|
ملحوظات أولية في شأن اللغة والطائفية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1915 - 2007 / 5 / 14 - 11:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في الشأن الطائفي، اللغة الدارجة مضللة. إنها إذ تتحدث عن طائفة شيعية وطائفة سنية وثالثة مسيحية أو علوية أو درزية..، تسلم بأن "الطوائف" موجودة دوما في شكل طائفي، ي كوحدات سياسية موحدة الإرادة والتفكير، يتخذ منتسبوها مواقف متماثلة أو متقاربة، وفي الوقت نفسه تتمايز عن غيرها بصورة ثابتة وتختلف عنهم بالطريقة ذاتها دوما. في واقع الأمر قلما يكون الأمر كذلك. "الطوائف" لا توجد في شكل طائفي أبدا في أوقات السلم، ويندر أن تكتسب هذا الشكل في أوقات الحرب الطائفية ذاتها. والأفراد قلما يكونون "أبناء" "الطائفة" أو "أعضائها" إلا حين تتعرض، بما هي كذلك، لاعتداء مادي أو معنوي. لكننا نتحدث بصورة تلقائية عن طوائف، وقد نصف "الطائفة" المسيحية بأنها كذا، كما لو كانت "كذا" صفة وراثية تنطبق على جميع المسيحيين؛ وقد نطالب "الطائفة" العلوية بكذا كما لو أنها مزودة بإرادة واحدة، ونتحدث عن تاريخ "الطائفة الشيعية"، كما لو أن الشيعة كانوا دوما متماثلين مع ذاتهم المفترضة، مختلفين الاختلاف كله عن غيرهم. الاستخلاص المنطقي من ذلك أن اللغة الدارجة لغة طائفية. وإذ نلتقط مفهوم الطائفة من اللغة الدارجة دون نقد فإننا ننخرط في اللعبة الطائفية دون أن ندري، ونستدرج في غفلة منا إلى الفخ الطائفي. واللغة الدارجة هي التي يستخدمها معظم المتكلمين حول الشأن الطائفي، لكن إذ لا ينتبهون إلى أن مفهوم الطائفية مركب وصنعي، فإن ممارستهم تؤول إلى استخدام اللغة الطائفية لهم. وبالنتيجة ينطبعون بالنظرة الطائفية إلى المجتمع والعالم: اعتبارهما مكونين من طوائف صلدة، كتيمة، تحتكر تكوين أفرادها. وبقليل من التأمل نتبين أن مأتى الطائفية في اللغة الدارجة هو كونها تصنيفية، صورية، تبسطية، جوهرانية. واللغة هذه نخبوية رغم كونها دارجة، فهي لغة أكثر المثقفين وجميع وسائل الإعلام. أما اللغة الشعبية فهي طائفية دوما. هناك عنصر تصنيفي، وبصورة ما طائفي، في العربية المتداولة عند عموم الكتاب في وسائل الإعلام. من المألوف أن تقرأ إن "المسلمين نزلوا إلى الشوارع يرقصون ويغنّون!" يوم 11 أيلول. وأن "العرب والعجم، كما عملوا على تحطيم أسطورة بيروت، عملوا الشيء ذاته مع بغداد" (الاقتباسان من كاتبين "ليبراليين"). وأن الإسلاميين الفلسطينيين فعلوا كذا، والشيعة العراقيين هم كذا، والمسيحيين العرب والموارنة اللبنانيين والقوميين والشيوعيين واليهود والغربيين.. إلخ. نادرة بالمقابل الصيغ التي تقول إن مسلمين رقصوا وغنوا، وعربا وعجما حطموا، وإسلاميين فلسطينيين... وموارنة لبنانيين.. وقوميين، ويهودا..إلخ. تتعامل اللغة الشائعة مع هويات جمعية مصمتة، وتنزع من تلقاء ذاتها إلى محو أية فوارق داخلها وإلى نسبة وحدة إرادة ومقصد إلى ما هي في الواقع روابط يندر أن تتصرف بصورة موحدة. وإنما بهذا المعنى اللغة المتداولة "طائفية"، تتعامل مع هويات ناجزة، "طوائف". **** كتبتُ مرة لمراسلة موقع إلكتروني عربي شهير أنه لا يصح أن تقول إن المعارضة السورية قالت كذا أو قررت كذا.. بينما هي تتحدث بالضبط عن قول فرد واحد أو قرار فردين. لم تتفضل بالرد، وثابرت على عناوينها المثيرة. والأرجح أنها لم تفعل ذلك بنية الإساءة للمعارضة، ولكن لأن عاداتها اللغوية والعقلية والكتابية "طائفية"، تقوض موقفها اللاطائفي المحتمل. وربما كذلك لأن التعميم أشد إثارة في الرواية وأكثر "اقتصادا" في التفكير. فالتعامل مع هويات "طبيعية" وكلية أيسر وأقرب متناولا من التعامل مع أفراد وجماعات صنعية. تتصل طائفية اللغة بضمور الفردية وضحالة الوعي الديمقراطي في تكويننا. مسلمة محجبة تمثل كل المسلمات، ومسيحي منغلق كل المسحيين، ونظن أننا نستطيع أن نتحدث عن الأكراد من خبرتنا بكردي متطرف أو اثنين، وهكذا. بالمقابل يبدو أن المسلمة السافرة والمسيحي المنفتح والكردي المعتدل فاقدون لأية صفة تمثيلية. يكسرون الخانات الذهنية التي ارتاحت أذهاننا لوضعهم فيها ويقلقون عادات تفكيرنا الطائفية المستقرة. ألفنا أن ننظر إلى الجماعات هذه لا بوصفها أسماء تحيل إلى أفراد يتقاربون بصفة محددة لا تُلزِمهم في وجوه سلوكهم وتفكيرهم الأخرى، بل ننظر إلى الأفراد كعينات، تغني معرفة واحدة أو بضعة منها عن معرفة الجميع. لماذا نفعل ذلك؟ أخمن أن التفكير بالكليات والهويات يعكس إلفة بأوضاع الصراع والمواجهة والاستقطاب الشديد. هنا يحل الاستنفار محل التمييز، والتعبئة محل التحليل، وسيكون من الترف في مثل هذه الأحوال أن نقول إن ثمة يهودا غير صهيونيين، وأميركيين معارضون للسياسة الخارجية الأميركية... ومن الجهة الأخرى، مسلمين ليسوا إرهابيين، وعربا ليسوا "معادين للسامية". الكلام على هويات كلية متجانسة مصمتة يناسب منطق التجييش والحشد، ويشبع رغبة سياسيين ومثقفين ديماغوجيين في أن يقودوا غيرهم ويشكلوا لأنفسهم أتباعا ومعسكرات. لذلك تجد الأكثر حربوية بيننا، الدعاة الإيديولوجيين الغاضبين من صنف الكاتبين "الليبراليين" المقتبس منهما فوق، هم الأكثر تفكيرا بالعالم كمعسكرات وفساطيط، أي الأكثر "طائفية". والأقل ديماغوجية هم من لا يصدرون عن نظرة معسكراتية أو فسطاطية إلى العالم على غرار ما تفعل إدارة بوش وتنظيم القاعدة وليبراليون أرثاث لدينا. وقد يكون استقرار هذا الشط الصراعي تكرس في اللغة واستقل فيها، فصرنا نفكر ونتكلم فسطاطيا أو طائفيا دون أن نكون منخرطين في أي صراع. ولعل من شأن تفحص مدقق للعربية الدارجة المعاصرة يكشف أنها تسهم في تكوين صورة طائفية عن العالم، بالخصوص عبر الاستعمال غير المقيد لأل العهد. ينفصل عن هذه الصورة الطائفية مثقفون يستخدمون اللغة نقديا. وهو ما يكفي لنقض أية حتمية لغوية قد تقرر أن لغة ما طائفية تكوينيا وأخرى ليست كذلك. ثم إننا نتبين في الإنكليزية الأميركية (وربما في لغات غربية أخرى) تطييفا متناميا للعرب والمسلمون بالخصوص، يتمثل في إضفاء ثبات جوهري عابر للأزمنة عليهم. منظّر "صراع الحضارات" ليس الوحيد. مثل ذلك ينطبق على ما يتاح لنا الاطلاع عليه من ترجمات عن العبرية نلمس فيها تثبيت العرب والفلسطينيين والمسلمين في جوهر من الإرهاب والفشل واللاعقلانية. والقصد أن لغة أو ثقافة قد ترسم صورة طائفية لشعب أو جماعة دينية، بينما تنزع نحو تصور أقل طائفية لشعوب وجماعات أخرى. **** على أن "الطوائف" ليست موجودة في الواقع. إن هي إلا أسماء سميناها لعلاقات وعمليات اجتماعية مستمرة واختلافات اجتماعية مركبة. وإذا استعدنا من فلسفة العصر الوسيط الأوربي تمييزا بين مدرسة واقعية ترى أن المفاهيم موجودة في الواقع، وأخرى اسمية ترى أنها اصطلاحات بشرية، فإننا نرى أن اللغة الدارجة تنتسب إلى المدرسة الواقعية فيما اللغة الواعية بذاتها، النقدية، تنتسب إلى المدرسة الاسمية. الواقعيون طائفيون، والاسميون نقديون. ما هو موجود في الواقع هو تكوينات اجتماعية مفتوحة على استعدادات متنوعة ومتعارضة، أو قابلة لصور متعددة، الطائفية إحداها. وما قد يرجح الصور الطائفية للتكوينات تلك ليس شيئا تحمله معها في كل آن. هو بالأحرى شيء يتصل بنسق التفاعلات والعمليات التي تنتظم تلك التكوينات، أي النظام السياسي الاجتماعي. ليس ثمة هويات ثابتة، الهويات حصائل لا تنفك تتكون وتتفكك لعمليات تماه ونزع تماه تجري في التاريخ الواقعي. تتكون هوية أو تبرز على حساب غيرها حين تعمل لحسابها عمليات تماه نشطة، تجذب إليها الأفراد والجماعات وتشدد من ولائهم لها. مثلا العروبة في الخمسينات والستينات في المشرق. وتتفكك أو تضمحل في غياب عملية تماه تسندها، مثل العروبة اليوم. فالهوية أشبه ببحيرة: تكبر حين تكثر الوديان التي تصب فيها، وتجف حين تقل، ويتغلب النزح على الورود.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في العلاقة بين الأوليغارشية والطائفية
-
أقليات وأكثريات: هويات ثقافية، علاقات اجتماعية، أم عمليات اج
...
-
أطوار متعددة في حرب لبنانية واحدة
-
نمذجة تاريخية مقترحة للنظم السياسية المشرقية
-
-ميدل- إيستولوجية-: في شأن المعرفة والسلطة و.. العدالة!
-
انتخابات نيابية في سورية أم موسم لصناعة العصبيات؟
-
شاذ، استثنائي، وغير شرعي: المعرفة والمعارضة في سورية
-
ديمقراطية، علمانية، أم عقلنة الدولة؟
-
في أصول التطرف معرفيا وسياسيا، عربيا وكرديا
-
اعتزال الحرب الباردة الجديدة
-
عوالم المعتقلين السياسيين السابقين في سوريا
-
الثقافة الوطنية والدستور كوجهين للشرعية السياسية
-
عناصر أولية لمقاربة أزمة الدولة الوطنية في سوريا
-
تأملات في أحوال الهوية الوطنية السورية وتحولاتها
-
من الاتهام بالطائفية والتبرؤ منها إلى نقدها ومقاومتها
-
في أصل -اللاتناسب- الإسرائيلي و-الإرهاب- العربي
-
مقام الصداقة
-
أحوال الإجماع اللبناني مقياسا للسياسة السورية حيال لبنان
-
بصدد تسييس ونزع تسييس قضية اللاجئين العراقيين
-
بصدد السلطة السياسية والسلطة الدينية والاستقلال الاجتماعي وا
...
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|