لكي نحدث تغييرا جذريا في مسارنا التاريخي لابد نستوعب عناصر التغيير الفعال وخصوصا التي تؤسس طريق المستقبل وبشكل أخص العناصر المستحدثة، وإلا فان العنصر قد ينقلب إلى أزمة حقيقية ان لم يفهم ويتعامل معه بشكل جيد، ومن هذه التحديات التاريخية الجديدة ظاهرة المعلوماتية التي فرضت نفسها كعنصر حاسم في صراع الأمم وصياغة المستقبل وامتلاك الغد، وهذه الظاهرة سوف تستأصلنا ان لم نستوعبها وننتزع أنيابها، كما أنها يمكن ان تكون عنصر تغيير بناء للمستقبل ان استفدنا من جوانبه الإيجابية
يمكن القول ان المعرفة الإنســـانية تشكل العنصر الأساسي في صنع الحركة التقدمية للأمم وبناء التاريخ الإيجابي، لان الإنسان بتميزه التكويني يعتمد أساسا على التشكل المعرفي لبناء شخصيته واكتساب ثقافته ونموه العلمي لإشباع حاجاته المادية والمعنوية، حيث يمثل إنتاجه الفكري واستنتاجاته العقلية وسيلة سلوكية للتعامل مع الواقع الخارجي وفهم المحيط الذي يعيشه لاكتساب المزيد من الخبرات والتجارب وإيجاد حالة التأقلم مع الظروف الخارجية لصنع حياة افضل بالنسبة له.يقول الإمام أمير المؤمنين عع: لقاح المعرفة دراسة العلم، لقاح العلم التصور والفهم.
لذلك تطورت حياة البشرية بقدر تطور المعرفة وتقدم العلوم، وكان تطور التاريخ التصاعدي والنهضوي يعتمد على هذا المقياس، ونشوء الحضارات الإنسانية الكبيرة ابتدأ أساسا من تعاملها المعرفي ونموها العلمي مع واقع الحياة. ومن هنا تنبعث القوة التي اتسمت بها بعض المجتمعات وتفوقها على الآخرين واضمحلال مجتمعات باضمحلالها في أغوار الجهل وعدم المعرفة، والقرآن الكريم في إشارة لهذا يقول: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). وعن المعصوم عع: وأفضلكم أفضلكم معرفة، وعن رسول الله ص : أفضلكم إيمانا أفضلكم معرفة.
وكان الهدف الأول لبعثة الأنبياء والرسل هو نشر المعرفة بين البشر لإيصالهم إلى طريق البناء والسعادة والخير ومعرفة أنفسهم وبالتالي الوصول إلى المعرفة الحقيقية وهي معرفة الله تعالى، يقول الإمام علي بن أبى طالب عع: فبعث فيهم رسله وواتر إليه أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرتهم ويذكروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول). فعبر إثارة كوامن العقل البشري تتحرك تفاعلات المعرفة والاستدلال والعلم وتتطور مع تطور الحياة وتغير الشروط، فلا يمكن للإنسان ان ينمو في ظل سكون المعرفة وجمود العقل عن إنتاجها لان المعرفة متغيرة حقا ولكن تغيرها يتخذ شكل التراكم أي إضافة الجديد إلى القديم ومن ثم فان نطاق المعرفة التي تنبعث من العلم يتسع باستمرار. وعندما يتوقف الإنسان عن اكتساب العلوم وتراكم معلوماته يتوقف العقل عن التفاعل المعرفي مع تطور العالم الخارجي ويصبح حينئذ عاجزا اكتساب الخبرات المفيدة ويفقد القدرة على إدراك الحياة إدراكا واعيا وسليما، إذ ان: المعرفة حصيلة امتزاج خفي بين المعلومات والخبرة والمدركات الحسية والقدرة على الحكم فنحن نتلقى المعلومات فنمزجها بما تدركه حواسنا ونقارنها بما تختزنه عقولنا من واقع خبراتنا ثم نطبق على هذا المزيج ما بحوزتنا من أساليب الحكم على الأشياء وصولا إلى النتائج والقرارات أو استخلاصا لمفاهيم جديدة. ولكي يحافظ الإنسان على نفسه ووجوده عليه ان ينتج ولكي ينتج عليه ان يكتسب المعرفة لكي يستطيع ان يتواصل مع الآخرين ويعرف محيطه وخصائص مجتمعه والصعوبات التي تقف أمام تحقيق حاجاته الأخرى. يقول الإمام جعفر الصادق عع :لا يقبل الله عملا إلا بمعرفة ولا معرفة إلا بعمل فمن عرف دلته المعرفة على العمل ومن لم يعمل فلا معرفة له.
لذلك فان المعلومات تصبح العصب الحيوي في حركة الأمم وتطورها باعتبارها منطلق الحاجة المعرفية.ذلك ان الحاجة للمعرفة تبقى المحور الرئيسي في مصير الأمم لأنها تشكل الرافد الذي يغذي الحاجات الأخرى فمع جمود المعرفة وتوقف نموها في الأمم تواجه هذه الأمم نقصان في حاجاتها الأساسية الأخرى فتتخلف عن مسيرة الحياة وتقع أسيرة في ربقة الأمم القوية التي تمتلك سلاح المعرفة والعلم. ان الصراع التاريخي بين الأمم كان صراعا تميزت فيه المعرفة كسلاح حاسم ينتصر فيه من يمتلكه مهما كانت القوى المادية والعسكرية التي يمتلكها الطرف الآخر، لان المجهود الحقيقي هو المجهود الذي ينبعث من عقل الإنسان وليس جسده والقوة الواقعية في ذلك قوة المعرفة والعلم. لذلك كانت قوة انتشار الإسلام وانبعاثه في العالم هو في تلك المعلومات التي فتحت للبشرية آفاقا معرفية جديدة قطعت خيوط ظلام الجاهلية، ومن هنا بدأ العالم يأخذ منحا تطوريا جديدا أساسه العلم والمعرفة حتى القرن الواحد والعشرين الذي يشهد ثورة معرفية كبيرة أساسها وعمادها ووقودها هو المعلومات لا غير حيث أصبحت السلاح الذي من امتلكه امتلك قوام القدرة وسيطر على العالم، باعتبار ان هذا القرن الجديد هو خلاصة مركزة للتطور والتراكم العلمي والمعلوماتي للتاريخ البشري. ويرى الفين توفلر: ان القوة في القرن الواحد والعشرين لن تكون في المعايير الاقتصادية أو العسكرية ولكنها تكمن في العنصر K (المعرفة knowledge) بعد كانت المعرفة مجرد إضافة إلى سلطة المال والعضلات باتت اليوم في جوهرها الحقيقي فالقوة العسكرية ترتبط مباشرة بالقدرة التكنولوجية أي المعرفة التي تكتنزها وعلى عكس العناصر الاقتصادية والعسكرية فان المعرفة لا حدود لها ولا تنضب.
ان التحول العالمي المثير نحو السيطرة المطلقة لسلطة المعلومات وتحولها لأهم الأسلحة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وثقافيا يدعونا لدراسة هذا المنحى الكبير في التاريخ البشري وتأثيره على المجتمع البشري قاطبة وتحوله لصياغة جديدة قد تحمل تموجات خطيرة خصوصا مع فوضوية هذه الثورة والنيات التي يبطنها من يمتلك أسلحتها.
لقد تحولت المعلومات إلى إنتاج واقعي وجهد حقيقي فرض نفسه على كافة الفعاليات البشرية الأخرى مع مجرد كونها واقع افتراضي يسكن في خيال الذهن الواسع، ولكن قوة وجبروت هذه الثورة وتأثيراتها حولتها إلى قوة حقيقة مستأثرة وطاغية، لذلك: تصبح المعرفة البديل الأخير من كل عوامل الإنتاج الأخرى وما زال الاقتصاديون التقليديون يجدون صعوبة في التعود على هذه الفكرة لأنه يصعب تحديدها كميا وسواء كان قياس المعرفة ممكنا ام غير ممكن فأنها أصبحت العامل الأكثر كفاءة والأكثر أهمية بين عوامل الإنتاج.
لا تكمن خطورة هذه الثورة الجديدة في كونها مجرد حالة معرفية بل على العكس من ذلك فان هذا التطور المعلوماتي يحمل بذورا معرفية إيجابية يمكن ان تساهم في حل الكثير من المشاكل الإنسانية المعقدة وتسهم في تطور الحالة الإنسانية والتعاونية عند البشر، ولكن خطورة الأمر يكمن فيمن يمتلك أدوات هذه القوة لتحقيق مآرب واهداف خاصة لنشر معلبات معرفية جاهزة وغسل عقول البشر للتحكم بهم واستغلالهم لأهداف اقتصادية أو سياسية او أيديولوجية. إذ ان قوة الأدوات المعلوماتية تتحقق في قدرتها على التحكم الثقافي بالآخرين باعتبارها المصدر المعلوماتي لتشكلها المعرفي، فعن: طريق التثقيف كوظيفة أساسية لوسائل الإعلام يكتسب الأفراد ويطورون داخليا كل نواحي ثقافتهم ولا يتضمن هذا العادات والتقاليد داخل محيط عائلاتهم فقط بل اللغة أيضا واستخدام الأدوات المادية والمعتقدات. فبمقدار ما تستطيع ان تحققه هذه الأدوات من تغيير في عقل الفرد وثقافته تزداد قوة وأهمية وتصبح سلطة حقيقة في المجتمع.
ويرى ليوتار في كتابه شرط ما بعد الحداثة وينذر بان: المعرفة بصفتها سلعة معلوماتية لا غنى عنها للقوة الإنتاجية أصبحت وستظل من أهم مجالات التنافس العالمي من اجل إحراز القوة ويبدو من غير المستبعد ان تدخل دول العالم في حرب من اجل السيطرة على المعلومات كما حاربت في الماضي من اجل السيطرة على المستعمرات.
فإذا أصبحت المجتمعات تستقي موارد معلوماتها من جهات أخرى لإشباع نهمها المعرفي وحاجاتها الثقافية فان هذا يعني ان تتقولب ضمن أسس ثقافية وفكرية تتناسب مع مصالح مورّد المعلومات ومصدّرها فتقع في حبال شبكاته العنكبوتية باعتباره منتجا ومحتكرا لأدوات المعرفة المتمثلة بالتكنولوجية الحديثة المدهشة، لان: تقانة المعلومات هي التي جعلت من الثقافة صناعة قائمة بحد ذاتها لها مرافقها وسلعها وخدماتها بل إننا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا بان اثر الثقافة في التقانة يكاد يشكل جميع عناصر منظومتها والعلاقات البينية التي تربط هذه العناصر ولا تشمل هذه العناصر الإدارة الثقافية ومواردها فقط بل أيضا وهذا هو الأهم بنية المعرفة داخل المجتمع والأسس والمبادئ التي قامت عليها وقاعدة القيم التي انطلقت منها، فالدور الحيوي الذي يلعبه ذلك الكم الهائل من المعلومات جعل من التقانة مصدرا أساسيا للقوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، اذ باتت تقانة المعلومات أداة رئيسة للفعل السياسي الموجه نحو السيطرة والتوجيه الإعلامي والتربوي ولا نعتقد ان أحدا يستطيع إنكار تأثيرها الواضح في نظام القيم وتشكيل رؤية الفرد نظرا لما أحدثته وسوف تحدثه من تغييرات حادة في أنماط السلوك والمعايير.
ويرى الفين توفلر في كتابه أشكال الصراعات المقبلة: ان المعرفة كوسيلة تختلف عن كل الوسائل الأخرى إنها لا تنضب ويمكن استخدامها من قبل الطرفين، وجزء محدود من المعلومات يمكن ان يعطي أفضلية استراتيجية وتكتيكية هائلة ويمكن ان يؤدي حجزه إلى نتائج كارثية.
فخطورة المد المعلوماتي الجديد تنبع من قدرته على استحواذه على القنوات والأدوات التي تصنع ثقافة الفرد وبالتالي تستحوذ على بنيته المعرفية وتتحكم في سلوكه وتوجهاته وأهدافه وبعبارة موجزة فأنها تسترقه في القطيع الإلكتروني التي يقوده قلة ونخبة تستحوذ على معظم موارد العالم.
كل ما قلناه هو ينصب في دراستنا لتحديات التاريخ الجديد ومعطياته المستقبلية، وكيف نستطيع ان نصنع مستقبلا آمنا وتاريخا مشرفا يرتكز على الاستقلالية الحضارية بعيدا عن التسلط الحضاري والاستعمار السياسي لامتنا. والثورة المعلوماتية هي من اخطر التحديات والأعاصير التي تهب علينا وتجتاحنا من جذورنا لتقيدنا في زنزاناتها الإعلامية والتقنية وتغسل عقولنا بإعلاناتها وتأثيراتها الضوئية المبهرة حتى تمحي صورنا المعرفية الأصيلة وتؤسس في أعماق حضارتنا معرفيتها الهزيلة القائمة على المادة واللهو والأنانية.
إننا نحاول ان ندرس الظاهرة المسماة بالمعلوماتية لكي نتعرف على حقيقتها واهداف الذين يحتكرون أدواتها ويوجهونها ونحاول ان نستثمر هذه الأدوات إيجابيا لصالحنا في تقوية معرفيتنا ونشر المعلومات الإنسانية النبيلة من قيم الإسلام والسلام والحرية والاخوة والتعاون والعدالة. اذ ان تقنية المعلومات لا تحمل بذاتها في باطنها شرورا بل يمكن ان يستفاد منها للخير اكثر ولكن من يحتكرها هو الذي يقود العالم يوما بعد يوم نحو الفوضى والفساد والحرب والفقر.لان: التكنولوجيا بطبيعتها متعادلة القيمة كالسيف انه خامة تكنولوجية والأشياء بذاتها لا تحمل قدرا من الخير والشر وانما البشر هم الذين ينفثون فيها الحياة باستخدامهم إياها ويضفون عليها خصائص معنوية وأخلاقية
المعلوماتية انتقال لتاريخ جديد
التحولات التاريخية الكبيرة كان لها دورا إنعطافيا في التطور البشري والتقدم الحضاري، ولكن تحولات القرن العشرين هي شئ آخر في منعطفاته اذ استخلص هذا القرن كل تجارب التاريخ واستجمع خبراته وبدأ حركة تصاعدية بلغت ذروتها في نهاياته وبدء إطلالته على القرن الواحد والعشرين. والتقدم التقني والمعلوماتي في الاتصال والارتباط كانت معجزة هذا العصر الذي طرحها مبتكروها كمرحلة انتقال حاسمة في حياة البشرية. حيث استطاعت هذه التقنية ان ترفع الحواجز وتقرب المسافات إلى حد جعل العالم قرية صغيرة تمتد بشبكة معقدة من الاتصالات. وهذه التقنية قد ولدت وتولد مفاهيم جديدة باعتبار انها قد قاربت بين البشر والأمم إلى حد التفاعل الشديد والسريع بحيث خلقت حالة تداخل شديدة بين الأفكار والثقافات ينتج عنها أما الصراع و الاصطدام أو الذوبان والانصهار، ففي هذا التاريخ الجديد ليس هناك مجال لنصب أسوار العزلة الحديدية لحماية مجتمعاتنا بل اصبح الاندماج الحضاري والتداخل الإنساني إلى حد لا يتصور، لذلك: فأن أهم عمليات العولمة وسمتها المميزة هي المعلوماتية أو التقانة العليا بجوانبها العسكرية والمدنية، والمقصود بالمعلوماتية ليس فقط نقل المعلومات وتيسرها لأوسع عدد من الأفراد والمؤسسات وانما الفرز المتواصل بين من يولد المعلومات (الابتكار) ويملك القدرة على استغلالها (المهارات) وبين من هو مستهلك لها بمهارات محدودة.
ان البحث عن هذه التحولات التقنية المثيرة ليس لكونها أشكالا حديثة يستلذ بها البشر وتزداد رفاهيتهم من خلالها، وانما لما ستفرزه من تحولات نفسية وثقافية واجتماعية وسلوكية على البشر بحيث تنطلق من الأشكال التقنية الجديدة أنماطا بشرية في السلوك والفكر والمجتمع، لذلك فان هذه الإفرازات لابد تلقي بظلالها على مجتمعاتنا لتفرض ثقافتها وقيمها وأخلاقياتها الجديدة علينا وهذا سيشكل لنا تحديا كما هو الآن. ومن هنا لابد من دراسة ظاهرة المعلوماتية ومعرفة ملامحها وأشكالها وتموجاتها لكي نصل إلى تحليل أبعادها وآثارها على المستقبل.
تقنية الاتصال السريع وصناعة المعلوماتية
ان أساس ظهور المعلوماتية وتحولها إلى قوة العصر يرتكز أساسا على تطور تقنيات الاتصال وسرعتها بحيث أصبحت لها السلطة في صناعة الأحداث وبناء السياسات وإسقاط الأنظمة وتوتير الاقتصاد وانهياره والتهام الثقافات وتعليب العقول، فللمعلوماتية عبر أدواتها الاتصالية واخطبوطها الإعلامي القدرة على صناعة الواقع الوهمي حسب توجهات النخبة المسيطرة الاقتصادية والفكرية للاستئثار والتحكم والسلطة، ذلك ان: القدرة على رسم حدود الواقع هي القدرة على السيطرة، وان عملية نقل المعلومات هي السلطة واستثار فئات معينة بحق الوصول أو التعامل معها اليها يمثل نوعا من السلطة خطرا وعنيدا. فالسلطة المعلوماتية هي القدرة على استثمار سرعة الاتصالات لإيصال معلومات مجهزة مسبقة لأهداف معينة وهنا تكمن جوهر ظاهرة المعلوماتية باستغلال الفراغ الذي يخلفه متلقي الرسائل بالاتصال السريع عندما يفقد الوقت اللازم لاستيعاب الرسالة وهضمها.
أي ان: الاتصالات التي هي عصب عصر المعلومات وعملية الاتصال تتطلب في الاساس مُرسِلا ومُرسَلا إليه وقناة اتصال ومن شأن اعتماد وسائل الاتصال البالغة السرعة ان تجعل المعلومات تنتقل عبر قناة الاتصال في فترة وجيزة جدا تؤدي إلى وضع المرسل والمرسل إليه وجها لوجه وبالتالي انهيار عوامة المعلومات –التي عرفها المختصون بانها: الوقت الذي تستغرقه المعلومات في قناة الاتصال- فتقنية الاتصالات وسرعتها وقدرتها على إيجاد التواصل المادي بين البشر وضعتها في مقدم الأولويات الثقافية والاقتصادية بحيث أصبحت المنبر الثقافي والتعليمي الذي يكتسب منه الناس حتى اصبح ممتلكو هذه الوسائل المعلوماتية هم الذي يصنعون المعلومة ويرسمون واقعا خياليا يتحكمون بتأثيراته على المتلقي المسكين، ففي ثقافة التلفزيون مثلا: كثيرا ما يعتقد المرء ان ما يراه هو حق وهو في الغالب اكثر أهمية من الحقيقة الفعلية حين يمس الأمر فهم وتصورات النشاطات الإنسانية، ففي الأفلام صار الناس لا يميزون بين ما هو تاريخي حقا وما هو روائي، فقد غدا الإعلام دينا مدنيا حالا محل التاريخ والثقافات القومية والعائلة والأصدقاء وبات القوة السائدة التي تخلق تصوراتنا العقلية عن الواقع، والإعلام ببساطة يصنع ويجهز ما يباع أي كل ما يزيد الأرباح وما يباع هو الإثارة والجذب السريع والفوري.فوسائل الاتصال السريع هذه لا تؤدي فقط إلى عملية تسهيل أعمال المستخدم ورفاهيته بل أنها تصنع له ثقافته الخاصة وسلوكه بجميع نواحيه وبرنامجه اليومي الخاص حتى ذوقه في الشرب والأكل،وبل وتسيطر عليه كاملا عندما تحدد له ما هو الصحيح أو الخطأ والحق أو الباطل، فهوليود مثلا: لا تنتج أفلاما فحسب بل تولد قوة ونفوذا، إنها تساهم تحديدا في تظهير صورة الخير والشر في العديد من الأوضاع الاستراتيجية. وباتت ال CNN - التي قالت عنها مادلين اولبرايت بأنها العضو السادس في مجلس الأمن الدولي- رمزا للإعلام الذي لم يعد مجرد وسيلة نقل ولكن أصبحت مصدرا للمعلومة وباتت قادرة على صياغة رؤية خاصة للعالم تدخل إلى لاوعي المشاهدين:الرؤية الأمريكية. وذا كانت الماكنة المعلوماتية قادرة على تحويل الواقع إلى خيال وتغيير الخيال إلى واقع أو الشر إلى خير فان الأمر سيصبح خطيرا حينئذ باعتبار ان أدوات المعلوماتية أصبحت العصب الحيوي الذي يتنفس منه العالم كافة أفكاره وتحركاته وفعالياته، فلقد أصبحت: العاب الواقع الافتراضي في طريقها لأن تصبح اكثر من مجرد وسيلة للترفيه إنها تتحول إلى جزء حيوي من الثقافة الجديدة لدى الشباب، ما الذي سيفعله مدمنو الألعاب إذا ما اشتد عودهم؟
ان مبعث الخطورة ينبع من كون أدوات المعلوماتية هي في يد قلة من الأباطرة الذين احكموا سياساتهم ونفوذهم ويفرضون ما يريدون على العالم، فشركة مثل: شركة (AT & T) التي تعتبر إحدى اكبر شركات الاتصالات البعيدة المدى في العالم تقدر ان ثمة الفين أو ثلاثة آلاف شركة عملاقة تحتاج إلى خدماتها العالمية. ويوجد حسب إحصاءات منظمة الأمم المتحدة 35 ألف شركة كبيرة عابرة للأوطان ترتبط بها 150 ألف شركة تابعة، وقد اتسعت تلك الشبكة بحيث يقدر ان المبيعات ما بين الشركات التابعة التي تنتمي للمجموعة نفسها صارت تمثل ربع التجارة العالمية وهذه البنية الجماعية التي تشهد عز نموها لم تعد مرتبطة بأحكام الدولة والأمة وهي تمثل عنصرا أساسيا من نظام الغد العالمي.
ان ثورة المعلومات فتحت آفاقا واسعة البشر للعثور على رؤى جديدة عجز عنها السابقون لافتقادهم لتلك التقنيات ولكن السؤال يبقى محيرا كيف يستطيع الإنسان ان يتعامل مع هذا الاجتياح المعلوماتي بشكل موضوعي وعقلاني ونقدي، فيا ترى: ما الذي سيفعله الشخص العادي وهو يجد نفسه ليس في مواجهة 50 قناة فقط بل آلاف من أفلام السينما والعروض المختلفة؟ وكيف سيواكبون مئات القنوات من التلفزيون التفاعلي وخدمات التسوق وكلها تتزاحم لجذب انتباهه؟ وكيف سيختارون المنتَج الصحيح من احسن بائع وبأرخص الأسعار؟
ومن ملامح هذه الظاهرة أباطرة المعلومات فقد ظهر في خضم هذه الأعاصير المعلوماتية رجال من نتاجات الرأسمالية النفعية اصبحوا يسيّرون العالم بصناعتهم للأحداث وتسويقهم التجاري للمعلومات عبر احتكارهم لأساطيل كبيرة من أدوات الأعلام والمعلومات، مثل بيل غيتس الذي يعد أغنى رجل في العالم وصاحب اكبر شركة كومبيوتر أنتجت نظام تشغيل تعتمد عليه معظم الأجهزة الكومبيوترية في العــالم، ومثل روبرت مردوخ ذلك اليهودي الأسترالي المتجنس بمجموعة جنسيات عالمية الذي بدأ حياته العملية عام 1952 وكان عمره وقتها 21 عاما حين ورث عن أبيه جريدتين محليتين في استراليا، لكنه انطلق مثل الصاروخ ليصبح إمبراطور الإعلام العالمي حين سيطر على 70% من الصحف الأسترالية، وبدأ منذ عام 1969 بالتوجه إلى بريطانيا حيث اشترى صحف (التايمز والصن) ثم اصدر (صنداي تايمز ونيوز أوف ورلد) ثم سيطر على محطة (بي سكاي) التي تضم 40 قناة، ثم محطة (جراندا سكاي) التي تضم 7 قنوات ثم (بريميوم شانلز) واتجه بعد ذلك إلى كل العالم، ففي اليابان يمتلك محطة (جي سكاي بي)، وفي الصين قناة (فونيلس)، وفي الهند قناة (إل سكاي بي)، وفي إندونيسيا (تلفزيون إندونيسيا)، وقناة في جنوب أفريقيا وقناتان في البرزيل والمكسيك، وفي امريكا يمتلك مجموعة قنوات فوكس القرن العشرين وفوكس 2000، حيث يسيطر على 22 قناة تغطي 40% من مشاهدي التلفزيون في الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى امتلاكه لجريدة (الواشنطن بوست) ودار نشر (هابرر كولينز). وفي استراليا فان إمبراطورية مردوخ قد توقفت إلى 269 جريدة يومية ومحطة تلفزيونية بها 34 قناة. وقد قال عنه تيد ترنر- أحد أباطرة المعلومات أيضا وصاحب الCNN – لا تسمحوا بدخول هذا الرجل إلى بلدكم فهو يريد السيطرة على جميع محطات التلفزيون في العالم ويريد التأثير على كل الحكومات.
ويذكر صاحب كتب احتكار الإعلام ان طبقة تمثل 1% من الناس تمتلك السيطرة على الإعلام ففي عام 1983 كانت أغلبية ملكية الشركات محصورة في خمسين شركة، وفي عام 1997 تقلصت الشركات المسيطرة على الإعلام إلى عشر شركات، وعندها يسيطر مجموعة قليلة من الأشخاص هم رؤساء شركاتهم على اكثر من نصف المعلومات والأفكار التي تصل إلى 220 مليون أمريكي، ومن خلال امتلاك الإعلام والسيطرة عليه فان ما يتراوح بين 30 إلى 50 مصرفا وما يتراوح بين 10 إلى 50 شركة إعلامية يسيطرون على العالم ويصنعون أو يحطمون السياسيين والحكومات.
الاندماج الثقافي واندثار اللغات
أحد ملامح ظاهرة المعلوماتية هو ذلك التداخل الثقافي الذي أفرزته وفرة وسائل الاتصال وسرعتها حيث استطاعت الدول القوية بأدواتها وخبرتها ومنسوجها الثقافي ان تغزو الشعوب الضعيفة التي تفتقر لقوة الثقافة واصالة التفكير وروح الثقة بعناصر حضارتها لتذوب في عناصر الثقافات القوية وتعيش مفتخرة على هوامش المجتمعات المعولمة. واللغة هي أحد أهم المفردات التي تفرضها الثقافة الغازية على المجتمعات المستأصلة لتصبح مفرداتها عنوانا رئيسيا في كثير من العناوين الرئيسية وتفقد اللغات الضعيفة التي لا تستند إلى ثقافة أصيلة ونسيج ثقافي متماسك وجودها وتصبح من اللغات الميتة. والخطير في الأمر ان اللغة تصبح مفتاحا لدخول العالم الجديد ومظهرا للتقدمية الشكلية خصوصا عندما تفقد المجتمعات إيمانها بثقافتها وتتنصل من أصالتها هروبا من واقعها المتخلف فاللغة ليست مجرد آلة وسيلة للتخاطب وانما بالدرجة الأولى آلة للتفكير والنقد والتعلم.
ان اللغات الأخرى لاتمثل خطرا بحد ذاتها بل تعلمها والاستفادة منها يشكل منطلقا مهما لزيادة الخبرة واستثمار العبر من تجارب الآخرين ولكن الخطورة في الأمر ان تتحول اللغة إلى ثقافة بديلة تحل نفسها في الشخصيات المهزوزة التي فقدت قابليتها الذاتية وأصالتها الحضارية.
ويعتقد ادوارد هوف الخبير باللسانيات بجامعة ساوثرن في كاليفورنيا: ان الكومبيوتر سيقود العالم إلى تهديم برج بابل اللغوي الذي لا يزال عائقا أمام البشرية حيث سيتمكن من خلق أجواء التفاهم بين الإنسان والآلة وتوليد الآلة لمعارف ينهل منها الإنسان، ويضيف قائلا: ان تاريخ العالم يشير إلى ان الناس يضطرون إلى تجزئة لغتهم وخلق اللهجات لان اللغات لدى نضوجها أو شيخوختها تزداد تعقيدا وتنوعا، ومع حصول التمازج الحالي في اللغات على المستوى العالمي خصوصا مع توسع الشبكة الإلكترونية والبريد الإلكتروني فان اللغات ستزداد امتزاجا ويؤدي تطوير برامج كومبيوترية للترجمة الآلية الدقيقة إلى بروز حرية الاختيار كأحد أهم ملامح النشاط اللغوي للإنسان لتسجيل أفكاره وتحويلها إلى 7 آلاف لغة وسيهدد ذلك اللغة الإنجليزية التي لا تزال اللغة الطاغية في الإنترنت.
ومن التوقعات المثيرة احتمال اندثار ما يربو على نصف اللغات التي يعتقد ان عددها يصل إلى 6آلاف لغة في العالم، وتتوقع روزماري اوستلر الباحثة الأمريكية في اللغات ان منتصف القرن الحالي سيشهد حلول هذه الظاهرة بسبب هيمنة عشر من اللغات أو اكثر على النشاطات البشرية، وقد تقود هذه الظاهرة إلى تدمير بعض الجوانب المهمة في ثقافات العالم العظيمة كما ان اللغات الأصيلة تمثل جزءا مهما من تراث الشعوب.
اقتصاد قائم على المعلوماتية
من ملامح ظاهرة المعلوماتية هو قيام نظام اقتصادي جديد اذ يمكن القول ان الاقتصاد العالمي قد تحول بشكل كبير إلى نظام جديد يعتمد أساسا على المعرفة البشرية، فبعد ان كان الاقتصاد السابق يرتكز على القوة البدنية والآلات الصناعية والمواد الخام اصبح اليوم مسيرا بواسطة الماكنة المعلوماتية، ففي المجتمع المعلوماتي تزداد قيمة الشيء بالمعرفة لا بالجهد- واذا كانت النظرية في السابق ان العمل كأساس للقيمة- فاننا نواجه الان ضرورة صياغة نظرية في المعرفة كاساس للقيمة. وقد استخلص اقتصادي امريكي يدعى ادوارد دينيسون: ان ثلثي النمو الاقتصادي الأمريكي نتج من تقدم معارف القوة العاملة ورفع مستوى قدراتها من التصنيع إلى صناعة التفكير، فالمجتمع المعلوماتي هو حقيقة اقتصادية وليس تجريدا فكريا، فمع تقدم المجتمع المعلوماتي اصبح لدينا اقتصاد يعتمد على مورد أساسي ليس متجددا فحسب بل قابلا للتجدد الذاتي.
لقد أصبحت المعرفة هو السلاح الاقتصادي في معارك الربح والإنتاج فاختفت العناصر القديمة لتحل عناصر جديدة تعتمد على الذكاء ومقدار إنتاجها وربحها يعتمد على المستوى النوعي والكمي لمعلوماتها، لذلك فان: الاقتصاد الذكي الجديد يتطلب عمالا هم اذكياء أيضا فان وحدات من العمال الاقوياء تخلي المكان تدريجيا لاعداد قليلة من العمال العاليي الاختصاص وللآلات الذكية.
ويرى البعض: ان المحرك الاقتصادي للاقتصاد العالمي الجديد سيكون مكونا من صناعات الانفوميديا- الوسائط المعلوماتية- وهي الحوسبة والاتصالات والإلكترونيات الاستهلاكية وهذه الصناعات هي اكبر الصناعات العالمية الآن واكثرها ديناميكية ونموا حيث يبلغ رأس مالها اكثر من 3 تريليون دولار. بالإضافة إلى ما تحققه صناعة المعلوماتية من أرباح اقتصادية في مجالات أخرى غير صناعية.
ويمكن القول ان تطور ظاهرة المعلوماتية واحتكار أدواتها بيد نخبة صغيرة لتحقيق أرباح خيالية مطلقة سيؤدي بالنتيجة إلى تفاقم التفاوت الطبقي وزيادة الفقراء خاصة انهم اصبحوا غير قادرين على الإنتاج الاقتصادي لافتقادهم لمواردها الاستراتيجية الجديدة ان لم يتحولوا إلى مجرد مستهلكين للنفايات الإلكترونية، لذلك يعتقد البعض: ان سهولة الوصول للمعلومات والى وسائل الاتصالات هو شرط مسبق للتطور الاقتصادي فالبؤس لا يعيش في وفاق مع السلام لقد اقترحت استخدام جيشنا وقوة الثورة الرقمية لنقل ما أمكن من المعلومات والمعلوماتية إلى باقي دول العالم حتى تستطيع شعوب الدول النامية ان تصبح جزءا من المجتمع العالمي، ويجب علينا استخدام هذه المعرفة لنقل الرفاهية إلى باقي العالم قبل ان يتحول كل سكانه إلى مهاجرين ولاجئين أو معالين بواسطة الغرب.
المعلوماتية سلطة جديدة
أصبحت المعلوماتية في نهاية هذا القرن القوة القصوى والأولى التي تحدد الاستراتيجيات وتفرز التوازنات السياسية والعسكرية، فلم تعد القوة السياسية أو العسكرية في تحالفات وتكتلات سياسية وحشود عسكرية بل أصبحت القوة في منطق العالم الجديد هي المعرفة التي بتزايدها ترفع مستوى القوة والتفوق على الآخرين، فلم يعد الغرب بحاجة اليوم
لاستعمال الحشود العسكرية لاختراق المجتمعات المحصنة اذ استطاع بتكنولوجيته المتفوقة ان يفرض نفسه على الكثير من مناطق العالم وان يحطم منظوماتها السياسية والثقافية عبر نشر أفكاره وقيمه ومشاريعه في حرب مسالمة لا دماء فيها ولا خسائر بشرية، فاليوم تمثل أسلحة مثل القنوات الفضائية ووكالات الأنباء والصحف والمجلات وتقنيات الكومبيوتر الحديثة مثل الإنترنت سلاحا خارقا يستطيع ان يحقق مالا تحققه القنابل النووية. فالحرب الحقيقية هي حرب التقنية والمعرفة والسيطرة على مصادر المعلومات.
وهذا ينعكس بشكل واضح على التفوق العسكري إذ ان: تفوق الغرب لا يرتبط إلى هذا الحد بعتاده العسكري إلا لان قواعده العسكرية ومختبراته وجنوده هي أدمغة وجيش من الباحثين والمهندسين وربما سيأتي يوم يكون فيه عدد الجنود الذين يحملون حواسيب اكثر من أولئك الذين يحملون بنادق، ووزارة الدفاع الأمريكية قامت بالخطوة الأولى في هذا الاتجاه في العام 1993 حين وقع سلاح الطيران عقدا لشراء 300 ألف حاسوب شخصي، باختصار أصبحت المعرفة الوسيلة المركزية للتدمير كما أنها الوسيلة الأساسية للإنتاجية. والجيش الجديد يحتاج إلى جنود يستخدمون عقولهم ويستطيعون التكيف مع مختلف الشعوب والثقافات ويتقبلون الازدواجية ويأخذون المبادرة ويطرحون أسئلة.
الإنترنت بوابة القرن الواحد والعشرين إذا أردنا منذ عقدين أو اكثر من الزمن ان نتصور شبكة الإنترنت ونتخيلها فأنها قد يتصور ضرب من الخيال ولكنها اليوم تمثل عماد المجتمع المعلوماتي الجديد ومعجزته التي يبشر بها حيث فتحت هذه الأداة الجديدة العالم على أبوابه ودكت كل التحصنات والأسوار فخيمت بانتشارها السريع على العالم الأثيري لينصاع العالم لها ويستسلم لجموحها.
ولأنها سهلة الاستخدام فأنها أصبحت في متناول كل يد لا تستطيع ان تتحمل تكاليف استخدام الأدوات الإعلامية الأخرى الراديو والتلفزيون والصحافة لذلك أصبحت منبرا مفتوحا للكثير من الجماعات والاتجاهات، كما انها أصبحت نهبا للجماعات الفاسدة والمنحرفة التي أخذت تنشر الجريمة والإباحية والشذوذ والأفكار المنحرفة.
ان شبكة الإنترنت تنمو بشكل هائل ومن المتوقع ان يصل حجم عشيرة الإنترنت إلى مليار مشترك في عام 2001 لتكون هذه الشبكة بمثابة تحقيق فعلي لاستعارة القرية الإلكترونية واثبات مجتمع المعلوماتية وسرعة تحقق الاتجاهات نحو تطبيق مفهوم العولمة.
لقد اصبح: امتلاك المعلومات قوة والإنترنت توفر مجالا كبيرا لامتلاك المعلومات فهي تطلع مستخدميها على المعلومات أولا بأول بل قد تسبق أحيانا الوسائل الأخرى في نشر المعلومات- تقرير ستار حول فضيحة كلينتون على سبيل المثال والذي يعد علامة فاصلة في تاريخ استخدام الإنترنت سياسيا- ، وتتيح الإنترنت أيضا المعلومات من مصادر متعددة ومتنوعة ومن جهات ذات توجهات مختلفة مما يساعد على مضاهاة ومقارنة المعلومات وتقييمها وهي لا تجعل المعلومة حكرا على أحد فالكل يعرفها والكل قادر على الوصول أليها وهي تتجاوز مستوى التغطية السطحية للأحداث السياسية.
ويرى البعض ان الإنترنت تمثل وجه العالم الجديد وهو المجتمع المعلوماتي حيث تتحقق الديمقراطية العالمية عبر بوابة الإنترنت ليصبح برلمانا مفتوحا يعبر فيه كل من يشاء عن رأيه ويشارك في اتخاذ القرارات وصنعها، إذ يرى المتحمسين لشبكة الإنترنت فيها الديمقراطية القصوى لديمقراطية المعلومات تحت شعار المعلومات في كل مكان وكل وقت ولكل الناس، أي الإنترنت: عن طريق البريد الإلكتروني تعطي لكل فرد مقعدا مجانيا في البرلمان الجماهيري يناقش ويعترض ويتساءل ويستجوب وهو بالتكامل مع المجموعات الإخبارية Usenet news يجسد المفاهيم الديمقراطية التي دعا إليها فلاسفة الديمقراطية في عصور النهضة، ويضيف مناصرو الإنترنت انه عن طريقها يمكن ان يعبر المرء بحرية عن رأيه وان يمتلك منبره الخاص وان يتبادل الآراء وان يشكل مع أصدقائه جماعة ضغط إلكتروني تؤثر على القرارات السياسية للحكومات وتوجهها كما ان بمقدور مستخدم الإنترنت أن يشارك في صناعة القرار وان يلتقي بالزعماء والرؤساء وان يلقي بآرائه على مسامعهم.
ان وجود هذا الحلم بنشر العدالة لا يعني انه يتحقق في امتلاك هذه الأدوات المعلوماتية لان الفرق يبقى كبيرا بين منتجي المعلوماتية ومستهلكيها، وهو يستحيل تحقيقه طالما ظلت الإنترنت شبكة خاضعة لسيطرة أباطرة المعلومات الذي يمتلكون كل أسرارها وقوتها وجوهرها ويرمون بالقشور إلى الباقيين وذلك أيضا للاستهلاك التجاري، لذلك يرى معارضو الإنترنت ان: مجتمع الإنترنت إنما يمثل ثقافة المجتمعات الرأسمالية ومنتدى أصحاب البشرة البيضاء والذين يتكلمون بالإنجليزية ومعظمهم من الأمريكيين وان فكرة الديمقراطية الإلكترونية تعبر عن مفهوم الهيمنة الغربية الذي يرى نفسه فوق الجميع ويستغل الإنترنت للترويج لثقافة المنافسة الحرة والمشروعات الفردية، ويقول أنصار هذه الرؤية ان الحديث عن الديمقراطية اون لاين online يجب ان يسبقه الحديث عن حقوق الأفراد الذين هم في مواقع الoff-line فلم تتوفر لعدد كبير من الجمهور فرص تعليمية كافية ولا إمكانيات إتصالية للدخول إلى هذا العالم الافتراضي أو يصبحوا ضمن مواطني مجتمع الويب، فعدد مستخدمي الإنترنت وفقا للتقديرات لا يتجاوز 175 مليونا مستخدم فأين هذا من المليارات البشرية.ومع القوة التي تتمتع بها الرأسمالية فان فسحة المعلوماتية تضيق في وجه الأكثرية وتحجب عنها شمس الحرية التي تحلم بها، لان: دخول الشركات الكبرى إلى عالم الإنترنت يمنع ويحد من دور الأفراد والجماعات الصغيرة في المنافسة مع ارتفاع التكاليف وقلة زوار المواقع الفردية التي لا تتمتع بمواقع مغرية مثل مواقع الشركات الكبيرة، فالإنترنت قاصرة على نخبة مميزة وعلى شركات أعمال ضخمة تستغل المشتركين وتذبح المفهوم الجماهيري للديمقراطية، ومع غلبة الفعل المادي قد يخرج عدد كبير من المنافسين من ساحة الحوار الإلكتروني. ان الحكومات والشركات الكبرى بدأت بلعب دور حارس البوابة التقليدي مع تزايد مساحة التواجد التجاري الذي قفز في سنوات قليلة من 2% إلى 80% مدعوما بثقافة الترفيه وهو أمر ضد مفهوم الديمقراطية التي هي ليست سلعة تباع وتشترى وانما هي فلسفة وطريقة حياة، لذلك فان جل اهتمامهم الآن هو تحويل مستخدمي الإنترنت إلى مستهلكين وهو أمر يحولها إلى متجر إلكتروني وليس إلى منتدى سياسي.ان الإنترنت تمثل ذلك المجتمع المعلوماتي الجديد ولكنه مجتمع منغلق على نفسه لا يلبي إلا رغبات ومصالح النخبة التي تديره وتستخدمه، وهو بالتالي لا ينشر إلا الثقافة والمعلومة التي تسير في إطار ثقافته، وبعبارة أخرى فان مجتمع الإنترنت يسير في اتجاه التعليب الإعلامي المسيّر في اغلبه إلا في بعض الموارد القليلة التي ينفرد فيها أفراد أو جماعات للتعبير عن آراءهم ولكنها تبقى صيحة خافتة في وسط صحراء شاسعة.هذا الأمر ينعكس علينا عندما نشعر بمدى ضياعنا في ذلك المجتمع المعلوماتي المعقد فالإحصاءات تشير إلى ان المواقع التي تنتشر على صفحات شبكة الإنترنت يمثل منها 82% من المواد باللغة الإنجليزية، و4% باللغة الألمانية، و1،6% باللغة اليابانية، و1،3% باللغة الفرنسية، و1% باللغة الأسبانية، والباقي موزع بين باقي لغات العالم واغلبها لغات أوربية.
ان ملامح واوجه المجتمع المعلوماتي يؤكد ان الإعصار الكبير سوف يجتاح الأمم وسوف يستأصل كل أسسه الفكرية والعقائدية والثقافية ويحولها إلى قطيع إلكتروني يستهلك ما تنتجه تلك الدول. وهذا التحدي يستدعينا لمواجهة هذا الإعصار والوقوف بصمود أمامه لا بقطيعته وسد ابوابه بشكل مطلق اذ ان الانغلاق مستحيل في عالم مفتوح جدا، وانما بامتلاك أسلحة المعرفة امتلاكا حقيقيا قائما على الوعي السليم والاستفادة الناضجة من ادواتها لتحقيق النشر المعلوماتي الهادف في خير البشرية وسعادتها.
ادعوكم الى موقعي المتواضع
WWW.SRMDNET2.JEERAN.COM