شكل تسعينيات القرن الماضي تاريخا لاندحار وتراجع النضالات الجماهيرية والحركة المطلبية في العراق. ونعني بالحركة المطلبية هنا مجموع النضالات والمساعي التي تبذلها الفئات العمالية والكادحة والشرائح التي تطالب بحقوقها السياسية والإقتصادية والإجتماعية بدون ان تدك مباشرة اسس النظام القائم.
فمن المطالبة بزيادة الأجور والعلاوات والمنح والحوافز للشرائح المختلفة من العمال ومرورا عبر السعي لتحسين ظروف العمل وتحديد وتقليل ساعات العمل والتمتع بحق توفير وسائط النقل من وإلى اماكن العمل وصعودا إلى مطاليب ارقى مثل سن قانون تقدمي للعمل يلبي الحد الأدنى من حقوق وتطلعات ومطاليب العمال وكذلك توفير فرص العمل والضمانات الإجتماعية والقضايا المتعلقة بأزمة السكن والغلاء الفاحش في الاسعار مقابل تدن لا مثيل له في الاجور وكذلك ما يتعلق بالشرائح الأخرى الكادحة كالفلاحين وسكنة حواشي المدن والموظفين والمستخدمين والطلبة والمرأة من مطاليب إجتماعية متعددة، تشكل كلها مجتمعة ما يسمى بالمطاليب العاجلة او اليومية او المعيشية. ولا شك بأن تحقيق جزء او اجزاء او سائر تلك المطاليب، تتأثر بجملة من العوامل إلا إنها تتأثر بشكل خاص بالاوضاع السياسية لكل مرحلة وخاصة في البلدان التي تنعدم فيها الديمقراطية والحريات المدنية والسياسية وتحكمها الأنظمة الدكتاتورية خاصة في العالم الثالث والذي كان النظام السابق في العراق نموذجا حيا لها. لذا فإن النضالات والتحركات المطلبية تتقاطع مع وتتأثر، شئنا أم أبينا، بالاوضاع السياسية ولابد لتلك الحركات من إمتلاك حدود معينة من وضوح الرؤية والهدف السياسي.
لقد لعب النظام العراقي المخلوع ببطشه ودمويته وتضاده الموضوعي مع شتى أشكال الحريات والحقوق الأساسية لعمال وكادحي العراق دورا جوهريا ليس فقط في تمييع النضالات المطلبية التي بدأت بالتصاعد في نهاية ستينيات القرن الماضي بل لعب كذلك، سواء بديماغوجيته السياسية او رفعه شعارات شعبوية قومية زائفة في المرحلة الأولى من حكمه وتحالفه مع الحزب الشيوعي، متزامنا مع ضرب كل تحرك شعبي وعمالي، مطلبي او سياسي، في مهده، في تضبيب ماهية العلاقات الطبقية وأوجد إختلالات جوهرية في التركيب الإجتماعي في العراق. كما اتت سلسلة حروبه وما رافقه من تدمير هيكلي للبنية التحتية للعراق وعزله عن تطورات وتفاعلات العالم متزامنا مع الحصار الإقتصادي الذي شل بدوره دورة الحياة الإقتصادية الطبيعية، ليضاعف من عوامل الأزمة وتكثف عملية الإختلال والتضبيب الطبقيين والذي لعب بدوره دورا اساسيا في تراجع الحركة المطلبية وتمييعها لتحيل في نهاية المطاف ( العامل ) بوصفه مكونا إجتماعيا طبقيا متميزا يقف على قاعدة الإنتاج وإعادة الإنتاج الرأسمالي ويختزل سائر صفاته الجوهرية في صفة واحدة ألا وهو الفقر فحلّ ( الفقير ) أو ( المعدم ) محل ( العامل ) مثلا.
اردت سرد تلك المقدمة عمدا قبل الخوض في البحث عن ضرورة تصعيد وتنظيم الحركة المطلبية في المرحلة الراهنة لأننا سنواجه لفترة طويلة تداعيات النهج البعثي في مجال العلاقات الطبقية ومكانة الطبقة العاملة والإختلالات البنيوية التي مست العلاقات الإجتماعية في العراق إثر ثلاثة عقود ونصف من حكم البعث بمراحلها وبرامجها المختلفة. كما إن البحث المتأني والتدقيق العميق في تلك المسألة مهمة ملحة لا مفر منها لكل منظمة وحركة سياسية شيوعية وماركسية تسعى فعلا وليس من خلال آيات آيديولوجية أو بيانات عاطفية لتنظيم الطبقة العاملة وحشد قواها وتنظيم صفوفها بشكل مستقل ودفعها للظهور كطبقة من اجل ذاتها.
* * *
مهما إختلفنا في وصف المرحلة التي تلت إندحار النظام العراقي السابق فإنها تشكل بلا شك عهدا جديدا في مسار الحركة المطلبية والجماهيرية لشغيلة العراق وكادحيه.فليس بوسع الأمريكان والموالين لهم من اهل السلطة في العراق، شاءوا أم أبوا، إغفال او تجاهل المعاناة الشديدة للأغلبية الساحقة من ابناء الشعب العراقي من الفقر والحرمان. ففرص العمل او الإستمرار فيه اصبح فرضية وقاعدة نادرة. كما يشكل العاطلين العمل نسبا خيالية من مجموع قوة العمل. والاجور متدنية بكافة المقاييس لمن يحظى بإمتياز بقائه في العمل. والغلاء تكوي الظهور. وليس هناك من اثر يذكر للخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والنقل والخدمات البلدية كالمجاري وغيرها. كما إستفحلت ازمة السكن ولازالت تستفحل. والوعود بإعمار العراق تتبخر في خضم الإنشغال الأمريكي المتواصل بترتيب الإستقرار والأمن والسيطرة على الفوضى التي باتت تتعمق وتسير نحو الأسوأ. كما إن إنبثاق السلطة السياسية وفق المخطط الأمريكي تتبع قاعدة ( خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء ). وبوجيز العبارة فإن مسلسل الخراب وشلل الحياة الإقتصادية والإنتاجية وغياب الإدارة والمؤسسات الرسمية والمدارس والجامعات والمعامل والمصانع والمستشفيات وغيرها لا زالت تتواصل وتخضع كلها لأولوية الأمن والإستقرار أي توفير الأمن والإستقرار لسلطات الإحتلال وجيشه ثم لشبه الأجهزة والأطر المتعاونة معها طبعا وليس للشعب العراقي.
إن ترك مصير الملايين من ابناء الشعب العراقي ورهن حياتهم ووضعهم المعيشي البائس وخاصة في ظل الخراب والدمار الذي حل بالعراق اثر سقوط بغداد والمدن الأخرى لأجل غير مسمى بفعل عامل متغير مثل الأمن والإستقرار وبقاء الوضع البائس لهم بدون حل، ينذر بآثار كارثية وخيمة.
لا جدال بأن نظام البعث واجهزته القمعية والدموية كانت تلعب الدور الأساسي في الحيلولة دون تبلور الحركة المطلبية وتراجعها. ومع زوال البعث بدمويته وشراسته، تنفتح مرحلة اخرى وآفاق جديدة امام الشعب العراقي في سعيه نحو فرض إصلاحات جذرية في شتى نواحي حياته.
إلا إن امريكا بوصفها صاحبة الدور الفعلي في إنبثاق العراق الجديد والمهندس الحقيقي لرسم الملامح السياسية والإقتصادية والإجتماعية في المرحلة الراهنة والمقبلة لبلادنا، تبذل كل ما بوسعها لمواصلة سياسة الإفقار والتجويع بحق العمال والكادحين وتجاهل مطاليبهم العادلة، بطرق جديدة وتحت غطاء آخر وخاصة بذريعة (( إعادة إعمار او بناء العراق )).
إن ذلك ليست قراءة ايديولوجية لنهج امريكا بقدر ما هي نتيجة منطقية يمكن تلمسها من مجمل الأهداف والمرامي والخطط القديمة منها والآنية والمستقبلية بصدد العراق.
وبالرغم من عدم تبلور بديل واضح ومتكامل بصدد كيفية عمل الإنتاج والإدارة وإعادة ضخ الحياة في الدورة الإقتصادية للعراق فإن ما يمكن لمسه من تصريحات وخطوات الإدارة الأمريكية والإطار العام لسياستها فيما بات يدعى بإعادة بناء العراق يبين لنا جملة من التوجهات والمؤشرات العامة تبدو كالآتي :
1 _ تطبيق سياسة ونمط السوق الحرة والسعي لبلورة قاعدة إجتماعية من خلال تشجيع عملية إنبثاق شرائح رأسمالية جديدة.
2 _ فتح ابواب العراق امام الإستثمار الخارجي ورفع كل الموانع بوجه الشركات الأمريكية وإحتكار عملية إعادة البناء وربط الإقتصاد العراقي بالإقتصاد الأمريكي ضمن عملية تبعية كاملة.
3 _ التقليل إلى الحد الأدنى من دور القطاع العام وكل ما يرتبط به من إلتزامات للدولة تجاه المواطنين سواء في توفير فرص العمل او الإنفاق او الضمانات الإجتماعية او الخدمات الأخرى و ( تحرير ! ) الدولة و السلطة في العراق من كل واجباتها بهذا الشأن.
4 _ إستغلال مسألة الديون الخارجية كعتلة ورافعة في نهب ثروات العراق لخدمة الشركات الأمريكية وجعلها وسيلة للتأثير على إتجاهات عمل الإقتصاد المحلي.
5 _ ولغرض إمتصاص النقمة الشعبية الراهنة وكذلك للسيطرة على تداعيات ومضاعفات الإجراءات المارة ذكرها وغيرها ترى اوساط في الإدارة الأمريكية بضرورة توفير نوع من الضمانات الإجتماعية المحدودة والشكلية عن طريق تطبيق نماذج معينة كنموذج آلاسكا كما طرحها كولن باول قبل مدة.
ويتلخص النموذج المذكور في تخصيص جزء ضئيل من عائدات النفط في صندوق خاص لغرض صرفها على المواطنين بشكل شيكات او كوبونات شهرية لا تملك قيمة نقدية بذاتها إنما يمكن صرفها في اوجه إستهلاكية اساسية فقط وهي نسخة اخرى من برنامج ( النفط مقابل الغذاء).
علاوة على كل ذلك فإن تحميل عبء ومضاعفات الإحتلال وممارسات النظام السابق على كاهل الشعب العراقي وإستغلال ورقة الديون الخارجية المترتبة على النظام المخلوع والتعويضات الضخمة للحروب التي شنها النظام ورهن ثروات العراق من اجل تسوية مشكلات الشرق الأوسط ومنح إمتيازات لهذه الدولة او تلك كي تقبل بما تقوم به امريكا في العراق ( كالاردن وتركيا ومصر وإسرائيل والكويت وغيرها من الدول الإقليمية او الدول الأخرى في العالم )، هي جملة من الوسائل الأخرى التي تلجأ إليها امريكا.
ومن الطبيعي ان تبدأ امريكا خطواتها على الأصعدة الإقتصادية والإجتماعية داخل العراق بمجموعة من الإجراءات العاجلة والآنية لحين إستتاب الأوضاع لتسنح لها الفرصة آنذاك للقيام بإجراءات اكثر شمولية.
ويرتبط كل ذلك وكما اكدنا في بداية هذه المقالة بمدى قدرة امريكا في السيطرة على الأوضاع وفرض الإستقرار وتوفير الأمن كمقدمة اساسية لبدء خطواتها الأخرى السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
إن الآثار التي يتركها ذلك النهج وتفاصيله وتداعياته ستكون آثار آنية وبعيدة المدى ايضا ليس على تركيبة المجتمع العراقي من الناحية الإجتماعية فقط بل وعلى الوضع المعيشي الآني للعمال والكادحين ومجمل الفئات والشرائح محدودة الدخل والتي تبلغ نسبة 90 % من تركيب الشعب العراقي.
إن تطبيق نمط الإقتصاد الحر ، وخاصة في ظل إنهيار إقتصادي قل مثيله، ونظرا لإنعدام البنية التحتية اللازمة لها وحداثتها في بلد كانت سيطرة الدولة على مفاصل الإقتصاد لها ركائز قوية واستراتيجية، سيكون بمثابة إنقلاب جذري في تركيبة المجتمع العراقي.
إن المعنى الواقعي لإعادة البناء في ظل الأزمة الإقتصادية البنيوية والحادة في العراق وفي ظل نمط السوق الحرة لا يعني في جوهره سوى تشديد وتيرة الإستغلال والإضطهاد الطبقي وجعل السلطة السياسية حارسة لها.
لكن ذلك لن يمر دون صعوبات. إلا إن الأمر الأساسي بالنسبة لعمال العراق وشغيلته ومجموع الفئات التي ستكتوي بنار تلك العملية هو كيفية دخول معترك تلك العملية بدون اية اوهام والحيلولة دون التضحية بمطاليبهم وحقوقهم واوضاعهم المعيشية من اجل حل الأزمة الراهنة بتلك الطريقة.
وهنا تعتبر الحركة المطلبية لمجمل الجماهير الشعبية في العراق خندقا اماميا ومتقدما في ظل الظروف الراهنة للوقوف بوجه السعي الامريكي لتحميلهم اعباء حل هذه الأزمة.
ومن جهة اخرى فإن إستعداد الجماهير الشعبية لولوج ميدان الصراع المطلبي والطاقات الكامنة في صفوفها يجعل منها ميدانا اساسيا للنضال الطبقي في الظرف الحالي.
فالمطالبة تحديدا بتوفير الخدمات المختلفة بشكل مجاني وتأمينها من قبل السلطات الحاكمة كالماء والكهرباء والصحة والبلديات والنقل والمواصلات وخدمات البريد والبرق والهاتف وتوفير فرص العمل او تأمين ضمان البطالة لحين الحصول على العمل لكل مواطن ودعم السلع الإستهلاكية كي تكون في متناول المواطنين وتحديد الحد الأدنى للأجور بشكل يتناسب مع الوضع المعيشي الراهن للأسرة العراقية والعديد غيرها من المطاليب التي تمس حياة العمال والكادحين والشرائح محدودة الدخل، هي المدخل الأساسي لتغيير وضعهم الراهن والبدء بفرض إجراءات اخرى اكثر جذرية.
كما إن ذلك كفيل بتصاعد الحركة العمالية في الميادين الأخرى.
إلا إن ذلك يتطلب كشرط موضوعي ضمان حرية التنظيم قبل كل شيء آخر.
فبدون التنظيم وبدون تنظيم الفئات ذوي المصلحة في إنبثاق وتصاعد الحركة المطلبية المذكورة يستحيل تحقيق المطاليب المذكورة اعلاه. ويمكن ان تتخذ الخطوات الأولية لتنظيم الجماهير الشعبية وخاصة العمالية منها اشكالا متفاوتة. فمن التنظيم القاعدي وجعل الإجتماع العام في اماكن العمل وفي الاحياء الشعبية النواة الأولى لبناء تنظيم اكثر إتساعا واكثر تعبيرا عن الإرادة الجماهيرية المباشرة وإنتهاء بالتنظيم من فوق اي تقوية الأواصر والعلاقات العملية والتنظيمية بين شبكة الكوادر والقادة العماليين واصحاب الكفاءات والخبرات في قيادة التنظيم الجماهيري التي تزخر بها صفوف الطبقة العاملة وغيرها من الشرائح الشعبية في العراق، واشكال اخرى متفاوتة من المبادرات الجماهيرية، لابد من إنبثاق أطر تنظيمية تؤطر عملية لم شمل الحركة المطلبية وتبعدها ايضا عن الآثار المضرة للحركات السياسية التي تسعى لركب موجة السخط الجماهيري لنيل اهداف لا تربطها صلة مع آمال الشعب العراقي.