|
العقل العربي في إجازة
فلورنس غزلان
الحوار المتمدن-العدد: 1921 - 2007 / 5 / 20 - 10:39
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
حين تطالعك وجوه صفراء شاحبة محرومة من النوم ومن الشبع، تلتفت يمنة ويسارا يرافقها الخوف والهلع، فاعلم عزيزي القاريء أنك تطأ أرضاً عربية وتدخل مدينة ترحب بك يافطاتها ويكثر في جنباتها العسكر لحراستك ووقايتك ...يستخف بك وبقدراتك لو كانت سحنتك تتطابق مع سحنات مَن حولك، وتمتد لك اليد مصافحة مرحبة لو كنت من ذوي العيون الزرقاء والشعور الذهبية غربية المنتج والمصدر...لكنها مع هذا تسهر على راحتك وتمنعك الاقتراب من وحوش المكان والاحتكاك بصيادي الأكسجين لكنها لا تمنعك من الوقوع في براثن صيادي الجيوب ... لأن لهم نصيباً منها..
حين تقرأ أخباراً عن الاقتتال بين الأهل والأخوة مع تزوير في أعداد القتلى والضحايا، فهذا يعني أنك في أرض عربية ، إما فلسطين التي يناضل أهلها من أجل الحرية منذ ستين عاما، أو في العراق التي يختلط فيها الحابل بالنابل، فلا تكاد تميز الاقتتال الشيعي السني من المقاومة ضد المحتل..يصيبك الألم والوجع وتتقيا أمعائك ، تبكي مرارة ودماً على أمة أجرت عقولها لأصحاب النفوذ والمعالي من مشايخ وزعماء قبائل وعشائر ومذاهب وأتباع لهذا النبي وذاك الصحابي ، لإدارة قم ، أو كربلاء، أو مكة والمدينة.. بعضها مؤجر قرضاوياً والآخر بسعر زهيد وهابي بترولي، وآخر فارسي ، لكن الجميع ينشد السلام للعراق!!!! ، ويلعب ورقته كلاعب السيرك ...لكن من تكسر رقبته فوق الحبال وعلى الأرض هو الشعب...تختلف الوجوه وتتصارع المصالح حماسيا أو فتحاوياً ...جهادياً ..أو قاعدياً...في فلسطين نهرع وننتخي ونشحذ الأصوات وصواريخ القسام...عندما تأتي إسرائيل لتحسم التصفيات لصالحها...لكن العقول لا تستيقظ من أحلام صراعاتها ومصالحها فقد أُجرت لأجل غير مسمى والضمائر الوطنية أجريت لها عمليات استئصال وبتر نهائي، فلم تعد موجودة في الأنا العربية ولا في الأوساط السياسية التي تدعي الوطنية وتحارب باسمها وتريدنا أن نستظل بظلها وهي على هذه الصورة المشوهة...
حين تحمل حقيبة سفرك وتقصد مهبط طفولتك تحلم أن تكحل عينيك بأمك أو أبيك، بأخوة وأصدقاء وأحبة..تهبط بك الطائرة فتواجه بابتسامات صفراء تسألك وتقتادك لساعة أو أكثر وتتكرم عليك بورقة لتراجع فيها مراكز أمنية تحرص على حياتك أثناء زيارتك...وترافقك في غدوك ورواحك..وتستفيض في استقبالك بحيث يرحب بك ضباط من مستويات مختلفة ....كل همهم وغايتهم هو التعرف عليك وعلى نشاطاتك في الغرب، و دعوتك لشرب فنجان قهوة من الإنتاج الوطني معهم، حينها تدرك وتتيقن أنك مهما تغربت ومهما حملت من وثائق وبيانات وشهادات تعترف لك بها كل عواصم الكون المتحضر، وتفتح لك أبوابها بترحاب واحترام، لكنك هنا مجرد بعوضة يؤذي الوطن ويخشى على الأمة من أقوالك ، التي تساهم في ( وهن عزيمتها)، ولا يوثق بك لأنك تتحاور مع عالم آخر وتدخل محافلاً يمكن لنفسك الضعيفة والأمارة بالسوء أن تدفعك للتآمر على الوطن مع هذه المؤسسات ، فتحلم بتأسيس جمعيات أو منتديات لحقوق الإنسان في وطنك الأم، وطنك الأم يحترم حقوق إنسانه، لهذا يصنفك كعدو ومتعاون ومُستَعدٍ للدول الأخرى على وطنك...احذر أنت هنا في عاصمة عربية...تم فيها تأجير العقول ، ويعتبرون عقلك مؤجرا هو الآخر... لكن للغريب!...لأن لغة حوارك مختلفة ولا تعرف التدليس والتزمير فأنت خارج من جلد الاستبداد والانتماء له...إذن قل على العقل السلام وقلد ما حولك كالببغاء حتى تضمن السلامة والعودة لإقامتك وعملك في أرض المنفى.
حين تسأل عن بعض رفاق الطفولة والدراسة، وتستفسر عما آلت إليه الحال وما غيرت بهم الأيام، ستجد أن التصنيفات اختلفت وتنوعت، فمنهم من تعربش وانتشى، وغير ثوبه الأيديولوجي والمذهبي ، فارتدى الكوفية السياسية المحلية بشرائط زاهية وملونة ، أو صار من المداومين في مساجد الله ومن رعاياه المؤمنين ، الذين تابوا إليه وعلى يد أحد الدعاة والأتقياء ، فارتدى ثوبا جديدا باكستاني الشكل والطول .. أطال لحيته وخفض رأسه حتى صارت بين قدميه ، لأنه لا يعرف إلا الانحناء، أو أنه يرتدي السموكن المستوردة من أرفع الماركات العالمية ويركب مارسيدس سوداء بدلا من البغل والناقة..ترفع له الأيدي بالتحية وتنبسط الأسارير عند لقياه..خوفاً من بطشه وإرهابه...أو أنه صنف في عداد مواطن من الدرجة العاشرة لا يكاد يُرى، فهو لا يعرف من أين تؤكل الكتف ، ولا يفهم بأساليب الشطارة والفتاكة فانحدرت به الأيام إلى درك الفقراء والمحرومين...وصار يركض ليله ونهاره لتحصيل لقمة أولاده، أو تطاول على صديقه صاحب المارسيدس ...فأودعه بيت خالته لأجل غير مسمى وكله باسم القانون وحسب الأصول الوطنية المجيدة...والأضابير المعدة والمهيأة في أجهزة الأقبية العتيدة.. أتدرك الآن عزيزي القاريء ومواطننا صاحب النظر الثاقب أنت في أي بقعة من بقاع الأرض؟...إنك تنعم بالانتماء لبلد عربي أُجرت فيه العقول لأصحاب النفوذ والطبول ..وقيدت في سجلات النفوس باسم السلطة والنظام وأحكم فيها إغلاق الأفواه بأقفال من حديد وأصفاد وسلاسل ...وويل لمن يخرج عن الطاعة ويفكر بقدرة وبراعة!....
حين تستمع وتصغي بإمعان لدعاية غريبة وعجيبة ...تقدم لك ( بيضاً حلالاً زلالاً!!!!) ..من مزرعة" الطيبة" ..حيث يتم التزاوج بين الديك نافش الريش والمنتمي لشيخ قبيلة الدواجن العربية المسلمة..لصاحبها شيخ الطريقة المؤمنة، والذي يقوم بعقد قران دجاجاته المؤمنات على ديكه صاحب الحسب والنسب والأصول الإسلامية الفقهية النقية والخالية من شوائب الكفر والإلحاد...لهذا يخرج البيض مختوماً موسوماً ومطبوعاً بمطابع إسلامية تثبت أصالته النقية...وعليكم من الآن فصاعداً أن تعتبروا ..وتنتبهوا لما تأكلونه من بيض ينتسب لدجاجات كافرة تزوجت زواج متعة أو زواجا مدنياً...في إحدى مزارع أوربا أو أمريكا أو الصين الكافرة... العالم يخترع ويكتشف ويسجل أعظم الاكتشافات العلمية والاختراعات اليومية العظيمة ، التي تخدم الإنسانية ويطرح قوانيناً تحمي الإنسان وتعتبره أعظم المخلوقات وأفضلها وأذكاها...لكننا في أوطاننا العربية والمسلمة نهتم بالدجاج والبيض الحلال!...ونُصدر الفتاوى بها وبآكليها وبائعيها ومسوقيها...إذن أنت هنا تستمع لإذاعة عربية ..تنتشلك من براثن الدجاج الكافر...إذاعة تسخر من عقلك ومن ذكائك ومن إنسانيتك...تعتبرك قاصراً تلغي منك العقل وتجعلك تابعا لدجاجات أبي محمد وأبو قتادة ..وعبادة وأمثالهم! ...عقلك مصادر ...هذا منتج ثقافي إعلامي بجدارة..من صحافة وإعلام ..همه الحلال والحرام...بيضا ودجاجا ...وديكة رومية أو بلدية!. فهل من عقل بعد في عالم الدواجن هذا؟
حين تعودين لوطنك بعد غيبة طويلة ...تحلمين بلقاء زميلات الطفولة وصديقات الأمس على مقاعد الدراسة ...تعرفيهن عن كثب وعن حب ...كنت ترين فيهن الأمل والنضح والتفتح، وتعتبرين أن مستقبل الأمة والأجيال القادمة بخير بين أيديهن..تصافحك الأيدي بخجل وسرعة ...تدققين النظر في الوجوه ، فربما أخطأتِ قراءتها بعد كل هذا الفارق الزمني، لكنك تجدينها قد شاخت قبل أوانها وتلحفت بالسواد...تُبسمل وتُحَوقل بين كل مفردة وأخرى، وتطلب نجدة خارقة عن أي استفهام أو تساؤل..تتكل وتتوكل دون أي إرادة وعندما تواجهينها بحقيقتها ..وتسألينها عن أسباب هذا الانكسار والتحول الجذري...تلمسين اليأس والقنوط والانكماش على الذات...الكل خذلها...الجميع تاجر بها...الجميع استغل أنوثتها...الجميع جعل منها وسيلته وموضوعه ..بأشكال مختلفة وأساليب متنوعة، لكنها جميعها تخدم ...سيادة الفحولة ، وسيادة القدر...وإلغاء العقل... إنك سيدتي في بلد عربي مسلم...إنك سيدتي في بلد يستغل الأنوثة ويمارس عليها الاغتصاب والقتل...باسم الحرص والدين والشرف.. يستعبد نصف المجتمع والكون...ليتسيد على حسابها...وليتصيد باسمها...وليقودها رقيقة وحُرمَة ... انكِ سيدتي في بلد يحرمك من جنسك ومن إنسانيتكِ...يلغي فيكِ العقل ويستأجره برضاكِ....فهلا انتصرت لعقلك ولأمومتك ولأنوثتك؟.
حين تصدمك رؤية أطفال يهرعون خلفك لتشتري قطعة بسكويت أو علبة كبريت..ويرجونك بحرارة أن تفعل ..وتقع عينيك على نظرات البؤس والجوع تنطق بحسرة وتلوذ خجلاً وراء كلمات تنم عن عوز وإحساس بالمسؤولية قبل أوانها..وأنت ممن يعلمون ويسعون لإنقاذ الطفولة، وأن من حق هؤلاء اللعب والدراسة..وأن العمل في عمر الورود مخجل ومزري وعار على أوطان لا توفر لأطفالها حياة محترمة تحميهم من ذل السؤال وذل العمل المبكر..بلاد تسرق طفولتهم وتستلبها..وتعرضهم لكل أنواع الاستغلال... أنت إذن في بلد عربي أو مسلم ينتمي للعالم الثالث ..عالم الجوع ..عالم تباع فيه العقول وتؤجر ...عقول القائمين عليه..لأنها تستعبد عقل الفرد وتستغله من أجل رفاهها وإفقارنا...عالم ينتشر فيه فساد القلب ..وفساد العقل وفساد الضمير...عالم للإنسان فيه الثمن الأبخس...عالم تستخدم فيه عمليات الغسل الجماعي للعقل...وتتبنى غسله من مباديء الحق والعدل والقانون والحرية والاختيار وتحولها إلى عمليات الطاعة والولاء والاستسلام ، تستلب ما فيها من نقاء وحب وكرامة ، وتحولها إلى دجل ونفاق ومحسوبيات واستزلام ..وتبعيات ...تغرقها في الفرقة والتشرذم والاقتتال ..وتزرع فيها كل أنواع الكراهية والحقد في مختلف الوجوه وتنفذه موتاً بحق كل مغاير ...تغسل من العيون قدرتها على قراءة الجمال والتمتع به..وصناعته والتفنن به، وتحولها إلى صناعة البشاعة وتغرس فيها لون واحد ...يميل للسواد ويتقلب بين الرمادي والترابي....حسب فصول العهر السياسي...الذي أجر العقل والضمير الوطني واستأجر عقول المواطنين.
#فلورنس_غزلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما الذي ينتظرك بعد يا وطني؟
-
لماذا ترتفع نسبة الجرائم في وطننا العربي، وما هي أنواعها وأس
...
-
لماذا تعتبر بلداننا بؤرة للإرهاب، ومن يمارس علينا الإرهاب؟
-
ليس دفاعا عن رجاء بن سلامة، ولا انتصاراً لوفاء سلطان، وإنما
...
-
إلى سيف الحق أنور البني
-
من صنع الإرهاب؟ من دعم وأسس الحركات السلفية في العالم العربي
...
-
دعوة
-
بغداد مدينة الأشباح
-
تعال اتفرج يا سلام على الانتخابات السورية...يا حرام !
-
كنت مسلماً ذات يوم!
-
مؤتمرات، انتخابات = مساومات، رهانات، إحباط، ثم فشل!
-
الطاعون العراقي!
-
نعوة بوفاة الفنان التشكيلي السوري - صخر فرزات-
-
حجاب المرأة العربية والمسلمة..هو حجاب سياسي
-
يا أنور البني...سوريتك مشكوك بأمرها!!!
-
إساءة لسمعة البلاد!
-
كل الشكر والامتنان لكم من:
-
حوار مع أبي رشا قبل الرحيل
-
لماذا لا يوجد بين مشايخنا من يشبه ال(Abbé Pièrre
-
قصة زواج الفساد ابن بطة من السيدة سلطة
المزيد.....
-
شاهد لحظة قصف مقاتلات إسرائيلية ضاحية بيروت.. وحزب الله يضرب
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
وساطة مهدّدة ومعركة ملتهبة..هوكستين يُلوّح بالانسحاب ومصير ا
...
-
جامعة قازان الروسية تفتتح فرعا لها في الإمارات العربية
-
زالوجني يقضي على حلم زيلينسكي
-
كيف ستكون سياسة ترامب شرق الأوسطية في ولايته الثانية؟
-
مراسلتنا: تواصل الاشتباكات في جنوب لبنان
-
ابتكار عدسة فريدة لأكثر أنواع الصرع انتشارا
-
مقتل مرتزق فنلندي سادس في صفوف قوات كييف (صورة)
-
جنرال أمريكي: -الصينيون هنا. الحرب العالمية الثالثة بدأت-!
المزيد.....
-
الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية
/ نجم الدين فارس
-
ايزيدية شنكال-سنجار
/ ممتاز حسين سليمان خلو
-
في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية
/ عبد الحسين شعبان
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية
/ سعيد العليمى
-
كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق
/ كاظم حبيب
-
التطبيع يسري في دمك
/ د. عادل سمارة
-
كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان
/ تاج السر عثمان
-
تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و
...
/ المنصور جعفر
-
محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي
...
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|