في الأسبوع الماضي، استضافني مشكورا ، مركز دار السلام في العاصمة الاميركية وا شنطن لإلقاء محاضرة حول العراق بعنوان (العراق... بين مخاطر الماضي وتحديات الحاضر وآفاق المستقبل) حضرها جمع من العراقيين،الواعين والمتنورين والحريصين والمتحمسين.
شعرت أن الندوة تحولت إلى ورشة عمل بكل معنى الكلمة ، لا ادري لماذا؟ ربما لان النقاط التي أثرتها في محاضرتي كانت بالنسبة للحضور في غاية الحساسية والأهمية ،أو لان حرص الحضور وتحمسهم لبلورة
قناعات مشتركة إزاء وطنهم وشعبهم من اجل الإسراع في الانتقال إلى مرحلة بناء العراق الجديد بعد عقود القمع والإرهاب والاستبداد والديكتاتورية ، هي التي دفعتهم لان يشاركوا في المداخلات التي لا أبالغ إذا قلت أن كل واحدة منها تستحق أن تكون مادة لندوة مستقلة ،أو مقالا ينشر على مواقع الانترنيت أو في الصحف اليومية ، لثراء مادتها وعمق نظرتها وتحليلها.
في المحور الأول ،قلت أن العراق الذي ابتلي بنظام استبدادي شمولي استثنائي ،ابتلي كذلك بالاحتلال الذي كان وللأسف ، الطريقة الاستثنائية لتغيير الأوضاع (طريقة استثنائية لتغيير نظام استثنائي) ، ولذلك فان العراق وشعبه ورث من الماضي ، وبسبب سياسات النظام البائد التدميرية ، عدة مخاطر حقيقية أهمها :
أولا: بلد مدمر على كل المستويات ، مدنيا ، اقتصاديا ، اجتماعيا ، وغير ذلك ، لان النظام المقبور بدد المال العام وصرف واردات العراق على عمليات التدمير المنظمة لكل شئ ، كما صرفها على بناء ترسانة أسلحة الدمار الشامل التي كان العراقيون أول وأعظم ضحاياها ، كما صرفها على بناء الأجهزة القمعية وشن الحروب العبثية .
ثانيا: احتقانات عرقية وطائفية ، بسبب التمييز الطائفي والعرقي الذي كان يمارسه ويكرسه النظام البائد ، بالإضافة إلى سياسات التعريب والتهجير والاستيلاء على الممتلكات وتوزيعها وبيعها إلى آخرين.
ثالثا:مخلفات أخطاء قاتلة ارتكبها النظام المقبور ، والتي كان يحاول في كل مرة يشعر بدنو نهايته ، اثر كل فشل أو هزيمة ، تصحيح مساراتها بتقديم تنازلات سيادية لإرضاء الآخرين وإنقاذ رأسه من المقصلة والحفاظ على سلطته ، فبسبب حربه العنصرية ضد الكرد في شمال العراق تنازل لشاه إيران المقبور عن سيادة العراق على أجزاء هامة من شط العرب في إطار توقيعه على اتفاقية الجزائر عام 1975.
كذلك ، فبسبب حربه العدوانية ضد الجارة إيران واحتلاله للجارة الكويت ، وحرب الخليج الثانية ،
ومماطلته في تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة بشروط وقفها ، إن كل هذه الأخطاء القاتلة خلفت للعراق وشعبه مصاعب جمة تتعلق بالحدود والتعويضات بالإضافة إلى ذات القرارات الدولية المثقلة بالمخاطر ، سيكون من الصعب جدا على العراقيين تجاوزها والتخلص من آثارها المدمرة قبل أن تمر مدة طويلة من الزمن .
في المحور الثاني ، قلت أن من ابرز تحديات الحاضر ، والتي هي نتيجة طبيعية كذلك لسياسات النظام التدميرية ، هي :
أولا : الاحتلال ،وما يؤثر على السيادة الوطنية وعلى شكل النظام السياسي الجديد بالإضافة إلى تداعياته على كتابة الدستور للعراق الجديد .
ثانيا : الاقتتال ، وهو من اخطر ما يواجهه الشعب العراقي من تحد داخلي بسبب القنابل الموقوتة التي زرعها النظام البائد قبل أن يرحل بظله الثقيل عن العراق وشعبه .
ثالثا : الإرهاب ، بسبب الانفلات الأمني وغياب أية مراقبة على طول الحدود العراقية مع جيرانه ، والذي منح عصابات الإرهاب المنظم فرصة لفك الطوق والحصار الذي ربما كاد أن يأتي عليها ويخنقها ويقضي عليها في دول الجوار كالسعودية وأفغانستان وا لباكستان وإيران وغيرها ، والتسلل إلى العراق الذي اعتبرته ساحة حرب مفتوحة مع الاميركان من جانب ومع القوى السياسية والمذاهب الدينية التي تختلف معها بشكل أو بآخر ( قلت هذا الكلام قبل أربعة أيام من وقوع الجريمة البشعة التي شهدتها مدينة النجف الأشرف يوم الجمعة الماضية والتي أودت بحياة الشهيد الحكيم والمئات من الأبرياء ) ، كما تعتبر العراق ملاذا آمنا جديدا لها .
رابعا: تحدي المخدرات التي بدأت تتسلل إلى العراق بشكل رهيب، إذ استغلت عصابات وتجار ومافيا المخدرات ، كذلك ، الظروف الأمنية السيئة وانفلات السيطرة على الحدود ، لتهجم على العراق وتنتشر في مختلف المناطق ، لتزرع الموت والدمار والتفسخ الاجتماعي والقتل والتدمير الذي تخلفه عادة المخدرات في كل بلد تحل فيه .
انه تحد كبير ، قد يكون العراق أرضية خصبة لنموه بسبب الظروف الاقتصادية والبطالة القاتلة التي يعيشها العراقيون اليوم ، والتي يستغلها عادة تجار الموت (المخدرات) في مثل هذه الظروف بالإضافة إلى الأسباب المذكورة أعلاه .
خامسا : هنالك كذلك تحدي بناء هيكلية الدولة الجديدة ، فبعد عقود طويلة من الزمن غابت فيها عن العراق كل مقومات الدولة العصرية والنظام الحضاري التقدمي ، يقف اليوم العراقيون أمام تحديات بناء دولة جديدة تحترم الإنسان وحقوقه كما تحترم إرادة المواطن وحريته ورأيه ، ولذلك فإنهم أمام تحديات خطيرة وهامة ستؤسس لمستقبل هو الأول من نوعه ، وذلك في إطار تحديات هيكلية بناء الدولة الجديدة والتي منها تحديات (صياغة الدستور ) و(نوعية النظام الإداري والسياسي) و(الفيدرالية وأسسها ونوعها)و(موقع الدين والمؤسسات الدينية من بناء الدولة الجديدة) وغير ذلك من القضايا الاستراتيجية التي يناقشها العراقيون اليوم لأول مرة في حياتهم ، والتي تحتاج إلى الحكمة والتاني وسعة الصدر والتواضع ووضع المصلحة العليا فوق أي اعتبار آخر ، ليأتي البناء سليما معافى ، وقبل ذلك ، لتأتي المناقشات والمداولات والحوارات سليمة من دون ضحايا أو مشاكل .
أما في المحور الثالث ، فقد قلت أن آفاق المستقبل والتي يمكن تلخيصها بالأمل الذي يحدو كل العراقيين في بناء عراق ديمقراطي يأخذ الخصوصية بنظر الاعتبار ، تبشر بالخير، وأضفت ،انه يجب أن تكون النتيجة التي سيحصل عليها العراق والعراقيون ضخمة وقيّمة تساوي وتعادل الثمن الباهض الذي دفعه العراقيون طوال أكثر من ثلاثة عقود من الزمن ، والذي كان بحق ثمنا غاليا جدا لا يجوز التفريط به أو نسيانه وتجاوزه ، إذ ستأتي النتائج باهتة وغير مشجعة .
ومن اجل الإسراع في انتزاع سيادة العراق من المحتل وإعادة بناء الدولة العراقية الجديدة ، وكذلك إعادة بناء العراق المدمر ،اقترحت ما يلي :
أولا: صناعة مجموعات الرأي العام في داخل العراق من قبل العراقيين الذين عاشوا تجارب الحرية والديمقراطية والتعددية واحترام الآخر والتنمية ، لنقل هذه التجارب الإنسانية إلى اكبر عدد ممكن من العراقيين في داخل العراق ، من اجل إشاعة كل المفاهيم الحضارية والإنسانية التي تساهم في بناء العراق الجديد ، والمجتمع المدني ، فالنظام الديمقراطي لا يمكن تأسيسه بليلة وضحاها ، خاصة في ظروف بلد كالعراق الذي خرج للتو من تحت ركام وأنقاض نظام شمولي مدمر طال عهده خمسة وثلاثين عاما.
كذلك ، فكما أن للديكتاتورية ثمن تدفعه الشعوب ، كذلك فان للديمقراطية ثمن يجب أن يدفعه العراقيون قبل التلذذ بنعيمها ومزاياها الجمة .
ثانيا: صناعة مجموعات ضغط في الخارج وبالذات في الولايات المتحدة الاميركية من قبل العراقيين ، كذلك للتأثير على وجهة سير الأحداث في داخل العراق من جانب ، وللدفع باتجاه تبني السياسات الصحيحة التي يراها العراقيون والذين هم اعرف بالعراق وظروفه وحاجاته وخصوصياته من الاميركيين وغيرهم ، من اجل التقليل قدر الامكان وبالتالي وضع حد للأخطاء القاتلة في بعض الأحيان التي يرتكبها الاحتلال في العراق ، وكل ذلك في سبيل تسريع الخطى الرامية إلى إعادة صياغة وبناء العراق الجديد.
بالإضافة إلى ذلك ، فان صناعة مثل هذه المجاميع العراقية في الخارج سيساهم في مشاركتهم في عملية إعادة البناء والأعمار كما سيساهم في تسريع عملية انتزاع السيادة .
المداخلات التي جاءت من قبل الحضور الكريم على القضايا والمواضيع التي طرحتها في المحاضرة كانت قيمة لدرجة أنها تستحق أن افرد لها مقالا خاصا ، إذ لا يمكن استيعابها هنا وبهذه العجالة ،ولكن (ما لا يدرك كله لا يترك جله) لذلك اكتفي بذكر ما يلي :
إحدى المداخلات أشارت إلى فكرة هامة جدا تقول، أن للعراقيين اليوم في الخارج فرصة توضيح حقيقة على غاية من الأهمية ربما غابت عن الكثيرين ، وهي أن تضحيات الشعب العراقي العظيمة هي التي أسقطت النظام البائد بالفعل العسكري الاميركي ، إذ لولا هذه التضحيات التي جاءت على يد النظام البائد بالقتل والاغتيال والمقابر الجماعية ، لما فكر الاميركيون في إسقاط النظام الديكتاتوري ، حتى يصححوا الفكرة التي تقول بان الاميركيين منّوا عليهم بإسقاط النظام من دون ان يفعل العراقيون شيئا بهذا الصدد .
مداخلة أخرى علقت على مخاطر المخدرات ، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وامنيا ، بشواهد وإحصائيات علمية دقيقة ، فيما أ شارت كذلك إلى لزوم التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة وهي في المهد قبل أن تستفحل ، من خلال مطالبة دول الجوار وقوات الاحتلال بمراقبة الحدود ، كما يلزم القيام بحملة إعلامية واسعة وسريعة للكشف عن هذا التحدي الخطير ، لالفات أنظار العالم والعراقيين إليه .
مداخلة ثالثة قالت ، إن من المهم أن نتحدث أولا عن إثبات العراقيين لقدرتهم على إدارة أنفسهم وبلدهم قبل أن نطالب برحيل الاحتلال ، على اعتبار أن أي إنجاز واثبات وجود يسجله العراقيون يقصر من عمر الاحتلال ، زمنا معينا .
[email protected]