|
ماريو بارغاس يوسّا: كنت أحاول أن أذكِّر نفسي بأن ما أراه هنا سطحي ومزيَّف
عماد فؤاد
الحوار المتمدن-العدد: 1920 - 2007 / 5 / 19 - 05:29
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
جاء هذا الكتاب نتيجة رحلة استمرت إثنى عشر يوماً فقط، قام بها الروائي البيروفي الشهير "ماريو بارغاس يوسا" إلى العراق، بدأت في 25 يونيو وانتهت في السادس من يوليو 2003، ورغم أن هذه اليوميات التي جمعها "يوسا" تحت عنوان "يوميات من العراق" وصدرت في الأسبانية أواخر العام الماضي، لاقت اهتمام العديد من وسائل الإعلام العالمية ونشرت في عشرات المجلات والصحف سواء في أوربا أو أمريكا اللاتينية، إلا أننا لم نسمع بها في عالمنا العربي حتى الآن، على الرغم من ترجمة الكتاب إلى العديد من اللغات الأخرى، منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والهولندية، وكانت أحدث هذه الترجمات هي اللغة الهولندية والتي صدرت في شهر مارس الماضي عن دار نشر “Meulenhoff” بأمستردام، وهي النسخة التي ننقل عنها الجزء المنشور مع المقالة من الكتاب. كتب "يوسا" هذه اليوميات بسرعة شديدة على حد تعبيره في مقدمته للكتاب، ولكنه عندما عاد إلى أسبانيا حيث يعيش حالياً، أدخل عليها العديد من التعديلات والإضافات، ونشرها مسلسلة في البداية في صحيفة "الباييس" الأسبانية واسعة الانتشار منذ شهر أغسطس 2003، ولأن كثير من الجرائد التي أقدمت على نشر يوميات "يوسا" فيما بعد لم تكن أمينة على نصه كما فعلت الباييس، حيث حذفت الكثير من الصحف والجرائد التي قامت بترجمة حلقات يوميات "يوسا" عن الصحف الأسبانية العديد من الفقرات الهامة، فقد رأى صاحب "دفاتر دون ريغو بيرتو" و"مديح زوجة الأب" جمع يومياته العراقية في كتاب، كي تكون آراءه واضحة كما يريد لها، وأضاف على اليوميات التي تتكون من ثمانية فصول أربع دراسات له عن الحرب الأمريكية على العراق، كان قد نشر ثلاثاً منها قبل قيامه بالرحلة، والرابعة كتبها بعد الاعتداء على مركز الأمم المتحدة في بغداد في أغسطس الماضي، ومن يقرأ الكتاب كاملاً سيجد أن "ماريو بارغاس يوسا" يعبر عن رأي مناقض تماماً لما عرف عنه قبل الغزو الأميركي للعراق، حيث لم يعد ضد الحرب الأمريكية ضد العراق كما كان يعلن قبل قيامه بالرحلة من خلال مقالاته الأسبوعية في الصحف الأسبانية، وهو ما يشرحه الكاتب في يومياته من خلال شروح عديدة ومستفيضة، يضيق المجال عن إيرادها هنا. قسم "يوسا" كتابه إلى جزأين رئيسيين، الأول يضم يومياته عن العراق، والتي جاءت في ثمانية فصول، كانت عناوينها على النحو التالي: "الحرية البربرية"، "الناس في بغداد"، "المتدينين"، "ناهبون وكتب"، "فاصوليا بيضاء"، "عطيل .. من اليمين إلى اليسار"، "الأكراد"، "الرجل الثاني"، أما القسم الثاني فيضم دراساته الأربع عن الحرب على العراق، والتي حملت عناوين: "كوارث الحرب"، "بقّ الوبر"، "ديموقراطية الأطلال"، "ميت في درعه"، كما ضم الكتاب العديد من الصور الفوتوغرافية التي التقطتها "مورجانا" ابنة يوسا، والتي كانت فيما يبدو سبباً آخر لقيام الكاتب العالمي برحلته هذه إلى العراق، حيث كانت تعمل في بغداد قبل شهرين من قيام والدها برحلته، والمعروف أنها مصورة صحافية من مواليد العام 1974، عملت في العديد من الصحف الشهيرة في أسبانيا وفرنسا وبريطانيا، منها "الباييس" و"باريس ماتش" وغيرها، كما عملت لعدة سنوات في منظمة اليونيسيف العالمية، وفي العراق كانت مورجانا بارغاس يوسا تعمل ضمن فريق مؤسسة “Iberoamérica-Europa” كمصورة فوتوغرافية لأحداث الحرب الأمريكية البريطانية على العراق، والنص الذي ننقله هنا، هو الفصل السابع من يوميات ماريو بارغاس يوسا العراقية، والذي عنونه الكاتب بـ"الأكراد".
الأكراد ماريو بارغاس يوسا
ترجمها عن الهولندية: عماد فؤاد وليسبت فانهيه
عندما تسافر من بغداد إلى كردستان العراقية في الشمال، يتغير الفضاء المحيط بك، كما تتغير اللغة والثقافة، والآن تتغير مناظر القرى وأشباه المدن التي تراها من حين إلى آخر، بعد مسيرة أربع ساعات في الصحراء المنبسطة القاحلة، ستجد قرى البدو الرحل متناثرة هنا وهناك، أو بقايا حطام دبابة أو جثث عربات جيش مصفحة، ستجد في الفضاء المترامي أمامك جبال كردستان، نحن الآن في منطقة البترول حول مدينة كركوك، وعندما تترك المدينة خلفك وتسير جهة السليمانية، ستجد الطرق تصعد بك نحو قمة أرضية منبسطة، والخضرة تزداد على ضفتي الطريق كلما مضيت في مسيرك، سوف تمرَّ على غابات من أشجار الصنوبر وجداول مياه صغيرة، وعلى حدود هذه الغابات ستجد فلاحين يعملون في أراضيهم، لهم بشرة محروقة وتجاعيد غائرة، ونظرات عيونهم لا تحدها أزمنة، لن تظن أنه كانت هناك حرباً دائرة في البلاد، وهي الفكرة التي تزداد أكثر وأكثر في السليمانية ذاتها، مدينة ذات شكل لطيف، لها شوارع نظيفة وواسعة تحيط بها الأشجار من كل جانب، شرطة المرور تتواجد في كل مكان، وفتياتها يرتدين ملابسهن على الطرز الغربية، محلات انترنت كافيه، ماكدونالد، وغابة حقيقية من أطباق الستالايت تحتل أسطح البيوت، كنت أعرف أن الحرب لم تصل بعد إلى السليمانية، لكنني لم أكن أتوقع الأمور على النحو الذي رأيته هنا، لم أتوقع أيضاً رؤية لافتات تحمل عبارات شكر للرئيس الأميركي "جورج بوش" لتحريره العراق، أو لافتات أخرى ترحب بـ "بول بيريمر"، المسئول الأميركي الذي زار البلاد منذ وقت قصير لكي يلتقي قائدي الحكومتين الكرديتين اللتين فصلتا عن العراق في ظل الحرب الدائرة الآن، حزب "الاتحاد الوطني الكردستاني" في السليمانية بقيادة جلال طالباني، و"الحزب الديموقراطي الكردستاني" في مدينة أربيل التي تقع أقصى الشمال بقيادة مسعود البارزاني، الخصومة القوية التي تجمعهما (في العام 1994 قتل في الصراع والمعارك الطاحنة بينهما أكثر من ثلاثة آلاف قتيل) أضعفت مركز الأكراد الذين يبلغ تعدادهم أقل من أربعة ملايين نسمة (يمثلون 20 % من مجمل تعداد الشعب العراقي) بقوة، صدام حسين الذي اضطهدهم بشكل منظم ومنهجي إبَّان ثورتهم عليه ثلاث مرات (1975 – 1988 – 1991) ضربهم بيد من حديد، كان الأكراد يقاومون تعريب قراهم عنوةً من قِبَلهِ بضراوة، لكنه كان يجبرهم على الرحيل عن ديارهم أو قتلهم وإسكان عرب سنيين في منازلهم، في مارس 1988 أطلق صدام الغاز على عدة آلاف من الأكراد في قرية "حلبجة"، وقتل أكثر من أربعة آلاف شخص منهم بالسلاح الكيماوي. لكن عندما تسير الآن في شوارع السليمانية، سيبدو لك أن كل ما رويناه سابقاً وتقشعر له الأبدان هو ماض سحيق، لن ترى ظلاً لجندي أميركي هنا، (قيل لي إنهم يرتدون ملابس مدنية ويجلسون في المقاهي والمطاعم ويحاولون التآخي مع الشعب المحلي من الأكراد، هكذا حكى لي "شالاو عسكري")، العسكر الوحيدون الذين ستراهم هنا هم المحاربون المحليون (جنود البشمرجة)، الذين يحاربون من أجل حرية الأكراد، والذين يرتدون أزياء شبه موحدة؛ سراويل فضفاضة وعمائم ضخمة وثقيلة ذات أشكال باروكية، وكأنهم سرقوا وحي أزيائهم من بورتريهات "رمبرانت" التي رسمها لنفسه، وكأحزمة تلف أجسادهم وضعوا أقمشة عريضة مطرزة حول خصورهم. بعد حرب الخليج الأولى، تغير شمال العراق بأكمله، وتحول إلى منطقة كردية ذات حكم ذاتي مستقل لم يكن لصدام حسين عليها أية سيطرة، استخدم الأكراد الحكم الذاتي خلال أكثر من إثنى عشر عاماً بشكل ناجح وفعال، لم يكونوا قادرين فقط على تكوين حكومة خاصة بهم للمرة الأولى في تاريخهم، بل استطاعوا أيضاً أن يبنوا ازدهاراً اقتصادياً هائلاً، وهو ما يبدو بشدة في السليمانية؛ المباني السكنية الجديدة، المحلات المملوءة بالبضائع المستوردة من شتى أنحاء العالم، خيمات المشروبات الغازية في الميادين، المقاهي والمطاعم العديدة التي تزدحم بها شوارع المدينة، لكن رغم كل هذا، لن يسمع الأجنبي الذي يمرّ بالمدينة من أي من سكانها الأكراد أنهم يريدون الاستقلال عن العراق، هم يكررون في كورال متناغم أنهم يريدون أن يبقوا ضمن العراق الديموقراطي الاتحادي، الذي يضمن لهم استمرار حكمهم الذاتي الذي بدأ قبل إثنى عشر عاماً على السليمانية، هم يعرفون ويدركون جيداً الخوف الذي تشعر به تركيا حيال فكرة كردستان مستقل، لأن بها إثنى عشر مليون كردي يعيشون على أراضيها وغير راضين عن سياسة الحكومة التركية تجاههم. كل ما سبق شُرح لي بإنجليزية "شالاو عسكري" المتقنة (درس في أميركا وانجلترا)، وهو الوزير الشاب والنشط للعلاقات الخارجية في حكومة جلال طالباني، قابلني بترحاب بدلاً من رئيسه، في الحقيقة كنت على موعد مع جلال طالباني، لكنه اضطر للسفر فجأة إلى موسكو، (من قديم كان حزبه ماركسي، وكان يحصل على دعم كبير من السوفييت، لكن الحزب غيَّر اتجاهه إلى فجأة إلى الرأسمالية، والآن أصبح حليفاً مناضلاً مع دول التحالف التي تقودها أميركا، في الحرب الماضية كان الأمريكيون يعملون بشكل يكاد يكون متحداً مع البشمرجة، لذلك خرجت المنطقة من الغزو الأمريكي للعراق دون أضرار تذكر). "نحن نعتبر أميركا دولة صديقة، فهم محررو العراق، ونحن نشكرهم لأنهم أزاحوا الطاغية"، يقول لي "عسكري"، الذي أستطيع أن أتحدث معه الآن دون ضغوط، لكن عندما وصلت منذ دقائق قليلة إلى مكتبه، أصابتني الدهشة، الوزير كان ينتظرني وفي صحبته عدداً من المستشارين ورجال الأعمال والمقاولين، وأدركت على الفور أن بينهم سوء تفاهم كبير بسببي، فـ"عسكري" ومن معه كانوا يتوقعون أنهم سيروا شخصاً يعمل في مجال توظيف رؤوس الأموال، يمنحهم مبالغ طائلة للمشاركة في إعادة إعمار وتطوير المنطقة الكردستانية التي يقطنونها! بدأوا مباشرة بمحاولات إقناعي بأهمية ما لديهم: "مستشفى يضم 400 سرير على أن تتكفل الحكومة بتوفير الأرض وتصميمات البناء (التي من الممكن لي أن أطلع عليها إن شئت)، والتي لن تتكلف سوى 40 مليون دولار، مجزرة كبيرة للحيوانات في السليمانية ستتكلف 14 مليون دولار فقط". ما حزَّ في قلبي وآلمني هو أنني مضطر أن أقول لهم: "إنني لست إلا مندوباً عن نفسي فقط، وإنني كاتب من أمريكا الجنوبية جاء ليكتب عن الأوضاع في البلاد بعد زوال حكم صدام حسين"، بدا الوزير الشاب "شالاو عسكري" ممتقع الوجه وهو يجاهد كي يبتلع ريقه الجاف (ما الذي كان في استطاعته أن يفعله سوى محاولة الابتسام): "نحن الأكراد تعلمنا الدرس"، حكى لي: "لذلك لا نريد أن نستمر في مواصلة اجترار أحزاننا على عذابات شعبنا تحت حكم الديكتاتور، أو الاختلافات العديدة التي تشق صفنا نحن الأكراد والتي أساءت لموقفنا أمام عيون العالم، لكننا نريد أن نشترك في بناء عراق ديموقراطي حر لنحيا في سلام مع بقية الشعوب الأخرى، نحن نطبق هذا في كردستان منذ إثنى عشر عاماً، ألم نعد نحترم التركمان هنا (أقلية صغيرة تتحدث التركية في شمال العراق)، وأصبحت لهم كافة الحقوق في نشر وقول ما يريدون، ألا تتمتع أحزابهم السياسية بكافة الحريات، إذن علينا أن نمنح التيارات الأخرى نفس الحقوق والحريات، الشيعيين والسنيين والمسيحيين وكافة الأديان في هذا البلد، هناك متسع للجميع، نحن مجرد تخطيط مبدئي لما سيكون عليه عراق المستقبل". عندما أسأل "شالاو عسكري" عما إذا كان حزب جلال طالباني سيكون جزءاً من مجلس الحكم العراقي الذي يشرف "بول بيريمر" على تكوينه حالياً، يؤكد لي أنهم اتفقوا على هذه النقطة تحديداً خلال الزيارة التي قام بها "بول بيريمر" مؤخراً إلى كردستان، (وهو ما تأكد لي بعد أيام قلائل، حيث كان اسمي جلال طالباني ومسعود بارزاني في مقدمة الأسماء التي تعلنها وسائل الإعلام للساسة العراقيين المرشحين لتولي مراكز مهمة في مجلس الحكم العراقي المرتقب). "الكلمة الأساس للسلام هي العمل"، هذا هو رأي "شالاو عسكري"، صاحب القامة الممشوقة، الإيجابي، والمتفاني في عمله، عندما كان يتحدث كان يحرك يديه بشكل مستمر ليؤكد على أهمية كلماته كما يفعل الإيطاليون: "عندما يجد كل العاطلون عملاً لهم سيختفي التطرف الإسلامي ويذوب مثل كرة هشة من الثلج، فعندما لا يكون لديك ما تفعله في يومك يكون من السهل عليك أن تذهب خمس مرات إلى المسجد، وتصبح نفسك سجينة الكلمات التي تسمعها هناك، لكن عندما تعمل ثمانية ساعات في اليوم، إضافة إلى الوقت الذي يقطعه ذهابك وإيابك من العمل، والوقت الذي تقضيه مع أسرتك، فلن يصبح الدين هو الشيء الوحيد في حياتك، تستطيع أن تقول إنك هكذا لن تملك الوقت الكافي لكي تصبح إرهابياً، الأفكار الملتوية في رأسك ستختفي وتنفتح روحك لأفكار حديثة وحرة". في رأي "عسكري"، أن العنف الذي بدأ في الفترة الأخيرة ضد قوات التحالف (الهجمات والكمائن التي صارت تسلب يومياً حياة واحد أو أكثر من الجنود الأمريكيين) ليست فقط من عمل بقايا الحرس الجمهوري العراقي، وإنما تشير بإصبع الاتهام أيضاً إلى قوات كوماندوز أجنبية أرسلت من قبل تنظيم القاعدة، وإلى الإرهابيين الإيرانيين الذين يحصلون على دعم دوائر المحافظين هناك: "يخشى شيوخ المحافظين في إيران أكثر من أي شخص آخر في العالم مجيء عراق ديموقراطي حر، لكنهم في الوقت نفسه مؤمنون بأن أمريكا ستجتاح بلادهم إن عاجلاً أو آجلاً، ومن ثم قرروا أن يجعلوا الحرب تنفجر أولاً في العراق". لكن "عسكري" موقن بأنه لو بني استقرار وتفاهم بين التحالف والحكومة العراقية المزمع تكوينها فسوف يستطيعان سوياً تحطيم القوى الإرهابية الأخرى في الجوار. يرسم الوزير الشاب حلمه الذي لا يشك فيه: "عراق حرفيين وتقنيين منفتحين على ثقافات العالم ومحررين من العقائد السياسية والدينية، بلد يجذب رؤوس الأموال من كل أنحاء العالم لتوظيف ثرواته وإمكانياته المهولة، وطن توفر فيه الحرية والعدل التسامح المتبادل بين الفئات المختلفة، عراق يكون محركه الأساسي هو المجال الخاص"، يقول "عسكري" جملته الأخيرة وهو يشير إلى المقاولين الذين يحيطون به، والذين بدوا وكأنهم شمروا عن سواعدهم استعداداً للعمل رغم المشاكل الكبيرة التي تقابل المستثمرين هنا، ذلك لأن الموقف ليس واضحاً بعد، بل إنه محير، فليس هناك بنوك تعمل بشكل جيد، حتى أنه ليس هناك عملة موحدة للعراق نفسه حتى الآن، فهنا في كردستان لن تجد دنانير تحمل صورة صدام حسين كما هو الحال في كل أنحاء العراق، بل ستجدهم يتعاملون بعملات مختلفة كانت موجودة قبل مجيء صدام للحكم، (في الحقيقة تغير الاقتصاد المحلي هنا بسرعة شديدة نحو الدولار). يتحدث "عسكري" بحرصٍ حين أسأله: "هل صحيح أن جلال طالباني ومسعود بارزاني قدما وعداً لـ"بول بيريمر" بأن يوحدا حكومتيهما (في السليمانية وأربيل) في حكومة واحدة؟، لكي يتحدث الأكراد في الحكومة المستقبلية للعراق التي من المنتظر لها أن تتكون بصوت واحد ممثل للأكراد في قلب بغداد، وكنت أعلم أن "بول بيريمر" جاء ليناقش هذه النقطة تحديداً مع الشقيقين العدوين طالباني وبارزاني، يقول "عسكري": "نحن نعمل سوياً واختلافات الرأي القديمة تذوب بيننا شيئاً فشيئاً، إرادة أن نتوحد موجودة، الأمر فقط مسألة وقت"، كنت أسمع الحروف تخرج من فمه ضعيفة ومكسورة، وكانت المرة الوحيدة في محادثاتنا الطويلة التي أشعر فيها بأن الوزير الشاب يتحدث معي بشكل رسمي. لكنني أوقن أن "عسكري" كان صريحاً معي عندما قال إن طالباني وبارزاني لا يريدان كردستان مستقل عن العراق، وهو ما ستقاومه الحكومة التركية بكل الوسائل: "جميع الأكراد متفقون على هذه النقطة، نحن لا نناضل من أجل انفصال، بل نريد أن نبقى جزءاً من العراق الذي يحترم حقوقنا"، ويضيف عسكري ملمِّحاً: "ألم ترتكب تركيا حماقة، كان من الممكن لها أن تحصل على 40 مليار دولار من الأمريكان لو سمحت لقوات التحالف بالعبور عبر أراضيها لتحرير العراق، أليست هذه حماقة كبرى، فإضافة إلى المال كانوا سيحصلون على حليف قوي ممثلاً في الأمريكيين، مؤكد أنها خسارة فادحة لهم". "كيف تستطيع أصلاً أن تنفذ أعمالاً تجارية في هذه الفوضى؟"، أسأل الوزير الشاب، لكن "ناجي الجاف" أحد المقاولين الواقفين معه، يضحك متهللاً وهو يقول: "غداً سننتظر هنا وفداً من رجال بنوك سويسرا الذين استطعنا إقناعهم بافتتاح بنك في السليمانية"، ويذكرني الوزير الشاب بأن الرأسمالية تجري دائماً مثل نهر نحو الأماكن التي بها ربح، والأماكن التي تتمتع بموقف مستقر، ويضيف واثقاً: "ونحن نملك الشرطين". بعد انتهاء المناقشة، أخذني "ناجي الجاف" معه إلى ما وصفه بأنه "جنة صغيرة"، ولم يزد في الشرح، تحيط بالسليمانية هضبة خضراء ناعمة الحواف، سلكنا في البداية طريقاً حديثة أوصلتنا إلى غابة من أشجار الصنوبر، ومنها صعدنا إلى إحدى قمم الهضبة، من هناك تستطيع أن ترى منظراً بديعاً للمنطقة الواسعة في الأسفل، في الأفق سترى السليمانية مترامية الأطراف وشاسعة، تزينها الأنوار الأولى التي بدأت تشعل في بيوت المدينة الصغيرة البيضاء التي تحيط بها الأشجار من كل جانب، من هذا الارتفاع تختفي حدة الحرارة التي تخنقك في الأسفل وتسمح بعبور قليل من الهواء المنعش ذو الرائحة الصمغية، أسر عديدة وفرق أصدقاء أغلبهم من الشباب اختاروا أسفل الشجيرات تحت الهضبة مكاناً لمؤانساتهم، أشعل أغلبهم ناراً يطبخون عليها عشائهم وفي الوقت نفسه يتحدثون ويشربون وأحياناً يغنون، كل مكان تنظر إليه ستجد كل شيء فيه هادئ وجميل ومسالم، كنت أحاول أن أذكر نفسي بأن ما أراه هنا سطحي ومزيف، فأنا في بلد ارتكبت فيه منذ قليل جرائم وحشية، وكثيرون ممن سيعجبون بعد قليل بالنجوم التي ستبدو لامعة في السماء (لم يسبق لي أن شاهدت كل هذا العدد المهول من النجوم اللامعة في أي مكان من العالم) سيتأسفون على من مات أو تعذب أو تشوه منهم، من ضحايا الديكتاتور الدموي صدام حسين، أو قتل الأشقاء الأعمى وسط الأكراد أنفسهم. في الصباح التالي أزور سوق السليمانية والشوارع المحيطة به، وكل من تحدثت إليه يزيد من شعوري الإيجابي الذي صرت أملكه، أن الأشياء تمضى هنا نحو الأفضل، على رغم الإرث التراجيدي الذي حدث بالأمس، والصعوبات الموجودة اليوم، فإن الأمل يحيا وسط الناس هنا، وهم مصمِّمون على أن يخلِّفوا ماضيهم البشع وراءهم وإلى الأبد. لكن قبل أن أقرر الرحيل، تقودني المصادفة إلى محادثة في الفندق مع أحد المقاولين من أربيل بصحبة فنجان قهوة قوي ومكثف، يُنزل أقدامي من جديد إلى أرض الواقع: "لا يجب أن تغادر وأنت فرح بما رأيته هنا"، يقول لي بصوت منخفض، بعد أن كنت أحكي له كم أنا متأثر بزيارتي القصيرة للسليمانية: "عليك ألا تكون ساذجاً، صحيح أن هناك تطوراً كبيرأً بالمقارنة مع الماضي الدموي، لكن تبقى هناك مشاكل جمة، الكردستان العراقي ما زال منقسماً بين حزبين يكرهان بعضهما البعض، حزبين نظم كل منهما حكومة انفرادية تريد احتكار الحكم وحدها، وكل منها تحكم منطقتها الخاصة، فهل تظن أن نظام الحزب الواحد يمكن أن يكون ديموقراطية حقيقية، أم يصبح شكلاً نسبياً وفاسداً من الديموقراطية؟، الدويلات الكردية الصغيرة معطوبة، عندما تريد أن تبدأ هنا أو في أربيل عمل استثماري عليك أن تدفع عمولات ورشاوى ضخمة لحزب الحكومة أو لقادة هذه الحكومة، هؤلاء الذين أثروا أنفسهم بشكل مجنون في السنوات الأخيرة، لأنه ليس في يد طالباني أو بارزاني أية رقابة أو سيطرة حقيقية على أعمال حكومتيهما". هذا المقاول يقول الحقيقة أم يهوِّل من الأمور؟ انتقاده موضوعي أم نتيجة سخط شخصي؟، لا أستطيع أن اكتشف هذا، ولكن عندما كنت أستقل سيارة الأجرة الجماعية المتجهة إلى بغداد، كنت أحسُّ في فمي بطعم شيء مرّ اسمه الغضب.
اسم الكتاب: Dagboek Irak اسم المؤلف: Mario en Morgana Vargas Llosa الناشر: Meulenhoff – Amsterdam الطبعة الأولى : مارس 2004
#عماد_فؤاد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
روائي مغربي هولندي يصدر -رسائل من مدينة محاصرة-: اليوم أدركت
...
-
عين بلجيكية على العراق: حين تصور العدسة ضحايا الديموقراطية
-
حركة ترجمة الأدب العربي إلى الهولندية: ثغر لا تحصى والإسلامي
...
-
حرير .. المجموعة الرَّابعة لعماد فؤاد تصدر في بيروت
-
في الظِّل الغامق لامرأةٍ لا تشبهنا
-
ديوان تقاعد زير نساء عجوز
المزيد.....
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
-
عالم سياسة نرويجي: الدعاية الغربية المعادية لروسيا قد تقود ا
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|