د. سيّار الجميل
مؤرخ عراقي / تورنتو – كندا
دعوني اليوم التفت كي أقف قليلا عند طبيعة المجتمع العراقي الذي ازدادت مشكلاته وتعقيداته كثيرا عند نهايات القرن العشرين. وسأحاول ان اكون حياديا قدر الامكان في معالجتي المتواضعة بعد دراستنا لعناصره ومادته ومكوناته التاريخية والثقافية الانثربولوجية في اكثر من دراسة وكتاب ، ولكن ثمة متطلبات اليوم تثير جملة مسائل اساسية وخطيرة انتجتها عهود سياسية مرت بهذا المجتمع منذ ثمانين سنة من حياة الدولة العراقية المعاصرة سواء على العهد الملكي ام على العهد الجمهوري بشقيه الانتقالي العسكري والبعثي الشوفيني ! والحقيقة ، ان الذي دعاني لكتابة هذا المقال ما سمعته في فضائية عربية قبل ايام عندما تجاذب صاحب البرنامج حديثه مع ضيفه العربي عن العراقيين باعتبارهم هم الذين " يقومون اليوم برمي اوساخهم على العرب ، وانهم يحاولون تصدير تخلفهم الى العرب فصدام هو منهم .. وعبد الكريم قاسم هو منهم .. " !! هذا نص ما سمعته من اولئك الخبثاء الذين يستخدمون بعض سلبيات مجتمعنا ضد عموم العراقيين ، وكأن مجتمعاتهم ملائكية طاهرة !
انني لم انزل الى مستوى اولئك الذين يسيئون للعراقيين ليل نهار في صحفهم وفضائياتهم وحتى في برلماناتهم المتخلفة ! ولكنني احببت ان انبه الى حجم المأساة التي يعاني منها مجتمعنا وسط هذا المحيط المتربص بنا والعارف بكيفية اختراقنا والذي لا هم عنده اليوم الا العراق والعراقيين .. والاسباب معروفة سلفا . ان زمننا اليوم كعراقيين ثمين جدا يجب ان لا نخسره في الاجابة على الذين يدقون ابوابنا ولا يتورعون من كيل الشتائم والسباب والتجريح .. وكأن الامة العربية المجيدة لم يعد لها من المشكلات الصعبة الا العراق والعراقيين ! ولقد توضحت لنا بأن الهجمة العربية الرسمية والاعلامية هي اكبر بكثير من دفاعات بعض الاخوة العرب الشرفاء الذين يتوزعهم هذا المحيط الكبير، وغدوا وطنيين اكثر من العراقيين انفسهم .
الوازع التاريخي والعطب السياسي في المجتمع العراقي
لابد ان يدرك كل عراقي وهبه الله عقلا راجحا وافقا واسعا من التفكير بأن مهمته الاساسية للعراق تتمثل بخدمة مجتمعه وان يقدمه شاء ام ابى على (الدولة) .. وبرغم كل ما قدمه استاذنا الدكتور علي الوردي وغيره من العلماء في دراسته طبيعة المجتمع العراقي وتبيان اوجه الخلل التي يثوي فيها هذا المجتمع ، الا انه مجتمع مثير شغل الناس بحيويته وقدرته الخارقة في التحمل وخرق التحديات ، برغم فقدانه في عهد الطاغية الكثير من قدراته وامكاناته التاريخية القوية عندما عزل عزلة تاريخية حقيقية عن حياة العصر وانه غدا من منتجات الخلط والتداخل السياسي والثقافي بحيث ماتت جملة من القيم الاخلاقية والاعتبارات الاجتماعية الوطنية القوية وتفكك نسيج المدن الكبيرة اثر غزوها بالملايين من السكان الذين عدوا غرباء على المحيطات المدينية المخصبة فاثروا في العادات والتقاليد وحتى في اللهجات والمعاملات .. لقد خلقت الفوارق الاجتماعية ومشكلة الهوية وعطل التواريخ القديمة جملة من الارباكات الاجتماعية في خلايا المجتمع وليس ادل على منتجات سيئة كهذه : استيلاء غرباء همجيون داخليون في قلب العاصمة بغداد على حكم العراق لاربعة عقود من الزمن الصعب !
من يقرأ صفحات تواريخنا العربية عموما والعراقية خاصة ، قراءة كاملة سيقف على جملة اعتبارات تعد من بديهيات الحياة الاجتماعية في كل الوجود ، اذ يثوي في كل مجتمع : اناس صالحون وطالحون ، فئات عادية ونخب مبدعة ، اغنياء وفقراء ، متخمون ومسحوقون، شرفاء سادة ، رعاع سفلة، حرائر وداعرات، شيوخ ورعايا، اقطاعيون يملكون العبيد وفلاحون يعانون شظف الحياة ، مبدعون ومثقفون خلاقون وقبالتهم اولاد شوارع من لصوص واشقياء وحرامية .. ابناء بلد اصلاء حقيقيون وغرباء من طارئين مذمومين .. الخ ولعل اسوأ ما انتجته العهود العتيقة في العراق : مخلفات اجتماعية عراقية متباينة على اشد انواع التباين تجد المتماسك منها وتقف عند المفكك بانقساماته ، وولدت الدولة العراقية منذ ثمانين سنة ولم يستطع رجالاتها الاوائل في العهد الملكي ولا الاواخر في العهد الجمهوري الا العناية بالدولة والجيش والسياسات والقومية وشيوخ العشائر من دون العناية بكل المجتمع ..
لقد اهمل امر المجتمع العراقي بكل فوارقه مع وجود الامن والنظام والاستقرار الداخلي ولكن كانت بغداد العاصمة ومدن اساسية اخرى تحيطها يوما بعد آخر اسيجة من السكان الطارئين الذين يعيشون في صرائف اشبه ما يكونوا كالحيوانات في زرائب !! وربما سيخالفني العديد من اخواني العراقيين ان انتقدت نوري او عبد الكريم رحمهما الله متسائلا : الم يستطع نوري السعيد ودولته ان يعيد هؤلاء الى آدميتهم ويرجعهم الى بيئاتهم الاولى ؟ فكيف سيتصرف هؤلاء عند انفجار الوضع السياسي وغياب الدولة في ساعات الثورة الاولى عند 14 تموز/ يوليو 1958 ، لولا ضبط زعيمها عبد الكريم قاسم الوضع الداخلي ظهرا واعلان منع التجول ؟ ثم ألم يخطىء الزعيم قاسم عندما ادمج هؤلاء بالعاصمة بغداد وبنى لهم عدة مدن يسكن بها الالاف لتغدو بالملايين فيلتهموا بغداد بعد سنين ! لقد كان نوري جاهلا بمعاناتهم ومنشغلا عنهم بمكانته الدولية ، اما عبد الكريم فكان مخلصا في منحهم ثقته بسبب محبته الجنونية للفقراء ، ولكن كلا منهما لم يدركا بأن الهجرة نحو العاصمة بغداد وخصوصا من اطرافها القريبة والبعيدة سيزيد من وتيرة قوة التخلف وستأكل العملة الرديئة مهما كانت طيبتها واسباب وجودها عملة العراق المتمدنة المثقفة الرائعة والمبدعة !
ان ما اقوله ليس من قبيل التفرقة بين العراقيين معاذ الله ، ففي كل المدن الكبرى الاوربية محيط احزمة من الغرباء عنها يسكنون في بيوت حقيرة ( Slums ) ولكن لابد ان نتحمل حقائق الامور ونسعى لمعالجتها اليوم . لقد اثبتت الايام الاخيرة بأن دواخل مجتمع بغداد كانت تتخوف دوما بشدة من اطرافها الاجتماعية .. ولنسأل : هل يعقل ان يكون في عاصمة حضارية لها موقع في تاريخ البشرية سوق اسمه (سوق الحرامية) على مدى سنوات طوال ؟؟ وهي ليست تسمية مجازية بقدر ما هي تسمية واقعية فكل باعته من الرعاع الحرامية ؟ وهل يعقل ان تمر عقودا من السنين على هكذا مجتمع اختلط فيه الحابل بالنابل من دون دراسات اجتماعية ومعالجات سياسية واصلاحات جذرية ؟ لقد شجع النظام السابق كل عوامل الرداءة وابقاء التخلف وتبرير المنكرات وخلق التناقضات وتشجيع الفساد وقتل المعنويات ومحاربة القيم والاعتبارات ومحو الاصلاحات وتهجير الناس واستئصال الاعراق ومحاربة الكفاءات وزراعة المحرمات والممنوعات ونشر شبكات المخابرات وغرس الطائفية والعداوات والثارات وحرق الكتب والمكتبات .. الخ لقد حاول على مدى سنوات حكمه الطوال افناء المجتمع العراقي واستئصال قيمه من جذورها واستخدام كل الموبقات بايدي اسوأ العناصر من اراذل المجتمع وسفهائه ودهمائه واشراره واشقيائه ولقطائه ورعاعه .. ومنحهم القوة والمال والسلطة ، فلنتأمل ما الذي سيحدث في التراكيب الاجتماعية العراقية ؟ وما الذي سيحصل في نسيج المدن العراقية الحضرية وحتى عند العشائر المتنوعة في الارياف او عند القبائل في البوادي والدساكر والتخوم ولدى ابناء الاحزمة التي تحيط بالمدن ؟ فهل يعقل ان يراهن النظام السابق على عناصره من رجال حزبيين ومخابراتيين وامن ومخابرات .. ينتقون من اماكن جغرافية وعشائرية وطائفية معينة ومن اسر معينة لممارسة شتى انواع الممارسات الصعبة ضد عموم المجتمع ؟؟ هذا فضلا عن استخدام الذراع الجغرافي العائلي المحدد في وسط العراق ومنحه كل الصلاحيات الواسعة والنافذة للمزيد من خراب المجتمع وتعطيل ارادته الحرة عقودا من السنين !
هل من استجابة لتأسيس دولة تسعى لخدمة مجتمع التحديات ؟
مطلوب هذا اليوم وبسرعة مذهلة : تأسيس دولة تكون راضية لخدمة مجتمع تنبثق منه وتسعى لاصلاحه مهما كلف ذلك من اثمان ! وانني اناشد في دعوتي هذه كل عراقي اصيل ان يكون حقا في خدمة مجتمعه العريق لا في خدمة دولته وعبادتها او طائفته وتقديسها ! مطلوب من كل عراقي ان يخدم دواخله الاجتماعية الوطنية الحيوية ويحسن التفكير في خلق البدائل لاعادة المجتمع الى سيرته الطبيعية الاولى التي تكاد تكون قد تقطعت اوصالها على مدى اربعين سنة من حكم العسكريين والبعثيين ! ومطلوب ان تنشغل الاحزاب والجماعات وكل الاطياف السياسية العراقية بما يحتاجه المجتمع العراقي من انفاقات وخدمات وامن ونظام وصحة ومواصلات ومجالات عمل واصلاحات ومدارس ومستشفيات وجامعات واسواق ومساكن وبيوت ثقافة ومتنزهات .. لابد للمجتمع العراقي الجديد بأن يحترم حكومته. وعليه ان لايسيىء اليها مهما كانت احواله، اذ تكفينا شعارات التخوين والمؤامرات والدعايات المضادة ! ولكن لا يمكن للدولة ان تفعل ما تريد من دون ان يحاكمها المجتمع كل يوم !
وعلى الدولة ان تظهر حزمها في تطبيق القانون وفرض النظام والعمل بالعقوبات ضد كل المسيئين ! وعليها ان تسعى جاهدة لتنظيف العراق من كل الادران والاوبئة والغرباء الذين دخلوه في غفلة من الزمن وكانوا وما زالوا يحدثون الخراب ويزرعون المشكلات والانفجارات في اماكنه المهمة ! وسوف لن يغدو مجتمعنا متحضرا وديمقراطيا بسرعة خاطفة فهو بحاجة الى مرحلة انتقالية للتعامل قانونيا واصلاحيا وتربويا وامنيا مع مجتمع يواجه المستقبل بمواريث الماضي الصعبة. انه ويا للاسف لم يتخلص من كل ادرانه ومساوئه التي حملها منذ ازمان ، فلقد دّمر نفسه بنفسه من خلال تقلباته السياسية وانقلاباته العسكرية وصراعاته الحزبية وقبضة البعثيين على انفاسه طويلا. ولابد للدولة من معاقبة المسيئين عقابا شديدا بدءا بالطغاة وانتهاء بالذيول الذين تسلطوا على العراق فنهبوا خيراته واستلبوا مدنيته وسرقوا رموزه وساهموا باعلاء سلطة الاشرار والاغبياء والجهلة والمنافقين والغرباء !
انني اجد اليوم وبعد التاسع من ابريل / نيسان 2003 جملة من اولئك السفلة وقد ارتدوا على سيدهم وعهدهم وميثاقهم وجاؤوا اليوم ليلبسوا اردية الوطنية ، فمتى سيكشف هؤلاء من المنافقين والمرضى النفسيين وهم ارتال من الموتورين ؟ وهل سيأخذ التاريخ مسارا جديدا تتحقق فيه فرص العراقيين من الاذكياء والامناء المخلصين والاوفياء والمبدعين والمثقفين والمناضلين والمجاهدين الحقيقيين وكل الذين وضعوا دماؤهم فوق اكفهم من اجل ان يجد مجتمع العراق اليوم مكانه تحت الشمس .. كما اخشى من اولئك الذين يراهنون على سقوط العراق في مستنقع حرب اهلية ! هل سيحدث ذلك ام سيبقى من يتهم العراقيين برمي اوساخهم على العرب ؟؟ انني متخوف اليوم جدا على مستقبل وطن عريق اسمه العراق ليس من الاخرين ابدا ، بل اخشى عليه من ابنائه الذين هم بأمس الحاجة الى عقلية متحضرة وثورة اجتماعية واصلاحات تربوية ونظم عدالة حقيقية .. قبل اية تشكيلات الاعيب سياسية وطائفية متخلفة وبمسميات عصرية براقة !! وليكن معلوما بأِن المجتمع العراقي لا يعاني من اية انقسامات طائفية او عرقية بقدر ما يعاني من فوارق اجتماعية وقيمية ومادية ومن امراض جهوية وعشائرية وعنصرية !! ان مجتمعنا العراقي لا تنفعه الديمقراطية من دون ثلاث مبادىء اساسية: الوطنية هوية للجميع والقانون فوق الجميع والتربية التي يتحلى بها الجميع.