|
ثقافة الاحتكار واختراق منتدى المعراج
يوسف هريمة
الحوار المتمدن-العدد: 1915 - 2007 / 5 / 14 - 06:20
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في ظل واقع متردي يعيشه العالم العربي بمختلف مستوياته، كان ولا يزال الاحتكار الفكري، وامتلاك الوصاية العقلية على الناس بدعاوى مختلفة، هو العقلية السائدة لدى الكثير من التيارات الفكرية أو الثقافية بشكل عام. هذا الواقع السلبي لم يعد متخلفا عن الركب العلمي المشهود في عالمنا المعاصر، أو بعيدا عن الإفرازات التي خلفتها الثورة التكنولوجية بأبعادها المختلفة. بل أصبح يتوسل بكل التقنيات المتاحة له، وعاد خبيرا بها موظفا إياها في ما لم يصل له عقله، في ابتكار ما يمكن أن يكون رسالة له ولغيره، في عالم لم يعد يؤمن بالحدود الجغرافية أو الثقافية أو التاريخية. كان مشهدا مؤلما يوم أردت أن أفتح صفحات منتدى معراج القلم، لأجد أن أيادي الغدر قد امتدت له لتعطله عن أداء دوره المرسوم له، سواء اتفق الناس مع هذا الدور أو اختلفوا. لم يعد ممكنا حينها عرض أفكار الناس ومحاولاتهم الإنسانية، لتتوقف بذلك قناة فتحت لنا أيديها لتحضن أقلامنا بالرغم من قصورها وعجزها، وانسد الأفق أمام هذه الجريمة النكراء ضد كل مشروع منفتح بسلبياته وإيجابياته. كان المشهد رهيبا وأنا التقط كلمات كتبت على شاشة سوداء، وقد غمرتها فرحة الانتصار على المحرفين لكلام الله والملحدين كما سمتهم عقول من قاموا بالجريمة. هذا المشهد الإجرامي والمعركة العقائدية كانت تتوجه بالأساس، ضد كل فكر حر يؤمن بأن القوة في الكلمة المسؤولة، لا في سيف القرصنة الوحشية. كما كانت وأدا للتعايش السلمي بين الأفكار المختلفة، والتصورات التي تبدو لناظر متضاربة في الكثير من الأحيان. أجد نفسي عاجزا عن الكلام في تصوير هذا المشهد الرهيب، الذي قد يعتبره البعض جزءا من المبالغة ولعبا بالألفاظ. ولكنه وبالفعل مشهد حقيقي لاغتيال الكلمة الحرة، وللاختلاف في المقاربة الدينية. كما أنه مقتل بدرجة من الدرجات للحرية الفكرية والثقافية، واحتكار سافر لحقوق الناس في التعايش مع بعضها بأفكارها ومنطلقاتها، مهما كانت تبدو متعارضة مع ما استقر عليه العقل الجمعي لمجتمعاتنا. أوحى إلي هذا المشهد بأن النمطية الفكرية الدينية خصوصا، لا زالت تريد أن تجعل من الناس نمطا وصورة واحدة، وتنزع عنهم كل أساليب الاختلاف تحت مسمى الدين أو مخالفة الشرع، وغيرها من المفاهيم الاحتكارية الشمولية لحق الناس في الاختلاف المشروع. وهذا الفكر أو التصور المنبثق عن هذه العقلية الاحتكارية لم ينشأ يوما من فراغ، بل كانت هناك مرجعيات دينية تؤسس له، ونصوص مقدسة تبني له الإطار المرجعي لتصوره. وفي هذا الإطار يندرج مشروع اختراق منتدى المعراج وغيره من المنتديات، كأحد الروافد الأساسية في بناء حرية الاختلاف، مهما كانت نظرتنا لهذا المنتدى، ومهما كانت لنا مواقف مسبقة من مؤسسيه والمشتغلين داخل إطاره العلمي والتقني. إن جريمة مقتل المنتدى واختراقه من طرف أناس عن قصد أو غير قصد، لا بد وأن توضع في إطارها الشمولي والعام، المؤمن بإسكات صوت المعارض الفكري، وخاصة في الجزء المتعلق بالدين، الذي لا تستسيغ أي إيديولوجية دينية مرتبطة بفكرة العود الأبدي أو بمرجعية التاريخ يعيد نفسه، أن تقبله أو تتعايش معه سلميا. وأنا هنا إذ أريد أن أقنع نفسي بأن هذا عمل لا علاقة له بالخلفية الدينية المحتكرة، أجد نفسي في الوقت ذاته مضطرا إلى أن أربط هذا الحدث بما قد رواه القرآن حول قصة موسى وعصبيته الحزبية. وقد يبدو هذا التصور للوهلة الأولى تصورا قدحيا، عند من اعتادوا على رفع الرسل إلى مقامات غير إنسانية، عن طريق مفاهيم أنشؤوها بفعل التثاقف الديني الحاصل بين الديانات كمفهوم العصمة وغيره. لكن نسى هؤلاء الناس أن مثال موسى هو مثال متكرر في التاريخ وفي الجغرافيا، لا تحده حدود أو تحصره رؤية معينة. إن مثال موسى هو مثال كل مستضعف في الأرض، حصرته إيديولوجية قمعية لا ترى الصواب إلا في ما تراه أو تخطط له:" قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ". وقد تربى في هذه الأجواء المشحونة بالضغائن لهذا النظام الحاكم، ليتحول بعد ذلك إلى معارض سياسي لنظام القمع الفكري والجسدي، الذي مارسته سلطة فرعون على مر التاريخ. فتَكَوَّنَ لدى الرجل موقف صريح من كل من يشايع النظام الحاكم، أو يناصر أطروحاته القمعية، ليجد نفسه أمام تجربة نقرأ فيها أيضا تجربة اختراق المنتدى. يروي القرآن بأن موسى في ظل هذا الجو القاتم يجد رجلان يقتتلان:" ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ". ولعل التأمل في هذا السرد القصصي يعطينا انطباعا واضحا على خطورة التعصب الحزبي، الذي جسده موسى من خلال الانتصار التلقائي لمن يشايعه، والحقد على المخالف له إلى درجة القتل والبطش به. وقد يظن إنسان أن القتل يكون مبررا، إذا ما اقترن بالانتقام من السلطة الحاكمة القمعية والسلطوية. ولكن موسى انتبه إلى خطورة منهج القتل، كما سينتبه أي إنسان بعده يريد أن يتخذ مسلك موسى طريقا للإصلاح والحوار. فأقر عل نفسه بأن هذا العمل لا يمكن أن يكون إلا وهما شيطانيا، وليس عملا منبعثا من قناعات نفسية:" قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ". بل ويزيد الأمر توضيحا أن ما قام به من قتل لتلك النفس، ولو كانت مخالفة له في الفكر والرأي، هو جريمة بكل المقاييس الإنسانية، ويردع نفسه أن يكون من صناع القتل:" قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ". وبالرغم من هذا الاعتراف الحاسم لموسى بجريمته، يكرر الأمر نفسه وفي الظروف نفسها مع رجلين آخرين:" فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ". إنها النفس إذا اتخذت طريق القتل مسلكا لها في حل مشاكلها وقضاياها. وموسى وإن أقر بجريمته يسقط فيها مجددا، لولا أن تنبه إلى حجم الهوة التي قد تسقطه فيها عصبيته، أو تصوره لحل مثل هذه القضايا:" أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ". ولكي لا نخرج عن الإطار المرسوم في هذه الكلمة، أؤكد أن قتل النفس كقتل الكلمة الحرة لمجرد اختلافك معها، ومحاولة إسكات صوت الناس، هو جريمة في حقهم وليس منهجا للإصلاح تحت ذريعة الفتنة وغير ذلك من الأمور. وعلى من يسلك نهج موسى في تعاطيه مع حل القضايا بعصبية، فليتذكر أنه اعترف إلى ربه بأن هذا مسلك المجرمين وليس مسلك المصلحين، مهما حاولوا أن يلبسوه من تبريرات، أو أوهام صنعتها الثقافة الاحتكارية لهم. وختاما أقول: إن من استطاعوا اختراق منتدى المعراج بأساليب القرصنة البغيضة، لا ولن يستطيعوا أن يخترقوا عقول كُتَّابه ومؤسِّسِيه والمتعاطفين معه، مهما تواضعت كتاباتهم، ومهما أصابها من قصور معرفي. لأن العقول بأيدي أصحابها، وأصحابها أبوا إلا أن يرتموا في حضن الكلمة الحرة، باختلاف توجهاتهم ومنطلقاتهم الفكرية، وأن يصنعوا من الاختلاف ثقافة تَجْمَعُ ولا تُفَرِّق، تؤسَّس ولا تهدِم، تؤمن بالسلم منهجا لها وتنبذ العنف جسديا كان أو فكريا وإن مورس عليها.
#يوسف_هريمة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أُميَّة الرسول بين القرآن والمفهوم الثقافي
-
التنوع الثقافي والتنمية المنشودة
-
علم مصطلح الحديث وتأسيس الثقافة الروائية
-
الأديان ومستقبل الإنسانية
-
نزول عيسى مسيانية يهودية مسيحية في قالب إسلامي
-
القرآن الكريم والتسلط باسم الدين
-
ثقافة الشيخ والمريد وأزمة الفكر الديني
-
العواصم الثقافية ورهانات المستقبل
-
النص الديني بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية
المزيد.....
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|