|
التنوير الزائف
أمل زاهد
الحوار المتمدن-العدد: 1918 - 2007 / 5 / 17 - 11:46
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مع تزاحم الأحداث واشتداد حدتها في هذه البقعة المنكوبة من الأرض ، ومع توالي الكوارث والمآسي المتدفقة علينا من بوابة الهيمنة الأمريكية وربيبتها الإسرائيلية ، وبالتحديد بعد غزو العراق ثم حرب لبنان ، ارتفعت الأصوات التي تتراشق بالاتهامات واحتدم المناخ الثقافي واكفهر بخطاب مشحون ومتشكك في مسيرة التنوير العربي وأهدافه وأيضا فيمن يحملون لواء التنوير العربي ويصنفون تحت خانته ، وارتفعت علامات الاستفهام تتساءل عن أهدافهم البعيدة والمتوارية خلف مطالباتهم بالتنوير! وفي تقديري أن الإحساس بالقهر والظلم الناتج عن غزو العراق وحرب لبنان ناهيك عما حدث ويحدث كل يوم على أرض فلسطين ساهم في ارتفاع حدة الاتهامات الموجهة للتيار الليبرالي العربي ورفع من وتيرتها. ومع تحدي بعض رموز هذا التيار السافر لمشاعر الشارع العربي ، ومع تعالي أصواتهم المتبرئة من كل ما هو عربي ، ومع تنامي إحساسهم بالخجل من الانتماء العربي ومن الهوية الإسلامية ، وأمام انبطاحهم للغرب وتبييضهم لصورته رغم ممارساته الهمجية، وأمام إلصاقهم المخزي لكل نقيصة ومسبة بالعرب والعروبة ! ومع استخذائهم ورفضهم الذليل لكل ما ينتمي لثقافة المقاومة بل استهجانهم لهذه المفردة ، كان لا بد أن ينشأ ويتكون هذا الخطاب التخويني والمتشكك في نوايا التنويريين العرب . وبينما تعالت أصوات غربية منصفة تسائل ممارسات السياسة الأمريكية وترفضها وتستهجنها ظلوا هم على غيهم ، وتمادوا في استفزازهم للمشاعر الجمعية الوطنية حتى فقدوا مصداقيتهم تماما.. بل أصبح خطابهم يستدعي سخرية الناس واستهزائهم ! وبات يقابل بالرفض التام والعزوف عن مطالعة جرائد ومطبوعات معينة انتهجت ذلك الخطاب الانهزامي والتقريعي لكل ماهو منتم للعرب والعروبة ، والمحابي بفجاجة ورعونة للمارسات الغربية الاستعمارية . ووصلت الأمور إلى ذروتها في ساحتنا الثقافية العربية واختلط الحابل بالنابل واهتزت المرئيات وصوبت الاتهامات ولم تسلم منها حتى الأصوات التنويرية الحقيقية ، وحدث غمط لمفهوم التنوير واختلط على الناس معناه وتشابك مع ما يسمى بالليبرالية العربية الجديدة ومبادئها المحتفية بكل ما هو خارج من تحت قبعة غربية ! وأصبح التراشق بالتصنيفات والمسميات إحدى سمات وملامح مشهدنا الثقافي ، وذلك لأن إحدى أكبر مآسينا يتجلى في ذلك التطرف في تبني الآراء الحدّية ، والجاهزية في إطلاق الأحكام وفي التحزبات المسبقة ومن ليس معي فهو بالضرورة ضدي ! وإذا ما اختلفت اختلافا جزئيا مع أحد المعسكرين الثقافيين في رؤيتك للأمور وقراءتك للواقع فلا بد من أن تصنف في الخانة الأخرى فتنضم إلى جوقة المنبطحين والمتنكرين للعروبة .. أو أخوانهم العلمانيين الفاسقين تارة ! أو قد يخالف رأيك المعسكر الآخر في جانب ما ، فتحشرك يد التحزبات المسبقة - بقدرة قادر- مع زمرة أولئك الظلاميين الماضويين الراغبين في ردة المثقف العربي عن طرق التنوير القويمة ! ورغم أنه من المفترض أننا أمة الوسطية ، فلا يوجد للوسط والوسطية مكان في حياتنا ! فقد ارتفعت الأصوات عالية صاخبة بعد حرب لبنان – على وجه الخصوص - لتضع التنويريين وأبناء عمومتهم الليبراليين جميعا في سلة واحدة ، ولتحشرهم جميعا أيضا مع ذات الزمرة المنحرفة المتنكرة للهوية والمتبرئة من الانتماء الإسلامي ، وأضحت العقلانية تهمة والمطالبة بحرية التعبير وصمة على جبهة المثقف ! وقد تقتلع عبارة لأحد الكتاب من سياقها لتضمينها ما لم تتضمنه ، ولتحميلها ما لم يمكن بحال أن تحتمله بغرض التصيد وليتم حشر كاتبها في زمرة السفهاء والمأفونين ! والويل كل الويل لك لو حاولت أن تطرق مواضيع معينة تم تصنيفها تحت بند التغريب والعلمنة ، ولا تحاول مطلقا مقاربة ما تم التعارف عليه أنه من مفردات التنوير وأدبيات الليبرالية كحقوق الإنسان والأقليات أو حقوق الطفل والمرأة ! وإياك أن تحارب الجهل والخرافة وإلا صنفت من أولئك الرافضين للغيبيات والمنكرين للحقائق المجردة ! ولا تطالب بالموضوعية فتلك لعمري تهمة خطيرة ، لا تلبث أن تحاكم على انتهاجها ثم يلقى بك في غيابات سجون العمالة والتخوين والإنكار والمنكرين . ولا تحاول مطلقا الدفاع عن حرية التعبير الفني أو الأدبي ، ولا تحاجج قائلا أن الأدب تصوير لواقع الحياة بكل نقائصها وبشاعتها ، وأن النصح والوعظ يقضي على المقاييس الفنية في العمل الإبداعي ، ولا بد أن تنادي بأسلمة كافة العلوم ومختلف الفنون ، وإلا وضعت في خانة الفسدة والمفسدين! واحتار المثقف العربي الحقيقي والصادق مع نفسه أي الطرق ينتهج دون أن يتعرض لحمم براكين الغضب الجامح ؟ فهو في كل الأحوال من المغضوب عليهم من أحد المعسكرين! فهو يرفض الاستلاب الغربي لثقافته والهيمنة الاستعمارية التي يشاهدها تنهش جسد وطنه العربي من أقصاه إلى أقصاه ، ولكنه في ذات الوقت يسعى حثيثا لتحقيق قيم التنوير الحقيقة والتي لا يرى فيها مساسا بأصالة هويته أو اختلافا مع جوهر دينه السمح ، بل يرى في تبنيها تحقيقا لمقاصد الدين العظيمة المؤكدة على تساوي البشر، وتعزيزا لقيم التسامح والتعددية التي نادت بها تعاليم الشريعة السمحة. وهو أيضا يرفض الخرافات والجهل والتخلف ويسعى للمساهمة في إنتاج الحضارة الحديثة وذلك بتبني المنهج العلمي وتقديس العلم والعمل والاعتزاز بالعقل الذي شرف الله سبحانه وتعالى ابن آدم به . وهو أيضا لا يرى بأسا في الأخذ بما يراه مفيدا من الحضارة الغربية ودمجه مع قيم التراث العظيمة ، مع المحافظة على تلك العلاقة الجدلية بينه وبين الغرب والواقعة في منطقة وسطى مرنة بين الانفتاح والاكتفاء ، الانفتاح الذي يبعده عن الانكفاء على ذاته والتقوقع عليها والتوجس والخوف من الآخر، والاكتفاء الذي يوفر له الإحساس بالأمان والأصالة والتجذر ، ويحافظ على ملامح هويته الثقافية وانتمائه الديني وينأى به عن التبعية . وهنا لا بد من التفريق بين التنوير الحقيقي والتنوير الزائف ، وتبرئة ساحة الراغبين حقيقة في رفعة أمتهم ونهضتها والمعتزين بإرثهم الثقافي ، ولا بد من المصالحة بين قيم التنوير الحقيقة والساعية لمصلحة الإنسان وتحقيق الرخاء والمنفعة له ، وبين قيم الدين التي لا يمكن مطلقا أن تتعارض مع قيم التنوير .. وما قيم هذا الدين الحنيف إلا تنوير من بعد طول ظلام ، وعلم مستنير بعد جهل عم الآفاق ، وما هي أيضا إلا تحرير للإنسانية من ربقة الخرافات وعبادة الأوثان إلى رحابة عبادة الله الواحد الديان ، وما هي إلا وسيلة لرفعة ورقي الإنسان .
#أمل_زاهد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عندما يعق الوالدان ابناءهما !!
-
حتى لا نحترق بنار الطائفية !!
-
تمييز مستتر وعنصرية مبطنة !!
-
من وراء نقاب !!
-
ضرب المرأة .. أي ثقافة تلك ؟!
-
كفة ترجح دائما !!
-
عندما يتأبط الموت ذراعنا !!
-
لابد من حلول قاطعة !!
-
وارث الريح
-
الثقافة فعل تمرد
-
وجها لوجه أمام ظاهرة التحرش الجنسي
-
هموم وشجون رمضانية
-
تلك العتمة الباهرة
-
فليحيا الوطن .. فليسقط الاشقاء !!
-
مابين طرفي نقيضين !!
-
بين الموت والخلود
-
الكوني والمرأة .. عدوانية وكره أم عشق وتوق ؟
-
هل هو حي يرزق ؟
-
ظاهرة العنف الأسري : إلى أين نحن ذاهبون ؟
-
الخميائي وبيع الأحلام !!
المزيد.....
-
القائد العام لحرس الثورة الاسلامية: قطعا سننتقم من -إسرائيل-
...
-
مقتل 42 شخصا في أحد أعنف الاعتداءات الطائفية في باكستان
-
ماما جابت بيبي..استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي وتابعو
...
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|