|
في العلاقة بين الأوليغارشية والطائفية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1912 - 2007 / 5 / 11 - 10:58
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
دون ديمقراطية سياسية خلافا لدول كثيرة في الغرب والشرق، ودون "ديمقراطية اجتماعية" على عكس ما كان بعضها قبل أربعين عاما، آلت نظم الحكم في أكثر الدول العربية إلى أوليغارشيات ضيقة. فبينما تستجيب الديمقراطية السياسية للحاجة إلى الفصل بين السلطة والثروة (وبين السلطة والنسب)، أو الحد من احتمالات تطابقهما، فإن الديمقراطية الاجتماعية كانت موجهة بمقصد تسخير السلطة لمصلحة كسر احتكار الثروة. على أن الالتزام هذا اقتضى في التجارب العربية وغير العربية تركيزا عاليا للسلطة واحتكارا صارما لها، الأمر الذي لم يتأخر في جميع الحالات التي نعرفها عن توليد احتكار جديد للثروة متوافق معه. وستكون الحصيلة النهائية للديمقراطية الاجتماعية نقل الثروة من أيد إلى أيد أخرى، أو وضع طبقة محل طبقة. غير أن الطبقة الجديدة تملك السلطة والثروة معا. ولحداثة عهدها وارتباط ثروتها بسلطتها فإنها تنزع بثبات نحو استخدام السلطة العارية لحراسة الثروة الفاحشة. ونتحدث عن نظم أوليغارشية لإبراز واقع التطابق الجديد بين السلطة والثروة. فالنظم هذه ليست محكومة من قبل قلة فقط، وإنما أيضا أنها تراعي مصالح قلة. قد يمكن أن توصف القلة هذه بأنها طبقة، على أن نعرف الطبقة بأنها موقع من السلطة السياسية التي تتحكم بقوة بالموارد والثروات الوطنية، وبالعمليات الاقتصادية المحلية والدولية. تجمع الأوليغارشيات العربية بين الدوام المميز لاشتراكياتنا أو ديمقراطياتنا الاجتماعية في ستينات القرن العشرين كالبعثية والناصرية وجبهة التحرير الاشتراكية في الجزائر، وبين ما يميز الليبرالية الصرف من التزام محدود بدور اجتماعي. فلا هي اليوم نظم تغييرية ولا هي نظم تتغير. وتتمحور سياستها بصورة كاملة حول دوامها الذاتي ومنع التغير من أي مصدر جاء ومهما يكن إيقاعه. ولعله لأول مرة في تاريخنا الحديث تمضي عقود دون أن تتغير نظم مجتمعاتنا أو تتغير نظم حكمنا. والأرجح أن لذلك صلة وثيقة بكون التغيير السياسي حاملا لأول مرة أيضا لمخاطر انهيار الدولة والاحتراب الأهلي. لكن كيف يضمن نظام قلة بقاءه؟ بطرق متنوعة، أبرزها ثلاثة: فائض من العنف، الغرض منه سحق فكرة الاعتراض الاجتماعي وليس فقط التغلب عليه؛ عقيدة إجماع وطني مفروضة تخفي الطابع الأقلوي للنظام، أعني صفته كنظام أعياني جديد؛ وتفريق المجتمع المحكوم لتسهيل السيادة عليه، وذلك بأن يغدو النظام الأوليغارشي الممر المحتوم للتفاعلات الاجتماعية بين السكان، وهو ما سميناه في غير مكان نموذج المجتمع الممسوك المحروم من أي تماسك ذاتي، والذي تتحكم سلطات ماسكة بمستوى تماسكه ووحدته. ويمكن للتفريق أن يسلك خطوط التمايز الدينية أو المذهبية أو الإثنية القائمة أصلا في أكثر مجتمعات المشرق العربي. هذا يحصل من تلقاء ذاته في غياب إطار تماه وطني مطابق للدولة. لكن يحصل في الغالب أن الأطقم الأوليغارشية تشجعه أو تتعامل مع مجتمعاتها بوصفها مكونة من أديان ومذاهب وإثنيات، وتعتمد على هذه اعتمادا تفاضليا كركيزة لحكمها وأمنها. ويلبي الارتكاز الأخير حاجتها إلى توفير قاعدة مأمونة وموثوقة للأوليغارشية الحاكمة. هنا أصل أساسي للطائفية في مجتمعاتنا المشرقية. إنها من الخطط السياسية للأوليغارشية، أي لضمان الحكم الامتيازي لطبقة اجتماعية محدودة الحجم. ولعل هذه هي الحلقة المفقودة بين حقلي "الصراع الطبقي" و"الصراع الطائفي". نريد القول إن نظمنا المشرقية ليست طائفية أو أقلوية بالمعنى الثقافي، إلا لأنها نظم أقلوية بالمعنى الاجتماعي للكلمة. ويتأسس على هذه المقاربة القول إن الطائفية ظاهرة مشتقة وليست أساسية أو أصلية. إنها مرتبطة بنظم سياسية استبدادية، لا يمكن لغير استبدادها أن يحرس امتيازاتها واحتلالها موقع السيطرة على الموارد الوطنية وتحديد القرارات المهمة بشان توجيهها وتوزيعها. نستخلص أيضا أن الطائفية لا تصنع خارج السياسة والسلطة أو بمعزل عنها. ويتمثل المغزى السياسي العملي لهذه المقاربة في أن أية استراتيجية للتحرر الديمقراطي والاجتماعي لا تذهب من وراء المظهر الإيديولوجي إلى الجوهر الاجتماعي تجازف بأن تعطي نتائج معاكسة تصب في مصلحة النظم الأقلوية الحاكمة. المسألة في جوهرها مسألة "حكم قلة" وليس "حكم أقلية" بالمعنى الاصطلاحي للكلمتين (القلة: طبقة أو شريحة؛ والأقلية: جماعة دينية أو مذهبية أو إثنية). على أنه يتعين أن نتجنب نزعة اختزالية لطالما ميزت المقاربة اليسارية للطائفية، نزعة تنكر أية استقلالية على جملة العلاقات والعمليات التي نطلق عليها اسم الطائفية، وتجعل منها ظلا لواقع طبقي يتمتع وحده بالأصالة. ما تخفق النزعة هذه في توضيحه هو سر فاعلية الطائفية وقدرة الطائفيين على حشد جمهور محروم على العموم وراءهم. الجواب الذي نقترحه يقتضي الكف عن مقاربة الطائفية بلغة معيارية تجعل منها رمزا لكل ما هو متخلف من جهة، ومخرب للوحدة الوطنية من جهة أخرى، ومعكر للصفاء الطبقي من جهة أخيرة. الطوائف، وهي نتاج الطائفية وليس العكس، تسيس جمهورا غفلا خاملا، وتزجه في حياة عامة لم تتوفر له في ظل الوطنية الشكلية القائمة. وهي تحرر الجمهور هذا من غربته وتمنحه شعورا بقضية مشتركة ودرجة من المساواة لا تتوفر له في أطره العضوية ولا في الدولة. هذا ما يصح تسميته بالنزعة الجمهورية الطائفية. على أن رفض الاختزالية لا يلغي سلامة مقاربة الطائفية بوصفها استراتيجية للسيطرة السياسية وحارسة لامتيازات اجتماعية واقتصادية. فالجمهوريات الطائفية، أعني الطوائف كجمهوريات، تخذل بصورة نسقية نزعات الجمهور التحررية والمساواتية. وهي تموه بشعور القرابة والوحدة ضد خصم حقيقة كونها سلالم صعود للنخب الطائفية التي قلما تجد صعوبة في التفاهم بينها من وراء ظهر الجمهور (كان أشار إلى ذلك ياسين الحافظ في مقاربته للحرب اللبنانية، ضدا على تحليلات يساروية كانت تصادر على أن الجماهير الكادحة في مختلف الطوائف، وقد كان وقود الحرب كما هو معلوم، متطابقة المصالح ضد مستغليها الرأسماليين..!). ولا تشكل الطوائف أطرا للترقي الفكري والسياسي والأخلاقي إلا في مجتمعات تدنت فيها الدولة إلى مستوى العشيرة، أي ما دون الطائفة، وغدت وكالة أمنية رعناء لحماية امتيازات لاعقلانية واستثناءات غير شرعية. فإذا تعقلنت الدولة، ولو قليلا، تراجعت الطائفية وتكشف طابع الطوائف الضيق والرجعي. لكن لماذا تبدو الطائفية مسألة أديان ومذاهب وعقائد؟ لأن الإيديولوجية الطائفية تقوم على ذلك بالذات، أي على حجب وقائع السلطة والثروة وراء وقائع التمايز الديني، ولأنها تسخر وقائع القرابة الدينية والمذهبية لحماية الأوضاع الامتيازية التي تجني منها أعظم المكاسب. إن حكم القلة الثرية لا يقوم دون أن يحصن طابعه الجائر بمحاسيب موثوقين، ودون أن يخفي هذا التحصين وراء بلاغة وطنية عمومية من جهة، أو يعيد الاعتراض عليها إلى الإغراض الديني والمذهبي من جهة ثانية. هذا فرضية مبدئية للعلاقة بين الأوليغارشية والطائفية، يقتضي إثباتها تقديم وقائع وبراهين ومعلومات تفصيلية من بلدان المشرق. في المقالة هذه نكتفي بصوغها كاقتراح نظري.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أقليات وأكثريات: هويات ثقافية، علاقات اجتماعية، أم عمليات اج
...
-
أطوار متعددة في حرب لبنانية واحدة
-
نمذجة تاريخية مقترحة للنظم السياسية المشرقية
-
-ميدل- إيستولوجية-: في شأن المعرفة والسلطة و.. العدالة!
-
انتخابات نيابية في سورية أم موسم لصناعة العصبيات؟
-
شاذ، استثنائي، وغير شرعي: المعرفة والمعارضة في سورية
-
ديمقراطية، علمانية، أم عقلنة الدولة؟
-
في أصول التطرف معرفيا وسياسيا، عربيا وكرديا
-
اعتزال الحرب الباردة الجديدة
-
عوالم المعتقلين السياسيين السابقين في سوريا
-
الثقافة الوطنية والدستور كوجهين للشرعية السياسية
-
عناصر أولية لمقاربة أزمة الدولة الوطنية في سوريا
-
تأملات في أحوال الهوية الوطنية السورية وتحولاتها
-
من الاتهام بالطائفية والتبرؤ منها إلى نقدها ومقاومتها
-
في أصل -اللاتناسب- الإسرائيلي و-الإرهاب- العربي
-
مقام الصداقة
-
أحوال الإجماع اللبناني مقياسا للسياسة السورية حيال لبنان
-
بصدد تسييس ونزع تسييس قضية اللاجئين العراقيين
-
بصدد السلطة السياسية والسلطة الدينية والاستقلال الاجتماعي وا
...
-
صناعة الطوائف، أو الطائفية كاستراتيجية سيطرة سياسية
المزيد.....
-
فيديو يكشف ما عُثر عليه بداخل صاروخ روسي جديد استهدف أوكراني
...
-
إلى ما يُشير اشتداد الصراع بين حزب الله وإسرائيل؟ شاهد ما كش
...
-
تركيا.. عاصفة قوية تضرب ولايات هاطاي وكهرمان مرعش ومرسين وأن
...
-
الجيش الاسرائيلي: الفرقة 36 داهمت أكثر من 150 هدفا في جنوب ل
...
-
تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL في ليتوانيا (فيديو+صورة)
-
بـ99 دولارا.. ترامب يطرح للبيع رؤيته لإنقاذ أمريكا
-
تفاصيل اقتحام شاب سوري معسكرا اسرائيليا في -ليلة الطائرات ال
...
-
-التايمز-: مرسوم مرتقب من ترامب يتعلق بمصير الجنود المتحولين
...
-
مباشر - لبنان: تعليق الدراسة الحضورية في بيروت وضواحيها بسبب
...
-
كاتس.. -بوق- نتنياهو وأداته الحادة
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|