي يرجع بتآريخها الى (2900 سنة ق.م ) و الصندوق الخشبي (الرّاية) و الذي يرجع بتآريخه الى الفترة ما بين (2700-2300 سنة ق.م) و المحفوظ حالياً بالمتحف الملكي البريطاني بِلندن حيث يعرض أحداث ملحمة (اُور) و الخّط المسماري المكتوب على الألواح الطينيّة و قوانين (حمورابي) الخالدة التي يبلغ عـدَدُها (282) قانوناً والتي حُفرت على مِسَلّة سَوْداء مُزيّنة بصورته وهو واقف بين يدي إله الشمس الذي يرمز عندهم الى العدالة .. كلّها دلائل باهرة على حقب متواصلة من العطاء في مجالات الحياة المختلفة(1) .

لم يصلنا شئ من الآثار الحضارية الأولى للعرب(2) ، ربما لأنه لم تكن هناك حضارة في الأصل .. فقد عاش العرب القدماء في صحراء الجزيرة حياةً بسيطة متواضعة ، و وفق نظام قبليّ و بدائيّ للغاية .
كانت الوحدة في البادية هي القبيلة ، و كانت وحدة تترابط فيما بينها بأواصر الدّم و العصبية .. كما كانت القبيلة تأوي اولئك الضعفاء أو العبيد الذين يلجأون لها و يطلبون العيش في كنفها ، و إن لم تكن بينهم و بين افراد القبيلة صلة قربى أو نسب (و كانوا يُسمّون بالحـلفاء ) ، فيضـعون انفسهم تحت حمايـتها أو حماية فـرد منها و يتعاونون معهم في السّـلم والحرب ، ومعظمهم ممـّن تخلعـهم قـبائلهم الأصـلية لسـوء سلوكهم أو لإرتكابِهم جرائم قتل أو شرف.
كان حجم القبيلة الواحدة يتوّقف على قدرتِها على الدفاع وعلى وفرة المراعي .
فالقبيلة تطغى عـلى الاخـرى وتغلبها على امرها ويخـضع المغلوب للغالب زمناً قد يطول أو يقصر ، أو حتى تتاح الفرصة للقبيلة المغلوبة فتشهر السيف في وجه القبيلة الغالبة و تطغى هي بدورها عليها .
كانت القبيلة هي التي تحكم نفسها ، و ولاؤها الأعمى يكون لصلة الدمّ التي تسري في أوصالها ، تموت لها و تحيا بها ، وقد يبذل أفراد القبيلة الغالي والنفيس من أجل هذه الصلة ، فالطاعة العمياء تكون لسيّد القبيلة و إن لم يكن يملك قوة مادية يرغم بِها الأفراد على طاعته ، و للفرد أن يتمرد على سيّد قبيلته و يتخذ قراره بنفسه ، و لكن في هذه الحال ، عليه أن يَدع القبيلة ويبحث لنفسه عن مكان آخر يحتمي فيه من بطش المحيط المفترس .
كان صعباً أن يتمّ بالبادية العربية ارتباط وثيق بين عدد من القبائل في ظل التشعّب القبليّ العنصريّ المتناهي و الدقيق بحيث يتسنّى لهم تشكيل ممالك و دُوَل و إقامة حضارات على غرار الشعوب الاخرى المتزامـنة والتي كانت تلفـظ بالجـديد و المُبدع خلال الفترات المتلاحقة .. بل على العكس تماماً ، فالقبيلة الواحدة كانت تنقسم احياناً كثيرة الى بطون كلّما كَبُر حجمها والفرد في احيانٍ كثيرة كان يغادر القبيلة و يُطـرد منها الى اخرى .
و كثيراً ما يبتدئ هذا النزاع بين رعاة الإبل ، فقد كانوا يتنازعون في من يردُ الماء اولاً أو يرعى في الكلأ ، فيتجاوز النزاع الى ساداتِهم فلا يجدون حلاً غير الافتراق ، فينزح احد الأخـوين عـن داره مرغـماً الى مكان آخـر هو و أولاده و من يلـوذ به .. و يحدث ذلك عندما يشعر الراحل بقوّة مُنازعه ويخلّف هذا النزوح في قلبه أثر الغضب ، يتوارثونه جيلاً بعد جـيل ، و يتـناقلونه بشئٍ من المبالغات .. و كلّما كان مكان البطنـَيْن اقرب كان العداء أشد و أبقى(1) .
و قد يموت كبير في القبيلة وله ولد ، فيكون موضع أبيه فتُنازعه الأعمام رئاسة القبيلة ولا يتنازل أحدهما للآخر حتى يورثهما ذلك تباغضاً تزيده الأيام شّدة ، و قد يفارق كبير أحد البيتين الديار مضمراً في نفسه العداوة و البغضاء للآخر ، أو قد يبقيان متجاورين ، و في هذه الحال يكون التنافر أشـّد و أبـقى كما كان بين الأوس و الخزرج بيثرب و بين هاشـم و اُمية بمكة و بين عبـس و ذبيان من قيْس و بين بكر و تغلب من ربيـعة وبين دارم و يربوع من تميم .. و لذلك نرى أن الحروب الطاحنة و التناحرات الضارية إنّما كانت بين القبائل المتـقاربة في الأنساب والمتباعدة في الأماكن(2) .
و لأجل هذا كلِّه ، كان اتجاه الحياة وطبيعتها في جزيرة العرب أدْعى الى الإنقسام و الإنفصال منهما الى التّكاتل والالتحام بمـرور الزمن ، في حين اسـتمر أهل الارض في الكثير من بقاعهـا يتوحّدون و يختلطون حسب مصالحهم وسـياساتِهم .
لقد قامت مملكة وحيدة في أواسط جزيرة العرب ، و هي مملكة كندة ، حيث استطاع رؤساء قبيلة كِندة أن يبسطوا سيطرتَهم و سلطانَهم على معظم قبائل نجد ، و يُكوّنوا دولة شملت هضبة نجد و امتدت الى البحرين ، غير أن سلطانَها على القبائل لم يدُم طويلاً ، فقد ثارت تلك القبائل بوجهها و أزالت دولتهـا ، و سرعان ما عـادت الحياة القبلية الى الظهور مجدداً .
دامت حياة هذه الممـلكة حوالي (48) سنة فقط .
كانت جـزيرة العرب تتألف من قسمَين رئيسيَّين ، هما قلب الجزيرة ومحيطها .
أمّا قلب الجزيرة فكان مؤلّفاً من سلاسل مرتفعة من الجبال ومنها الجبال السوداء التي تشبه الفحم المحترق و تسمّى بـ (الحِرار) ، تتخللها الأودية العميقة أعدّتْها السّيول ليجري فيها ماؤها ، ولا تسقط الامطار عليها إلا قليلاً .. لذلك كان هذا القسم قليل السّكان و هذه القلّة - بدورها - كانت في حالة ارتحالٍ مستمرة بحثاً عن مساقط الأمطار و منابع المياه ، أو بحثاً عن العشب و الكلأ ، أو عن الأمان في احيان كثيرة .. و كانوا يستعملون الجمال و يعتمدون على الخيام أثناء تنقلاتِهم الكثيرة .
أمّا الزراعة و الصناعة فقـد كانتا حِرفتين لم تتشّــرفا بمعرفة أهل هذه المنطقة .
و قد تمثل قلب الجزيرة بالمنطقتين نجد والأحقاف ومع قلّة السكان في نجد ، فانّهم كانوا اكثر نسبيّاً من سكان الأحقاف حيث كان خالياً من السكان تقريباً (الربع الخالي) .
هذا كان قلب الجزيرة ، أمّا محيطها فكان مؤلّفاً من شريط حدودي ضيّق يمتد مع شواطئ الجزيرة ، و ينفسح هذا الشريط قليلاً عند التقاء البحر الأحمر بالمحيط الهندي لتتكوّن اليمن .
تميّز محيط الجزيرة بسقوط امطار منتظمة نسبيّاً عليها ممّا وفَر للناس نوعاً من الاستقرار النسبيّ و ذلك عن طريق توفير بعض أسباب الزراعة ، و من ثم قامت هناك مدن و ممالك كبيرة نسبياً منها مملكة معين و قتبان و سبأ وحِمْير.
و قد شهّد هذا الشريط الحدودي صورة مماثلة لِما كان موجوداً في وسط الجزيرة من نزاعات قبلية و صراعات متطرفة متعاقبة ، فمملكة معين وقتبان كانتا مُعاصرتيْن لبعضهما البعض حيث كانت معين في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد وقد ظلت حتى قامت مملكة سبأ فاستنقصت ارضها و لم يبق لها في القرن السابع قبل الميلاد إلا الجزء القليل ، أما قتبان فقد بدأت في أوائل الألف الاولى قبل الميلاد تقريباً و كانت تشرف على باب المندب ، وقد ورثتها سبأ أيضاً كما ورثت معين مِن قبلها .
لقد توالت الأزمات و الظروف الصعبة على ارض اليمن منذ سنة (115 ق.م) و حتّى مجئ الإسلام ، إبتداءاً من غلبة قبيلة حمير على مملكة سبأ و من ثم فشل التجارة الى حد كبير و ذلك لبسط سيطرة الأنباط في شمال الحجاز أولاً، ثم لغلبة الرومان على طرق التجارة البحرية ثانياً ولتنافس القبائل العربية المتواجدة فيما بينها ثالثاً (1).
و منذ سنة (300 للميلاد) و حتّى دخول الإسلام الى اليمن توالت على أهلها الاضطرابات و المصائب ، وتتابعَت الانقلابات و الحروب الأهلية التي جعلَتْهم عرضة للأجانب حتى قضت على استقلالها.
ففي هذا العهد دخل الرومان في عَدن و بمعونتهم احتلّت الأحباش اليمن لأول مرة سنة (340 للميلاد) و الذي يرجع السبب فيه الى التنافس بيْن قَبيلتَيْ همدان و حمير.. ثم نالت اليمن استقلالها بعد سنة (378 للميلاد) ، و لكن التصدعات بدأت تظهر في سدّ مأرب ، حتى وقع سَيْل العرِم في سنة (450 م) مما أدى الى خَراب العمران و شتات الشعوب وجرفت السّــيول مزارع القوم و بســاتينهم وأعقبَتْه الهجـــرات الواسعة التي قـام بِها سكان اليمن الى الحجاز و غيرها من المناطق في شمال الجزيرة وخارجها .
إنّ للصّحراء التي تحيط بجزيرة العرب من جهات والمياه التي تحيط بِها من الجهات الاخرى ، الدَوْر الأول والأخير في ترسيخ العزلة والتخلّف في هذه البقعة من الأرض ، حيث لم تكن الجزيرة كما أشَرنا سابقاً تحتك بجوارها إلا عن طريق حوافها الحدودية المتمثّلة بنقاط استلام و تسليم البضائع التجارية .
و لمّا كان العرب في رحلاتِهم التجارية بين الشمال و الجنوب وبين الشرق و الغرب يسيرون مع شواطئ البحار ، فقد ظنّوا ولفترات طويلة من الزمن أنّ أرضهم محاطة بالبحار من جميع الجهات وأطلقوا عليها اسم (جزيرة) ، حيث يرى ذلك الكثير من الكتّاب و المؤرّخين المعاصرين و يستبدلونَها اليوم باسم (شبه جزيرة) وضعاً للاُمور في نصابِها(1) .
لم تكن جزيرة العرب ذات اهمية كبيرة على خارطة العالم في قديم الزمان ، و لم تكن أطماع الشعوب المجاورة تمتد اليها رغم حروبِها الواسعة و إجتياحاتِها الكثيرة من اجل توسيع رقعتها و بَسْط سيطرتِها ، و يُخطئ من يظنّ أن عدم امتداد اطماع الإمبراطوريات و القوى القديمة الى جزيرة العرب يرجع الى عدم مقدرتِها على اجتياح العوائق الطبيعية من بحار وصحاري تحيط بالجزيرة (1) ، إذ أن القوى التي كانت يومها تجتاح القارات و المحيطات و البحار و تستسهل الصعاب لتوسّع رقعتها أو تحطم خصومها ، لا يعقل أن يكون قد عزّ عليها أمر صحراء كصحراء الجزيرة ، أو بحار كتلك التي تحيط بِها.
إن تماسك القوى القديمة عن غزو جزيرة العرب و ضمِّها الى أراضيها كان يرجع الى عدم تمتع المنطقة بالأهمية الجغرافية و الزراعية و الصناعية و التجارية المطلوبة ، و التي تستحق خوض عناء الصحراء الفاحش من اجلها .
فعندما اُحْتلّت اليمن على يد الأحباش سنة (340 للميلاد) بقيادة (أبرهة الحبشي) ، و توالى أولاده على الحكم من بعده وطال بلائهم على أهل اليمن ، خرج (سيف بن ذي يزن الحميري) حتى قدِمَ على قيصر ملك الروم ، فشكا اليه حال قومه و طلب منه أن يُخرِج لهم الأحباش من بلادهم مقابل أن يملك البلاد و يصبح سيّداً عليهم ، لكن قَيصر رَدهُ و لم يُعطِه شيئاً ممّا أراد و استهان بأهمية أرضه و أهله.
خرج (سيف بن ذي يزن) من عند قيصر يائساً و قصد كِسرى ملك الفرس مع (النُعمان بن المُنذر) الذي كان عاملاً لِكسرى على الحيرة آنذاك .. فدخلا على كسرى و طأطأ (سيف بن ذي يزن) رأسه قائلاً:
- أيُها الملك العظيم .. لقد غَلبَتـْنا الأحباش على بلادنا ، فجئتك لِتنصرنا و تكون أمْلاكُ بلادنا لك.
قال كسرى:
- ما أبْعدَ بلادك عن مساعدتي مع قِلّة خيرها .. فما كنتُ لأُورّط جيشاً من بلاد فارس بأرض العرب .. لا حاجة لي بأرضكم .
فأعطاه عشرة آلاف درهم ، و طلب منه الإنصراف.
فقال أحد وزراء كسرى:
- أيّها الملك .. إنّ في سجونك رجالاً قد حبِستهم للقتل ، فلماذا لا تبعثهم معه ؟ فإن يهلكوا كان ذلك ما ترغب بِهم ، و إن انتصروا فقد أوسعوا ملكك.
فاقتنع كسرى بِهذه الفكرة ، و بعث مع (سيف بن ذي يزن) مَن كان في سجونه مِن المجرمين وكانوا ثمان مِئة رجل ، فجاؤوا اليها و احتلوها و طردوا منها الأحباش و صار هؤلاء المجرمون حُكاماً على أهل اليمن(1) .

و لإن كان هذا هو مدى أطماع كسرى في ارض اليمن التي اُعْتُبرَت موْطناً لحضارات العرب آنذاك ، فماذا عساهُ أن يقول في أرض نجد و الأحقاف ؟

لم يكن الإنسان العربي هو السّر وراء قيام الممالك والدُّوَيلات المتحضّرة نسبيّاً في اليمن .
لا يُنكر أن هطول الأمطار النسبيّ و تناسب جوّ المنطقة هما نصف القصّة ، و لكنّ قابليّة الإنسان العربي ليست هي النصف الآخر للقصة ، إذ افتقر هذا الفرد منذ القِدَم الى الكفاية من الخبرة والتجربة في استغلال الموارد المائية و استثمارها في بناء الحضارة و التطوّر .
إنّ طفرةً طرأت على الظروف بمرور الزمان هي التي خلقتْ الحضارة النسبيّة في هذه المنطقة تحديداً ، فقد استقْبلتْ هذه البقعة الحدوديّة من ارض الجزيرة اشكالاً وعناصر مختلفة من الناس و جذبَتْ أسواقها تُجّاراً مختلفين من بقاع مختلفة من العالم آنذاك ، و بذلك فقدَت المنطقة بمرور الزمن نقاء عنصرها العربي البدَويّ .. و السبب في ذلك يرجع الى الأهمية التجارية النسبيّة لهذه المنطقة و التي جعَلَت منها مُلتقىً للرحلات التجارية البحريّة القادمة من الهند و اندونيسيا و الصّين لِتلتقي بالرِّحلات البرّية هناك وقد تعوّد بعض هؤلاء التّجار أن يُقيموا بِها مدّة قصيرة أو طويلة ، لذلك اختلطت الأجناس والّلغات والحضارات على أرض اليمن وصار يُرى بِها خليطٌ من الناس .
إنّ هذا الاختلاط المُستمر – و برأي بعض المؤرّخين – هو الذي أدّى الى استيراد افكار جديدة غيّرَت نمط الحياة بمرور الزمن ، فعلى سبيل المثال .. استُحْدِثت فكرة استثمار المياه الفائضة و تشغيلها في مشاريع الزراعة وقت العَوَز و القَحْط ، ثم صارت الفكرة حقيقة على أرض الواقع حيث كانت المشاريع وقامت الممالك والدّويلات والتي اختلفت في كلّ مضامينها وطرائق حكمها عن طريقة البادية في الحكم و السيطرة ، بل كان أساساً نظام حكم جديد لم تعهَدْه البادية من قبْل ، و لعَلّ سدّ مأرب كان ثمرة هذه الافكار المُستوردة آنذاك ، إذ لم تكن للعرب خبرة تُذكر في هذا المجال كما قلْنا .
إنّ الناس في هذه المنطقة و قبل الإهتداء الى الزراعة كانوا يعيشون حالة من البداوة المُزَعزعة في جماعات صغيرة و كُتَلٍ متناثرة و كانوا لا يجدون وسيلة لسدّ حاجاتِهم المعيشية ، فعندما استُغلّت المياه الفائضة و نَمتْ الحضارة الزراعية ، وُجِد الفائض عن الحاجة فأعطَوه الى قوم يمتازون عن الآخرين بميّزة مُعيّنة كرجال الدّين و قادة الحروب .. و بذلك وُجدت طبقة من الحُكّام ذوي الغنى و اليسار والقوة ، وظهرت لهم ألقاب جديدة كالسلطان والملك .. و كانت هذه الألقاب تتناسب مع رقعة المُلكيّة و بذلك قامَت الدّوَيلات و الممالك بخلاف ما حدث في باقي اجزاء الجزيرة(1).
إنّ الإستيراد المتواصل للفكر الاجنبي هو الذي تسبّب في تغيير نمط الحياة في أرض اليمن و قيام الحضارة النّسبية على خلاف سائر المناطق الاخرى من الجزيرة ، حيث كانت المنطقة في احتكاك مستمر مع الحضارات و تخلّي متدرّج عن صفاء جنسها العربي البدائي .
و لعلّ ما يؤيّد وجهة النظر هذه ، هو أنّ المتتبّع لألفاظ أهل اليمن و ما كان يُكتب اليهم بلسانِهم يرى غرابة سببُها عدم الإلْف لسماع تلك الألفاظ ، و يحسّ منها بصلابة لا يجدها فيما يُرادفها من الألفاظ الحجازية(1) .
لم تكن للعرب قديماً حتى رموزٌ يكتبون بِها لهجاتِهم أو يُدوّنون بِها تعابير قلوبِهم ، في حين ابتدعت سائر شعوب الأرض لنفسها حروفاً يسطرون بِها كلامهم ، و رموزاً يُحوّلون بِها المسموع في حاضرهم الى المقروء في المستقبل القادم .
ويكاد يجمع الباحثون في هذه المسألة اليوم على أنّ الحرف الذي كُتب به القرآن الكريم إنّما يستمدّ اصوله الاولى من حروف لغة الأنباط .. و الأنباط هم سكان المملكة النّبطية الذين نزلوا جنوب أرض سوريا و كوّنوا مملكتهم ، حيث يُقال أنّ لغتهم كانت عربية في نطقها و آرامية في كتابتها و تدوينها(2).
كان الحُكم في الصحراء استبدادياً بأسوأ ما تحمله الكلمة من معنى ، و كانت الحقوق ضائعة و الدّماء مهدورة ، و أحوال القبائل داخل الجزيرة كانت مُفكّكة الأوصال تسحقهم المُنازعات القبليّة والحروب الأهلية والاختلافات العنصرية الدّقيقة والمُتناهية .. و فوق كلّ هذا تُذكيها الأسباب الواهية أحياناً والحجج المضحكة أحياناً اخرى .. و لم يكن للضّعفاء مَلِك يدعمهم أو مرجع يعودون اليه و يتشبّثون به أوقات المِحنة .
كان الرّعايا في صحراء الجزيرة بمثابة مزرعة تُورد المحصولات الى اسيادها ، فتستخدمها في ملذّاتِها و شهواتِها وجورها ، و كان الفرد يتخبّط في الظّلمات و الظّلم يحيط به من كلّ صَوب ، فيتجرّع الظّلم أشكالاً و ألواناً و هو ساكت كالشيطان الأخرس .
كانت روح الشّراسة و الإنتقام و الإستيلاء مُتّقدة في اعماق النفوس ، تُثيرها الأقوال احياناً كثيرة قبل الأفعال .. و قد أحَسّ بعض أهالي مكة بالأخطار الجسيمة التي بدأت تُهدّد استقرار مكة يوماً بعد يوم في ظلّ الفوضى القائمة ، فكوّنوا ( حلف الفضول ) لِنصرة المظلوم و حمايته من الظّالم ، و لكنّ الأيام لم تكتب النجاح لهذا الحلف في نشر العدل و صيانة الحقوق .
كان هذا الحلف نتيجة حرب طاحنة دارت بين كِنانة و قريش من جهة ، و بين قيْس من جهة اخرى ، حيث كان لـ ( نُعمان بن المنذر ) مَلك العرب بالحيرة تجارة يرسلها كلّ عام الى سوق عكّاظ ، و كان يرسلها في أمانة رجل له منعة و شرف لِتجتاز القبائل بسلام و من دون سوء.
و ذات يوم جلسَ المَلك و في مجلسه رجل من كِنانة و آخر من قَيْس.. فقال الملك :
- من يجتاز بتجارتي هذه حتى يبلغها عكّاظ هذه السّنة ؟
قال الكِناني:
- أنا اُجيزها على كنانة .
فقال القيسيّ:
- أنا اُجيزها على الناس كُلّهم !!
فأجاب الكناني:
- و هل لك أن تجيزها على كنانة ايضاً ؟
فأجاب:
- و على كلّ الناس !!
أسرّها الرّجل الكناني في نفسه ، و تخيّل أنّ القيسي قد مسّ كرامته بسوء ما دونه سوء .
وعندما خرج الرّجل القيسيّ بتجارة الملك إعترضه الكناني وقتله ، وعلى أثر ذلك نشبت حرب ضارية بين الطّرفيْن وانضمّت قريش الى كنانة واضطرّت في نِهاية الحرب الى الإحتماء بِحَرَمِها فوَعَدتْها قَيس في العام المُقبل .
وبعد مرور عام على النّزاع جمعَت قيْس جموعها مرة اخرى و جمعَت قريش جموعها أيضاً من كنانة والأحابيش ، وتصارع الطّرفان بالحديد و النار .. و غدى ذلك اليوم من أشدّ أيّام العرب هولاً و استُحِلّت فيه حُرمة مكة وسُميت الحرب بحرب الفُجّار والجدير بالذّكر أن الرّسول (ص) شارك في هذه الحرب حيث كان يناول أعمامه السّهام و النّبال(1) .
إنّ القصص في هذا المضمار كثيرة جداً ، منها ما يُدمي الفؤاد بالأسف و منها ما يُفجّر القلب بالضحك .. فيُحكى أنّه كان لـ (قـيس بن زهير) من عَبْس فرَساً اسمه (داحس) ، أجرى سِباقاً بينه و بين (الغـَبراء) الذي كان فَرَساً لـ (حُذيفة بن بدر) مِن فَزارة ، فدَسّ (حذيفة) رجالاً و أمرَهم أن يضربوا وَجه (داحس) إنْ رَأوه قد جاء سابقاً .. و جاء (داحس) سابقاً فضربوا وجهه فسبقهُ (الغبراء) .
و عندما وصلَ الخبر الى (قيس) و عَلِم اخوه ، وَثب و لطَم وجه (الغبراء) ، فقام رجل من فزارة و لَطَمه .. و وقع القتل بين الطّرفيْن و من ثم نشبت الحرب بين عَبس و فزارة وحصدت الكثير من الأرواح و ورّثوا العداوة تجاه بعضهم البعض .
و في حرب البسـوس ، التي وقعت بين بكر وتغلب ابني وائل ، كان سبب اندلاعها هو أنّ (كـُليْب بن ربيعة) الفارس المهـاب في قومه رمى نــاقة لخالة (جسـاس بن مُرّة) بسهم فقـتلها ، فقام الأخير أيضاً بقتله إنتقاماً و ثأراً لناقة خالته واندلعت الحرب و العداوة على اثر ذلك بين الطرفين أربعين سنة راح ضحيتها الكثير من الناس .

كما يُقال أنّ رجلاً مِن الأوس قَتل يهوديّاً كان جاراً للخَزرج فخَرج اليه رجل من الخزرج ليلاً و قتله ، و وقعت الحرب بين الأوس و الخزرج واقتتلوا اقتتالاً شديداً ، فكان النصر للخزرج على الأوس ، و قُتل من الطّرفين قتلىً كثيرون ، و ورّثوا عداوة سرمديّة تجاه بعضهم البعض حتى يُروى أنّ (الحارث بن سُويد بن صامت) أسلم ظاهراً بعد مجئ الإسلام وقد كان من الأوس ولحقَ بالرسول (ص) يوم اُحد و قتل ( المُجـذّر بن زياد البَلويّ ) بِــدَمّ أبيه الذي قتله (المُجذّر) في حرب كانت بين الأوس والخزرج .
وجدير بالذّكر أنّ هذه الحسّاسية المزمنة اُثيرت يوماً ما بعد هجرة الرسول (ص) الى يثرب بسنوات و دخول الطّرفين في الإسلام ، حيث تفاقم الوضع الى حدّ الصِّدام و الإقتتال لو لا أن تدخّل الرسول (ص) وأعاد الهدوء الى عقولهم .
كان العرب يعبدون الأصنام ، و كانت الأصنام قائمة في كلّ بقعة من بقاع الجزيرة ، حتى صار لكلّ قبيلة صنم ، بل في كلّ بيت صنم .. و كان الرجل منهم اذا أراد السّفر تَمسّح بصنمه حين يركب ، فكان ذلك آخر ما يفعل حينما يتوجّه الى السّفر واذا عاد من سفره تَمسّح به فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله .

 مناة :
كانت من أقدم اصنامهم..كانت للأوس و الخزرج و من دان بدينهم من أهل يثرب ، أقاموها على ساحل البحر الأحمر من ناحية المُشلّل بِقـُدَيْد قرب مكة .

 العزّى :
اتّخذتْها قـريش و بني كنانة لنفسها ، و كانت أعظم الأصنام عند قريش ، يزورونُها و يهدون لها و يتقرّبون عندها بالذبح .
كانت تُقيم بِنخلة و يُروى أنّ الرسول (ص) ذكرها يوماً حين أهدى لها شاةً عفراء و هو على دين قومه .

 اللات :
كانت صنماً لثقيف بالطّائف ، على شكل صخرة مُربّعة ، تُعبد و يُقدّم لها الذبائح.

 هُبل(1) :
اتّخذتْها قريش صنماً لها على بئرٍ في جوف الكعبة .. و كانت اعظم الأصنام الموجودة في جوْف الكعبة و حَولها .. صُنعَت من عقيق أحمر على شكل انسان مكسور اليدّ اليمنى ، حيث جعَلت قريش لها يداً من ذهب .



 و أصنام اخرى :
فكان هناك (سُواع) بـ (رُهاط) من أرض ينبع و (وَدّ) بِـ (دومة الجندل) و(يغوث) بـ (جُرَش) من مخاليف اليمن من جهة مكة و (يعوق) بأرض (همدان) من ارض اليمن و(عُميانس) بأرض (خَوْلان) و (سَعد) كانت صخرة بفلاة بساحل جدّة اتّخذتْها بني مِلكان صنماً لها و(ذو الكفّين) في دَوْس و كـُلاًّ من (إسافا) و (نائلة) على موضع من زَمْزَم تُنحر عندها القرابين و(فلس) كانت بِجبَلٍ لِطيء يُقال له (أجأ) بِهيئة تمثال انسان كبير حيث كانوا يعبدونه و يهدون اليه ، و غيرها الكثير من الأصنام و الأوثان ، و قد ملأوا المسجد الحرام بالأصنام ، فعندما دخل الرسول (ص) مكة فاتحاً وَجد حول الكعبة ثلاثمائة و ستّين صنماً ، فجعل يطعنها حتى تساقطت و أمرَ بإخراجها من المسجد و احراقها .

هكذا كان الشرك و عبادة الأصنام من أكبر مظاهر دين العرب .. كانوا يعكفون على عبادتِها و يلجئون اليها و يهتفـون بِها معتقدين أنِها تشفع لهم عند الله و تحقق لهم امانيهم .
كانوا يحجّون اليها و يطوفون حولها و يسجدون لها ويتقرّبون اليها بأنواع القرابين و يذبحون لها و يخصّون لها نصيباً من حَرثهم و انعامهم وشيئاً كثيراً من مآكلهم و مشاربِهم .
و كان العرب يؤمنون بالكهنة و العرّافين و المُنجّمين ويلجأون اليهم ويطلبون منهم تحديد مصائرهم و التحكّم بآمالهم .
كانت الدّعارة و السّفاح و المُجون من اكبر مظاهر المجتمع العربي في الصحراء .. فكان الرجل في القبيلة لا تلِدُ زوجته فيرسل في طلب رجل آخر ليُضاجع زوجته في فِراشها حتى تحبل و يأتي له بِولدٍ منها .
وكان الرّهط من الرّجال يجامعون المرأة الواحدة ، فتحبل المرأة و تلِد وليدها و تختار رجلاً من ذلك الرّهط والداً له و ليس على ذلك الرجل أن يعترض على قرارها و اختيارها .
كانت البغايا ترفع على بيوتِهنّ رايات خاصة لتكون اعلاماً لمن أراد أن يقصدهنّ ، فتلِدْن منهم أولاد الزّنى و العار ، وكانت اجرة العاهرة عند العرب تسمى مهر البغي(1) .

كان من عادة العرب أن يستحلّ الغالب في الحرب و المُبارزة شرف المغلوب بأبشع ما تكون الصورة وكانوا يُفاخرون بذلك .
فكان الغالب يسبي نساء المغلوب و يستحلّ فروجهنّ و أولاد هؤلاء السبايا يلحق بِهم العار طيلة أعمارهم .
يقول (حاتم الطائي) :
و ما أنكحونا طائعين بناتِهم
و لكن خطبناها بأسيافنا قسراً
و كائن ترى فينا ابن سبية
إذا لقي الأبطال يطعنهم شزراً

كان العربي يعدّد في زوجاته من غير حدّ ينتهي اليه ، و كان من العرب رجال يجمعون بين الأختَين في زواجهم و يتزوّجون بِبناتِهم و زوجات آبائهم اذا طلّقوهنّ أو ماتوا عنهنّ .. و يُروى أنّ ( لقيط بن زرارة ) أحد اشراف بني تميم قد تزوّج بِبنته (دختنوس) حيث كان يُحبّها و يتيمّن بِها وكان يأخذها معه في كلّ غزواته(2) .
كان الرجل يُعدّد في زوجاته اكثاراً لنسله الّذكر ليتقوّى به في محيطه القبليّ ..أو كان يعدّد فيهنّ ليستولي على ثرواتِهنّ، حيث كان الواحد منهم اذا وجد يتيمة ذات مالٍ و جمال رغب فيها لأجل مالها.
كان الزّنى سائداً في جميع الأوساط .. لا نستطيع أن نخصّ وسطاً دون آخر ، أو طبقة اجتماعية دون اخرى .. و كانت الأغلبية السّاحقة لا تحسّ بالعار في الإنتساب الى هذه الفاحشة .

يُروى أنّ رجلاً قام في مجلس النبيّ (ص) و قال :
(يا رسول الله إنّ فلاناً ابني ، عاهرتُ باُمّه في الجاهلية ..)
فقال له الرسول (ص) :
(لا دعوة في الإسلام ..ذهب أمر الجاهلية)(1)

كما يُروى أنّ رجلاً آخر أضناهُ شوق الجاهلية و حنين الإباحة ، جاء الى مجلس الرسول (ص) يطلبُ منه جهاراً أن يمنحه الرّخصة في الزّنى ، فأنّبه الرسول (ص) و طلب منه أن يضع نفسه موضع رجل يُزنى بأمّه أو اخته أو ما شابَههنّ من قريباتٍ ، فتمهّل الرجل و تراجع عن طلبه .

و الأغرب من كلّ هذا نجده في قصّة (سعد بن ابي وقاص) حينما اختصم مع ( عبد بن زمعة ) الى النبيّ (ص) – بعد فتح مكة – في امر ابن أمَةِ (زمعة) .. فقال (سعد) :
- يا رسول الله .. أوصاني اخي ( عُتبة ) اذا قدِمتُ مكة أن انظر الى ابن أمَة ( زمعة ) فأقـبضه فإنّه ابنُه ، عاهر باُمّه أيام الجاهلية .
قال (عبد بن زمعة) :
- يا رسول الله إنّه أخي .. ابن أمَة أبي .. وُلدَ على فراش أبي .
فرأى الرسول (ص) فيه شبَهاً واضحاً بـ (عتبة ) و قال :
- الولد للفراش وللعاهر الحجر .
و طلب من زوجته (سودة بنت زمعة) أن تحتجب عن ذلك الولد اذا دخل عليها (حيث كانت سودة اختاً لِعبد) و ذلك كإقرار من الرسـول (ص) بوقوع تلك العلاقة غير الأخلاقية بين (عتبة) و أمَة (زمعة) و التي جاء (سعد) بعد سنين من الإسلام يُحاول اثباتها على الملأ(1).

و نتيجةً لِتفشّي ظاهرة الزّنى و زيادة عدد البغايا ، فقد كان الزّواج بأشهر الزّانيات امراً اعتيادياً لا يُشعِر الرجل بالمهانة والاستحياء ، حيث يُحكى أنّ (مرثد بن ابي مرثد الغنوي) كان رجلاً شديداً و كان يحمل الأسارى من مكة الى يثرب سرّاً ايام اسلامه .. فجاء مكة يوماً ليحمل رجلاً و كانت بِها زانية شهيرة يُقال لها (عنقاء) و كانت صديقته .. فطلبت منه أن يبيت تلك الليلة عندها يُضاجعها حتى الصّباح ، فأخبرها (مرثد) بأنّ الرسول (ص) قد حرّم الزّنى .. و لمّا رأت (عـنقاء) أنّه يتماسـك عــن طلبها همّت لتكشــف امــره ، فهرب (مرثد) و نجــى بصاحبه .. ثــم ذهــب الى الرسـول (ص) طالباً منه الرّخصة في الزّواج بـ (عنقاء) لشـــدة جاذبية حبّها لقــلبه حــيث كان يتوقع رفض الرسول (ص) ، فــنزلت آيات مــن القرآن الكريم تمنعه من ذلك الزّواج(2) .
كانت قـبائل من العرب تئــدّ بناتِها خشية العار أن يلحق بـها إذا غلبتها خصومها اثناء الحروب وكانـت منها من يـقتل أولادها خشية الفقر أن يداهمها في فترات الغلاء المتعاقبة عليها.

وكانت العصبيّة دمّ قلـوبهم و روح اجسـادهم يموتون لها ويحيون بها ، و كانت مـناصرة ذوي الأرحـام واجباً اجتماعياً ســواء كان القــريب ظـالماً أم مـظلوماً ، فكانوا يســيرون على المثل السائد بينهم : انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً .

كانت الحالة الإجـتماعية في الحضيـض من الضعف والعِـماية ، و الجهل ضاربٌ أطنابه و الخرافات مستولية على العقول والأذهان ، و الناس يعيشون كالأنعام ، و المرأة تُباع وتُشترى كالبهائم .

أمّا الحالة الإقـتصادية ، فهي الاخرى كانت متدهورة جدّاً .
فالتجارة كانت الوسيلة الكبرى للحصول على حوائج الحياة والجولة التجارية لا تتيسّر إلاّ اذا ساد الأمن و السلام في انحاء الجزيرة ، و كان ذلك مفقوداً إلاّ في الأشهر الحُرم ، و لذلك كانت الفجوة الزّمنية الصّالحة للتجارة ضيّقة جدّاً .. و حـتى في الأشهر الحرم لم يكن هناك ضمان يكفل حفاظ الأمن والسّلام وحقن الدّماء ، فقد كان بعض العرب ينسئِون الأشهر الحرم ونزل في ذلك آيات من القرآن الكريم .. كانوا يحلّون الشهر من الأشهر الحُرم ويحرّمون مكانه الشهر من الأشهر الحلّ ويؤخّرون ذلك الشهر .
كان أول من نَسأ الشهور على العرب هو القلمس (حذيفة بن عبد بن فقيم بن كنانة) ثم قام بعده إبنه .. الى أن كان آخرهم (عَوْف بن ثمامة) .. فكانت العرب اذا فرَغتْ من حجّها اجتمعَتْ اليهم يحرّمون لهم الأشهر الحُرم(1).
وكان ذلك محلّ رضاء الكثير من العرب حيث كانوا يعتاشون على السّلب و النّهب ، و كان من الصّعوبة أن تمرّ عليهم شهور متتالية لا يسرقون فيها و لا ينهبون و لا يقتلون .
و أحياناً كثيرة كانت العرب تخوض الحروب الدّامية في الأشهر الحرم مخالِـفةً بذلك العرف و التقليد كحرب الفجّار التي أشَرنا اليها سابقاً .

كان العرب أبعد الاُمم عن الصّناعات ، حتى أنّ البدو منهم كانوا يحتقرونَها و يعيبـون المُحترف بحِــرفة مُعيّنة .
و إذا ما تأمّلنا ما كان يلهجُ به (جَـرير) للـ (فِرَزْدق) وكلاهما من (تميم) ، لا نجده اكثر من أنّ أحـد آباء (الفِـرزدق) كان مُحـترفاً بِحِرفة هي جلاء السّيوف .. كما كان المَعديون يعيبون أهل اليمن بِدباغة الجلود .. و كثيراً ما كان العربيّ يعيبُ صاحبه قائلاً له ( إنّما أنت دابغ جلدٍ أو ناسج بُردٍ )(2) .

كانت عند العرب صفات حميدة ، وهي في حقيقة مضامينها توحـي بمفاهيم مُتضاربة و سلوكيات متناقضة .
فمفهوم الكـرم كان عـند الكثيرين منهم هــو أن تهب الناس ما تكون أنت بحاجة اليه أكثر منهم ، و هــذا بطبيعة الحال يعـود بالسّـلب على صاحب الكرم احياناً كثيرة ، فقد يــنزل الرجل ضّيفاً عــند صاحبه ويعمد صاحب الـدّار الى ناقــته الوحيدة التي تـعتاش بها أطفالـُهُ ويذبحها له ارتقاءاً الى مــعنى الكرم والضّيـافة فــي حســابات المحيط ، و بذلك يــترك عائلته تتضوّر من الجوع أياماً طويلة جراء ذلك التصـرّف .. و لعـلّ قصص (حاتم الطّائي) الذي جـعل بـيته عنوان الضّيافة معـروفة بهذا الصّدد ، حيث يُحكى أنّه لم يجد ذات مرّة شـيئاً يُـقـدّمه للضّيوف فعقر لهم فرسه الوحيد .
هــذا من جانب .. و من جانب آخر كان الكثيرون منهم يعمدون الى قــتل أولادهم و وأدِ بـناتهم مـن شــدّة الفــقر الذي يهــدّد وجودهم ، ممّا أدّت الظّـاهرتان الى خلق معادلة غير قابلة للفهم .
كان العرب يعدّون شرب الخمر سبيلاً الى الكرم ، لأنّه يُسهّل على النفس التـّـرف و الإســتهلاك .. يــقول (عــنترة بن شـدّاد العبسيّ) :

فإذا شرِبْتُ فإنّني مُستهلكٌ
مالي ، وعرضي وافرٌ لم يُكلم

كان الواحــد مـنهم يــوزّع ناقــاتهِ على المارّين كرماً وســخاءاً ، فيقـرنُ كلّ ناقةٍ بحبل و يدفعها الى شخص حتى لم يعد يجد في بيته حبالاً بعـدد ناقاته ، فيطـلب من زوجـته خِـمارها ليجعله حبلاً لبعضها .. و يقول مقولة مشهورة يـعشقها اليوم اُدباء العرب كثيراً :
(عَليَّ الجـِمال … و عليكِ الحِبال).

والعـهدُ عند العربيّ كان دَيْناً يتمسّك به ، وكان صاحب العهد يســتهين في ســبيل عهده قــتل الأولاد و تخـريب الدّيار وهـدر الأموال .
فيُحكى أنّ (الحارث الغسّاني) خيّرَ رجلاً يُدعى (السّـموأل بن عـادياء) بين قـتل ولـدهِ و تسـليم أدرُع (إمــرئ القــيس بن حــجر الكنديّ) التــي كان قـد أودعها عــنده أمـانةً ، ففضّــل قـتل ولـدهِ امام عينَـيْه .
هذا على مسـتوى الفرد ، حينما يكون هناك اُناس يراقبونه مِن حوله فيلومونه وينبذونه اذا ما خان العهد و الميثاق ، أمّا على مستوى القبائل والجماعات فكانت كثيراً ما تقدم على خيانة العهود و المواثيق المصيرية مع غيرها من غير حرج أو استحياء ، لا سيما اذا ما ارتأت في خيانتها منفعة لنفسها فتـُغضّ طـرفها عن كلّ ما يعنيه الغــدر و الخيانة ، إذ لا يــعد هـناك اشــخاص يلومونهم أو ينــعتونهم بما هو قـليل أو دنــيء ، لأنّ العمل الذي اقدمـوا عليه جماعـيّ تقـع مســؤوليته عــلى عاتــق الجميع ، والحشر مع الناس يغدو عيداً كما يُقال .
فما أكثر الحروب الدّامية التي خاضــتها قبائــل العرب جراء فســخ العهـود و المواثيق ، و مـا اكثر خيانات الرّجال لبعضهم البعض اذا ما عـرفوا أنّ قبائلهم ستـُناصرهم و تقف الى جانبهم .

أمّا الشجاعة ، فكانوا هواةً لها .. يعيشون لها ويتكابرون بها ويفرطون في فهمها احياناً كثيرة .
فسرعة الإنفعال و الإقدام على المـكاره كانت متأصّـلة في عـقولهم وهُــم يدركون يـقيناً ســوء العواقـب الناجـمة عنها في كلّ مرة .. تراهُ سـاكناً مطمئنّــاً فلا تحتاج في هـيَجانهِ إلاّ الى كلمة صغيرة أو فعلة حقيرة يتخيّل معها أنّ شرفهُ قد مُــسّ بسوء فتجدهُ يـزأر كالأسـد ويخرج من مـكمـنه لا يتمهّــل ليَستطـلع حقيقة الأمر ، بل يقدم ناسياً أو مُتناسياً استذكار النتائج على صبّ لهيـبه و إراقــة غـضبه في صورة قـتل أو ضـرب أو سـلب أو اغتصاب … و هذا الخـُلق اكــثر ما تراهُ في قبائل البادية الّذين كانوا لا يخشون سِجناً أو أحكاماً قاسية من جرّاء افعالهم ، بل على العكس كانوا ينتظرون النصر المـؤزّر من اقـوامهم وحـلفائهم .. ولهذا كان من السّــهل تحريك العامّة الى السّــير في طريق الحروب بقــليل من الكلمات ولم يـكــن عــنــدهم شيء من سـهولة الطّـبع التـي تجعــل صاحبها يألـف سـماع الإهانة حــسبما يتخيّـل .. و كان دوماً يتبع هذا الخُــلق الجرأة على ســفك الدّماء ، لأنّ النفـس متى تهيّــأ لها طـريق الإنتقام وتمكـّنت و لم تخشَ عقوبة ، لم تكتـفِ بغير الموت لمن تريد الإنتـقام منه … و من هنا كان خُلق الحِلم فيهم فريداً و نادراً اللهم إلاّ في ســاداتهم و ذوي الأســنان فيهم ، و لذلك كان المعــروفون بالحِلم منهم قلائل(1) .
و تأثــّراً بمــبدأ العنف و القـوّة و الجرأة كانوا يتخيّرون لأبنائهم اسـماء الحيوانات المُفترسة من أسد و نمر و فهد و ثور و ما شاكل ذلك .



#هوار_محمد_سعيد_بلو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إستراتيجية العنف المسلح في الإسلام .. الجزء الثاني
- إستراتيجية العنف المسلح في الإسلام .... الجزء الثاني
- إستراتيجية العنف المسلح في الإسلام ... الجزء الأول


المزيد.....




- قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين ...
- 144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
- المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة ...
- ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم ...
- عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي ...
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات ...
- الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هوار محمد سعيد بلو - مأساة السماء في الصحراء ..... الجزء الأول : حضارة الرماد