|
إعلان رامبوييه .. أخطر إنقلاب في التاريخ وهو أساس النظام الدولي القائم
فؤاد النمري
الحوار المتمدن-العدد: 1929 - 2007 / 5 / 28 - 11:06
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
يتفق المؤرخون على أن الثورة الفرنسية 1789 كانت نقطة إنعطاف في تاريخ البشرية ، كما يرى المحللون السياسيون وعلماء الإقتصاد السياسي أن الثورة البولشفية في روسيا 1917 قد نقلت العالم من حال إلى أخرى واستبدلت مسرح العلاقات الدولية بمسرح آخـر تدور فوقه لعبة مختلفة بلاعبين مخـتلفين . لكن أحـداً من هؤلاء أو أولئك لم يشـر ولو بكلمة واحدة ، وهـو ما يستدعي الدهشة والحنق في ذات الوقت ، إلى أن " إعلان رامبوييه " (Declaration Of Rambouillet) في نوفمبر 1975 كان الإنقلاب الأخطر في التاريخ ، الأخطر من حيث أنه أخرج عربة التطور في حياة البشرية ، التي كانت قد تزودت بطاقة جديدة في المحطتين الفرنسية والروسية ، أخرجها عن سكتها التاريخية المرسومة وأصبح متعذراً بصورة نهائية ، كما يبدو حتى اليوم ، إعادتها إلى ذات السكة . إن سكوت علماء الإقتصاد والسياسة بصورة خاصة عن خطورة إنقلاب رامبوييه وآثاره المدمرة في حياة البشرية ينحط إلى مستوى الخيانة العظمى التي تستدعي قصاصاً لأولي الألباب . النتائج التي إنتهت إليها الحرب العالمية الثانية ساعدت شعوب الدول المستعمرة والتابعة في النهوض في حركة تحرر عالمية اجتاحت القارات الكبرى الثلاث ، آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، مكنتها في نهاية الستينيات من التحرر من ربقة الإستعمار وهو ما مكن الأمم المتحدة في العام 1972 من إعلان نهاية الإستعمار في كل أرجاء الأرض وإنهاء أعمال لجنة تصفية الإستعمار التابعة لها تبعاً لذلك . كان من الطبيعي بفعل ذلـك أن تحـل بمراكز الرأسمالية العالمية أزمة قاتلة عصية على العلاج وقد فقدت هذه المراكز محيطاتها ومصرف فائض إنتاجها . بدأت الولايات المتحدة الأميركية ، كونها أكبر مراكز الرأسمالية وأكثرها تأثراً بالآثار السلبية للأزمة تبعاً لذلك ، بدأت سريعاً بمحاولة معالجة الأزمة فقامت في العام 1972 بالخـروج من معاهـدة بريتونوود (Brittonwood) التي كانت تقضي بتوفير كل دولة من الدول المشاركة لغطاء ذهـبي لعملتها الوطنية بنسبة 15- 20%. كان لذلك الإجراء غير الأخلاقي أثر سيء على أسواق العملات واضطرابها الشديد بفعل عدم ثبات أسعار الصرف وخاصة بالنسبة إلى الدولار الأمريكي الذي جرى تخفيض قيمته رسمياً (devaluation) مرتين في أوائل السبعينيات . كما أن العجز في الموازنة العامة للإتحاد قد وصل مستويات عليا لم تصلها الموازنات الأميركية في تاريخها من قبل رغم كل الجهود الحثيثة التي بذلها الرئيس ريتشارد نيكسون في ضغط النفقات الإتحادية . وعبثاً جهدت الإدارة الأميركية في وقف تدهور الإقتصاد الوطني ـ توقف النمو الإقتصادي خلال السنوات 1970 ـ 1975 ، وتفاقم العجز في الميزان التجاري ومثله العجز في موازنة الإتحاد وتدهور قيمة الدولار الأميركي في أسواق الصرف العالمية . في مثل ذلك الوضع الخطير لم يجد وزير المالية في إدارة الرئيس جيرالد فورد آنذاك ، وليم سيمون (William E Simon) من سبيل سوى دعوة وزراء المالية في الدول الصناعية الرأسمالية الأغنى في العالم ، بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان ، إلى إجراء محادثات للنظر في معالجة جراحية خطيرة للأزمة المستفحلة في النظام الرأسمالي العالمي . عقدت المحادثات في ديسمبر 1974 في مكتبة وزارة الخارجية الأميركية ولذلك سميت ب "محادثات المكتبة" وانتهت إلى التوصية بقرارات هي الأخطر بتاريخ البشرية . ولذلك ترتب أن يعقد رؤساء الدول المشتركة(G5) مؤتمراً للمصادقة على تلك القرارات الخطيرة والبدء بتنفيذها . في 15 نوفمبر 1975 توافد إلى قلعة رامبويية التاريخية في ضواحي باريس كل من الرئيس الأميركي جيرالد فورد والرئيس الفرنسي جيسكار ديستان والمستشار الألماني هيلموت شميدت ورئيس الوزراء البريطاني هارولد ويلسون ورئيس الوزراء الياباني تاكيو ميكي ، يرافقهم بالطبع وزراء الخارجية والمالية ، وأصدروا في صباح يوم 17 نوفمبر إعلانهم التاريخي الشهير "إعلان رامبوييه" متضمناً قرارين مفصليين من شأنهما تقرير مصير العالم وتنميط حياة كل فرد فية ـ وهنا أعود لأعبر مرة أخرى عن دهشتي البالغة من إهمال المشتغلين بالسياسة وبالإقتصاد لِهذا الإعلان الذي تتجاوز أهميته أهمية الثورة الفرنسية 1789 والثورة البولشفية 1917. تضمن الإعلان في بنديه الحادي عشر والثاني عشر القرارين التاليين ـ 11ـ ستبذل السلطات النقدية [في الدول الخمس المشتركة بالإضافة إلى إيطاليا التي انضمت في نهاية المؤتمر] كل جهودها لمقاومة كل تغيرات غير متوقعة في أسعار الصرف في أسواق العملات . 12 ـ ستقوم الدول الصناعية الغنية بتغطية العجوزات في الموازين التجارية للدول النامية .
تحدث الإعلان في بنوده العشرة الأولى عن خطورة الأزمة التي يواجهها النظام الرأسمالي العالمي وأعراضها المستفحلة كالبطالة المتفشية والتضخم النقدي المتعاظم والكساد الإقتصادي المطبق ، وعن ضرورة الإستعجال في معالجة هذه الأخطار عن طريق الإنفتاح الإقتصادي والتجـاري على العالم الثالث بشكل خاص وعلى العالم الإشتراكي كذلك . لكن دهاقنة النظام الرأسمالي المجتمعين في رامبوييه لم يحددوا الإجراءات المستعجلة الواجبة التنفيذ في الحال إلا في البندين الحادي عشر والثاني عشر وتضمنا القرارين الخطرين اللذين أشرنا إليهما ، وكانت نتيجة تنفيذهما إنتقال العالم من حال إلى حال أخرى ومن نظام إجتماعي إلى نظام إجتماعي آخر مختلف تماماً عن النظام الذي سبقه ، إلى نظام لم يكن في حسبان أحد بمن فيهم أصحاب الإعلان أنفسهم . الـقرار رقـم 11 ما معنى أن .." تبذل السلطات النقدية [ في الدول الخمس أو الست الأغنى في العالم ] كل جهودها لمقاومة كل تغيرات غير متوقعة في أسعار الصرف في أسواق العملات؟ المعنى المباشر لهذا القرار التاريخي الخطير هو بكل بساطة إتفاق هذه الدول الغنية على استخدام كل قدراتها المالية ، وهي هائلة بكل المقاييس ، في تثبيت أسعار صرف العملات الرئيسة في العالم الرأسمالي ، وهو ما يعني تعطيل القيمة الرأسمالية للنقد التي هي القيمة الإستعمالية والوظيفة الأساسية للنقد ليصبح كالقلم الذي لا يكتب وكالمسدس الذي لا يطلق النار . في غابر الزمان وقبل أن يظهر النقد في حياة الإنسان كان يتم تبادل السلع عينياً حيث يتقابل مصادفة من هو بحاجة إلى ثوب ولديه وزنة من الحنطة مع من لديه ثوب وبحاجة إلى الحنطة فيتبادلان الثوب بوزنة الحنطة مخمنين القيمة المتساوية على وجه التقريب لكلا الثوب والحنطة . توسع الإنتاج من جهة وتنوّع إحتياجات الإنسان من جهة أخرى حدا بالمنتجين إلى إقامة سوق موسمية يلتقون فيها لمبادلة منتوجاتهم باحتياجاتهم . وتوسعت المبادلة فكانت السوق الشهرية ثم الأسبوعية وأخيراً السوق الدائمة التي بدا أنها تلعب دوراً حاسماً في التطور الإقتصادي . ظل التبادل العيني من معوقات نمو السوق إلى أن توصل الإنسان إلى إبتداع النقد أو العملة (Currency) . الخاصية المشتركة لكل السلع التي يجري تبادلها في السوق هي القيمة فكان تجسيد القيمة في سلعة عامة (Value Form) يسهل حملها والتداول بها وتقبل التبادل مع سائر السلع (Common Equivalent Value) أمراً لازما نحو تحرير السوق من أثقل قيوده وتمكين عجلة الإنتاج من الدوران سريعاً وبسلاسة تامة . توفرت جميع هذه الخصائص بالمعادن الثمينة كالذهب والفضة فسكّت النقود بأوزان مختلفة من هذين المعدنين وكانت كل قطعة بذاتها هي الضمانة لقيمتها بغض النظر عن الجهة التي سكتها . وبازدياد النشاط الإقتصادي للمجتمعات لم تعد كميات المعادن الثمينة المتوفرة كافية لتغطية حجم الثروات المضافة فجرى إصدار أوراق مالية أو سندات (Bank Note) تحـمل تعهداً صريحاً من الدولة صاحبة الإصدار بسداد قيمتها المكتوبة بالذهب لحاملها . وفي العام 1946 اتفقت الدول المنتصرة في الحرب في بريتونوود في الولايات المتحدة على معاهدة تقضي بوجوب احتفاظ كل دولة بقيمة 15% بالحد الأدنى من قيمة نقدها الصادر بالذهب . في العام 1972 خرجت الولايات المتحدة من هذه المعاهدة كإجراء لازم لمعالجة الأزمة . وفي إعلان رامبوييه تم الإستغناء عن هذه المعاهدة من خلال ضمان الدول الأغنى في العالم لأسعار صرف عملاتها ضمانة جماعية . نمر على هذه المحطات الهامة في تطور النقد عبر التاريخ كي نبيّن قيمته الإستعمالية (Use Value) وأن النقد لا يتم إنتاجه من أجل إستهلاكه فهو المنتوج الوحيد الذي لا يستهلك أبداً إنما ليقوم بوظيفة الواسطة أو القناة التي تدور فيها عملية الإنتاج تلك الدورة الكلاسيكية المعروفة (Circulating Medium) ( نقد ـ بضاعة ـ نقد ) ، ولولا قيام النقد بوظيفة الإسالة أو التسييل للإنتاج لظل الإنتاج في مكانه ولتوقـف المنتجون بالتالي عن الإنتاج ـ لاحظ معنى الجريان في مفردة Currency ومعنى التعامل والإنتقال من يدٍ إلى أخرى في مفردة العملة . لكن لكي يقوم النقد بهذه الوظيفة لا بدّ من أن يمتلك قيمة مطلقة تنتسب إليها كافة السلع والمنتوجات دون أدنى إستثناء (Universal Relative Value) وهـذه القيمة ليست إلاّ قيمة شغل / سـاعة بالمعـدل الإجـتماعي . تمثلـت هـذه القيمة بدايـة بالذهــب والفضـة كونهما يخـتزنان شـغلاً كثيفاً ، فـتم إعتبارهـما مقياسـاً عامـاً للقيمـة (Value Common Standard) . ميزة النقد الذهبي والفضي هي أن قيمته مختزنة فيه وليس بحاجة إلى كفيل كما أسلفنا بعكس الأوراق النقدية التي ليس لها أدنى قيمة بغياب الكفيل . ولذلك توجب أن يظهر بوضوح تام على كل ورقة نقدية توقيع السلطة النقدية ممثلة للدولة تتكفل بموجبه هذه السلطة بتسديد قيمة الورقة الإسمية بالذهب ، وكان أن اشترطت معاهدة بريتونوود 1946 إحتفاظ كل دولة بِ 15% من قيمة النقد الصادر باسمها بحدها الأدنى من الذهب . وتعتمد صدقية هذه الكفالة بالطبع على الثقة بقدرة الدولة على التسديد كان ذلك بالذهب أو بالإنتاج . وقد تنزاح هذه الثقة في بعض الظروف الدولية الآنية والعابرة من قدرة الدولة المالية إلى قدرتها العسكرية . الإضطرابات الكبيرة التي اعترت أسواق المال العالمية خلال السنوات الخمس الأولى من السبعينيات 1971 ـ 1975 إنما كانت تعبيراً عن فقدان الثقة في قدرة السلطات النقدية في الدول الأغنى في العالم في الإيفاء بالتزاماتها وخاصة بالنسبة إلى الدولار بعد أن انسحبت الولايات المتحدة الأميركية من معاهدة بريتونوود وكشفت الدولار من أي غطاء ذهبي ، هذا من جهة ؛ ومن جهة أخرى فإن الأزمة التي أمسكت بخناق الرأسمالية العالمية في مراكزها الكبرى وأولها الولايات المتحدة بدت أزمة قاتلة لا فكاك منها ؛ وظهر من جهة ثالثة أن قيمة النقد النسبية قد تراجعت كثيراً أمام قيمة النفط التي تضاعفت أكثر من ستة أضعاف بعد سياسة الحظر التي أخذت بها الدول العربية إثر حرب أكتوبر 1973. ما بدا مؤكداً اليوم أن المستشارين الإقتصاديين الذين أشاروا على زعماء الدول الرأسمالية الخمس الكبرى في العالم (G5) لأن يقرروا بذل كل الجهود بالحفاظ على استقرار الأسواق المالية من خلال تثبيت أسعار الصرف ، هؤلاء المستشارين لم يكونوا بالمستوى اللازم ولم يدر في خلدهم أنهم بهذا القرار إنما يفكون الرباط نهائياً بين النقد من جهة وقيمته الرأسمالية من جهة أخرى . فالنقد مثله مثل أية سلعة أخرى لا تتحدد قيمته إلا منسوباً إلى مقدار محدد من سلعة أخرى ، فمثلاً قيمة دولار أميركي واحد = 3 ليبرة سكر = ½ غالون بنزين = 4 برتقالات ..ألخ ؛ وهو لا يساوي شيئاً بغياب هذه السلع ونظائرها ؛ ففي المجتمعات البدائية حيث اقتصرت احتياجات الإنسان على عدد محدود جداً من السلع لم يكن ثمة حاجة لأي نقد ، كما أن العملة الملغاة التي لم تعد قابلة للمبادلة مع أي شيء آخر لا قيمة لها على الإطلاق . إعلان رامبوييه تجاوز هذه الحقيقة الرأسمالية الأساسية وأعلن ضمانته لقيمة العملات الصعبة دون تغيير حتى ولو غابت كل السلع من اسواقها الوطنبة . لقد ترك قرار إلغاء القيمة الإستعمالية للنقد وكونه قيمة نسبية (Relative Value) ترك آثاراً خطيرة جداً في بنيان النظام الرأسمالي ظهرت في المستجدات التالية .. أولاً لم تعد وحدة النقد في الدول المشاركة في القرار تعبيراً عن قيمة نسبية (Relative Value) أي س(ساعة شغل) إجتماعية وقد غدت قيمة مطلقة (irrelative) تكفلها الدول الخمسة مجتمعة ولا علاقة لها بعملية الإنتاج الوطنية. وبذلك تظل قيمة العملة الوطنية ثابتة حتى وإن تردى الإنتاج القومي وسيطر عليه الكساد . ثانياً إفراغ النقد من قيمته الرأسمالية (Relative Value) واستبدالها بقيمة مطلقة (Irrelative) فلا يعود نقداً وطنياً له علاقة وثيقة بالإنتاج الوطني ووتيرة التنمية وهو ما يعني تغيير وظيفة النقد إذ لم تعد الوسيلة(Medium) لتدوير (Circulating) أو إسالة الإنتاج ، فوظيفة التدوير أو الإسالة في القناة الرأسمالية الكلاسيكية المعروفة ( بضاعة ـ نقد ـ بضاعة ) طرأ عليها تغيير في العمق . فمجرى النهر يحدد عادة ضغط تدفق المياه فيه ؛ وإعلان رامبوييه القاضي بتثبيت أسعار صرف العملات الرئيسة قام بتوسيع المجرى في حين كانت المياه (الإنتاج) في ركود عام بل في تناقص مما أدى إلى الزيادة الكبيرة في تدني ضغط التدفق الذي كان متدنياً في الأصل . في المجرى الواسع الجديد أسنت البضاعة وتوقفت مؤسسات الإنتاج البضاعي عن العمل . ثالثاً فقد النقد وظيفته الكلاسيكية المعروفة في النظام الرأسمالي ( قيمته الإستعمالية ) فراح يبحث عن وظيفة جديدة فوجد الرأسماليون الذين توقفت مؤسساتهم عن الإنتاج واختزنوا أموالاً كثيرة ، وجدوا وظيفة له في الأسواق المالية للعمل ضد سياسة رامبوييه في تثبيت أسعار العملات وإلغاء وظيفة النقد الرأسمالية . تخلص هؤلاء من كل إنتاج صناعي ووظفوا أموالهم الهائلة في المضاربات في ألأسواق المالية والأسهم والسندات . ولخيبة مؤتمري قلعة رامبوييه حقق هؤلاء الرأسماليون سابقاً أرباحاً لم تكن متاحة في نظام الإنتاج الرأسمالي أو الإتجار بقوى العمل ، الأمر الذي جعل منهم أعداء ألداء لهذا النظام ، النظام الرأسمالي ، فحرموه من كل تمويل وفكوا كل رباط بين القيمة الحقيقية للسهم وبين سعره في السوق . رابعاً قوى العمل التي كانت تعمل في الصناعات المعطلة ترتب عليها أن تبحث عن نمط آخر من الإنتاج . إنتقلت هذه القوى من العمل في الصناعات السلعية إلى العمل في إنتاج الخدمات وهو نمط الإنتاج الفردي غير الرأسمالي . وهكذا انتقلت كتلة ضخمة من طبقة البروليتاريا إلى الطبقة الوسطى .
خامساً تشوهت البنى الإقتصادية الرأسمالية وخاصة في دول إعلان رامبوييه . لم يتطور إنتاج الخدمات عبر التاريخ إلا بمقدار ما كان يخدم الإنتاج السلعي . واليوم في الإقتصادات المشوهة فيما بعد رامبوييه فقد انقلبت الحال إذ غدا الإنتاج السلعي هو الخادم الذي يعمل ذليلاً في خدمة الإنتاج الخدمي . لم تعد البنى الإقتصادية في دول إعلان رامبوييه ، بالإضافة إلى دول أخرى ، بنىً رأسمالية . لقد كتب إعلان رامبوييه شهادة الوفاة للرأسمالية . سادساً إنقلاب الخادم على المخدوم عصف بالسوق الرأسمالية وبقوانينها وأولها قانونها العام ، قانون القيمة الرأسمالية . وكان ذلك أمراً طبيعياً حيث أن النقد ، وهو سيد السوق ، قد أفرغ من قيمته الرأسمالية بموجب إعلان رامبوييه (بند 11) . وجرى بالتداعي ، مبادلة الخدمات بأضعاف أضعاف قيمتها الرأسمالية من السلع حتى وصل إلى مائة ضعف وإلى ألف ضعف في بعض الأحيان . وقد ساعد في ذلك الإنقلاب الموازي في البنية السياسية حيث أطيح بممثلي الرأسماليين من سدة السلطة وحل محلهم ممثلو الطبقة الوسطى . سابعاً القانون العام في مجرى التاريخ هو أن السلطات الإقتصادية والسياسية الرديئة المعاكسة لمجرى التاريخ لن تعمّر طويلاً . المجتمعات التي جرى فيها مثل هذا الإنقلاب الرجعي ستنهار قريباً خلال وقت قصير . البروليتاريا العالمية لم تعد قادرة على تشكيل جبهة تقوم بدور ملموس في مقاومة القوى الإنقلابية الطارئة . أما الرأسماليون الذين لم يتخلوا عن نمط الإنتاج الرأسمالي لأسباب فيزيائية ، كما فعل المضاربون في أسواق المال وانضموا إلى القوى الإنقلابية ، فقد اتحدوا في جبهة جبارة وبدأوا يشنون حرباً مستعرة ضد مافيات الطبقة الوسطى في معركة ممتدة على سعة العالم اسمها " العولمة " . ثامناً والجديد الأخطر من كل ذلك هو أن الضمانة الدولية لعملات الدول صاحبة الإعلان قد مكنت كل دولة من هذه الدول أن تصدر نقداً بكميات لا حدود لها إعتماداً على الضمانة الدولية ودون أن تخشى من انهيار نقدي أو تضخم متفاقم . صحيح أنه وبأحكام القانون أن الأوراق النقدية الصادرة باسم الدولة وبكفالتها تعتبر بقيمتها الإسمية ديناً على الدولة واجب الإيفاء في كل حين إلا أن الإستدانة عندما تنفلت من كل عقال ، بنقل الثقة من الكتف المالي إلى الكتف العسكري ، كما هي حال الولايات المتحدة الأميركية اليوم ، وقد وصلت ديونها إلى أربعة أمثال مجمل إنتاجها القومي ، تصبح هذه الإستدانة سرقة صريحة ونهباً مكشوفاً لحاملي أوراق الدولار دون استثناء . الـقرار رقـم 12 تحدث القرار عن تحسين إقتصادات الدول النامية وذهب إلى أن هذا التحسين يصب في مصلحة إقتصادات الدول الرأسمالية نفسها كما وعد بالعمل على زيادة صادرات الدول النامية وبتغطية عجوزات موازين مدفوعاتها . مثل هذه السياسة الإقتصادية لا يمكن فهمها إلا في إطار السياسة الإستعمارية القديمة . فالتحسين المزعوم في إقتصادات الدول النامية لا يعني أكثر من زيادة صادرات هذه الدول من المواد الخام التي لا تحمل قدراً يذكر من القيمة المضافة ؛ وزيادة الصادرات سوف تنعكس مباشرة في زيادة الواردات من فائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية . وبالطبع فإن مساعدة الدول النامية في موازين مدفوعاتها إنما يصب مباشرة في زيادة واردات الدول النامية من البضائع الإستهلاكية الفائضة في المراكز . الأزمة القاتلة التي أمسكت بخناق النظام الرأسمالي العالمي عام 1971 إنما كانت بفعل إنفكاك الروابط التي كانت تربط الدول المحيطية التابعة بمراكز الرأسمالية الإمبريالية . كانت الدول المستقلة حديثاً قد شرعت ببناء إقتصادات مستقلة ترتكز نسبياً على الذات ولا تمتص أي قدر من فائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية التي تمثلها بصورة رئيسية الدول الخمس المجتمعة في رامبوييه . لا يمكن فهم النوايا "الحسنة" لإعلان رامبوييه في بنده الثاني عشر إلا من باب العمل على إعادة الروابط التي إنفكت مؤخراً بين الدول النامية من جهة ودول الإعلان (G5) من جهة أخرى وهي الطريقة الوحيدة التي تعيد عجلة الإنتاج في مراكز الرأسمالية إلى الدوران . الإجراء الأولي الذي اتخذته مراكز الرأسمالية هو المساعدات والهبات المالية المخصصة فقط لاستيراد البضائع الفائضة في المراكز . والإجراء التالي ، وقد جرى تعميمه بصورة لافتة ، كان فتح خزائن المال الفائضة بالبترودولار واليورودولار في السبعينيات للدول النامية للإقتراض بكل المبالغ التي تريد وبغض النظر عن ملاءتها وقدرتها على خدمة الدين . خلال خمس سنوات فقط 1975 ـ 80 إرتفع مجموع الديون الدولية من (70) ملياراً من الدولارات ، تراكمت عبر أكثر من قرن ، إلى أكثر من (2000) ملياراً أي بزيادة سنوية قدرها (400) ملياراً ، أي ستة أمثال مجموع ديون العالم حتى عام 1974 وهو ما يستدعي ليس الإشتباه فقط في نوايا أطراف مؤامرة رامبوييه بل والنظر جدياً في نتائج هذه المؤامرة أيضاً والتي لم تكن في حسبان أي من المتآمرين إذ نقلت العالم كله إلى نظام إنتاج مختلف وعلاقات دولية مختلفة. مساعدة الدول النامية في موازين مدفوعاتها الواردة في البند رقم (12) من الإعلان تعني حصراً تشجيع هذه الدول على زيادة وارداتها من البضائع الإستهلاكية . وقد تفاخرت الصحافة الأميركية عام 1978 بنقل العالم إلى الإقتصاد الإستهلاكي (Consumerism) دون أن تدرك أن الإقتصاد الإستهلاكي هو السرطان القاتل للإقتصاد الرأسمالي الذي روحه وسبب حياته هو " فائض القيمة " . ليس ثمة أدنى شك في أن هدف المتآمرين في رامبوييه من وراء زيادة الإستهلاك في الدول النامية هو تهديم مشاريعها الإقتصادية المستقلة غير المرتبطة بأدنى علاقة مع السوق الرأسمالية الدولية ولا تستورد شيئاً من مراكز الرأسمالية وذلك من أجل إعادة إحياء الروابط الإستعمارية القديمة. لقد حققت هذه المؤامرة الدنيئة أهدافها الأولية بصورة مذهلة ، ولم يكن ذلك بسبب جنوح الحكومات البورجوازية الوطنية إلى الإحتفاظ بعلاقات مع السوق الرأسمالية وعدم فك الروابط نهائياً مع مراكز الرأسمالية كما يزعم عامة المفكرين العرب بتعسف واضح ، بل كان ذلك أولاً وقبل كل شيء بسبب تراجع الثورة الإشتراكية العالمية وما رافق ذلك من تعثر للتنمية الإقتصادية والسياسية والإجتماعية في المعسكر الإشتراكي وخاصة في الإتحاد السوفياتي منذ تسلم نيكيتا خروتشوف القيادة فيه . لم يعد الإتحاد السوفياتي قادراً على مساعدة الدول النامية في بناء إقتصاداتها المستقلة ولم يبق لديه فيما بعد طرد خروتشوف من القيادة ومن الحزب عام 1964 سوى الأسلحة يوزعها على مختلف الدول دون حساب ، الأسلحة التي لا تساعد في التنمية بقدر ما تعيقها . لم ينتقل أنور السادات عام 1974 إلى حضن الولايات المتحدة لأن الخيانة مزروعة في بنيته البورجوازية بل لأنه لم يعد لدى السوفييت ما يقدمونه لتطوير الثورة المصرية ولو بحدود إعادة فتح قناة السويس وهي شريان الحياة لمصر بعد أن أغلقتها إسرائيل إثر حرب 1967 . سيكتب المؤرخون في المستقبل القريب أن ثمة مؤتمرَين في التاريخ تضمنت قراراتهما نهايات مأساوية للمؤتمرين أنفسهم ، أولهما مؤتمر ميونخ 1938 الذي انعقد لتوفير السلم لأوروبا فاندلعت أعظم حرب عرفتها البشرية بعد أشهر قليلة من انعقاده ولم تنتهِ قبل انتحار هتلر بالسم ، ونهاية موسوليني تحت أقدام جماهير الشعب الإيطالي ، وانهيار الإمبراطورية الإستعمارية الفرنسية على رأس دالادييه وسقوط باريس في قبضة الهتلريين بعد نحو عشرين شهراً فقط من المؤتمر ، وانهيار الإمبراطورية الإستعمارية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس على رأس تشيمبرلين وهروب الجيوش البريطانية قبل سقوط باريس من القارة واحتمائها في جزيرتها المعزولة وراء القنال الإنجليزي لتصبح من بعد ليس أكثر من تابع ذليل للولايات المتحدة الأميركية . وأما المؤتمر الثاني فهو مؤتمر رامبوييه الذي جاءت نتائجه كارثية بما هي أبلغ من كوارث ميونخ ؛ فالولايات المتحدة الأميركية وهي الدولة الأعظم والأغنى بين الدول الخمس العظمى (G5) والتي كانت تملأ الدنيا مالاً وإنتاجاً تستجدي اليوم كفالة نقدها وتضطر إلى أن تخوض حرباً بين الفينة والفينة لتقنع المتشككين بقيمة دولاراتها . الولايات المتحدة التي كانت تنفق على أكثر من نصف العالم تستدين اليوم أكثر من ملياري دولار يومياً كيلا تنهار فقط . الولايات المتحدة التي كان يحكمها عتاة الرأسماليين يسيطرون على العالم وينشرون جيوشهم في كل بقاع الأرض ، يحكمها اليوم ممثلون صغار للبورجوازية الوضيعة ولا تستطيع أن تتحمل نفقات عشر فرق تحتل العراق وترتعد رعباً من فقدان أكثر من عسكري واحد يومياً فيه . الولايات المتحدة التي كانت نموذج الدولة الرأسمالية الإمبريالية في خمسينيات القرن الماضي أصبحت اليوم دولة الطبقة الوسطى الخدماتية والتي لا ترى في الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان أي تناقض مع سياساتها العامة . الولايات المتحدة التي كانت قبل عقود قليلة قطباً عالمياً يدور حوله ثلثا العالم ، هذه الولايات تدنو حالياً كل يوم أكثر فأكثر من السقوط في هاوية سحيقة لا قرار لها . بريطانيا وفرنسا وألمانيا ليسوا أفضل حالاً من الولايات المتحدة فبريطانيا تعتمد في استمرارها على المساعدات الأميركية والمنحة الأوروبية السنوية بالإضافة إلى إقتراض يصل إلى ملياري جنيه استرليني شهرياً . أما فرنسا وألمانيا فقد تجاوز إنفاقهما الخطوط الحمراء مما حدا بالبنك المركزي الأوروبي إلى توجيه تحذير نهائي إليهما . وهكذا فإن العالم الرأسمالي الذي عرفناه في القرن العشرين يغرق أسواق العالم بأنواع البضائع المختلفة لم يعد عالماً رأسمالياً وتحول إلى نظام إنتاج مختلف ، لا يلبي إحتياجاته من السلع الصناعية التي أخذ يستوردها من الشرق الأقصى . مثل هذا العالم سينهار قريباً وعلى البشرية أن تعد نفسها لمثل هذا الإنهيار الكارثي بكل المقاييس . ومما يستوجب التنبيه إليه إزّاء كل هذا ، وبعد انهيار العوالم الثلاث التي عرفناها بعد الحرب العالمية الثانية ، هو أن الكارثة التي تتمثل بانهيار مفاجئ ووشيك للولايات المتحدة الأميركية ستصيب أعداء أمريكا بمقدار ما تصيب أمريكا نفسها .
#فؤاد_النمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اكذوبة إقتصاد المعرفة مرة أخرى
-
إقتصاد السوق صيحة مشبوهة
-
اليسار الغدّار
-
القوى المطلقة للماركسية
المزيد.....
-
اليساري ياماندو أورسي يفوز برئاسة الأورغواي خلال الجولة الثا
...
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يثمن قرار الجنائية الدولية ويدع
...
-
صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|