|
في الاستثمار الثقافي
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 1910 - 2007 / 5 / 9 - 04:29
المحور:
المجتمع المدني
يجري جزء من الصراع الرئيس في عالمنا المعاصر، كما كان الأمر في حقب مختلفة من التاريخ، في الحقل الثقافي، أي على مستوى الأفكار والرموز. فهذا الصراع يرتسم، أحياناً، في شكل محاولة من أجل الاستحواذ على الرأس المال الرمزي واحتكاره، وبعبارة أدق؛ احتكار تمثيله. وهو بشكل آخر مسعى يتخذ طابع الإقناع أو القسر لتعميم تصورات محددة أو النيل من تصورات أخرى مخالفة. وغالباً ما أُريقت دماء وأُزهقت أرواح ملايين البشر لفرض أفكار قد تكون صحيحة نسبياً، وقد تكون محرّفة وخاطئة، أو ربما لم تكن سوى أوهام. ويمكن أن تضر معتقدات معينة، راسخة، بالمصلحة السياسية والاقتصادية لمجتمعات وأمم. وطالما أبقت قيم وعادات وأفكار متأصلة بعض المجتمعات في حالة من التخلف وحالت دون تقدمها وازدهارها. لذا فإن أي تغير نوعي، سواءً في الحقل الاقتصادي أو الاجتماعي أو التقني أو التعليمي، أو حتى السياسي لن يكون ممكناً ما لم يرافقه، ويسبقه في بعض الأحيان، تغيرات في الحقل الثقافي. وإذا كان جزء من مسؤولية هذا التغير الأخير يقع على عاتق أفراد يشكلون النخبة الفكرية والثقافية في المجتمع فإن مسؤولية الدولة بمؤسساتها المختلفة تكون أكبر ولاسيما في عصرنا الحالي. وهنا، لا بد أن نتطرق إلى ما نسميه "الاستثمار الثقافي"، أي توظيف جزء من موارد ومدخرات المجتمع لتعزيز وتوسيع وتعميق البنية التحتية للثقافة، فمثل هذا الاستثمار لا بد أن يكون مردوده عالياً على المدى البعيد. والمجتمعات التي تفكر بالمستقبل لا بد لها من استثمار واسع ( بالمدلول الاقتصادي للكلمة ) في الحقل الثقافي، فإعداد البشر قادة ومفكرين وإعلاميين وأساتذة ومعلمين وإداريين ومهندسين وأطباء وعاملين ( فاعلين اجتماعيين ) يتطلب تصميم برامج اقتصادية خاصة بالتنمية الثقافية. لم تكن للثورة الصناعية أن تتحقق وتأخذ مداها بنقل البشرية إلى مرحلة تاريخية أخرى ما لم تمهّد لها السبيل ثقافة جديدة تكونت منذ عصر النهضة وعصر الإصلاح الديني وعصر التنوير في أوروبا.. ولم تكن للمدن الجديدة وللصناعات الجديدة، وللشكل الجديد للحياة وللتغيرات الهائلة التي حدثت على الصُعد كافة أن ترى النور لو لم يكن هناك ابن رشد وشكسبير وراسين ودافنشي ومايكل أنجلو ودانتي وغاليلو وجان جاك روسو وفولتير ومونتسكيو وتوماس مور وسرفانتس، مع أسماء كثيرة أخرى غير هؤلاء. واليوم، غدا للمنتوج الثقافي في المجتمعات المتقدمة، وفي ظل ثورة المعلومات قيمة تبادلية أكبر بكثير مما كان في القرون السابقة، ومساهمة أكبر في الناتج والدخل القوميين، لكن اهتمامنا، في هذا المقام، لا ينصب على هذا الجانب بل يتعداه إلى ما للتأسيس الثقافي من قدرة وتأثير في التوجه الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع وإثراء روحه، ودفعه إلى إنجاز تنمية حقيقية في مفاصل حياته كلها الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية والحضارية. وفي ما يتعلق بالعالم الثالث يشير المنظِّرون الاقتصاديون، في أثناء تناولهم لمشاكل التنمية فيها، إلى القيم والأعراف والتقاليد والأفكار التي تعيق عملية النمو والبناء الاقتصادي، أي إلى نمط الثقافة السائدة. وإذا كان العمل هو مصدر الثروة والقيمة عند آدم سمث ( أول اقتصادي ألف كتاباً متخصصاً في علم الاقتصاد عنونه بـ "ثروة الأمم" ) وعند ماركس أيضاً وآخرين غيرهما، فلا معنى للتحدث عن مستقبل اقتصادي زاهر وتنمية اقتصادية حقيقية بمعزل عن فضاء ثقافي حاضن ومشجع. إن قيم العمل والتعلم والكفاءة والتعاون والإخلاص والنجاح والطموح هي المغذية لشرايين التنمية، وهذه القيم لن تترسخ وتغدو جزءاً من روح المجتمع وسلوكه ما لم يولِّده برنامج ثقافي وحركة ثقافية. وخلق أنماط سلوك جديدة في المجتمع إنما هو صناعة ثقافية، صناعة تقوم بأعبائها مؤسسات التربية والتعليم والثقافة والإعلام، ناهيك عن العائلة ومنظمات المجتمع المدني. ليس من العيب أن نصف بنى مجتمعنا بالمتخلفة، لكن العيب في أن نقعد متكاسلين أمام هذا الوضع ولا نفعل شيئاً ذا جدوى لتجاوز التخلف، وأن نعجز في تحقيق تبدلات جوهرية في تلك البنى، ومنها البنية الثقافية. كيف لنا أن نتصور دولة عصرية من غير مسارح كبيرة وقاعات للموسيقى والمحاضرات وكاليرهات ومتاحف ودور سينما ومكتبات، ومن غير مؤسسات تُعنى بالترجمة والنشر والإعلام الثقافي والدراسات الإستراتيجية، وبمنتديات ثقافية وأخرى خاصة بتقنيات المعلوماتية الحديثة، وبصناعة السينما والمسرح والإذاعة والتلفزيون، الخ؟. وكيف نضمن وفرة الإنتاج الثقافي وجودة نوعيته من غير أن نبني قاعدة تحتية سليمة للثقافة، قاعدة قانونية ومؤسساتية وتقنية، تهيئ الأرضية والمناخ لذلك الإنتاج وتشجعه وتحميه وتنشره وتروّج له وتكفل ديمومة تأثيره وإعادة إنتاجه وتطويره؟. ليس الاستثمار في الحقل الثقافي عملية إضفاء تزويق شكلي محض على صورة المجتمع، أو تلبية لحاجات كمالية يمكن تأجيل إشباعها في الوقت الحاضر، بل هو ضرورة تتصل بأمننا الوطني، ورهان حضاري لتأمين المستقبل، وإذا كان لينين قد قال قبل قرابة قرن من الزمان: "اعطني خبزاً ومسرحاً أعطيك شعباً مثقفاً"، فإننا، في زمننا الراهن بحاجة إلى الخبز والمسرح و السينما والكتاب والصحيفة والمجلة وجهاز الكومبيوتر والتلفزيون، وكل ما له صلة بالحقل الثقافي، على طريق خلق مجتمع مثقف، ذي إرادة واعية، وقيم وأفكار في مستوى تحديات العصر. ومن غير مجتمع مثقف يبقى الكلام عن التقدم والتنمية والتحضر والتمدن والديمقراطية والاستقرار والرفاه جعجعة بلا طحن ووهماً ليس إلاّ..
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحو حوار ثقافي عراقي
-
بمناسبة بلوغه الثمانين: ماركيز بين روايتين
-
حين يُصادر كافكا وبوشكين؛ الإيديولوجيا والإنتاج الثقافي
-
فيروسات بشرية
-
جحا وابنه والحمار
-
الأفضل هو الأسرع
-
الإعلام العربي: سلطة الإيديولوجيا ومقتضيات العصر
-
سنة موت ريكاردو ريس: المخيلة تنتهك التاريخ
-
السياسة والكذب
-
النخب العراقية ومعضلة تأصيل الهوية الوطنية
-
عن الربيع والموسيقى والقراءة
-
السياسة التي خربت نصف أعمارنا!!
-
( بورخس: مساء عادي في بوينس آيرس )
-
كوميديا عراقية سوداء
-
مغامرة الكتابة الروائية
-
الحلم العراقي
-
لماذا علينا نقد المثقف؟
-
تكيف الرواية: مقتضيات عصر ما بعد الحداثة
-
المثقف بين الممنوع والممتنع
-
صنّاع السعادة.. صنّاع التعاسة
المزيد.....
-
بعد صدور مذكرة اعتقال بحقه..رئيس الوزراء المجري أوربان يبعث
...
-
مفوضة حقوق الطفل الروسية تعلن إعادة مجموعة أخرى من الأطفال
...
-
هل تواجه إسرائيل عزلة دولية بعد أمر اعتقال نتنياهو وغالانت؟
...
-
دول تعلن استعدادها لاعتقال نتنياهو وزعيم أوروبي يدعوه لزيارت
...
-
قيادي بحماس: هكذا تمنع إسرائيل إغاثة غزة
-
مذكرتا اعتقال نتنياهو وغالانت.. إسرائيل تتخبط
-
كيف -أفلت- الأسد من المحكمة الجنائية الدولية؟
-
حماس تدعو للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية لجلب نتنياهو و
...
-
وزير الدفاع الإسرائيلي يوقف الاعتقالات الإدارية بحق المستوطن
...
-
133 عقوبة إعدام في شهر.. تصاعد انتهاكات حقوق الإنسان في إيرا
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|